الثلاثاء، 12 فبراير 2013

قبل وبعد -2-


الحمد لله خالق الكون بما فيه ، وجامع الناس ليوم لا ريب فيه ، و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله -صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع هديه بإحسان إلى يوم الدين أما بعد :
 أيها المباركون نستأنف معكم ما تبقى من حديثنا عن المفردتين قبل وبعد في كلام رب العالمين -جل وعلا- ، وبيّنا أن هاتين المفردتين لهما علاقة بالإضافة والنسبة ، وذكرنا قول الله -عز وجل- عن اليهود (وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ) وقلنا إن موضع الشاهد في ذكر هذه الآية وتفسيرها وعلاقته بالمفردة قول الله -عز و جل- فيها (وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ) وانتهينا إلى قوله -تبارك اسمه وجل ثناؤه- (بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُواْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَن يُنَزِّلَ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ).
 يجب أن يُعلم أن الفضل فضل الله ، وأن الخلق خلقه وأنه تبارك وتعالى يقدّم من يشاء بفضله ويؤخر من يشاء بعدله ، وإذا انشغل العبد -عياذا بالله- بنِعم الله على غيره وفضله وإحسانه على سواه وحاول أن يمنعها إنما يقع في وبال عظيم ، خسران كبير ، لأنه لن يقدر أن يمنع فضل الله -جل وعلا- على أحد ، وفي الحال نفسه يكاد يقتله الغمّ ، يقتله الهمّ لما يناله من رؤية فضله على غيره ، وهذا الذي أصاب اليهود يوم دخل النبي -صلى الله عليه وسلم- المدينة ، وحتى يُعلم أن للنية شأنا عظيما عند الله ، قال الله -عز وجل- (بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُواْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَن يُنَزِّلَ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ) فالفضل فضل الله ، والخلق عباد الله ، فما علاقة هؤلاء أن يحسدوا بعض من فضّلهم الله على ما آتاهم الله -جل وعلا- من فضله. وكل ذلك عرضنا له تفسيرا تفصيلا في لقاءنا السابق .
/ ثم قال جل ذكره (أَن يُنَزِّلَ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ فَبَاؤُواْ بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ) إذا كم غضب هنا ؟ إثنان ، واختلف العلماء في المراد بذلك يعني ما السبب ؟ فقال بعضهم : الغضب الأول لتكذيبهم لعيسى بالإنجيل ، والغضب الثاني بسبب تكذيبهم بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن ، فأما تكذيبهم لعيسى فحق فإن عيسى كان بعد موسى والله -جل وعلا- يقول (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ) ثم ذكر أنه بعث عيسى -عليه الصلاه والسلام- ، ومعلوم كما حررنا سالفا أن عيسى آخر الأنبياء قبل نبينا -صلى الله عليه وسلم- ، واليهود تزعم أنها قتلته ، والنصارى تزعم أنه صُلب ، وهو لم يُقتل كما تزعم يهود ، و لم يُصلب كما تزعم النصارى ، بل رفعه الله -جل وعلا- إليه ، بل جاء في الخبر الصحيح عنه -صلى الله عليه وسلم- قال ( يوشك أن ينزل فيكم عيسى بن مريم ، وإن أدركني زمان لقيته) ثم قال (فمن لقيه منكم) هذه وصية من النبي -صلى الله عليه وسلم- لأمته (فمن لقيه منكم فليقرئه مني السلام) أي مَن مِن أمتي أدرك عيسى فليُقرئ عيسى السلام عن رسولنا صلى الله عليه وسلم.
الذي يعنيننا هنا قول الله -عز و جل- (فَبَاؤُواْ بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ) هذا قول .
 - قول آخر : أن الغضبين كان سببهما تبديل التوراة ورد القرآن .
وقالت طائفة أخرى من العلماء إن الغضبين سببهما بغضهما للنبي -صلى الله عليه وسلم- وبغضهما لجبريل ، ومعلوم أن اليهود صرّحوا بعدواتهم و بغضهم لجبريل عليه السلام ولهذا أنزل الله (قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ) وحررنا هذا تفصيلا في دروس سلفت وأيام سابقة لنا خلت والحمدلله ، لكن المراد هنا بيان قول الله -عز و جل- (فَبَاؤُواْ بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ) . وقال بعض أقاويل أُخَر ، لكن أكثرها يفيء إلى هذه الثلاثة والعلم عند الله .
/ ثم قال ربنا (وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ) هنا أريدك أن تفقه القرآن أكثر .
 المؤمن العاصي إذا أسرف على نفسه من الذنوب ما حاله ؟ يقع تحت المشيئة ، إن شاء الله -عز و جل- غفر له وإن شاء عذبه ، فإن غفر له وأدخله الجنة فلا إشكال ولا علاقة له بالآية ، لكن تبقى الحال الأخرى وهو إن العبد إذا أذنب ، أسرف على نفسه ، لم يتب وكتب الله له أن يدخل النار ، الذي في النار يسمى عذاب ، قال الله هنا في الآية التي نحن  بصدد شرحها (وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ) ما إعراب مهين ؟ صفة . لمن ؟ للعذاب ، فالله -عز و جل- يصف العذاب هنا بأنه مهين ، ما معنى مُهين ؟ مُذل ، واضح هذا ، الآن نصل للفائدة : يدخل النار من حيث الجملة طائفتان : الكفار بجميع أحوالهم ، وعصاة المؤمنين مِن مَن لم يغفر الله لهم ، إبتداءً كلهم يُعذّب ، لكن ليس في القرآن وصف عذاب عُصاة المؤمنين بأنه مُهين ، ليس هناك في القرآن وصف لعذاب المؤمنين بأنه مُهين ، هم قطعا لا يَخلدون في النار ، لكن لا يُوصف عذابهم بأنه مُهين ، يوصف عذاب الكفار بأنه مُهين ، السؤال :  لِمَ وصف الله عذاب الكفار بأنه مُهين ؟
 لأن المراد إذلالهم ، ولم يصف عذاب عصاة المؤمنين بأنه مهين لأنه ليس المراد إذلالهم ، إذا ما المراد ؟ المراد تطهيرهم حتى يكونوا أهلا أن يدخلوا الجنة ، فالجنة دار طُهر ، الجنة دار خلود ، الجنة درجة عالية ، الجنة شيء عظيم ، لا يدخلها إلا من صفت نيته وحَسُن عمله وصلُح قلبه وطَهُر خَلقا وخُلقا ، فهؤلاء هم أهل الجنة . فعندما يقترف العبد المؤمن ما يقترف مع بقاء أصل التوحيد ، ولم يأتِ بنواقض الإيمان ، وله أعمال صالحة غير ذلك لكن غلبت سيئاته أُدخل النار ، فدخوله إلى النار ونيله للعذاب تطهير له حتى يكون أهلا لدخول الجنة ، والله يقول (نَبِّىءْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) ويقول (كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) ، ولابد أن يتعلق القلب المؤمن بعظيم رحمة الله . قال الله هنا (وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ) هذا بيان لكلمة قبل .
/ بقينا في كلمة "بعد" ، جاءت في القرآن غالبا مرتبطه بأشياء كُثُر لكن غالبها في المعارك مثل يوم الحديبية وما وقع قبله ، قال -جل وعلا- (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ) هذه وقعت بأعراب حاولوا أن ينالوا من النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه يوم الحديبية ، كذلك لما كانت يوم أحد كانت المعركة أول الأمر تتجه رياحها نحو أهل الإسلام ، ثم كان ما كان من تقصير الرماة ، ثم كان ما كان من التفات خالد ، فقال الله -عز و جل- ، جاء القرآن يتحدث عن هذه الآية (مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ) فأراهم الله -جل وعلا- ما يحبون من النصر والغنائم لكن بعد ذلك وقع ما وقع ، وقد بيّنا هذا تفصيلا في أمور سابقة ، لكن نقف هنا عند مسألة خالد -رضي الله تعالى عنه وأرضاه- ، خالد رأى في المنام بعد أحد أنه يخرج من دار ضيقة مُظلمة إلى أرض فسيحة خضراء ، فلما كتب الله له الإيمان وقَدِم على الصدّيق أبي بكر وكان أبو بكر مِمَن يُحسن تأويل الرؤى ، فقصّ رؤياه على أبي بكر فقال له : هذا ما أنت فيه، أخرجك الله من ظلمات الكفر وضيقها إلى سعة الإيمان . وخالدٌ -رضوان الله تعالى عليه- والده الوليد بن المغيرة وقد تحدثنا عنه مرارا ، و قد ذمّه القرآن ذما عظيما ومن ذم القرآن له أن الله قال (سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ) والوسم معروف بأنه لا يذهب ، علامة تُعيبه ، والخرطوم المراد به الأنف إلا أن العرب في استعمال كلامها لا تقول الخرطوم إلا لأنف الفيل وأنف الخنزير ، والوسم في الوجه شَينٌ فكيف إذا كان العيب والوسم في الأنف الذي هو محل إعتزاز الإنسان فقال الله -عز و جل- (سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ) نُلحق به عيبا يبقى معه ، قد يكون هذا في الآخرة ، وأخطأ بعض أهل العلم عندما قال إن هذا وقع يوم بدر لأنه بالاتفاق الوليد بن المغيرة توفّي قبل يوم بدر وهذا والد خالد . وخالد -رضي الله عنه وأرضاه- سمّاه النبي -صلى الله عليه وسلم- سيف الله ، وسماه سيف الله بعد مُؤتة بعدما قُتل زيد وعبد الله بن رواحة وعبدالله بن جعفر بينهما ، قال عليه الصلاة والسلام وهو يخبر أهل المدينة بما وقع قال (ثم أخذ الراية سيف من سيوف الله) ، يُفهم من هذا - وهذا استنباط ليس جزما - سمّى النبي -صلى الله عليه وسلم- خالدا سيف الله.  وكيف مات خالد؟ على فراشه ، لم يُقتل ، لم يمت شهيدا ، ربما يُحمل المعنى على أن النبي -عليه الصلاة والسلام- سمَاه سيف الله وسيف الله لا يُكسر ، فلذلك مات خالد على فراشه ، ولها تأويل أُخر لكن لا يحسُن نشره وقد يُفهم غير وجهه لكن هذا التأويل أقوى وهو أن يكون -رضي الله عنه وأرضاه- قد مات على فراشه وقال كلمته الشهيرة "فلا نامت أعين الجبناء" .
 المراد هنا في الحديث عن قوله -جل وعلا- (مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ) وأنا أتكلم عن مفردة "بعد" ، و أستطرد أحيانا تاريخيا و أدبيا .
/ كذلك وردت مفردة "بعد" في خبر الصدّيق يوسف قال الله -عز و جل- (ثُمَّ بَدَا لَهُم مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ) فسُجن -عليه السلام- بعد أن رأوا آيات براءته ، لكنهم أرادوا -أي أهل القصر آنذاك- أن يطووا صفحة يوسف وحديث الناس عنها فبدا لهم أن يسجنوه ، وقد جاء الله -جل وعلا- بالمفردة "بعد" في كلامه العظيم وهذا يفيد الترتيب الزمني . كما قلنا في الأول قضية النسبة في "بعد" و في "قبل" .
 كما أن كلمة "قبل" جاءت في عيسى وإن كنا قد تحدثنا عنه ، قال الله -عز و جل- (وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا) وحررنا في درس سابق هنا أن عيسى -عليه الصلاة والسلام- رُفع وقد استوفى نبوته ولم يستوفِ أجله ، قال الله هنا (قَبْلَ مَوْتِهِ) قبل موت من ؟ عيسى . وفي المسألة خلاف معروف لكن لو رجحنا أنه قبل موت عيسى - وهو الأظهر - ، لكني أول الآية لم يتبين لي إلى الآن لكن قبل موته ، غالبا المراد قبل موت عيسى . والعلماء يقولون : إن عودة عيسى عليه السلام ، نزول عيسى عليه السلام إنما يقع لأمور منها :
- أنه يُكذّب اليهود الذين زعموا أنه قُتل ، ويُكذّب النصارى الذين زعموا أنه صٌلب أو أنه ابن الله -تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا .
- والأمر الآخر يستوفي أجله لأنه لابد الإنسان أن يستوفي أجله .
 والثالثة الله -عز وجل- يقول : (مِنْهَا) من الأرض (خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا) أي في الأرض (نُعِيدُكُمْ) ، فهو ينزل حتى يموت حتى يُدفن في الأرض ، لا يُستثنى من هذا أحد (مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى) قال بعض أهل العلم -والعلم عند الله- أنه ربما يُدفن في الحجرة التي فيها الآن النبي -صلى الله عليه وسلم- وصاحباه الصدّيق والفاروق رضوان الله تعالى عليهما ، لكن موضع الشاهد (وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا) هذا في حق عيسى وفي حق جميع الرسل ، كل رسول يكون شهيدا على أمته إلا أن القرآن خلّد شهادة عيسى تفصيلا وخلّد غيره من الرسل إجمالا (إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ) لكن قال في عيسى (وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ*مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ*إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) .
 أحوال الدعاء ، أحوال مناجاة الله تختلف فمن كان لتوّه خارج من طاعة ، ليس كمن كان لتوّه مقترف كبيرة ، و من يدعو الله عند بيته في الحِجر ، بين الركن والمقام شعوره في نفسه ليس شعور ونفس من يدعوه بعيدا وإن كان الله يسمع هذا ويسمع هذا ، ويرى هذا ويرى هذا ، والعبرة بحضور القلب ، لكن أثر ذلك على القلب كبير ، و قد مضى أحد الصالحين في الليل وجد أحدا من آل بيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في حِجر ما يُعرف بـ"حِجر إسماعيل" ، الحِجر الذي عند الكعبة ، و هو يناجي ربه يقول "مسكينك في دارك ، فقيرك في بيتك" يناجي ربه . فهذا كلمة الله عيسى عليه السلام لما علم الموقف ويرى أنبياء الله ورسله كل واحد منهم يقول نفسي نفسي ، ودعاء النبيين يومئذ اللهم سلّم سلّم ، فلما رأى هذا أعظم الأدب مع الله ، قال متبرءا (إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ) قال (فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) ولم يقل "فإنك أنت الغفور الرحيم" ، مع أن الخليل عليه السلام لما دعى قال (رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) لكن مقال الخليل عليه السلام مناسب لحاله وزمنه ، ومقال عيسى عليه السلام مناسب لحاله وزمنه ، والمؤمن يستصحب هذا بين وبين في كل أحواله ، فرجل يُبتلى بثناء الناس عليه ، و حبهم له ، و مبالغتهم في إجلاله عندما يدعو ، ليس كحال من يدعو وقد طرده الناس ، لم يُدخلوه لم يقبلوه ، أخرجوه ، لا تُوجّه له دعوة ، لا يعبأ به أحد ، فحال هذا غير حال هذا ، كل واحد منهما له حال إن فقهها عرف كيف يناجي ربه ، والمهم أن لا تغتر بثناء أحد عليك ، لأنه لا يرى منك إلا الظاهر ، ولا تيأس من ذَم أحد من الخلق لك ، فإن الله أرحم بك منه ومن نفسك -ظاهرٌ هذا- واجعل أمرك كله في سرك وجهرك ، وغيابك وحضورك عن الخلق أمر معلق بالله ، وكن على يقين أنه ما من نعمة إلا والله وليها ، وما من نقمة إلا والله قادر على أن يدفعها ، واسأل الله أن يمتعك في الدنيا متاع الصالحين ، وفي القرآن (إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ) .
 اللهم اجعلنا منهم وصلى الله على محمد وآله والحمد لله رب العالمين .
---------------------------------------------------
الشكر موصول لمن قامت بتفريغ الحلقة . جزاها الله خيرا .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق