الأحد، 8 يناير 2012

تفسير سورة البقرة (186 - 203) من دورة الأترجة

د. محمد بن عبدالله الربيعة



بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلّى الله وسلّمعلى نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه أجمعين ، أمّا بعد:
الحقيقة ربّما يضيق علينا الوقت لذلك اسمحوا لي أن أختصر قليلاً لأنَّ أمامنا آيات الحجّ وهي عظيمةٌ نحن بحاجة إلى بيانها، سنختصِر في الآيات التي قبلها لكنّي أبتدئ في آية الدُّعاء هذه، وهي آية عظيمة يا إخواني ولو تأمّلنا فيها طويلاً لوجدنا فيها معانٍ لا تنقضي، ذكرتُ لكم أنّها متضمنّة لآداب الدُّعاء وشُروطه وقد دلَّت ألفاظ الآية من وُجوه تأمّلوها معي...
أوّلاً: أنَّ ورود الآية في سياق آيات الصيام يدل على فضل دعاءِ الصَّائم، وأنّه مرجوُ الإجابة كما ذكرتُ لكم في الحديث: (ثلاثُ دعواتٍ مستجابات) وذكر منها: دعوة الصَّائم.
ثانياً: أنَّ ورودالآية ضمن سياق آيات الصيام يدلُّ على أنَّ من أحرى أحوال الإجابة حال رقّة القلب وصفائه وخضوعه وخشوعه وانكساره وتعلّقه وهذا مُتحقق في الصِّيام في نهايته خصوصا فيوقت الإفطار، هذا – والله أعلم- سِرّ ربط الدُّعاء في وقت الإفطار لأنّه وقت خضوع ورّقة.
ثالثاً: وروده بعد قوله (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَاهَدَاكُمْ) يدُلّ على أنّ الدُّعاء مشروعٌ بعد إتمام العمل الصالح ولهذاشُرِعَ بعد الطَّهارة، وشُرع بعد الأذان، وشُرع دُبِر الصّلاة، وشُرع عند الفِطر،وشُرِع في ختام أعمال الحجّ، لأنّ الأعمال الصّالحة تُفتَح بعدها أبواب الجزاء من الله .
رابعاً: أنّ ورودها بعد الأمر بالتكبيروالشّكر في قوله (وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) يدل على مشروعية تقديم الثناء على الدُّعاء،لأنّه قال(وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) فهو شُكر الله، بعد ذلك (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي) .
خامساً: قوله تعالى (فَإِنِّي قَرِيبٌ) يدلُّ على عدم مشروعية رفع الصُّوت بالدُّعاء هذا هو الأصل .
سادساً: أنّ تقييد الإجابة بقوله (إِذَا دَعَانِ) يدُلُّ على أدبٍ عظيم من آداب الدُّعاء وهُو صِدق التّـوجه إلى الله وحده في الدُّعاء إذ المعنى(إذا دَعَانِ) مخلصاً صادقاً.
سابعاً: قوله تعالى (فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي)
فيها عِدَّة آداب منها:/ الاستجابة لأوامر الله بِصدقٍ وإخلاص سببٌ من أسباب الإجابة.
/ تقديم الأعمال الصَّالحة قبل الدُّعاء، يعني أن يُقدِّم الإنسان بين يديّ نجواه، بين يديّ دعائه عملاً صالحاً، ذلك لأنّ الاستجابة هنا محمولة على وجه على فعل الطّاعات।
/ أن يكون الدّاعي مُتحرّياً للإجابة، فإذا كان مُتحرِّياً فذلك من أسباب الإجابة، ودلالة ذلك التّعبير بالاستجابة في قوله (فليستجيبوا) ولم يقل ( فليُجِيبوا)।
فالاستجابة هي الطّلب والتّحري.ثامناً: قوله:(وَلْيُؤْمِنُواْ بِي) يدل على أدبٍ من آداب الدُّعاء: وهو الإيمان بموعود الله في الإجابة، يعني اليقين بإجابة الله عزّوجل. هذه بعض الآداب التّي اشتملت عليها بما يسّر الله تعالى تأمُّلها.
بعد ذلك ننتقل – أيُّها الإخوة- إلى آيات أحكام ليل الصّيام – لاحِظُوا التّرتيب أولاً: ممهدّات، ثمّ جاء التّشريع،ثمّ جاء الذّي يُشرع فيه الدّعاء قبل الغروب. بعد ذلك جاءت آيات الليل:
(أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ) فهذه الآية في أحكام اللّيل غالباً، ومشتملةعلى بعض الأحكام الفرعية للصيام، والمحظورات المتعلقة بالصيام، يعني هي مكمّلات،هذه الآية مُكمّلة لأحكام الصِّيام। وهذه الآية اشتملت على عدّة محظورات هي : الأكل،والشُرب، والجماع بعد تبيُّن الفجر، والإمساك عن المفطّرات والمحظورات حتّى الليل،ومباشرة النّساء حال الاعتكاف।كُلُّها داخلة في هذه الآية، وقدَّم فيها ما هو ألصق باللَّيل وأكثر وقوعاً فقدَّم أولاً: أمر المباشرة عامّة، ثمّ المأكل، ثمَّ أمرالمباشرة للمعتكف وهذا والله أعلم
سِرّ تقديم الــمنكح على المأكل في هذه الآية لارتباطه باللَّيل .إذاً ما وجه حظر المباشرة في ليالي رمضان ثمّ إباحتها؟قولُ الله عزّوجل (أُحِلَّ لكم ليلة الصيام) يدلُّ على أنّه محرّم، في أوّل الإسلام، وقبل الإسلام، كيف محرّم؟ يعني أنّ الرّفث (الجِماع) محرّم للمُسلم في اللَّيل إذا نام، فإذا نام حُرِّم عليه الأكل، والرَّفث حتى اليوم الثاني، فهُنا وقتٌ محظور وهو بعد النّوم فيما لو استيقظ إلى اليوم الثّاني هذا كان محظوراً، لماذا كان محظوراً ؟ لأنَّه ينافي حكمة الصِّيام، حكمة الصِّيام هي رفع هذا القلب للتعلّق بالله عزّوجل، فحُظِر ذلك في أوّل الصيام। إذاً لماذا أبيح؟ أبيح لأنّ النّفوس البشرية متعلّقة بهذه الحظوظ، فالله تعالى تخفيفاً لهذه الأمّة بما لم يُخفف على الأمم السّابقة أباح لها هذا الأمر في الليل تخفيفاً لها، ولكي لا تتعلّق به نفوسها ويُشغِلُها عن طاعة ربّها وَرَبطه بمقصد عظيم، لا يكون مطلقاً وإنّما ربطه بمقصد شرعي فقال الله عزّوجل (فَالْآَنَ بَاشِرُوهُنَّوَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ) يعني ليست المباشرة هنا لذات المباشرة والتّمتع فقط وإنّما لمقصد عظيم وشريف هو:أوّلاً: لتتفرّغوا لما كتب الله لكم من قيام هذه الليالي.
ثانياً: ولتبتغوا في هذا الأمر الولد الصَّالح كما سيأتي.
قوله (أُحِلَّ لكم) -كَما ذكرتُ لكم- فيه سبب نزول : وهو أنَّ بعض الصَّحابة – رضوان الله عليهم- اختانَ نفسه ووقع في المحظور في ليالي رمضان، منهم عمر بن الخطّاب رضي الله تعالى عنه أنَّهُ كان في سمرٍ مع النّبي صلى الله عليه وسلّم فرجع إلى بيته وقد نامت زوجته فقال لم تنومي قالت : نمتُ।بعد أن أيقظها ربّما أو ناداها فواقعها । فجاء إلى النّبي من الغَد وشَكَا إليه، وجاء شخص آخر وشكا إلى النّبي صلى الله عليه وسلّم فأنزل الله هذه الآية رحمة بهذه الأمّة. فانظر كيف أنّ الله أباح بوقعةٍ واحدة تشريع عظيم لهذه الأُمّة المحمدية.
قال الله عزّوجل: (أُحِلّ لَكُم ليلةَ الصِّيام الرَّفَثُ) لماذا عبَّربالرّفث ؟ كأنَّ فيه مستكره، يعني هو أمرٌ مُستكره في مثل هذه الأيام التي ينبغي أنتتعلّق فيها قلوبكم بالله। ولذلك كما قال ابن عبّاس: القرآن يُعبِّرُ عن الجِماع بالمباشرة ، والرّفث وغيرها يَكني يعني يُكنّي عن ذلك، وهذا مِن رُقيّ أسلوب القرآن وعُلّوه وسمّوه في أنّه يُعبّر عن الشّيء المستقذر والمستكره كنايةً ولا شك أنّ هذادليل على كمال لغة القرآن وسمّوها. فقال هنا(الرّفث) كأنّ فيه أمرٌ مُستكره أن تأتوه وقد حذّركم الله ونهاكم عنه
(إِلَى نِسَائِكُمْ).(هُنّ لباسٌ لكم وأنتم لباسٌ لهُنّ) لماذا عبّر الله تعالى بهذه الآية ؟ للدَّلالة على الحكمة في وقوعهم يعني كأنّ الله عزّوجل التمس لهم العُذر بقوله (هُنّ لباسٌ لكم وأنتم لباسٌ لهنّ) يعني من شِدَّة الملاصقة والــمُخالطة لا تستطيعون أن تحافظوا على هذا الأمر فعفا الله تعالى عنكم فما أعظم حكمة الله تعالى। وهذه الآية قوله (هُنّ لباسٌ لكم وأنتم لباسٌ لهُنّ) يدل على سُنّة شرعية وهي : حاجة الرّجل إلى المرأة، وحاجّة المرأة إلى الرّجل। وحاجة الرّجل إلى المرأة أحوج وأهم من حاجة المرأة إلى الرّجل، كيف، ما الدّليل؟ لأنَّ الله هنا قدّم قال (هُنّ لباسٌ لكم) فأنتم بحاجةإليهنّ (وأنتم لباسٌ لهُنّ) فأَخَّر حَقَّهُن، فدلَّ على أنَّ الرّجل أحوج للمرأة من المرأة وهذا هُو الواقع। فإنَّ المرأة قد تُطَّلَق ولا تتزَّوج، لكن الرَّجل في الغالب إذا طلّق لابد أن يتزّوج وسنّة الله باقية .
قال الله تعالى(عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ) هذه الآية وردَ فيها عدة روايات في أسباب النزول – كما ذكرتُ لكم-منها: قصّة عمر وغيره، فعبّر الله تعالى بمخالفتهم بالاختيان (تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ) ما المقصود بالاختيان؟ ليس هو الخيانة المقصودة في مخالفة أمر الله،وإنّما غلبت النُّفوس على الأمر أوّ الظنّ أنّ هذا ليس مخالفة، أو ليس واقعاً بمعنى كما كان عمرقال لزوجته : لم تنمِ ، قالت : قد نُمت । فهو لم يواقعها عمداً في مخالفة أمر الله عزّوجل، فعبّر هنا بالاختيان ولم يُعبّربالخِيانة.
ثم قال الله عزّوجل (فَتَابَ عَلَيْكُمْ) الله أكبر (وَعَفَا عَنْكُمْ) تاب عليكم مقابل ماذا؟ وعفا عنكم مقابل ماذا؟ تابَ عليكم عمداً وقع منكم ، وعفاعنكم في الحُكم عموماً - يعني رفع عنكم الحُكم- ولم يتوب الله عزّوجل على هؤلاء فقط، بل عفا عن الأُمّة ببركة هذا الأمر فانظروا رحمة الله وكمال حُكمه وعدله وشرعه .
/ ثمّ قال الله عزّوجل (فَالْآَنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ) هذه – يا إخواني – قاعدة من قواعد النِّكاح وهي ربط مقصد النّكاح بالمقاصدالشّرعية، ليس مقصد النِّكاح هو المتعة المجرّدة التي هي حال البهائم فيما بينها،لكنّ الله تعالى ربطها للمسلمين بأمرٍ مشروع وهو قوله (وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ) وهذا أمرٌ مهمٌ جِدّاً .
قال الدُّوسري – رحمه الله – في كتابه (صفوة الآثار والمفاهيم) كان تفسيره من التّفاسير التي اعتنت بإبراز جانب كمال التّشريع وكمال الشّريعة وربطها بالواقع - وإن كان لم يكمل- قال: وقوله تعالى (وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ) يعني ليكن هدفُكم من المباشرة هو المقاصد الشّرعية التي شُرع ذلك لأجله من إعفاف كل واحدٍ لصاحبه،وإحصانه، وقصد تكثير نسل أمّة محمد صلى الله عليه وسلّم لا لــِمحض الشَّهوةالجنسية، وهذا من جملة النُّصوص الموضِّحة موقف المسلم في جميع أحواله أن يكون عَقائديّاً لا بهائِمياً، يرتقي بِهمومه إلى ما يُريده الله وتكون جميع حركاته وسَكناته مرتبطّة بالله عزّوجل، وهذا أمرٌ الحقيقة له دلالة في الآية .
قوله (وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ) التمس فيها ابن عبّاس الدَّقيق الفهم الذّي أُعطِيَ ذِهناً وقَّاداً في فهم كتاب الله عزّوجل، التمس فيها مشروعية قيام ليلة القدر كيف ذلك؟ قال أنَّ أعظم ماكتبه الله تعالى في هذه اللّيالي هو قيام هذه اللَّيالي لِتَحرِّي ليلة القدر. فقوله (وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ) أعظم ما يُبتغى هنا – والله تعالى أمر به- القيام وَيَدخل فيه ليلة القدر، لكن ابتغاء الولد ما علاقته بالصيّام؟ ليس له علاقة بالصيّام، فقال أنّ الأولى هنا اِبتغاء ما كتب الله له من الخير في هذه الليالي ومن أعظمها قيام ليلة القدر، اُنظروا هذا الإمام المفسّر حبر الأمّة كيف استنبط هذا الاستنباط! . وإلاّ فعامّة جمهور المفسّرين على أنّ (وَابْتَغُوا مَاكَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ) الولد . لكنّه رضي الله تعالى عنه استطاع أن يفهمها من التَّعبير.
قال ابن القيّم " وَمــِمّا كتب الله لهم ليلة القدر فأُمِروا أن يبتغوها فكأنّه سبحانه يقول: اِقضوا وَطرَكم من نساءكم ليلة الصيام، ولا يُشغلكم ذلك عن اِبتغاء ما كتب لكم في هذه الليلة التّي فَضّلكم الله بها. والله أعلم."(6)
قال الله تعالى: (وكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُالْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواالصِّيَامَ إِلَى اللَّيْل) هذه في أحكام الأَكل والشُّرب، تلك في أحكام النِّكاح،هذه في أحكام الأكل والشُّرب فأَخَّرها لِـــمَا قُلتُ لكم أنّ الآيات مُرتبطة باللَّيل فأَخَّر الأكل عن المنكح، في سبب نزول في هذه الآية : وَهِي أنّه كان أصحاب محمّد صلى الله عليه وسلّم إذا كان الرّجُل صائماً فحضر الإفطار فنام قبل أن يُفطر لم يأكل لَيلته ولا يومه حتى غُروب الشَّمس من اليوم الثَّاني- يعني يُواصل- إذا نام بعد الغُروب قبل أن يُفطر، فكان قيس بن صَرِمة الأنصاري كان صائماً فلمَّا حضر الإفطار أتى امرأته فقال لها أَعِندكِ طعام ؟ قالت: لا، لكن أنطلق فأطلبُ لك، وكان يومه يعمل فغلبَته عينه، فجاءته امرأته فلمَّا رأته قالت: خيبةً لك – يعني ستبيت جائعاً إلى الغَد من غير طعام- فلمّا انتصف النّهار غُشِيَ عليه من التَّعب لم يستطع أن يُقاوم فذَكَر ذلك للنّبي صلى الله عليه وسلّم فجاءت رحمت أرحم الرّاحمين فأنزل الله عزّوجل هذه الآية في قوله (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّىيَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَالْفَجْرِ) .

فانظروا- يا إخواني - كيف أنّه ببركة هذه الواقعة ، جاءَ هذا الحُكم العظيم الذّي خفّف على الأُمّة، يعني لكم بعد المغرب أن تأكلوا حتّى الفجر(وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ) وهنا في قوله:(حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ) ولم يقل (حتى يظهر) أو (حتى يبدو) يدلُّ على رحمةٍ إلهية، ما هي ؟ أنّ الأمر متعلق بالتبيّن لا بالبُدُو، من يستطيع أن يتبيّن أو يظهر له الفجرببدايته؟ ما يستطيع إلاّ إنسان جالس قبل الفجر بساعة يتحيَّن خرج أو لم يخرج، فربط الله الحكم وقرنه وعلّقه بالتبيّن، التبيّن ما هو؟ ظُهور الأمر، الإسفار كما ذكرهأهل العلم هُنا، وَلذلك جاءت الآثار على أنَّ المقصود هنا الظُهور والتبيّن لغالب النّاس أو لعامّة النّاس.
قال فيما أخرجه مسلم عن سَمُرة بن جُندب – رضي الله عنه - وهو يخطُب ويُحدّث عن النَّبي أنّه قال: (لا يغرنَّكم نداء بلال – أو هذا البياض- حتى يبدو الفجر وفي رواية : حتى ينفجر الفجر) . لاحظ الفرق بين يبدو وينفجر فذكر هنا بداية الفجر وذكر هنا انفجار الفجر. فدلَّ على أنَّ في الروايتين هاتين بداية الفجرونهاية الإمساك وهو البُدُو والظُهور، والانتشار، والاستفاضة في الأُفق। ولذلك كماجاء في صحيح البخاري عن سهل بن عبد الله أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: (إنّ بلالاً يُؤذّن بليل فكُلوا واشربوا حتى يُنادي ابن أم مكتوم). ثم قال: وكان رجلاً أعمى لا يدري حتى يُقال أصبحت،أصبحت – يعني ظَهَر النّهار أو ظهر الصُّبح ، فقولهم: أصبحت أصبحت دالٌّ على الانتشار وذهاب وقتٌ على دخوله أو بدايته – فانظروارحمة الله عزّوجل- .
قال شيخ الإسلام – : " هذه الآية مع الأحاديث الثّابتة عن النّبي صلى الله عليه وسلّم تُبيّن أنّه مأمورٌ بالأكل إلى أن يظهر الفجر فهو مع الشَّك في طُلُوعه مأمورٌ بالأكل كما قد بُسِطَ في موضعه .

لكن أيُّها الإخوة لا يدُلّ على أنّ الإنسان يأكل حتى يظهر النَّهار ويبدو، لا ، وإنّما القضيّة متعلّقة بالتبيِّن فإذا تبيّن أنّ الفجر طلع فليُمسِك وفي هذا الوقت يتبيَّن الفجر بالأذان، وإن كان هناك قول لبعض أهل العلم أنّ وقت الأذان متقدِّمٌ على وقت الفجر بدقائق بعضُهُم قال تزيد على عشر، لكن بما أنّ المسألة فيها خلافٌ بين العلماء وأخذٌ وردّ فالاحتياط أولى إلاَّ إذا قام الإنسان مع الأذان وليس له وقت فيُمكن أن يتسَّحَر ويأكل ماتيسّر له. هذه المسألة أيها الإخوة يطول الحديث عنها والتفصيل.
قال الله عزّوجل هنا (وَلَاتُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ) هذه الآية في تحريم المباشرة على الــمُعتكف ليالي رمضان ولها سبب نزولها: أنّه كان في بداية الإسلام كان الرَّجل كما قال الضَّحاك إذا اعتكف فخرج من المسجد جامع أهله، فقال الله تعالى (وَلَاتُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ) أيّ لا تقربوهنّ ما دمتم عاكفين في المساجد ولا في غيره كذا قال مجاهد وقتادة وغيرُ واحدٍ من السّلف فهي نازلة بسبب نزول - كما ذكرتُ كم- .
ما العَلاقة بين الاعتكاف والصَّوم؟العلاقة بين الاعتكاف والصّوم من جهة اتّحادهما في الغرض وهو حبس النّفس عن الشّهوات لتحقيق التّقوى وتقوية الصلّة بالله عزّوجل، فلهذا شُرع الاعتكاف وشُرع فيه عدم المباشرة لينقطع الإنسان لربِّه فلا يكون هُناك تعلّق بالدُّنيا ولذلك أُخِذَ من هذه الآية أحكام مع أنّه لم يذكر بيع ولا شراء ولا غير ذلك وإنّما ذكر فقط المباشرة هي أصلُ الاعتكاف في المحذورات، أمّا البيع والشّراء لم يُذكر فالدّليل عليه أنّ كُلّ ما قطع الإنسان في علائقه بالله فهو محذور للمعتكف، أصلها المباشرة ثمّ يدخل فيها توابع المباشرة، دواعيها،ثمّ يدخل البيع والشِّراء والحديث في الدّنيا وغير ذلك.ثمّ قال الله (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا) لماذا قال فلا تقربوها، ولم يقل فلا تعتدوها ؟
هذه مسألة جِيّدة في التّأمّل وهي أنَّ الأحكام المرتبطة المتعلّقة بالتَّشريع في العبادات قال (لا تقربوها) لأنّها محذورات، فلمّا كان الأمر متعلّق بالمحذور في العبادات قال لا تقربوها، وما كان متعلّق بحقوق العباد والمعاملات قال (لا تعتدوها) । يعني العِبادات لا تقربوا المحذور فيها، وأمَّا المعاملات حقوق العبادالظلم، النّساء، النّكاح وغير ذلك قال ( لا تعتدوها) يعني فاصل ، ما في مجال ، ما في اسمه قرب، مباشرة حدٌّ فاصل عدم الاعتداء هذا والله أعلم في سرّ التعبير.
ثمّ قال الله عزّوجل (وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) .

ما علاقة هذه الآيات بآية الصِّيام؟
علاقتُها أنَّ الحُكم هُنا داخل في المحظورات فهو لــَمَّا ارتقت النُّفوس بالتَّقوى صَفَّاها هُنا بالنَّهي عن الأكل ولذلك عَبــــَّر بالأكل هنا أكل الأموال، وليس المقصود بالأكل هو الأكل المباشر، وإنّما عبّر بالأكل لأنّه أكثر المنافع في الأموال، والمصالح المتعلّقة به هو الأكل، فبدونه تنتفي وتقلّ منافع الإنسان من المال لأنّه أعظم منفعة في المال هو حصول الأكل منه। فهذه الآية تشتمل على قاعدة وأصل من أصول الدّين وهو حفظ الأموال والحقوق والمنع من الظّلم فيها والتعدّي وهذا كما ذكره ابن القيّم ، ويدخل في هذه الآية – انظروا ياإخواني كيف بركة هذا القرآن وكيف أنّه أصول - ويدخل في هذا القمار والخداع والغصب وجحد الحقائق بما يشملها وما لا تطيب به نفس مالكه أو حرّمته الشّريعة وإن طابت به نفس مالكه كمهر البغي، وحلوان الكاهن، وأثمان الخمور والخنازير وغير ذلك كلُّه داخِلٌ في هذه الآية العجيبة لأنّه قال (وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ) فيدخل فيها كل أكل للمال بالباطل ربا، وقمار، وبيع وشراء محرّم إلى غير ذلك، فلهذا قلنا لكم أنّها أصلٌ من أُصول الدّين في الأموال. قال تعالى(وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ) (11) المقصود بها هُنا الحِيلة، فاتخاذ المال وسيلة وحِيلة للحرام ولأكل أموال النّاس بالباطل، فهذه الآية أصلٌ في تـَحريم الحِيل، والوَسائل المؤدّية للحرام، وإنّما خصّها لأنّها من عمل اليَهُود، فالله تعالى أبطلها – كما ذكرتُ لكم هنا- الأحكام في إبطال وإزالة ما جعله وأضافه وحرَّفها اليهود والمشركون.
ثمّ قال الله عزّوجل ( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ) إلى قوله (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) كُلُّها تهيئةٌ للحجّ. فلَّعلَّنا نختصِرُ الحديث عنها لندخل في الحديث عن الحج.
أوّلاً: قال: ( يسألونك عن الأَهلّة) يعني الصَّحابة -رضوان الله عليهم- سألوا النّبي صلّى الله عليه وسلّم أوّ في رواية أنّ السّائل هنا المشركون، فكأنّهم أرادوا أن يُعجِزوا النّبي صلى الله عليه وسلّم أو أن يُريدوا أن يسألوا ما يسألوا والله أعلم هل السّائل هنا هوالصَّحابة أو المشركين كُلُّ ذلك في روايات ، لكن سَألوا عن الأهلة لماذا هي تبدو صغيرة ثمّ تكبُر فالله عزّوجل صَرَفهم عن ذلك إلى ما هو أَهم وهو مقصود الأَهلّةوهو قوله عزّوجل(قل هي مواقيتُ للنّاس والحجّ) لم يُجبهم على سؤالهم أجابهم على الحكمة، ولو أجابهم عن سؤالهم قال إنّها تبدو لأنّها كذا، ثمّ تكبُر لأنها كذا، ثم تصغُر لأنّها كذا، وفصَّل في بيان أحوالها لكنّه انتقل إلى الحكمة، وهذا يجعلنا نقول أنّ
الشريعة تعتني بالحِكَم لا تعتني بالمظاهر فقط والأمور النَّظرية الذّي لاطائلَ وراءها ولا عمل تتضمنّه.قال الله عزّوجل (قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ) هذه الآية هي أصل ٌأُصول الدِّين فيها بيان أصل من أصول الدِّين في إقامة نِظام أحكام الشَّريعة على المواقيت، وبِنائِها عَلى الأهلّة، تمهيداً لـِـمَا سيأتي من ذكر الحج، وفيه إبطال ما كان عليه أهل الجاهلية من الخَلل في إحرام الحج ، وإبطال المظاهر التعبُّدّية والتَّصُورات الجاهلية المنافية لحكمة التشريع.
لكن هُنا سؤال مُهِم: مَا عَلاقةالأهلة بالتشريع؟ لماذا الله ربط الأهلة بالتَّشريع في الصِّيام في الحج، وربط الصّلاة بالأوقات الشَّمس وغيرها لماذا؟
هنا مسألةٌ عظيمةٌ نفيسةٌ يجب أن ننظُرها في كثير من الأحكام الشَّرعية، ربط الآيات الشّرعية بالآيات الكونية وهي للدَّلالة على وَحدانية مُوجِدِها – - ومُشَّرعها، يعني هذا التَّشريع رُبِط بالأهلّة رُبطَ بالشَّمس للدلالة على أنّ خالق الكون هو الــمُشَّرع الواحد سبحانه وتعالى لا يأتي أحد فيُشَّرِع ما شاء فخالق الكون هو الذّي يُدَّبر الأمر، آية في كتاب الله تدل على ذلك قال الله عزّوجل (وَسَخَّر الشَّمس والقمر كلٌ يَجري لأَجلٍ مُسَمَّى يُدبِّرُ الأَمر يُفصِّلُ الآيات لَعلَّكُم بِلقَاءِ ربِّكُم تُوقِنُون) وَتفصيل الآيات هنا يدخُل فيه تفصيل الآيات الشَّرعية، فهنا ملحظٌ مهمٌ جِدّاً في
ربط الآيات الشَّرعية بالكونية للدَّلالة على أنّ مُسيِّر الكون هومسيِّر الشَّرع وحده .ما مُناسبة ذكر تخصيص الحجّ هنا(قُل هِيَ مَواقيت) يدخل فيها الحج، لكن لماذا ذكر الحجّ؟ انظروا إلى التّرتيب البديع هُنا بعد آيات الصيام، بعد انتهاء الصيام ماذا يأتي شوّال، فيأتي هلال شوال الذِّي به نهاية رمضان وبداية أشهر الحج لاحِظُوا، فجاءت آياتُ الأهلة بعد الصيام مباشرة إشارةً إلى هلال شوال للدَّلالة على أنّ أشهر الحج تدخُل بهلال شوال، فأشهرالحج شوّال وذو القعدة وذو الحجّة. فتأمَّلوا هذا أيّها الإخوة في ذكر تخصيص الحجّ هنا في الآية.
/ قال الله عزّوجل: (وليس الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا) ما مناسبة هذه للمواقيت؟
مُناسبُتها أنَّ هذه الجملة أيُّها الإخوة تدلُّ على إبطال ما كان عليه أهل الجاهلية من اعتقادٍ باطل في الإحرام وهو ما دلّ عليه سبب النزول وما أخرجه البخاري بسنده عن البراء بن عازب قال: كانواإذا أحرموا في الجاهلية أَتوا البُيوت من ظُهورها ولا يدخلون الباب لئلا يُغطِّيهم السَّقف، اعتقاداً منهم أنّهم بتجرّد الإنسان من المخيط، وتجرُّد شعره،وانكشاف شعره، لا يُغطّيه عن السَّماء شيء فكانوا يعتقدون أنّ الإنسان ما دام محرِماً لا يُغطّيه حاجب ولا جدار فلذلك لا يدخلون البيوت من أبوابها فأنزل الله : (وليس الْبِرَّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى) ليست المسألة بالــمظاهر، ولذلك ما نراه مما يفعله الرَّافضة من بدعٍ ظَاهرة اليوم أنّهم يكشفون بعض مركوبهم زعماً أنّ هذا تعبُّداً وتقُرَّباً هذابدعةٌ وضلالٌ في الدِّين، ولهذا قال الله (وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى) أي أطاع الله كما أمَرَ الله وآمن وصَدَّق وامتثل بما أمر الله تعالى قال الله (وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا) وهذه قاعدةٌ من قواعِدِ الدِّين عامّة ليس المقصود هنا الأبواب فقط أبواب البُيوت كما ذَكَرَ السِّعدي – رحمه الله – ذكر لفتة جميلة مهمّة في قوله (وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا) أنَّ هذا قاعدة في الدّين أنّ الإنسان يأتي الشيء من بابه يعني ما يذهب يتحايل على الشّيء ولا يذهب يمين ويسار، ائتي الأمر من بابه.
وهذه قاعدة يقولها النّاس (وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا) فهي قاعدة في مشروعية إتيان الأمور على وجهها المعروف، حتى لا يُظنّ بالإنسان ريبة أو شيء من ذلك، فما أعظم هذه الدَّلالة وأيضاً تدُلّ هذه الآية على ترك ومنع الغُلوّ، والتشّدد والابتداع في الدِّين ، وهذا أصلٌ من أصول الدِّين ومقصد من مقاصد الإسلام قال فيه النّبي : (يسِّروا ولا تُعسِّروا). وماخُيِّر النبي صلى الله عليه وسلّم بين أمرين إلا اختار أيسرهُما ما لم يكن إثماً ، ثمّ ذكر الله تعالى القتال (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ ولا تعتدوا) مامناسبة ذكر القتال؟

لاحظوا الآن الآيات تجري على الواقع على عهد النّبي صلى الله عليه وسلّم، فما هُو الواقع؟ هذه الآيات نازلة في عُمرةالقَضاء – قضاء الحُديبية- فالنَّبي صلى الله عليه وسلّم لــمّا مُنِعَ من البيت جاء من السنّة الماضية ليقضي عُمرته في السنّة القادمة – وهذا من العهد مع قريش- فأَتى هو وأصحابه وكانوا يستَّعدون وهم لا يَدرُون بماذا سيُفاجِئُونهم قريش – ربّما يخونونهم، أوربّما يبتغونهم- فكانوا مُتهيئِين بالسِّلاح والقتال ، فالله ذكر هنا آيات القتال – اُنظروا يا إخواني – كيف أنزل الله هنا آيات القتال، أنزل آيات القتال في حال أنَّ النُّفوس متهيئة لهم، يعني هم الآن مستعدُّون للقتال لأنّهم أَتَوا يُريدون العمرة يخشَون أن يصُدَّهُم المشركون كما صدُّوهم من قبل في السَّنة الماضية، فلمَّا كانت نفوسهم متهيئة للقتال أنزل الله تعالى تلك الآيات وليست هي تشريعٌ للقتال على وجه العموم، وإنّما إحكام القتال في أشهرالحج.ولذلك قال الله عزّوجل (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا) فقط الذِّينَ يُقاتلونكم ( إنَّ الله لا يُحبُّ المعتدين) ليس هو تشريع القِتال عُموماً لأنّه سيأتي تشريع القتال في قوله (كُتِب عليكم القتال وهو كُرهٌ لكم) أمَّا هذا القِتال إذا وَاجَهكم المشركون،(وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُأَخْرَجُوكُمْ) إذا ابتدءوكم في القتال ، (والْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ) ماهي الفتنة؟ الصَّد عن سبيل الله، الصَّد عن المسجد الحرام، منع المسلمين عن العمرة،هذا أشّد من القتال لأنّه منعٌ للدِّين (وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِالْحَرَامِ) إذا دخلتم وقاتلوكم عند المسجد الحرام لا تقاتلوهم (حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ) لأنّه خشية أن يأتي المسلمون فيدخُلوا مكّة فيكون بينهم وبين المشركين جدال وشِقاق بسبب المخالطة فيما بينهم فيكون هُناك قتال فمنعهم الله من أن يقاتلوا ويبتدئوا بالقتال (فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُالْكَافِرِينَ) (فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) .
(وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ) ، قال في سورة الأنفال (وَقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدِّينُ كُلُّه لله) لماذا؟
لأنَّ هذه الآية نازلةٌ ابتداءً وتلك نازلة بعد أن أكمل الله تعالى في تشريع القتال عموماً وغزوة بدر لنشر الدّين./ثم قال (الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ) ماالمقصود بالشَّهر الحرام ؟ يعني الشَّهر الحرام هذا الذِّي أنتم فيه وقاتلتم فيه – لو حصل قتال- مثل الشّهر الحرام الذّي جِئتم فيه ومُنعتم يعني يوماً بيوم كما جاء في بعض الروايات। (وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ) إن قاتلوكم فاقتلوهم. (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ) وهذه قاعدة أصلية من قواعد الدّين في أنَّ الاعتداء لمن اُعتديَ عليه له حقُّ الاعتداء لكن لابد أن يكون بتنفيذ الوليّ أو الحاكم (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّاللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِين) .
/ ثم قال ( وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُواإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ) ماعلاقة آيات الإنفاق بآيات القِتال قبل قليل، وبآيات الحجّ بعدها في قوله (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَلِلَّهِ) .
جاءت هذه الآية حلقة وصل بين آيات القتال وبين آيات الحجّ، القتال يحتاج إلى نفقة، والحجّ يحتاج إلى نفقة فقال الله عزّوجل(وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ) إعداداً للقتال، وتــهيُّــئاً للحج، انظرواكيف تأتي هذه الآيات بسياقٍ بديع مترابط.
ثم قال الله ( وَلَا تُلْقُوابِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ)
ما المقصود بهذه الآية؟المقصود لا تذهبوا للقتال من غير عُدَّة وهذا إلقاءٌ للنّفس في التهلكة، فإنسان يذهب للقتال وليس معه عُدّة ولم يتهيّأ ، يقول أنا مُتوَكّل على الله! ليس هذا صحيح لابد أن تفعل الأسباب ولذلك النبي صلى الله عليه وسلّم لبس درعه في غزوة أحد وهو نبي معصوم محفوظ بحفظ الله ومع ذلك لَبس الدّرع، فدلّ ذلك على لزوم وجوب أخذ العدّة للقتال حال الخروج ولا يكفي في ذلك الاعتماد في الإيمان والتّوَكل، وإن كان التّوكل على الله – عزَّوجل- لازم وهوالأساس لكن التّوكل لا ينافي الأسباب بل يُوافقها ويُكمّلها كما ذكر ابن القيم ذلك.
وفي هذه الآية أيضاً دليل على ألا يأتي الإنسان للحجّ وهو ليس لديه شيء فيموت قبل أن يصل إلى الحج فالله سبحانه قال خُذُوا عدّتكم وأنفقوا. ثم قال( وَأَحْسِنُواإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ) ما المقصود بقوله وأحسنوا؟ يعني زيدوا في إنفاق ما آتاكم الله عزّوجل، لأنّ في ذلك زيادة في الإنفاق في سبيل الله والقتال، وإعزاز الدّين فهذه الآية دالّة على عِظَم أمر الإحسان والإنفاق في سبيل الله تعالى وهي دالّة من جهة الحَجّ إلى الإعداد للقيام بالحج على أكمل وجه وأحسن عمل ولهذا أتبعها بقوله (وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) .
لاحظوا ( وَأَحْسِنُواإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ) (وأتّموا..) فما أعظم هذا الاكتمال إحسان في العمل يتبعُهُ إتمام، هذا والله أعلم ارتباط الآية بآيات الحج.
ثمّ جاء السّياق هنا في آيات الحج بقوله: (وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) ، لماذاافتتح الله آيات الحج بقوله (وأتّموا ) ولم يقل وأقيموا الحجّ على التوحيد؟
الحج موصول بأصل تشريعٍ في ملّة إبراهيم، ولذلك وردت أحكام الحج في سورة مكيّة وهي سورة الحجّ (وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ )
فماالفرق بين آيات الحج في سورة الحج، وبين آيات الحج في سورة البقرة؟في سورة الحج في الأعمال المتعلّقة بالتوحيد، لأنَّ الحجّ أقيم لأجل التّوحيد ولذلك جاء في سورةالحج التي هي في سورة مكيّة، أمّا في سورة البقرة فهي في تفصيل أحكام الحج، وإزالة ما أحدثه فيه المشركون - قــُريش- من أعمال ليست من سُنّة إبراهيم لاحظوا الحكمة العظيمة في التّشريع هنا، تلك في الأحكام المتعلِّقة بالعقيدة ولذلك جاء ذكر الله تعالى في سورة الحجّ كثيراً (وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ) .(وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ) ، (وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ ) ففيها إقامة الذّكر والعقيدة والتّوحيد، هنا التفصيلات في التّشريع وإزالة ما أحدثه المشركون، وأهل الكتاب في الحجّ .
قال الله تعالى: (وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ)
أخذ العلماء من هذه الجملة أحكام منها:(1) وجوب إتمام الحجّ لمن دخل فيه , يعني من أحرم بالحجّ أو العمرة حتى لو كان نفلاً هذا خاصّ بالحجّ , أما الصلاة فالنفل يجوز قطعها لكن في الحج عمرة أو حجاً قال العلماء وجوبُ إتمام الإحرام ولا يجوز الإنسان أن يقطعه حتى يُتمّه استدلالاً بهذه الآية, ولهذا قال: (لِلّهِ) ثم قال الله تعالى في أحكام الحِصار- المُحاصرة - , لماذا أورد الله تعالى أحكام الحصار؟!
لأنّها محتمَلة الآن في مجيء النبي في عُمرة القضاء, - الله أكبر - يعني هنا تنزل الآيات على حسب الأحداث والوقائع , فقال: (فِإنْ أُحْصِرْتُمْ ) وهنا قال (أُحْصِرْتُمْ) ولم يقل: حُصُرتُم!, ما الفرق بين أُحصرتم وحُصرتم؟!
الفرق بين أُحصرتم وحُصرتم أنّ الحصر حُصِر خاصّ بالعدو, فإذا حصركم العدوّ, و أُحصرتم: أيّمنعكم مانع من الحج , فيدخل فيه العدوّ ويدخل فيه المرض ويدخل فيه الحابس أيّ حابس يحبس الإنسان, فالله عزوجل جاء بهذه الآية بعُمومها لم يخصّها بالعدوّ لأنّ هناك حاصرٌ غير العدوّ , كما هو الحال الآن فيمن يذهب فيُلبّي بالحج ثم يأتي فيُمنَع , فيدخل هذا في الحكم في الحصر , قال الله : (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَااسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) لاحظ كلمة (اسْتَيْسَرَ) لم يُكلّفّهم الله تعالى أكمل الهدي وإنّما ما استيسر منه .
(2) ثم قال الله عزوجل أيضاً في مانع من موانع الحجّ , مانع كُلّي وهو الحصر, ثمّ مانع جزئي وهو تغطية الرأس, لابدّ أن يُغطّي رأسه, كما في قصّة مالك بن عجرة حينما كثُرت عليه في رأسه القمل وتأذّى منه فاستأذن النبي - صلى الله عليه وسلم - في حلقه فقال الله (وَلاَ تَحْلِقُواْرُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ) ، هنا هذا حُكم الأصل (وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ ) إذاً هذا في حلق الرأس , أين محظورات الإحرام الأخرى؟! ذكر الله تعالى هنا الأهمّ
وذكر الله تعالى هنا ما هو مُتعلّق بالنُسك مباشرة وهو كشف الرأس فيدخل فيه المحظورات الأخرى كما جاء في السنّة عن النبي عليه الصلاة والسلام.(3) ثمّ قال: (فمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ) قوله المرض يدخل فيه محظورات الإحرام المتعلّقة بالمرض المانعة , كالمرض الذي يدعو إلى لبس المخيط مثلاً , أو المرض الذي يتناول فيه الإنسان مثلاً , أو المرض المانع من أداء واجب من الواجبات , ثمّ قال (أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ) كما هي في قصّة مالك , قال: (فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ) وسّع الله الفدية هنا وهي فدية جُبران لا فدية شُكران كما سيأتي , صيام ثلاثة أيام أو صدقة أو نسك وهو ذبح شاة .
(4) قال الله: (فَإِذَا أَمِنتُمْ) يعني وصلتم البيت, لاحظ هنا وصول البيت , قال الله: (فَإِذَاأَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) ، هنا تشريع جديد من تشريعات الإسلام لم يكن في الأمم السابقة وهو التمتّع , التمتّع رخصة لهذه الأمّة دون سائرها , ولذلك كان أهل الجاهلية يعيبُون جَمع العمرةِ إلى الحجّ ويعتبرونه نقصاً , ولهذا جاء شهررجب الذي يُسمّونه رجب مُضرّ , أيّ هو رجب شهر العمرة لمُضرّ التي هي قبائل قريش وما يتبعُها من قبائل العرب , فسُمّي رجب مُضرّ لأنّه أُبيح لأجل مُضرّ , ثمّ قال الله تعالى: (فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) المراد بالهدي هنا: هدي التمتّع , هذا هدي شُكران وذاك هدي جُبران ,
وماالفرق بينهما؟َ!أنّ هدي الشُكران وهو هدي التمتّع يُشرع فيه الأكمل , ولذلك النبيّ قدّم فيه مائة من الإبل , أمّا هدي الجُبران فيكفي فيه شاة ما تيسّر منها , فلاحظوا الفرق بينهما يعني هدي التمتّع يُشرع للإنسان أن يُكمِلّه لأنه هدي شُكر , وهدي الجُبران يكفي الإنسان أن يُؤدّي فيه ماتيسّر ولو شاة صغيرة أو ضعيفة , لكن هدي التمتّع لابدّ من كمالها وتمامها , ويُفضّل أن تكون من أسمن وأغلى الهدي.
(5) قال الله عزوجل: (فمَن لَّمْ يَجِدْ) أي الهدي،, لاحظوا هذا تخفيف من الله , من لم يجد الهدي للتمتّع , قال: (فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ) قسّمها الله تخفيفاً للأمّة وجعل الأخفّ في الأيام التي فيها مشقّة وهي أيام الحج ثمّ السبعة إذا رجعوا إلى أهليهم , ثم أكدّها لئلّا ينسَوها , قال: (تلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ) لأنّ الإنسان إذا ذهب إلى أهله انشغل بدنياه وأهله وربّما نسيّ ما وجب عليه, فأكدّها الله بقوله: (تلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ) أي لا تتساهلوا في الباقي بعد أن صُمتم ثلاثة أيام , والعلماء يقولون أنّه لو صامها كلَها في الحجّ لأجزأه ذلك , لأن الله شرع السبعة تخفيفاً , فلو عجّلها الإنسان فلا بأس بهذا , ثم قال الله: (وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) كيف خُتِمت الآية بقوله: (وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ)
مع أنّ فيها التيسير والتخفيف والرّحمة لهذه الأمّة؟!انظروا إلى القصّة التي وقعت مع النبيّ - صلى الله عليه وسلم -, اقرنوا هذا واربطوه بتلك , أنّها نازلة ابتداءً على النبيّ عليه الصلاة والسلام كان ذلك في حال عمرة القضاء ومنع المشركين أو احتمال منعهم , فلمّا أدُّوا عمرتهم واكتمل فضلُ الله عليهم بأداء العمرة قال الله : (وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) هذا فيه تبشير للمسلمين , هو إشارة ووعد من الله بأنّ الله سيُعذّب الكافرين هؤلاء , قال الله (وَاتَّقُواْ اللّه) أنتم , ثم قال(وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) لهؤلاء الكافرين الذين كانوا في البيت واحتملتم أنّهم يصدُونّكم , فأبشروا فإنّ الله مُعاقبهم وممُكنُكم من البيت , ولذلك ذكر بعض العلماء هنا لفتة بأنّ هذا وعدٌ كريمٌ من الله بتمكين المسلمين من البيت الحرام , أرأيتم مع أنَّ القارئ لهذه الآية يقف متحيراً , كيف تُختم آيات التَّخفيف والرحمة بالشدّة والعقاب؟! فالخطاب هنا والله أعلم راجعٌ إلى الكافرين أهل مكة الذين صدُّوا المسلمين ومنعوهم وأرهبوهم , فالله تعالى يتوعدّهم ويُبشّر المؤمنين بأنّ لهم التمكين بإذن الله تعالى.ثمّ انتقل الحديث أيّهاالأحبّة إلى الحج :هنا أحكام العمرة انتهت , أتى الحجّ فابتدأ بقوله: (الحجّ) هذا الحجّ , أحكامه ما سيأتي , قال الله تعالى: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَات) وأشهر الحج : شوال وذو القعدة وذو الحجة , قال بعضهم: عشر من ذو الحجة أو إلى أيام التشريق , ولكن الصحيح هي ثلاثة بكمالها لأنّ أعمال الحجّ لمن لم يقضي بعض الواجبات يقضيها إلى نهاية ذو الحجة , يعني من لم يقضي بعض الرمي مثلا ًما استطاع مَرِض، فله أن يقضي بعد أيام التشريق الرمي حتى ولو في نهاية شهر ذي الحجة, إذاً قال(أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ) لماذا قال: (أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ)؟! لأنّ المشركين قد أخلُّوا بها فهي معلومةٌ من أصل دين إبراهيم فهي أشهرٌ معلومات, أمّا المشركون فقد جاؤوا وأحدثوا وغيّروا فقد قدَّمُوا وكانوا يُؤخّرون شهراً ويُقدّمُون شهراً على حسب أهوائهم كما قال تعالى: (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ) في سورة التوبة , فأقرّها الله عزّوجل- هنا- كما أقرّها وقت إبراهيم فرجع الحجّ على ما كان عليه وقت إبراهيم , قال الله عزوجل: (فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ) ما معنى فرض؟! نوى أو أحرم , خلاف بين العلماء هي التلبية أو الإحرام , والتلبية داخلة في الإحرام (فَمَن فَرَضَ) يعني دخل في الإحرام وهذا يُؤكدّ ما ذكرتُه لكم أنّ من دخل في الحج لَزِمَه إِتمامَه لأنّه فرضه يعني فرضّ على نفسه دخوله , قال: (فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ) لماذا هنا أعاد لفظ الحج؟! لاحظوا أعاد لفظ الحجّ (ثلاث مرات) .
(الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ) مع أنّه لو قال الحجّ أشهرٌ معلومات فإذا فرضتُ فيهنّ الحجّ مثلاً أو فرضتُ فيهنّ الإحرام فلا رفث ولا فسوق ولا جدال فيه , لكن هنا ملحظ وهو أنّ المقصود في كل لفظ معنى , فالمقصود في قوله: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ) هنا لإثبات فريضة الحج لإثبات أشهر الحجّ أو بداية الحجّ , (فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ) في أعمال الحج (فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ ) في محظورات الحجّ , أرأيتم كيف في كل لفظ يُؤكدّ على أنّه يُراد به المعنى والله أعلم .
قال الله تعالى: (فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ) هذه الكلمات الثلاث يا إخواني اشتملت على جميع محظورات الإحرام,
فالرفث يدخل فيه معنيان:أولاً: يدخل فيه الرفثّ في الحجّ أصلاً , يعني يدخل فيه الرفثّ في الجماع الذي هو أصل الرفثّ , ويدخل فيه غير الجماع, لأنّه قال في آيات الصيام: (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ) فدلّ على أنّ هناك رفث إلى غير النساء وهوالكلام القبيح والفاحش وغير ذلك, ولو كان المقصود هنا النساء لقال فلا رفثَ إلى النساء , فلمّا أطلقه دلّ على دخول الجماع ابتداءً الذي هو من أعظم محظورات الحجّ والذي به يبطُل الحج ويستوجب بدنة وحجاً من العام المُقبل, هو المحظور الأعظم الذي به يفسد الحج ويوجب بدنة ويوجب أداء الحج في العام الذي بعده , أقول هنا قوله: (فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ) . تتضمنّ غرضين مهمين:الأول: هو بيان ما يُنافي حقيقة الحجّ وصحته وأدائه, وهي هذه الأمور الثلاثة ولزوم اجتنابها وهذا الغرض دالّ على المحظورات الخاصّة بالحج من هذه الأمور الثلاثة, وهي بالنسبة للرفث الجماع لأنّه من محظورات الإحرام ودواعيه كذلك لأنّها محظورات ومحظورة على المُحرم, وبالنسبة للفسوق هي المحظورات الأخرى : قتل الصيد , حلق الرأس , ولبس الثياب والطيب, هذه بالنسبة للحج, وبالنسبة للجدال في ما يتعلق بالحج, الجدال في وقت الحجّ وموضعه وأعماله بعد أن أقرّها الله تعالى وبيّنها, هذه المحظورات مُتعلّقة بصحة أداء الحجّ, هناك بيان كمال الحجّ, في هذا الآية بيان ما ينافي كمال الحج وإتمامه من هذه الأمور الثلاثة, وهي بالنسبة للرفث الفحش واللغو في الكلام هو ليس محظور مُتعلّق بالحجّ عليه فدية, وإنّما هو محظور يُنقص الأجر فهذا ما يُنافي الكمال, الرفث يدخل فيه الفُحش واللغو في الكلام , والفسوق المعاصي كلّها الدخان، والسبّ، والشتام، والغيبة، والنميمة وغير ذلك , وبالنسبة للجدال يدخل فيه الخصومات والمِراء المؤدّي إلى النزاع والفرقة, هذه كلّها مُنافية لكمال الحجّ, ويُؤكدّ ذلك أيّها الأحبّة أنّ النبي أكدّ على ذلك بقوله: "من حجّ فلم يرفث ولم يفسق ، فدخل في ذلك الرفث المُتعلّق بالحجّ وغيره أو في غير أعمال الحجّ والفسوق كذلك ومنه المعاصي - رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه" ، وهذا نأخذ منه أنّ الأجر المُترّتب هنا - والله أعلم - مُترتّب على من حقّق الأمرين, حقّق أو ترك هذه الأمور المتعلّقة بالحجّ والأمور المُكمّلة المُنافية للكمال , فحقيقة هذا ملحظٌ مهم في الحجّ , لأنّ بعض الناس يا إخواني أهمّ شي عنده لا يأتي محظور في الحجّ , فلا يقصّ شعره , ولا يُغطّي رأسه , ولا يلبس مَخِيط ، لكن ليس عنده بأس أن يسبّ ويلعن ويشتم ويُدخِن ويترك الصلاة , سبحان الله، لماذا؟! لأنّ تلك عُلّق عليها عقوبة أو فدية, أمّا هذا عُلّق عليها إثم , ولا شكّ أنّها أعظم , فهذه في الحقيقة نقص في فهم النصوص وأداء الفريضة , إخواني الكرام يجب أن نُدرك ذلك وأن نعرف أنّ كمال الحج وكمال أجره يحصل بالأمرين جميعاً .
بل الأمر الثاني أقرب وأهمّ من حيث أنّ النبي قال: (من حجّ فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه) وهذا معنى ما سُئل عنه النبيّ ما برّ الحج؟! قال: "إطعام الطعام وطيب الكلام" يعني الكمال انظروا من أتى بالكماليات هذه لا شكّ أنّه آتٍ بما هُو دونها .
لماذا قال: (وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ) تخصيص الجدال في الحجّ لماذا؟! لأنّه- سلّمكم الله- كأنّ هذا قطعٌ لما كان عليه المشركون فلا سبيل لهم بعد ذلك للجدال, كأنّه قال انتهى وقُرّ ما أقرّه الله في أشهر الحجّ فلا تُجادلوا المشركين , خُذوا ما أمركم الله .
وأيضاً يا إخواني الكرام فإنّ الجدال في الحجّ أنتم ترونَه ظاهراً بسبب اختلاف الأوضاع بمعنى يأتي الإنسان إلى بلد غير بلده , غير مستقِرّ , ما فيه سكن مريح , فيه بعض الأشياء الناقصة عليه , فتُسبِّب إشكال بين الناس فيتنازعون في المسكن , يتنازعون في المكان , في المطعم في المشرب في الذهاب في المجيء , أمر غير مستقرّ أمر سفر فهو في مظنّة الجِدال والشقاق , فانظروا إلى تخصيصه هنا لأنّه أكدّ الله عليه , فينبغي يا إخواني التنبُّؤ لهذا , قال الله تعالى: (وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ)
ما فائدة هذه الجملة؟!فائدة هذه الجملة : أنّ الله يُحفّز النفوس المؤمنة إلى أن تُسابق إلى فعل الخير (وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ) يعني في هذا الحجّ اغتنموه في فعل الطاعات, ولذلك قال النبي في برّ الحج "إطعام الطعام وطيب الكلام " .
ففِعل ما أمكن من السُّنن والنَّوافل، وقراءة القرآن، والذِّكر، وإقامة ذكر الله، والصدقة وغير ذلك كلّه ممّا هو داخلٌ في هذه الآية , أرأيتم لو أنّ الإنسان قام بهذه الصفات كلّها لاشكّ انّه أدّى حجاً كاملاً يُرجى أن يكون فيه أجره كاملاً بإذن الله , ثمّ قال الله: (وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى)
هذه الجملة شاملة لمعنيين:المعنى الأول: تزودّوا من الخير والطّاعة , ولذلك قال: (فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى) أول ما ينبغي أن يتزوّد به الإنسان هو طاعة الله، خصوصاً هو ذاهب قاصد للحجّ قاصد لوجه الله عزوجل يجب أن يتزوّد من الطاعات , وللأسف الشديد نجد بعض الناس ينشغل بالأحاديث وبالسَّمَر مع أصحابه وغير ذلك , يعني يقضي وقته بغير ذكر الله , لا يُؤدّي إلا الواجبات فقط , رميَ الجمار، والطواف، والسعي، والذهاب لعرفة ومزدلفة وانتهى , لا قال الله عزوجل: (وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى) وإنّما خصّ التقوى, انظروا كيف عقد هنا الحجّ بالتقوى بل نظَمه بعقد التقوى الذي نظَم في السورة كلّها (وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ) والحجّ يحتاج إلى تقوى باجتناب المحظورات وفعل المأمورات فكلّ ذلك داخل في التقوى , ولهذا قال: (يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ) العقول التي تُريد الكمال تُريد امتثال أمر الله عزوجل.
/ ثم قال : (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ) هذه الآية واردة في إباحة التجارة في الحج ، (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ) لكن لماذا قال: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ) ولم يقل: وابتغوا من فضل الله في الحجّ؟! لأنّه - سلّمكم الله- كانت أسواق العرب قائمة مِجنَّة، وعكاظ وغيرها كانت قائمة , بل مواسم التجارة عند العرب هي في الحجّ , قبل الحجّ وبعد الحجّ, مواسم التجارة عند العرب قبل الحجّ إلى يوم ثمانية موزّعه على أيام , وبعد الحجّ كذلك, فكانوا يُقيمون فيها البيع والشراء ويتنافسون فيها بأبيات الشعر والقصائد وذكر آبائهم وأجدادهم وغير ذلك, كأنّ المسلمون هُنا تحرّجوا من أن يُخالطوا الكفار في أسواقهم وهم أتوا إلى الحجّ , هم يُريدون وجه الله فكيف يَغشَوَن أسواق الكافرين؟!
لكنّ الله عزوجل بحكمته وبعظيم شرعه أباح لهم البيع والشراء, لئلّا يكون المسلمون في ضعف من أمرهم ومالهم وتزودّهم فيكون للكافرين عليهم منّة وفضل, فأباح التجارة بالحجّ ليتزودّوا فيها ،وليكون لهم عزّة وقوّة، ووجود تجارة , وهذه الآية دالّة على مشروعية التجارة في الإسلام لاحظوا مع أنّها في آيات الحجّ إلاّ أنّها دالّه على مشروعية التجارة من حيث أنّ الله تعالى شرع التجارة في وقت فريضة , وقت أداء فرائض وقت الحجّ , وإن كان ليس في أيام الحجّ نفسها لكن قبلها وبعدها , فدلّ ذلك على مشروعية التجارة في الإسلام لتكون للمسلمين قوّة واقتصاد , هذا من رعاية الله للبلد المسلم أو للأمّة المسلمة , للدولة المسلمة , ألسنا نقول كثيراً أنّ هذه السورة في إعداد الأمّة، وتمكينها، وإعدادها , هذا من إعدادها , فالله عزوجل قال: (أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ) . ولهذا أخذ بعض العلماء من هذه جواز أنّ الإنسان إذا ذهب للحجّ أن يُتاجر, وأخذوا منه أنّه يجوز للإنسان أن يعقد الحجّ عن غيره ويأخذ على ذلك دراهم , الذّي هو الحج بالإنابة , لكن حرمّوا على من قصد بحجّه المال , من كان قصده بالحجّ ذاته المال فلا يجوز له أن يأخذ هذا المال , لكن لو قال أنا حاجّ لكن هذه السنة لن أَحُجّ عن نفسي سأغتنم هناك فضائل الأيام والأوقات بالذكر والطاعة وأحُجّ عن غيري, قال الله بعد ذلك: (فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ) لماذا لم يذكر عرفات أصلاً قال: (فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ) يعني رجعتم , فالإفاضة هي الذهاب أو الطلب بكثرة وسَعة , وهذا واضح في إفاضة الحجّ سيلان الماء بكثرة وسَعة , لماذا لم يذكر عرفة؟! لأنّ السِّياق كما قلت لكم في إبطال ما كان عليه الجاهلية وأمّا ما كان أصله مستقرّا على الحجّ الذي كان عليه إبراهيم فلم يذكره الله هنا, فلذلك لم يذكر عرفة مع أنّ عرفة هي الحج (الحج عرفة) كما قال النبي , فبعض الناس يقرأ يقول أين عرفة، لماا لم يذكرها الله ؟! ذكرها الله عزوجل وأقرّها على ما كان عليه إبراهيم , وإنّما ذكر (فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ) لأنّ المشركين لم يكونوا يُفيضون من عرفات, كانوا يفيضون من مزدلفة لأنّهم كانوا كما يُسمّون أنفسهم بالحُمُس، كانوا يخصّون أنفسهم بغير العرب , يقولون نحن لا نخرج من الحرم نحن أهل الحرم نبقى في أدني الحرم في مزدلفة , أمّا غيرنا فيخرج , فلمّا أتى النبي خالفهم على ما كان عليه إبراهيم , فقال الله: (فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ) .
وفي هذه الجملة من الآية عدة أحكام ودلالات :منها وجوب الإفاضة من عرفة بعد زوال الشمس لها دلالة عليها لأنّه قال: (فَاذْكُرُواْ اللّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ) . والمشعر الحرام إنّما يجوز الإفاضة إليه بعد غروب الشمس لأنّه ذكر لله تعالى فيه , ما يُشرع من الذكر .
لماذا قال الله عرفات ولم يقل عرفة؟! (فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ) للدلالة على المكان لا على اليوم، كأنّ هذا إشارة إلى الاسم الأصلي في عرفات , عرفة أنّه عرفات . وإنّما سُمّي عرفات لأمرين ذكرهما بعضهم وهي روايات :
* قيل: لأنّ جبريل عرّف فيها إبراهيم بمواضع الحجّ , ولماّ أتى عرفة قال: عرفت الآن؟! قال: عرفت.
* وقيل: وهذه رواية ضعيفة أنّ آدم عرف حواء في عرفة , وعلى كل حال هذه روايات الله أعلم بصحتها , الأول أصحّ وأظهر لعلاقته بإبراهيم فعرفة مُتعلّق باليوم يوم عرفة , وعرفات مُتعلّق بالمكان وهو الأرض .
وهذا يدلّ على أنّ الوقوف يشمل عرفات كلّها كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم : (وقفت هاهنا وعرفة كلّها موقف) قال الله( فَاذْكُرُواْ اللّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ) والمشعر الحرام هو مزدلفة هنا وليس المسجد , وهذا يُؤكدّ على أنّ المشعر الحرام كلّه موقف لدلالة المشعر الحرام , وذَكَرَ الله تعالى فيه ليس الوقوف والمبَيت, وإنّما الذِّكر للإشارة إلى أنّ هذا الذكر ممّا عطّله أهل الجاهلية كانوا يأتون إلى مزدلفة فلا يذكرون الله , فقال الله (فَاذْكُرُواْ اللّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ) فتصريحٌ بذلك , وقد ورد عن النبي أنّه كان إذا صلّى الفجر ذكر الله حتى يُسفر النّهار قبل أن تطلُع الشمس ولهذا قال: (وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ) كما هداكم للأصل الحجّ الذي كان عليه إبراهيم، وأبطل ما أحدثه هؤلاء المشركون فجرّده لكم , والله إنّها نعمة عظيمة أنّ الله تعالى بيّن لنا الحق وبيّن لنا الحج وجرّده ممّا أحدثه هؤلاء فيه , وبيّنه على ما كان عليه إبراهيم (وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّآلِّينَ) . ثم قال الله: (ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ)
الإفاضة هنا المقصود بها معنيان:قيل: أنّ المقصود هنا الإفاضة هي الإفاضة من عرفة إلى مزدلفة .
قيل: ومن مزدلفة إلى منى . فدلّ ذلك على الإفاضتين جميعاً .
وإنّما قال هنا (أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ) للدلالة على الإفاضة, ما المقصود بالنَّاس هنا؟! قيل المقصود بالناس الأمم السابقة، ومنهم إبراهيم كأنّه قال أفيضوا من عرفات كما أفاض إبراهيم, فهو تعريضٌ وإشعارٌ بما أحدثه هؤلاء المشركون , فهذا ما ذكره بعض المفسّرين , وهذا الظاهر والله أعلم أن الآية تشمل الإفاضتين جميعاً , كأنّ الله تعالى يقول أفيضوا كما كان عليه إبراهيم واتركوا ما أحدثه هؤلاء المشركون (وَاسْتَغْفِرُواْ اللّهَ) ولهذا قال: (وَاسْتَغْفِرُواْ اللّهَ) ما دلالتها؟! كأنَّها إشارة إلى الخطأ الذي أحدثه هؤلاء المشركون في الحجّ كأنّه إشعارٌ لهم إلى أن يستغفروا الله ويتوبوا إليه ممّا أحدثوه ويكونوا على ما كان عليه إبراهيم والله تعالى أعلم, وفي هذه الآية (وَاسْتَغْفِرُواْ اللّهَ) دليل على مشروعية الاستغفار بعد العبادة لمظنّة النقص فيها, ولأمرٍ آخر هو طرد العجب وإنفاء العجب من النفس بأن أدّيت هذه العبادة وأكملُتها , ولذلك لا ينبغي للإنسان أن يفخر بعد الحجّ بمظاهر تدلّ على فخره بأنّه حجّ وممّا يتعلّق بذلك , وإن كان البعض في غير بلادنا الكثير يحتفون بالحاجّ ويضعون له احتفال , لماذا؟! لأنّ الحجّ عندهم صعب, من يأتي إلى الحجّ إلاّ بعد سنين من العمر وبعد أن يجمع ما يجمع من الدراهم ,
فهذا المظهر ليس مشروعاً حقيقة من حيث انّه فيه أمران:أولاً: كأنّ فيه عجبٌ لهذا الشخص أنّه أدّى هذه العبادة ,
ثانيا: وأيضاً إقامة هذا الاجتماع والاحتفال لم يرد عن النبي , ثم قال الله عزوجل: (إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) .
/ ثم قال الله: (فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا) ، (فإذا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ ) يعني انتهى الحجّ , وهذا يدلّ في قضيّة (قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ) على جميع مناسك الحجّ بعد ذلك , ما هي الباقية؟! ما هي المناسك الباقية بعد الإفاضة من مزدلفة؟! أيام العيد وما فيه من أعمال الحجّ , وقد ذكرها الله في سورة الحجّ في قوله تعالى: (والبدْنَ جَعلنَاها لكُم من شَعائِر الله) فإنّ الذبح في أيام العيد هو أعظم الشعائر ذلك اليوم وأعظم النسك , فذكره الله في سورة الحجّ لإقامته على التوحيد , ثم قال الله: (فاذْكُرُواْ اللّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا) ما مناسبة قوله: (كَذِكْرِكُمْ آبَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا)؟! يعني كان المشركون بعد الحجّ يُقيمون الأسواق فيذكرون آباءهم بالأشعار، والثناء، والتفاخر وغير ذلك , انتهى ذكر الله عندهم , بعد الحج انتهى , فيُقيمون الأسواق بعد ذلك , فقال الله عزوجل: (فاذْكُرُواْ اللّهَ) بعد الحجّ , وهذا فيه مشروعية الدوام على ذكر الله وأنّ الإنسان لا ينقطع عمله حتى بعد أداء الفريضة والنُسك , ينبغي أن يُتابِع الحسنة بالحسنة , بعد ذلك قال: (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً) ممّا يُؤكدّ ذلك, فهذه الآية دليلٌ على متابعة الحسنة بالحسنة، وإقامة ذكر الله بعد العبادة بكل ما فيه ذكرٌ لله عزوجل, قال: (كَذِكْرِكُمْ آبَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا) يعني كأنّ الله تعالى يقول ينبغي أن تذكروا الله عزوجل هنا ولا تذكروا آباءكم , لأنّ الله تفضّل عليكم بإقامة الحجّ ويسّره لكم, أليسَ الأولى أن تذكروه؟! وهذا مِثَل قوله (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ) فكأنّ الله تعالى يقول الأولى بكم أن تُقيموا هنا ذِكر الله لا تُقيموا ذِكَر آباءكم , ما علاقة الآباء بالحجّ والتفاخر فيها؟! .
ثمّ ذكر الله حال الناس بعد الحجّ إشارة إلى حال المؤمنين وحال الكافرين , حال الكافرين بعد الحجّ كانوا يقولون يا ربّ ارزقنا , أمطرنا , ارزقنا غنماً , ارزقنا مالاً , ارزقنا كذا وكذا من أمور الدنيا , هذا بعد الحج ، أهذا شكر الله؟!
أمّا المؤمنون قال الله عنهم، بعد أن قال عن الكافرين (فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا ) ربّنا ارزقنا مالاً زرعاً غنماً إلى غير ذلك , (وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ) أي الآخرة ليس هي همّه وليس هي طلبه , وهذا نأخذ منه أيّها الإخوة فائدة عظيمة أنّ الإنسان إذا كان همّه في دعائه فقط يُرزق مالاً يُرزق ولداً، يرزق كذا , ولا يدعو للآخرة هذا يشابه المشركين , فإنّ المشركون يدعون الله , لكنّهم لا يدعون الله إلا في أمور دنياهم , فمن شابه هؤلاء فقد شابه المشركين من هذا الوجه يعني تعريضاً بالذمّ وليس هو محرّم , كيف تنسى آخرتك وهي أعظم؟! فالأولى والأكمل للإنسان أن يدعو في الحالين جميعاً وهو حال المؤمنين الذين قال الله فيهم (وِمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) هذه الآية أو هذا الدعاء إخواني الكرام يجهله كثير من الناس في معناه مع فضيلته وعظمه, والنبي - صلى الله عليه وسلم - جعله في أفضل مكان في الطواف بين الركنيين , يعني شَرع هذا الدعاء بين الركن اليماني والحجر الأسود لفضيلته ولأنّه يجمع خير الدنيا والآخرة , ذلك لأنَّ قول الله عزو جل :(رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً) تُفيد كلّ حسنة في الدنيا , كل أمر حسن ، ما هي الأمور الحسنة في الدنيا؟! ذكر بعض السلف هنا أنواع : الزوجة الهنيئة، والمال الوفير، والولد الصالح، والبيت الواسع السلف عددّوا فقولك: (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً) يشمل كل أمر تحسن فيه حياتك , ألستَ تُريد أن تحسن حياتك كلّها في مالك، وزوجك، وبيتك وولدك، وعملك , اجمعها في هذا الدعاء.
ولذلك أنس لا يدعو بدعاء إلاّ ختمه بهذا الدعاء , وهذا مشروع أن يختم الإنسان دعاءه بهذا الدعاء ونأخذه من هذه الآية, لأنّ الله خَتَم بها الحجّ فيُشرع في ختام كلِّ دعاء (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) فجمع الله تعالى في هذا الدعاء خيَر الدنيا بالحسنة وجَمع حسنات الأخرى,
ما هي؟!النعيم في الجنّة، ورضا الله، ورؤية وجهه، والحور العين، والجناّت، والدرجات العلى كلّها داخلة في قوله: (حسنة). حقيقة في كلام هنا لشيخ الإسلام جميل ذكره هنا , لكن ربّما يصعب البحث عنه- ليتكم تراجعونه- .
/ ثمّ قال الله:(أُولَـئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُواْ) هؤلاء المشركون لهم نصيب في الدنيا وهؤلاء المؤمنون لهم نصيبهم في الدنيا وفي الآخرة , ثم قال الله:(وَاللّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ) .
ثمّ ختم الله تعالى الآيات بقوله : (وَاذْكُرُواْ اللّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ ) الإشارة هنا لأحكام ماذا؟! انظروا ترتيب الآيات على وفق الحجّ أي أيام التشريق , إشارة إلى أيام التشريق , قال الله : (وَاذْكُرُواْ اللّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ) وذكر الله تعالى أنّها أيام معدودات إشارة إلى أنّها قليلة , فينبغي أن تستثِمرُوها , ولاحظوا الحكمة الإلهية يا إخواني في أيام التشريق , أيام التشريق ليس فيها عمل كثير, أليس كذلك؟! ليس فيها بعد يوم العيد إلاّ الرمي، والمبِيت، ثمّ طواف الوداع , يعني يوم العيد الذي هو يوم النَّحر ويوم الحجّ الأكبر يقضي فيه المسلم أربع نسك: يقضي فيه رمي جمرة العقبة فقط , وذبح نسكِهِ إن كان مُتمتِعاً أو قارناً, أمّا المُفرد فليس عليه هدي , ثمّ حَلق رأسه أو تقصِيره , ثمّ طواف الحج والسعي , طواف الحجّ وهو الركن , وأيضا السعي هو ركن على الصحيح للمُتمتّع، والقارن، والمُفرد. ويسقط سعي الحج هنا للمفرد والقارن إن سعيا في طواف القدوم, أمّا المُتمتّع على الصحيح فعليه سعيان , مع أنّ شيخ الإسلام ابن تيميه يقول أنّ عليه سعي واحد ، ولكن غالب ما عليه عُلماؤنا وجمهور العلماء بأنّ عليه سعيان: سعي العُمرة وسعي الحج , أما القارن فيسقط عليه سعي الحجّ إذا سعى في عمرته لأنّه قرن بين الحجّ والعمرة , وكذلك المفرد إذا جاءَ بطواف القدوم في الحجّ , المفرد ليس عليه طواف قدوم وليس عليه سعي , لكن لو جاء أفرد ثم جاء للبيت وطاف وسعى فهذا السَّعي يُسقط عنه سعي الحجّ , أمّا الطواف لا يُسقطه عنه , هذا يوم العيد . لكن أيام التشريق ليس فيها إلا عمل واحد وهو رمي الجمار , وفيها أيضاً المبيت , لماذا لم يكن فيها أعمال؟! لكي يتفرّغ المسلم لذكر الله عزوجل , ولهذا وجب ذكر الله عند رمي الجمارات , فإذا أراد أن يرمي الجمارات يجب أن يقول الله أكبر, لأنّ المقصود هنا ليس الجمرة ولكنّ المقصود التكبير إقامة ذكر الله , فقولك: الله أكبر هنا إقامة لذكر الله عزوجل , فهنا يُشرع بعد رمي الجمار الدعاء وهو سنّة النبي , ولماذا شُرع الدعاء بعد رمي الجمرة ؟! لأنّه عقِب رمي الجمار في اليوم الحادي عشر، والثاني عشر، والثالث عشر , أمّا في اليوم العاشر لا يُشرع الوقوف لماذا؟! لأنّ أعمال الحجّ في ذلك اليوم كثيرة , والحاجّ قد أتى من مُزدلفة وهو مُرهَق فالنبيّ - صلى الله عليه وسلم - لم يَشرّع الدعاء بعد رمي جمرة العقبة يوم العيد لأنّه وقتٌ مزدحم بالأعمال , فانظروا رحمة النبي بأمّته أراد أن يُخفِف عنهم , لكن أيام التشريق ليس عندهم عمل فشَرع الدُّعاء الطويل بعد رمي الجمرة الأولى ،ورمي الجمرة الثانية، ولم يَشرعه في الثالثة لأنّه انتهى هنا وهو عازم في الذهاب فما أعظم حكمة النبي في التيسير على أمّته .
فأقول إخواني الكرام هذه الحكمة يغفل عنها كثير من الناس وهي في هذه الأيام وهي إقامة ذكر الله عزوجل وذكرُ الله يشمل: الصلاة والدعاء والذكر والتسبيح والتكبير , ولهذا يُشرع التكبير هنا التكبير المطلق وقوله: (وَاذْكُرُواْ اللّهَ) يُشير هناك في التكبير المقيّد الذي يبتدئ بعد صلاة الفجر يوم عرفة , فذُكر في الآيات أُشير في الآيات إلى الذكر المُقيّد في قوله: (فَاذْكُرُواْ اللّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا) ممّا التمسه بعض العلماء , وأما قوله: (وَاذْكُرُواْ اللّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ) فهو الذكر المطلق والله تعالى أعلم.
/ قال الله عزوجل: (فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ) وهذا إشارة إلى رحمة من رحمة الله وتخفيفه بالتعجّل, قال: (وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى) هنا سؤال لماذا قال الله في التأخّر: (وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) مع أنّه قد أتى بكمال الحجّ؟! । أمّا قوله: (فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) في الأولى أيّ أنّ حجّه تامّ , لا تثريب عليك ولا يأتي في باله أنا ما جلست , ربّما ينقص أجري ولا يتمّ , فقال الله: (فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) دليل على ما قاله النبيّ - صلى الله عليه وسلم - : "من حجّ فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه" فكأنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - انتزع هذا الأجر من هذه الآية بقوله: (فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ) هو تعجّل , فقال الله: (فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) (وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) فهذه الجملة في الحالين دالّة على ما أخبر به النبيّ - صلى الله عليه وسلم - من مغفرة الذنوب بتمام الحج "من حجّ فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه" - هذا ممّا يلتمس من الآية , المعنى الآخر في قوله: (وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) معناه فمن تأخّر لليوم للثالث عشر , لأنّ من بقيَ اليوم الحادي عشر والثاني عشر لا بدّ أن يخرج قبل الغروب , فإن بقي بعد الغروب يلزمه البقاء لليوم الثالث عشر - يوم واحد- (ومَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) طيب إذا تأخر قال الله: (فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) لماذا لم يقل وإذا تأخرّ فله أجر؟! فمن تعجّل هو وإفادة تعجّل نأخذ منها أفضلية التأخّر وهي أنّ التَّعجُل هنا الأصل فيه التأخّر , قال الله فمن أراد التعجّل , فلفظ التعجّل هنا ما قال فمن تقدّم ومن تأخّر, قال (فمن تعجّل) فالتعبير بالتعجّل بدل التقدّم نأخذ منه أفضلية التأخّر لأنّ فيه زيادة أجر, لكن قوله: (وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى) يُفيد أيضاّ المعنى الثاني -أيّها الإخوة- أنّه ربّما بقي الإنسان لحاجة من حوائج دنياه , ولاحظوا ربمّا الإنسان يتأخّر لا لأداء النُسك ورمي الجمار وإنّما يتأخّر ليزداد قوتاً، أو يتزودّ، أو يذهب للأسواق أو غير ذلك , وهذا هو الواقع في كثير من الناس أنّه يتأخّر لأجل هذا , فربمّا هذا يَشعر الإنسان أنّه انشغل بالتجارة، انشغل بالبيع والشراء ووقع في نفسه حرج هل نقص حجّه بهذا الانشغال أم لا؟! لأنّ كان من عمل الجاهلية إقامة الأسواق بعد الحجّ مباشرة , يعني بعد اليومين هم ما عندهم يوم ثالث , فهذا التأخّر لم يكن من عملهم، وإنَّما هو من تشريع الإسلام تخفيفاً على هذه الأمّة لكي قد يكون الإنسان مُتعب بعد الحجّ , قد يكون الإنسان ليس عنده زاد فيتزودّ , قد يكون الإنسان لم ينتهي نُسكَه أو بقي عليه شيء من النُسك , هنا انظروا حكمة التأخير , قد يكون الإنسان يُريد الكمال يُريد التزّود من الأعمال الصالحة فيتأخّر , فقوله(فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) لمن تأخّر يُريد التجارة , أو تأخّر يُريد التزوّد من الدنيا , فهذا معنى لطيف في هذه الآية والله أعلم, قال الله عزوجل: ( لِمَنِ اتَّقَى) أي لمن اتقّى الله عزوجل في هذه الآيات , واتقّى الله في بقائه ولم يأتي محظوراً خشية أن يقع فيما كان عليه أهل الجاهلية من المضاهاة، والتفاخر بالآباء، وغير ذلك .
قال (وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) والله ما أعظم هذا الختام ! قال: (وَاتَّقُواْ اللّهَ ) ربطاً ونظماً للتقوى بما ذكره في الأحكام كلّها .
قوله: (وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ)
ختام عظيم بعد الحجّما سرّ ربط آيات الحجّ بالتذكير بالحشر؟! أنّ الحجّ فيه حشرٌ للنّاس , وفيه تجرّد من المَخيط , تذكير بأحوال الآخرة , حال الآخرة والقيامة فيه ظاهرة ولذلك من أحكامه ومن مقاصده التذكير بذلك اليوم , أرأيتم سورة الحجّ بماذا افتتحت؟! سورة الحجّ اُفتتحت بقوله: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ) كأنَّ الله تعالى يقول أنتم الآن تستعدوا لذلك اليوم الذي تُحشرون فيه , فذكر الله تعالى فيها آية الحجّ لأنّها مُذكّرة بالله واليوم الآخر والحشر , أرأيتم هذا السرّ العظيم في آيات الحجّ افتتاحها بذكر يوم القيامة , فهنا ذَكَر الله تعالى قال: (وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) أي تذّكروا بهذا الحجّ الذي قمتم فيه مقصداً عظيماً , وهو يوم قدومكم على ربّكم متجرّدون من ملابسكم وممّا أنتم فيه , قادمون بأعمالكم وأنتم في هذا الحجّ أتيتم مجرَّدين تتجرّدون من مخيطكم، لتزدادوا من أعمالكم فتذّكروا ذلك . فهذا المعنى العظيم - أيّها الإخوة- يجب أن يتذّكره الإنسان في الحجّ .قال البِقاعي كلاماً جميلاً :"ولماّ كان الحجّ حشر في الدنيا , والانصراف منه يُشبه انصراف أهل الموقف بعد الحشرعن الدنيا فريقاً إلى الجنة، وفريقاً إلى السعير ذكّرهم الله تعالى بقوله: (وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ)".
قال الحرَّالي: "وكليّة الحجّ ومناسكه مُطَابقةً في الاعتبار بيوم الحجّ, وموافقةً بخروج الحاجّ من وطنه متزوداً، كخروج الميّت من الدنيا متزوّداً بزاد العمل, ووصوله إلى الميقات، وإهلاله بالحجّ متجرداً كانبعاثه من القبر مُتعرّياً, وتلبيته في حجِّه، كتلبيته في حشره (مهطعين إلى الداعِ ) وكذلك اعتباره موطناً إلى غاية الإفاضة والحلول بحرم الله في الآخرة التي هي الجنّة، والشُرب من ماء زمزم التي هي آية نُزُل الله لأهل الجنّة على وجوه الاعتبار يُطالعها أهل الفهم واليقين , فلأجل ذلك أتمّ ختام أحكام الحجّ بذكر الحشر" .
أختم بهذه المسألة المهمّة :ورد ذكر التقّوى في الحج متكررا ًظاهراً , أولاً فيه تركيز على روح العبادة ومقصدها الأول وتكراره لتستحضره النفوس في هذه العبادة , لئلّا يكون قصدها هو المظهر أداء فقط رمي الجمار الطواف السعي , ولذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إنّما أُقيم الطواف والسعي ورمي الجمار والسعي بين الصفا والمروة , قال: لإقامة ذكر الله تعالى.
فيجب يا إخواني أن يستشعر المسلم في حجّه هذا المقصد العظيم في الحجّ
وهو إقامة ذكر الله فيُعظّم الله في قلبه ،ويذكر الله في لسانه، وحاله، وقلبه، وأعماله.بهذا أيّها الإخوة نكون قد انتهينا من مُقرّر اليوم , أو الآيات التي حُددّت في اليوم , وبذلك نسأل الله العمل الصالح والحقيقة إخواني الكرام أحبّ أن أقول: والله يا إخواني هذه التأمّلات ليست إلا نزراً يسيراً, وعلماً قليلاً في حقّ هذه الآيات العظيمة , وليس من حقّ هذه الآيات أن يكفيها مثل هذه الجلسات, لكنّي أوصي إخواني في مثل هذه الجلسة ونحن بين يدي موسم الحج أن يتدبّروا آيات الحجّ, يذكر لي أحد الإخوة يقول وهي قصتين: القصّة الأولى أحد الإخوة هنا يقول قبل قليل , بعض الإخوة لمّا ذهبوا للحجّ قالوا نُريد أن نتدبّر آيات الحجّ , يقول والله قد فتح الله علينا فيها فتحاً عظيماً ما كنّا نتوقّعه حتى ما بلغنا في الذهاب ثلاثة آيات ما انتهينا منها,كنّا نتوقّع أنّنا سنُنهيها في خلال ساعة !
فهذه حقيقة منهجية جميلة أنّك خلال آيات الحجّ تتأمّل آيات الحجّ والله ستجد فيها لذة وسرور , وخصوصاً سورة الحجّ التي تُذكّرك بالحشر، وتُذكّرك بمقام إبراهيم، وتُذكّرك بشعائر الحجّ , إبراهيم كيف أذن في الحج؟! ثمّ تتصور تلك المشاهد كما هي الحال في عهد إبراهيم , إنّ ذلك والله ممّا يُؤدّي فيه المسلم الحجّ على أكمل وجه بإذن الله تعالى .
في شريط جميل أُوصيكم بسماعه هو للشيخ عبد المحسن الأحمد هو (رحلة القلوب) والله يا إخواني شريط جميل رحلة يأخذك فيها الشيخ للحجّ فقط , يأخذك فيها الشيخ في هذه السورة وكيف رُبط فيها الحجّ بالحشر, ويذكر الحقيقة فيها مراحل جميلة أنصحكم بقراءتها , وقبل ذلك وبعده أنصحكم بقراءة القرآن وتدبّره , قراءة آيات الحجّ وانتم قاصدون للحجّ لمن أراد الحجّ فإنّها والله تزيدكم هي خير الزاد في الحجّ .
نسأل الله أن يُزودّنا وإياكم بالإيمان والتقوى، وأن يرزقنا فهم كتابه، والعلم به، والعمل وأن يجعل هذا القرآن حجّة لنا لا حجّة علينا وأن يجعل هذا المجلس المبارك بركة لنا في أعمالنا وزيادة في إيماننا وقربة لنا عند ربنا وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

--------------------------------
مصدر التفريغ / ملتقى أهل التفسير (بتصرف يسير )

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق