الجمعة، 5 أكتوبر 2012

من الدرس الحادى عشر : الأصل الثانى وهو معرفة الإسلام بالأدلة (3/3)

1- وقد وعد الله تعالى المحسنين في الإنفاق بالفضل العظيم كما قال تعالى: (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (262) قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (264) )[البقرة] .
وهذا المثل من أبلغ الأمثلة وأعظمها عبرة، والعرب تشّبه قليل الخير والبركة من الناس بالصفا الأصلد الذي لا ينبت كلأً ولا يوري ناراً. قال تأبط شراً:
 وَلَستُ بجلبٍ جلبِ ريحٍ وقرَّةٍ = وَلا بصَفاً صَلدِ عَنِ الخَيرِ معزلِ
 الجِلْبُ: هو السَّحَاب المعترض كأنه جَبَل يُرى عظيماً ولا ماءَ فيه ولانفع، وإنما يجلبُ الريح والبرْد، ويُضْرَبُ مثلاً للذي يَعِدُ الوعود العظيمة وهو في حقيقة الأمر يؤذي ولا ينفع. كما قال نهشل الدارمي:
 كَجِلبِ السوءِ يُعْجِبُ مَنْ رآهُ = وَلا يَسْقِي الحَوَائِم مِن لَمَـاقِ
 الحوائم: الطيور الحائمة، واللَّماق: المُذْقَة اليسيرة. والشاهد قوله: "ولا بصفا صلد عن الخير معزلِ" والصفا الصلد هو الحجر الكبير الصلب الأملس لا ينبت كلأ ولا يوري ناراً، تجعله العرب مثلاً للرجل الذي لا ينتفع به. ومما يوضح هذا المعنى قول الحطيئة:  لا يُبعِدِ اللهُ مَن يُعطي الجزيلَ ومَن = يَحبو الجَليلَ وما أَكْدَى وَلا نَكدا
وَمَن تُلاقيهِ بِالمَعـروفِ مُبتَهِجـاً = إِذا اجرَهَدَّ صَفا المَذمُومِ أَو صَلَدا
 وقال الأصمعي: "صَلَدَ الزّنادُ إذا صَوَّت ولم يخرج ناراً".
 فقوله تعالى: (فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا)  أي إن مثل هذا المنفق المغترّ بنفقته، ويظنّ أنها تنفعه، وهو قد أبطلها بالمنّ والأذى كمثل صفوان صلد لا نفع فيه ولا خير، إذْ كان مافعله من الخير باطلاً، وإنما هو كتراب غطَّى الصفوان فلما أصابه المطر تبيَّنت حقيقته وبقي صلداً. فهذا مثَل المسيء في نفقته، وأما مثل المحسن فكما قال الله تعالى: (وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآَتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) نسأل الله من فضله.
 وتأمَّل كيف شبَّه الله تعالى آياته ومواعظه بالماء الذي إذا نزل على مكان طيّب صالحٍ للنبات قد ثُبّت غرسه فإنه ينفعه ويثمره وينميه ، وأما الصفوان الأصلد الذي غطي بالتراب فإنه يكشفه على حقيقته ويعرّيه.
  فالمحسن في نفقته كالذي يغرس في جنة طيبة مباركة، قد ثبت غرسها تثبيتاً حتى استقر في تلك الأرض الطيبة فكان ما يصيبها من الماء نافعا لها منبتاً لغرسها حتى ينمو نباتها ويؤتي ثماره ضعفين.
 وأما المسيء في نفقته فمحلّ غرسه خبيث لا يستقر فيه الغرس وإنما هو كتراب على صفوان؛ يغترّ به صاحبه فإذا أصابه المطر تركه صلداً لا أثر فيه لنبات ولا غرس، ولا تُرجى منه ثمرة، ولا يقدر منه على شيء.
 فانظر إلى اختلاف آثار آيات القرآن الكريم على قلوب العباد فمنتفع بها مبارك له فيها، ومحروم من بركتها معذَّب بها، والعياذ بالله.
 2- قوله تعالى: (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55) وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ).
 فالدعاء هنا يشمل دعاء المسألة ودعاء العبادة. ومن قام بهذه الأمور التي أمر الله بها فهو من أهل الإحسان.
 قال شيخ الإسلام ابن تيمية : "وقوله : (إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) فيه تنبيهٌ ظاهرٌ على أن فِعْلَ هذا المأمور هو الإحسان المطلوب منكم، ومطلوبكم أنتم من الله رحمته، ورحمته قريبٌ من المحسنين الذين فعلوا ما أمروا به من دعائه تضرعًا وخفيةً وخوفًا وطمعًا . فَقَدْرُ مطلوبكم منه - وهو الرحمة - بحسب أدائكم لمطلوبه، وإن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم . وقوله تعالى: (إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) له دلالةٌ بمنطوقه ودلالةٌ بإيمائه وتعليله ودلالةٌ بمفهومه:
- فدلالته بمنطوقه على قرب الرحمة من أهل الإحسان.
 - ودلالته بإيمائه وتعليله على أن هذا القرب مستحق بالإحسان، وهو السبب في قرب الرحمة منهم.
 - ودلالته بمفهومه على بعده من غير المحسنين .
 فهذه ثلاث دلالات لهذه الجملة ؛ وإنما اختص أهل الإحسان بقرب الرحمة لأنها إحسانٌ من الله أرحم الراحمين وإحسانه إنما يكون لأهل الإحسان ؛ لأن الجزاء من جنس العمل وكلما أحسنوا بأعمالهم أحسن إليهم برحمته. وأما من لم يكن من أهل الإحسان؛ فإنه لما بعد عن الإحسان بعدت عنه الرحمة، بُعْدٌ ببُعْدٍ وَقُرْبٌ بقُرْب؛ فمن تقرب إليه بالإحسان تقرب الله إليه برحمته، ومن تباعد عن الإحسان تباعد الله عنه برحمته. والله سبحانه يحب المحسنين، ويبغض من ليس من المحسنين، ومن أحبه الله فرحمته أقرب شيءٍ منه، ومن أبغضه الله فرحمته أبعد شيءٍ منه.
والإحسان هاهنا هو فعل المأمور به سواءٌ كان إحسانًا إلى الناس أو إلى نفسه؛ فأعظم الإحسان: الإيمان والتوحيد والإنابة إلى الله تعالى والإقبال إليه والتوكل عليه وأن يعبد الله كأنه يراه إجلالًا ومهابةً وحياءً ومحبةً وخشيةً؛ فهذا هو مقام الإحسان كما قال النبي -  صلى الله عليه وسلم - وقد سأله جبريل عن الإحسان -؛ فقال : (( أن تعبد الله كأنك تراه)) فإذا كان هذا هو الإحسان فرحمته قريبٌ من صاحبه ؛ وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان يعني هل جزاء من أحسن عبادة ربه إلا أن يحسن ربه إليه".ا.هـ
-----------------------------------------------------------------------
 المصدر: http://www.tafsir.net/vb/tafsir29650/#ixzz26nkJSNpH

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق