الجمعة، 22 فبراير 2013

وقفات مع سورة العاديات

د. ناصر العمر




 سلام الله عليكم ورحمته وبركاته ، الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين .

 إخوتي الكرام: اليوم مع سورة عجيبة أكاد أجزم أن كثيرا منكم وهو يقرأها يقف يتساءل عن معانيها . (وَالْعَادِيَاتِ) سميت سورة "العاديات" ، وسُميت سورة "والعاديات" وهي مكية بقول الجمهور القول الأصح .
/ (وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا) تأملوا العاديات هي الخيل التي تُغير على العدو ، تعدو عدوا . 
وقيل : إنها الإبل في مشيها وبخاصة في الحجّ . ولكن القول الراجح والذي عليه أكثر المفسرين أنها في الخيل .
(وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا) لها صوت ، والـ"الضبح" هو صوتها ، أو نفسها ومعروف أن الخيل لها نفس عجيب وبخاصة إذا عدت وإذا سارت .
/ (فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا) أي توري وتقدح في النار . هذا معنى عظيم ودقيق ، بعض الأحجار إذا ضرب بعضها بعضا أخرجت نوعا من النار فكذلك الخيل إذا سارت ومرت على بعض أنواع الحجارة وبالذات في الليل قد يكون لها نور ، طبعا هو في الليل أو في النهار لكن يُرى في الليل أكثر من النهار .
/ (فَالْمُغِيرَاتِ) أي تغير على العدو . (صُبْحًا) أي في الصبح .
/ (فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا) أي أثارت الغبار . "النقع" الغبار حين تسير في الوادي . عندما ترى الخيل وهي تمشي سترى أثرها وترى غبارها .
/ (فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا) أي في وسط العدو وفي جمع العدو توسطنه . ورد قول عن ابن مسعود -رضي الله عنه- ولا أدري عن صحة نسبته أنهم في مزدلفة لأن اسمها جمع  . ولكن سياق الآيات يدل على ما ذكرت .(فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا) أي في وسط العدو.
/ ثم بعد ذلك ، بعد كل ذلك (إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ) الإنسان الكافر ويقع أيضا جزء منه في العاصي ، معاصي عظيمة (لَكَنُودٌ) جحود يجحد نِعم الله عليه هذا من معاني كنود ، فإذا تأمل نفسك(إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ) لجحود لا يعترف بِنعم الله -جل وعلا- ومع ذلك (وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ) لأنه لا يستطيع أن يُنكرها .
/ (وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ) حب المال ، حب المناصب ، حب الشُهرة . "شديد" .
/ (أَفَلا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ) سبق أن مرّ معنا (أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ) هو تأكيد الحقيقة يرِد في أساليب متعددة والحقيقة واحدة . أفلا يعلم هذا الذي يجحد ويُنكر نعمة الله عليه (إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ) وخرج الناس من قبورهم .
/ (وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ) ما يُكنه ، الناس لا يعلمون ما في صدرك لكنه هنا يُحصّل . 
هذه آيات - أيها الإخوة- مؤثرة . 
/ (إِنَّ رَبَّهُم بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّخَبِيرٌ) عليم - سبحانه وتعالى- بكل ذلك .
    كل هذه السيرة بعد هذه الأقسام العظيمة يؤكد هذه الحقيقة (إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ*وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ)  سيشهد . قيل : إن الله -جل وعلا- على ذلك لشهيد ، وقيل : إنه هو على ذلك شهيد أي سيشهد هو على هذا الأمر ، تشهد عليه جوارحه .
(وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ) النِعم ، المال( لَشَدِيدٌ) تأتي النتيجة كما ذكرنا قبل قليل(أَفَلا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ) .
إذا السورة جاءت فيها ثلاثة مقاطع :
المقطع الأول : هذه الأقسام (وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا* فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا* فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا) 
ثم المقطع الثاني : (إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ*وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ*وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ)   
المقطع الثالث : (أَفَلا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ* وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ) نعم (إِنَّ رَبَّهُم بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّخَبِيرٌ) إذا كان يريد هذا الشيء ، يريد أن يجحد هذا الشيء لأنه كنود ، جحود إلا من وفقه الله فالله -جل وعلا- خبير بعمله .
وهنا نأتي لهذه الوقفة التي نختم بها هذه السورة وهي وقفة عظيمة جدا ، ما هي ؟
(أَفَلا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ* وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ) أُخرج ما في صدره ، لاحظ المناسبة بين إخراج الإنسان من قبره وخروج الناس من قبورهم هناك أيضا خروج آخر ، إخراج ما في القلب ، هذا القلب ، هذا الصدر طبعا المراد به القلب لأنه في الصدر فيُعبر عنه بالقلب أو الصدر ، تأملوا في سورة الطارق (يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ) فهو تحصيل ما في الصدر .
أخي الكريم ، في هذا الشهر الكريم أيها المُحِب : ألست تتزين أمام الناس في صلاتك والمناسبات حتى لا يرى الناس منك شيئا يسؤك ( إن الله جميل يحب الجمال) (يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ) لكن :
 هل أنت تُزين قلبك لأن الله مُطلع عليه ؟
هل أنت الآن في هذه اللحظة تحب أن يطّلع الناس على ما في قلبك ؟ 
هل كل ما في قلبك مما يسُرك ولا يهمك لو انتشر ؟ 
والله سينتشر ، والله سيُخرج ، (إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ* وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ) (يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ) هنا يوم العرض الأكبر على الله فهيئ نفسك ، هذا الذي تُكنه في قلبك من عمل القلب المؤاخذ عليه لأن أعمال القلوب فيها شيء لا يؤاخذ عليه الإنسان من الخواطر والوساوس العارضة التي لا تؤثر ويدفعها ويُجاهد نفسه بدفاعها ، ولكن هناك اعتقادات من عمل القلب غِلّ ، حسد ، بغضاء للمؤمنين ، وغيرها مما هو في داخل هذه القلوب . طهّر قلبك ، زكِ قلبك ، اقرأ سورة النور ستجد في سورة النور تزكية لهذا القلب ، تجد آيات في القرآن تُطالب بتزكية القلب حتى إذا عُرض يوم القيامة فإذاك تفرح بما عُرض ، لا تجد في قلبك إلا ما يسرك . تصور حالك هذا الذي في القلب الآن إن كان فيه - وحاشاكم من ذلك وحفظكم الله - ما يسؤك تخلص منه الآن . القلب ممتحن (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى) . ألست تغسل وجهك خمس مرات ؟ ألست تغسل يدك عدة مرات ؟ ألست تتجمل في المناسبات ؟ هل أنت تتعاهد قلبك كما تتعاهد ملابسك؟ هل أنت تتعاهد قلبك كما تتعاهد وجهك الذي أمام الناس ؟ 
لو اكتشفت في يوم من الأيام وقد ذهبت لمناسبة كبيرة ولما رجعت اكتشفت أن في وجهك شيئا يسيرا قد لا يلتفت إليه كثير من الناس لحزنت ولربما تمنيت أنك ما حضرت هذه المناسبة . لو اكتشف البعض أن في ثوبه من خلفه نقطة دم أو سواد لربما غضب على أهله أو على بعض من معه لماذا لم تخبروني ، طيب قلبك لا أحد يطّلع عليه إلا أنت وقبل ذلك وبعده الله - جل وعلا- إذا أنت الذي يجب أن تُطهّر هذا القلب ، يجب أن تراجع هذا القلب ، أن تنظف هذا القلب أكثر مما تنظف عينيك ، كما تنظف وجهك حتى تلقى الله  وهو قلب سليم (إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) فإبراهيم -عليه السلام- يشهد الله له (إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) وهو أسوة لنا عليه السلام فلذلك الله الله في العناية بالقلوب ، طهّروا قلوبكم في هذا الشهر الكريم وزكوا هذه القلوب ونظفوها مما يسؤكم ومما لا تحبون أن يُرى يوم القيامة ، املؤها بحب الله ثم بحب الناس والإحسان إليهم ، املؤها بالتوحيد ، بالعقيدة الصافية ، بالعمل الصالح ، أزيحوا ما فيها من ظلمات حتى تبرز يوم القيامة وتُبلى السرائر ويُحصل ما في الصدور بما تُحب . طهّر الله قلوبنا وقلوبكم وحفظنا وإياكم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .      

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق