د. عويض العطوي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وبعد..
أيُّها الإخوة الكِرام السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
سنتكلم في هذه الليلة عن قوله تعالى (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ) [البقرة:١٨٧]
بحسب ما يُيسر الله من الوقت.
تحدَّثنا أمس عن الآية المتعلقة بالدعاء وذكرنا المُناسبة في وقوعها بين آيات الصيام، الآن سنتحدث عن هذه الآية (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ) وإذا تأملنا ذلك وجدنا أنَّ آيات الصيام على قسمين:
القِسم الأول: تحدث عن فرضية الصِّيام والأحكام العامَّة في اللصوم.
والقِسم الثاني: وهو الذي سنتحدث عنه الليلة -أو بدايةً من الليلة- المُتعلق ببعض الأحكام التفصيلية لما يتعلق بليلِ الصِّيام أوبعض الأحكام المتعلقة بالإمساك والفِطر.
في قوله تعالى (أُحِلَّ) ذِكر الحِّل يدُل على أنَّ هناك أمراً محظوراً أو مُحرَّماً أو ممنوعاً إمَّا بشرع أو في أذهان المُخاطَبين أو أنَّه يسبقه ما يُوهِم ذلك أو ما يُوحي به، فلمَّا كان المُسلمون يُنهون عن قُربان النِّساء في رمضان أي في نهار رمضان ذُكر بعد ذلك الحِّل ببيان أنَّ الليل مُختلِف حكمه عن النهار في هذا الأمر فقال (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ).
وقيل: بل كان ذلِك مشروعاً وهو أنَّهم كانوا في بداية فرضية الصوم كانوا يُمسكون بمجرد أن يصلوا صلاة العِشاء أو ينام الإنسان فهو يُفطر عند الغروب ثُمَّ بعد ذلك يأكُل ويشرب ويحِلُّ له ماكان ممنوعاً عنه في نهار رمضان فإذا صلَّوا العِشاء أو نام أحدُهم أمسك عن الطعام والشراب والجِماع فشقَّ ذلك عليهم فأصبح الليل كُله يُمنع الإنسان من ذلك حتَّى ذُكر في بعض أسباب نزول هذه الآية أنَّ أحد الصحابة رضي الله عنه صام وعمِل نهاره في مزرعتِه ثُمَّ جاء إلى زوجتِه عند الغروب فقال هل من طعام ؟ فقالت لا لعلِّي أبحث لك فذهبت لتجلُب لهُ طعاماً فلمَّا عادت وجدته قد نام ومادام أنَّه نام فيمتنِع من الطَّعام والشراب والجِماع فبقي ليلهُ كُلَّه صائم وفي اليوم الثاني غَشي عليه عند صلاة الظُّهر. هذه مما ذُكر في أسباب ذِكر الحِّل هُنا.
أيضاً أيُّها الإخوة الكِرام في قوله تعالى (أُحِلَّ) ببناء فِعلٍ بغير فاعلٍ أي ماجاء السِّياق وأحلَّ الله مِثل ما قال الله عزَّ وجل (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا) إنَّما قال (أُحِلَّ) وذلِك لبيان أنَّ المقصود وأن العِناية متَّجهة إلى بيان الفِعل وهُو الحِل أو الحُرمة هذا أمر.
الأمر الثاني أنَّ مِثل هذا الفِعل لا ينصرِف إلا إلى الله سبحانه وتعالى فهو الذي يُحِل وهو الذي يُحرِّم والشَّرع بيده سبحانه كما في فِعل الخلق أيضاً ( خُلق الإنسان ) فإنَّ الخلق لله وحده فسواءً بُني الفِعل للمعلوم أو لِغيره فمعلوم أنَّه لله وحده سبحانه وتعالى.
في قوله تعالى (أُحِلَّ لَكُمْ) لبيان العِنايةِ بشأنِ أولئك المُخاطبين وليس ذلِك حصراً عليهم بل للعناية بشأنِهم وفيه عِناية بشأن المُكلَّفين وهو أن الله سبحانه وتعالى لا يُريد بِنا العُسر بل يُريد بِنا اليُسر فهذا الحِّل من أجلِكُم للتخفيف عليكُم.
(أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ) هُنا قيد إذاً هذا الحِّل مُقيد بليلة الصِّيام يعني بالليل إذاً بقاؤه محذوراً في النَّهار على حالِه إذاً الحِّل هُنا مقيد بالليل والليل معروف مُنذ غُروب الشَّمس إلى طلوع الفجر فهذه فترة الحِّل.
قال (لَيْلَةَ الصِّيَامِ) ولم يقُل ليالي الصِّيام لبيان أنَّ الحُكم مُتعلِّقٌ بكُل ليلة فليس ليالي مُحددة دون ليالٍ بل هو ممتدٌّ في كُل ليلةٍ من ليالِ رمضان. ( ليلة الصيام ) فذكر الصِّيام هُنا للتدليل على أنَّه مرتبِطٌ بالصِّيام الذي ذُكِر سابِقاً وذُكر معه شهر رمضان فدلَّ ذلك على أنَّه مرتبطٌ برمضان وليس مُرتبطٌا بغيره وقد يصوم الإنسان في أيَّام أُخرى فهذا الحُكم أيُّها الإخوة الكِرام الوارِد هُنا في قوله تعالى ( احل لكم ليلة الصيام ) الحديث فيه دائرٌ عن أحكام الصِّيام المذكور سابِقاً.
(أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ) الرفث: كلِمةٌ في أصلِها تدُل على الفُحش في الكلام هذا في أصلِها والفُحش في الكلام أو الكلام بشكلٍ عام قد يُسمَّى فُحشاً في موقِف ولا يُسمَّى فُحشاً في موقِف آخر، والفِعل أيضاً قد يُسمَّى فُحشاً في موقِف ولا يُسمَّى فُحشاً في موقف آخر فما يحدث بين الرجل والمرأة من قولٍ أو فِعل لا يُسمَّى فُحشاً ولو فعل ذلِك نفسُه ولو حصل ذلك نفسُه رجُلٍ وامرأة ولكِن في غير إطار الزَّواج سُمِّي فُحشاً فقد سمَّى الله عزَّ وجلَّ الزِنا ودواعيه فُحشاً فاحشة فعلِمنا بذلك الفرق لهذا لا نعجَب أن يأتي ذكر الحِّل للرفث مع الصَّوم ويأتي النَّهي عنه مع الحجّ، في الحج (فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ) ومع الصَّوم (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ) والسبب أنَّه مع الحج مُطلق ليس مُقيداً بشيء فعُلم أنه ينصرف إلى الشيء المعروف في أصلِه عن الفُحش وهو السَّيء من الكلام ولذلك لا ينبغي للإنسان إذا حجّ أن يُطلق لسانه بأي كلام فاحش أو سبّ أو لعن أو أمر لا يليق بل عليه أن يُربِّي نفسه بهذا الأمر حتَّى قال بعضهم ولذلك جاء الحج بعد رمضان ورمضان يُربي الإنسان على حُسن الكلام وإمساكه عن الكلام السيء (فإن سابَّه أحدٌ أو شاتمه فليقُل : إنِّي امرؤ صائم) ثلاثين يوم وليلة فإنَّه يتدرب فإذا ذهب إلى الحجّ يكون إنساناً قد استقام لسانه فأصبح (فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ) .
أما هُنا في رمضان فإنَّه قال (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ) فعرَّفه فعلِمنا أنَّ الرفث المذكور مع رمضان هو رفثٌ مُحدد خصوصاً أنَّه جاء بعده (إِلَى نِسَائِكُمْ) إذاً هو رفثٌ مُحددٌ بعلاقة الرجُل بالمرأة وما يحدُث بينهُما من قولٍ أو فِعل هذا هو الذي وقع عليه الحِّل وهذا لا يُلام عليه إنسان ولا يُعنَّف عليه إنسان ولا يُسمَّى فُحشاً.
طيب لماذا جاءت كلمة الرفث هُنا كناية عن الجِماع ؟ كما قال ابن عبَّاس رضي الله عنهما.
كُل ما في القرآن أيُّها الإخوة الكِرام في الحديث عن هذه القضية بالذات تأتي للكِنايات ( أو لامستم النساء ) ( نساؤكم حرث لكم ) (فلما تغشّاها) كُلَّها كنايات عن مِثل هذا الأمر وهذا فيه تعليم لنا أنَّ مِثل هذه القضايا ينبغي التكنية عنها ومادام التكنية والتعريض يقوم بالمعنى فليس حاجة للإنسان أن يذكر اللفظ الصَّريح أو أن يجرح شعوراً أو يتحدَّث بطريقة ممجوجة ليست مقبولة.
ونحنُ نقول هذا الكلام ماذا عسانا أن نقول عمَّا يُعرض في الإعلامِ صوتاً وصورة في مُقابِل هذا النَّقاء وتِلك النَّظافة العظيمة المُتمثِّلة في تعليم القرآن لنا كيف نتكلم عن مِثل هذه الأشياء. أُنظر هذا وأنظر هذا وفي بلاد المسلمين.
فهذا أيضاً يُعطينا أيُّها الإخوة الكِرام أيضاً تعليم لنا أنَّنا لا نتحدَّث عن كُل شيء بصراحة وفجاجة وبعض الناس يقول أنا صريح ليست كُل صراحة مطلوبة بل بالعكس أحياناً الكِناية هي قِمَّة الأدب وروعة الأدب.
(أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ) كلِمة "إلى" دلَّت على الإفضاء وعلى الوصول (إِلَى نِسَائِكُمْ) ولم يقل الله سبحانه وتعالى "إلى النِّساء" لأنَّه إلى النِّساء ممنوع بشكل عام لكِن (إِلَى نِسَائِكُمْ) بشكلٍ خاص مسموح فهو أيضاً قيد فليس هذا مسموحاً مع كُل إمرأة بل هو مع نِساءِكم.
(هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ) وسنقِف عند هذه الجُملة.
( هن لباس لكم وانتم لباس لهن ) جاء هُنا هذا الأسلوب بالتَّشبيه أي هُنَّ مِثل اللباس لكُم وأنتم مِثل اللِباس لهُن لكِنَّ أداة التشبيه لم تظهر وفرقٌ بين أن أقول فلانٌ كالبحر وفلانٌ بحر لذلِك قالوا إذا عظُم التشبيه بين المُشبَّه والمُشبَّه به ووصل إلى حد المُطابقة نحذِف أداة التشبيه تُحذف أداة التشبيه لأنَّ أداة التشبيه تُشعر بأنَّ المُشبه أقل من المُشبَّه به والمُشبه به أعظم من المُشبَّه، وحتَّى قالوا في تعريف التشبيه : إلحاق ناقِص بكامِل يعني دائما المُشبَّه أقلّ حالاً من المُشبه به، ليس هذا في كُل حال فقد شبَّه الله سبحانه وتعالى نوره بنور المِصباح لذلِك ذكروا عن أبي تمَّام أنَّه يوم من الأيام مدح أحد الخُلفاء فقال له :
إقدامُ عَمرٍ في سماحة حاتِمٍ **في حِلم أحنف في ذكاء إلياس
فقال له أحد الجُلوس الحُسَّاد : والله مازِدت أن شبَّهت الخليفة بأجلاف العرب -يعني مافعلت شيء- شبَّهت الخليفة وهو في مكانته بأُناس عادين مالهم قِيمة موقِف صعب فمُباشرةً جاء في نفسه فقال :
لا تنكروا ضربي له مَن دُونه ** مثلا شرودا في النَّدى والبأس
فالله وقد ضرب الأقلَّ لنوره ** مثلاً من المِشكاة والنِّبراس
حتَّى قيل أنَّه مات بعد ذلك بأيام، ورُبَّما تكون هذه سبباً .
على كُل حال فهُنا شبَّه الله عزَّ وجل المرأة باللباس والرجُل باللباس ولم تأتِ أداة التشبيه للتطابُق الكامِل بينهُما لهذا أيُّها الإخوة الكِرام نقول في هذا الأمر ماوجه التشابه بين الرجل والمرأة في هذه القضيَّة تشبيه هذا باللباس وذلك باللباس ؟
أولاً: أول شيء للباس هو السِّتر لِماذا نلبس؟ اللباس للستر -ليستر العورات- ولذلك أيُّها الإخوة الكرام اللباس الذي لا يستر العورات لم يُحقق الغاية التي من أجلها (**) والشيطانُ أول ما فعله مع آدم وحواء أراد أن يكشًِف اللباس عن العورات فهذا من أهم الأدوار التي يقوم بها اللباس، طيِّب ما علاقة المرأة بالرَّجل والرجل بالمرأة في هذه القضيَّة ؟ إذاً يجب أن يكون الرجل سِتراً للمرأة ويجب أن تكون المرأة سِتراً للرجل .
وكيف يمكن للمرأة أن تكون ستراً للرجل ؟ تستُره فلا تُظهر عيوبه ويسترها فلا يُظهر عيوبها ولذلك من شرِّ الناس كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لمَّا قال الرجُل يفضي إلى المرأة والمرأة تفضي إلى الرجل ثُم يتحدَّث كل منهُما بما حصل بينهُما. وللأسف هذا يوجد الآن وهو بسبب الجهل هذا الأول.
الأمر الثاني: اللباس لماذا نلبسه ؟ للزينة ويجب أن تكون المرأة زينة للرجل والرجل يكون زينة للمرأة فالمرأة يجب أن تتزين لزوجِها بأفضل ما تستطيع بكُل أنواع الزِّينة، والرجل أيضاً يتزين لزوجتِه وهذا قد يكون غريباً على بعض الناس وقد ذُكر عن إبن عبَّاس رضي الله عنه أنَّه كان يُسرِّح شعره ويُزيِّنه ويقول (وعاشروهُن بالمعروف) فكما تُريد أن تكون جميلة ومُتزيِّنة فكذلك أنت افعل ذلك معها حتَّى لا تنظر إلى غيرك وأنت لا تنظُر إلى غيرها هذا الثَّاني.
اللباس أيضاً أيُّها الإخوة الكِرام لِحفظ الإنسان وحِمايته من القرّ أو من الحرّ أو من البرد أو من الحرارة وكذلك الزَّوجة والزَّوج كُل منهما يحفظ صاحِبه من أي شيءٍ يُمكن أن يُسيء إليه.
بهذا نُدرك أيُّها الإخوة الكِرام في هذه الآية الموجزة علاقة الرَّجُل بالمرأة ولا أظُننا نجد كلاماً ولن نجد كلاماً أوجز العلاقة بين الرجل والمرأة مِثل قوله تعالى (هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ).
أمَّا لِماذا قُدِّمت المرأة فذُكر ضميرها أولاً (هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ) قال لأنَّ هذه المعاني التي ذكرناها فيها أظهر وهي عليها أقدر.
نسأل الله للجميع التوفيق هذا وصلى الله وسلَّم على نبيِّنا محمد .
-----------------------------
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق