د. ناصر الماجد
كنا وقفنا في الدرس السابق عند قول الله عز وجل:
(لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ....) نستمع إلى الآيات أولًا :
المقطع الأول
(لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (١٨١) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (١٨٢) الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (١٨٣) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (١٨٤) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (١٨٥))[1]
بسم الله، والصّلاة والسّلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه..
أمّا بعد :
هَذِه الآياتُ الكريمة بدأت بـِخَبر الله ـ عزّوجل ـ عن سمعه لمقالة اليَّهُود. يقول الله ـ عزّ وجل ـ (لقدسَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ) وهذه المقالة قد قالها اليهود قَاتلهم الله ـ عز وجل ـ ، وقالوا ذلك استهزاءً بعد أن سَمِعُوا الآيات التّي فيها دعوةٌ للمؤمنين إلى الإِنفاق في سبيل الله وإلى إقراض الله القَرض الحسن ، فلأجل ذلك قالوا ( إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ) حيث يطلُب منّا القرض، ونحن أغنياء بما عندنا من الأموال. يقول ـ عزّ وجل ـ (سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا) أيّ سنكتُب هذا القول الذِّي قَالوه في صحائف أعمالهم التّي سيُلاقونها ويُجَازونَ عليها يوم القيامة ، ونكتُب أيضاً عليهم رِضَاهم بقتل الأنبياء أو بقتل أسلافهم لأنبياء الله ـ عز ّوجل ـ حيثُ قتلُوهم عمداً وعدواناً بغير حقّ ، ونقول لهم جميعاً ذوقوا عذاب النار المحرق (ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ) هذا العَذاب الذِّي نزل بهم وحلّ بهم بِسبب أعمالهم يقول ـ عزّ وجل ـ (ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ).قد يقول قائل: الله يقول (وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ) فهل هناك قتلٌ للأنبياء بحق؟
هذه تَرِد كثيراً في القرآن، وتُسمّى الأوصاف الكاشفة[2]لا يُرادُ بها القَيد، يزيد في بيان حالهم، ويكشِف حالهم. أنّهم قتلوهم وتلبَّس هذا القتل بغير الحق، فهو يكشف حقيقةَ قتلهم وأنّه بغير حق. ليس المقصود به التَّقييد لِنَوع ذلك القتل، بمعنى أنّ هُناك قتل بحق، مثل قوله عزّوجل ( ومَن يَدعُ مع الله إلهاً آخرِ لا بُرهانَ له بهِ فإنَّما حسابُهُ عند ربّه) هل هُناك من يدعُ مع الله إلهاً آخر له على دعوته بُرهان؟ كلاَّ، وإنّما هي أوصافٌ كاشفة. كُل من يدعو مع الله إلهاً آخر فإنّه لا برهان له به.وكُلُّ من قتل الأنبياء فإنّهم قد قتلوهم بغير حق.
يقول الله ـ عزّوجل ـ (ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) هذا الذِّي نزل بهم من العذاب بسبب ما قدَّمت أيديهم وأنّ الله ليس بظلاّمٍ لَعبيده، بل هو ـ عزّوجل ـ العَدل الحَكَم الذِّي لا يظلم أحداً سبحانه وبحمده، وهو القائل في الحديث القُدسي: ( يا عبادي إنّي حرّمتُ الظُّلمَ على نفسي وجعلتُهُ بينكم محرّماً فلا تظالموا) .[3]
قال الله ـ عزّ وجل ـ بعد ذلك بعد أن ذكر شيئاً من صِفات اليّهود، ذَكَرَ صفةً أخرى، قال الله ـ عزّ وجل ـ (الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ)(الذَّينَ قَالُوا) يعني هُمُ الذِّين قالوا، أوّ وهُمُ الذّين قالوا (إنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا) هُم الذّين قالوا كَذِباً وافتراءً إنَّ الله قد أوصانا وعَهِدَ إلينا (أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ) يدَّعي أنّه رسول (حَتَّى يَأْتِيَنَابِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ) قالوا ذلك كَذِباً على الله ـ عزّ وجل ـ أنّ الله عَهِدّ إليهم هذا العهد وجعل أمارةَ صِدق الرَّسول أن يأتِيَ بِقُربان يعني يتقرّب إلى الله بأيّ نوع من أنواع الطّاعات. وقد كان قديماً إذا قرّب الإنسان قُرباناً فعلامة قَبُول هذا القُربان أن تنزِل ناراً من السّماء فتُحرِق هذا القُربان وعندئذٍ يكون قد تُقُبِّلَ منه فَقالوا لا نُصَّدِق لرسولٍ حتى يُقدِّم قرباناً فتُحرِقُهُ النّار ونحن نراه عندئذٍ نُؤمن بصدقه.
أوّلاً: هُم قد كذبوا على الله وافتروا أنّ الله عهد إليهم بهذا العهد.
ثانياً: ثمّ إنّهم كذبُوا على الله أيضاً أن حَصَروا أدّلة صدق النّبي ودلائل نُبُوَّته في هذه الصفات ، فكذبُوا على الله من جهتين.
ولهذا قال ـ عزَّ وجل ـ آمِراً نبيّه بأنّ يَرُدَّ عليهم فقال:(قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ). ( قُل) أيّ يا أيُّها النّبي ـ صلى الله عليه وسلّم ـ (قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَات) يعني بالأدّلة الظّاهرة البيّنة الدّالة على صِدقِك، بل ومن رسل الله من جاء بالذّي قُلتم وادعيتموه (وَبِالَّذِي قُلْتُمْ) يعني من الأنبياء من جاء بنفس الآيات التّي طلبُوها، والصِّفة التّي ذَكُروها (فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ) يعني ليس المسألة أنّهم لم يقبلوا منهم، ولم يتَّبِعُوهم، لا، بل أعظم من هذا قتلُوهم، وما يُعرَف في أُمَّة من الأُمم تقتل أنبيائها إلاّ اليَّهُود هُمُ الذّين تجرّأوا على قتل الأنبياء، وتجَّرأُوُا على ما هو أعظم من ذلك حيثُ وصفوا الله عزّوجل – تعالى الله عن قولهم- بكُلِّ نقيصة. ثم قال (إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) في زَعمِكُم أنّ الله عهد إليكم. وأنَّ هذه هي البيّنات الدَّالة على صدق النّبيّ.
/ ثُمّ قال (فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ) يعني إن كذَّبُوك أيُّها النَّبي فيما تقول وفيما رَدَدت عليهم به فاعلم أنّ هذا هو ديدنهم وهِي سجِّيَتهم وطبيعتهم، فلستَ أوَّلَ الرُّسل الذِّين كذَّبُوك، بل قد كُذِّبت رُسُلٌ من قبلك رسُلٌ كثيرة (جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ ) جاؤوا بالبيّنات بالأدَّلة الواضحة على صِدقك، وجاؤوا أيضاً بالكتُب المشتملة على المواعظ والرَّقائق وهِي الزُّبُر وهُو: الكُتُب التّي يغلب عليها جانب الوَّعظ والتَّذكرة، والكِتاب المنير هو الكتاب الهادي بما فيه من الأحكام والشَّرائع ، ولذلك قال (وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ) يعني جِنس الكتاب المنير الذّي يُنير للإنسان هُوَ منيرٌ في ذاته ومنيٌر لغيره .
المقطع الثاني
(كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (١٨٥) لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (١٨٦) وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ (١٨٧) لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (١٨٨) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٨٩))[4]ثم قال الله عزّوجل: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ) يقول عزّوجل (كُلُّ نَفْسٍ) وهذه من ألفاظ العُمُوم مهما تَكُن هذه النَّفس صغيرةً أو كبيرة، شريفةً أو وضيعة، قوِّيةً أو ضعيفة.مهما تكُن تلك النّفس فإنّها لابد أن تذوق الموت. أبداً كُلُّ نفسٍ تذوق هذا الموت، ولذلك قيل إنَّ الموت أعدلُ مخلوق فإنّه لا يُفَرِّق بين أحد لأنّه يُسَّوي بين الصَّغير والكبير، والشَّريف والوَضِيع، والذّكَر والأُنثى لا يُفرّق بين أحد، وقيل أنّ الموت كأسٌ كُلٌّ سيشرب منه،(كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ) فإذا كانت كلُّ نفسٍ ذائقةُ الموت فلا يغتَّر الإنسان في هذه الدُّنيا ولا بما فيها من النَّعيم। لأنَّ يوم القيامة هِيَ الــمَحكّ الذِّي يكون عليه الإنسان ولذلك قال (وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) تُوَّفَونَها وتُوَافُونها،تلقاكم الأجور وأنتم الذِّين تلقونها ، تُوَفَّونها تامّة غير ناقصة إن حَسناً فحَسَن، وإن سَيئاً فَسَيِّء. ولذلك جاء في الحديث القُدسي :( إنّما هي أعمالكم أُحصيها لكم ثمّ أُوَّفيكم إيّاها فمن وَجَد خيراً فليحمَدِ الله، ومن وجد غير ذلك فلا يَلُومنَّ إلا نفسه)[5]
ثمَّ قال عزَّوجل (فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ) زُحزح عن النّار يعني أُبِعد عنها (وأُدخِلَ الجنّة) فقد فاز هذا هو الفوز الحقيقي الذّي لا فوز قبله ولا فوز بعده. هذا هو الفَوز النِّهائي غاية الفوز أن يُبعَدَ الإنسان وينجُو من النّار وأن يَدخُلَ الجنّة عندئذ يكون الفوز الذِّي لا فوز مثله ولهذا قال (فَقَدْ فَازَ) فقد فاز فوزاً تامّاً.
ثمّ قال (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ) لأنَّ الحياة الدُّنيا قد يفوز فيها الإنسان وقد ينال شيئاً من مناصب الدُّنيا ومكاسِبها ولكن هذه المناصب والمكاسب تزول مهما أُعطِيَ الإنسان، تزول وتذهب سريعاً فالإنسان يعيش في هذه الدُّنيا ستين أو سبعين أو مائة سنة ثمّ بعد ذلك يَدَع هذا النَّعيم ويذهب لو لم يكن من حَسرة أهل النَّعيم إلا أنّهم سيعلمون أنّه سيُغادِرون هذا النَّعيم لكفى بهذه الحَسرة عذاباً عليهم لأنَّ الذِّي لا يملك النَّعيم لا يختلف عنده الأمر أن يذهب أو أن يبقى لكن من الذِّي يتحسَّر؟
صاحبُ النَّعيم أن يُغادر هذا النَّعيم। فكيف إذا عَلِم أنّه سيُغادر النّعيم لا إلى مصيرٍ حسن يعرفه ويرجوه। بل إنّه لا يعلم هل سيذهب إلى جنّة أو إلى نار أو أنّ هناك يوم القيامة. ولذلك هي متاعٌ زائل ، (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ) يعني متاع المخدوع الذّي يُخدع بهذه الدُّنيا ويُغتَّر بها.
/ ثمّ قال الله تعالى بعدذلك: (لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا.وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ )يقول الله عزّوجل لِعباده المؤمنين لتُختَّبُرُنَّ أيُّها المؤمنون، تُـــــختبُرُون في أموالكم، وتــُــــختَبُرون في أنفسكم، وتُـــــختَبَرون في أداء الحقوق والواجبات التّي أمركم الله بها، كُلّ هذه أنواع من أنواع الاختبارات والابتلاءات التّي يُبتلى بها المؤمن. وليس هذا فقط بل هناك نوع من الابتلاء آخر الذّي يُصيب الإنسان في دينه وعقيدته يُبتلى بها من هؤلاء الكُفّار من كفرة أهلالكتاب ومن المشركين (وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا) أذىً كثيراً بالاستهزاء بكم وبدينكم، بالطَّعن، وبالسَّب. وهذا الحقيقة ممّا يُؤذي المؤمنين الصّادقين من هذا التَّطاول على دينهم، وعلى عقيدتهم، وعلى ملَّتهم. ونحن لا نزال نرى في عَصرنا هذا تطاولاً على دِيننا وتطاولاً على قِيَمنا، وتطاولاً على كُلِّ عزيزٍ عندنا،وهذا من الأَذى الذّي يُبتلى به المؤمنون والواجب على المؤمنون أن يصبروا على ذلك وألاّ يَفُتَّ في عَضُدُهم، لهذا يقول عزّوجل (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) إن تصبروا على هذا الأذى،وأن تصبروا على الابتلاء الذِّي ينالكم، وأن تَصبروا على أداء الحقوق التّي أوجبها الله عليكم وتتّقوا الله في هذا الصَّبر بطاعته واجتناب نهيه فإنّ هذا الفعل منكم فعل الصَّبر والتَّقوى من عزم الأمور أيّ من الأمور التّي يُعزم عليها، من الأُمُور التي يَجتهد الإنسان في تحصيلها، ولذلك قال الله ـ عزّ وجل ـ (فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) أيّ التّي يعزِم النّاس عليها ويتنافس المتنافسون عليها. أيّ أنّ هذا من أشرف وأفضل ما عَزَم الإنسان على القيام به، وأشرف ما تنافس الإنسان عليه .
/ ثمّ قال الله تعالى: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ )هذه الآية فيها إشارة إلى بعض أخلاق أهل الكتاب، والإِشارة هُنا خُصُوصاً إلى عُلماء أهل الكتاب من اليّهود والنّصارى فقال الله ـ عزّ وجل ـ (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ ) أي اذكر أيُّها النّبي ـ صلى الله عليه وسلّم ـ حين أخذ الله الميثاق أيّ :العهد الـــمُؤَّكَد، وهذا التَّأكيد قد يكون تأكيداً لفظِّياً وقد يكون تأكيداً كتابيّاً وكُلُّ ذلك يُسمّى توثيق للعهد। أخذ الله ميثاقاً وعهداً مُؤكداً على عُلماء أهل الكِتاب من اليَّهُود والنَّصارى، أن يُوَّضِحُوا الكتاب وأن يُبيِّنوه وألاَّ يكتموه، لا يكتُمُوا شيئاً جاءَ في هذا الكِتاب من الحقِّ الذّي أنزلَهُ الله ـ عزّ وجل ـ ومن الحقِّ الذِّي أنزله الله ـ عزَّ وجل ـ في تلك الكُتُب مَا ورد في صفة النّبي ـ صلى الله عليه وسلّم ـ لذلك قال ( الذِّي يَجِدُونَهُ مكتُوباً عندَهُم في التّوراةِ والإنجيل) فصفّة نبيّنا صلى الله عليه وسلّم موجودة عندهم، بل يعرفونه كما يعرفون أبناءهم।كما جاء عن أَحدهم لــمّا قَدِمَ النّبي إلى المدينة ، قال : أَهُوَ هُوَ. [6]يعني هذا الرَّجُل هو النّبي الذّي نُوعَد به؟ قال : هُوَ هوَ. قال : فما أنتَ صَانع؟ قال: عداوُتُه مَا بَقِي. لـــم يرضى أن يَتَّبع. وعبدالله بن سَلاَم لـــمّا سأله أحدُ الصّحابة: هل تعرف صفة النّبي؟ قال : إنّي لأعرفه أشّد من معرفتي بولدي، فإنّي أجدُ صفته في الكتاب، ولا أدري ما صَنَعت الأُمَّهات أو كلمةً نحوها قد يقع من الأُمّ خيانة فلا تدري أَوَلُدك حقيقة ً أم لا ؟ لكن هُم يعلمون حقيقة صفة النّبيّ ـ صلى الله عليه وسلّم ـ كما هُو عندهم في التّوراة.
هذا العَهد الأكيد الذّي أخذه الله ـ عزّوجل ـ عليهم. ما الذِّي فَعَلُوه بعد ذلك وانظُروا العهد على عُلمائهم يعني أشرف النّاس فيهم وليس على عامَّتهم.لأنَّهم هُم أهل العلم هُمُ الذِّين يُبيِّنُون الكتاب ويُوَّضحُونه، وهُمُ الذِّين قد يكتمُونه فماذا فعلوا؟ قال الله : (فَنَبَذُوهُ وَرَاءَظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا) لـــم يكتَفُوا فقط بالإعراض عنه ، بل نبذُوه وراء ظُهُورهم دلالة على شِدَّةِ الإِعراض। الإنسان حينما يُلقي الشيء أمامه رُبَّما في حالةٍ من الحالات رُبّما ينظر إليه فلعلَّه أن يسترجعه ، يعني مظنَّة أن يسترجع هذا الشّيء ، لكن إذا ألقى الشّيء وراء ظهره رُجوعه إليه ونظره إليه مرّة أخرى بعيد، وهم مع أنّهم نبذُوا الكتاب وراء ظُهُورهم لم يكتفُوا بهذا بل اشتروا به ثمناً، يعني استبدلُوا بآيات الله ثمناً قليلاً، هذا الثَّمن القليل سمّاه الله قليلاً لأنّه حقير،مهما يكن حتى لو كان الدُّنيا كُلَّها وهذا الثَّمن الذّي أخذوه هو الرئاسة والمال وما يأخذونه على أتباع ديانتهم من الــمُكُوس والضَّرائب الكَبيرة التّي يأخذونها. هذا هُو الثّمن الذّي أخذوه مقابل كِتمان الحقّ وعدم بيانه، والإعراض عنه، فبئس هذا الثمن ولذلك قال: (فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ) وبئس هذا الثَّمن،بئس ما يستبدلون لأنَّ الشِّراء بمعنى الاستبدال.
هذه الآية من أعظم الآيات التّي تُحذِّر أهل العلم من كِتمان الحقّ، وعدم توضيحه للنّاس، وغِشَّهِم فيما أنزل الله عزّوجل والتَّلبيس بسبب الأهواء أو الخوف أو الأَطماع فإنَّ من كتم شيئاً من العلم من علماء هذه الأُمّة فإنّ فيه مشابهة لليَّهود، فإنّه يُشابههم في أخلاقهم، فإنّ كتم الحقّ هو صفة اليَّهود. فإنَّ من كتم الحقّ من أهل العلم من هذه الأُمّة فإنّه قد شابه اليَّهُود في صفاتهم وفي أخلاقهم.
يقول ـ عزّ وجل ـ بعد ذلك ( لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) يقول ـ عز ّوجل ـ لنبيِّه لا تَظُنَّنَّ أيُّها النّبي عليه الصّلاة والسّلام أنّ الذّين يفرحُون بما فعلوا من القبائح (ويُحبُّون أن يُحمَدُوا بما لم يفعلوا) أن يحمدهم النّاس ويُثنُوا عليهم بخير لم يفعلوه، (فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ) المفازة النّجاة أي بمكان نجاةٍ من العذاب وسلامةٍ منه، بل لهم العذاب المقيم ولذلك قال الله (وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) على هذا الأمر.
هذه الآية الحقيقة فيها إشارة إلى خطورةِ أن يتلبَّس الإنسان أو أن يتشَّبَع بما لم يُعطى،[7] فإنَّ الــمُتَّشَّبع بما لم يُعطى كلابس ثوبي زُور كما قال عليه الصّلاة والسّلام. فالإنسان تجده بعيد عن الله ـ عزّوجل ـ بعيد عن طاعته ومع ذلك يُحبّ النّاس أن يحمدوه على تقواه وعلى زهده وعلى ورعه، فهو قد جمع السَّوأتين سوأة التّقصير، وسوأة محاولته أن يُشابه أهل الكمال وهذه من أقبح الصّفات وأخَسِّها، ولذلك ذمَّها الله ـ عزّوجل ـ كما في هذه الآيات، وتوّعد عليها بالعذاب الأليم عليها يوم القيامة.
وقد استشكل هذا بعض النّاس، استشكل أن يُقال كما جاء في الرِّواية أظُّنّه مروان أو نحوٍ منه، أنّه بعث إلى أحد الصَّحابة يسألهم ـ ولعلّه أبوسعيد ـ فقال: إن كانَ كُلُّ رجُلٍ فرِحَ بما أوتي وأحبَّ أن يُحمدَ بما لم يفعل أنّه مُعذَّب لنُعَذَّبَنَّ أجمعون. فأجابه : إنّ هذا ليست فيك وإنَّما في أهل الكتاب خُصوصاً.
وهذا جوابًا على هذا الإشكال، وإلاَّ فالحقيقة إنّ الآية كما هو مُقرّرٌ في أصول الفقه أنّ العبرة بعموم لفظها لا بخصوص سببها لو صحَّ أنَّ فيها سبباً خاصّاً نزل بها، ولكنَّنا لو تأَمَّلنا لفظ هذه الآية وجدناها عامّة لأنّ الله قال ( لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) لكن كيف نُجيب عن هذا الإشكال؟ أن يُقال :إنَّ الفرح هنا ليس بما أُعطيَ الإنسان من النّعمة والمال، وإنّما فرحُهم هنا بفعلهم للقبائح واستبشارهم بها ومع فعلهم للقبائح يتَزَّيَنُون بزينة التّقوى، من تخلّق بهذا الخُلُق وتشبَّعَ بهذا الأمر فإنّه حقيقةً مستَحِقٌ لهذا العذاب لأنّه جمع السَّوأتين جمع فعل المنكرات والتَّظاهر بالصَّلاح، ولذلك كما قال عليه الصّلاة والسلام : الـــمُتَّشبع بما لم يُعطى، كلابس ثوبي زُور.
/ ثمّ قال الله عزّوجل بعد ذلك : (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) يعني لله وحده دون سواه مُلكُ ما في السّماوات وما في الأرض، مُلكُهُمَا خلقاً وإيجاداً، وتدبيراً وإحكاماً سبحانه وبحمده، فَلَهُ الخَلق وله الأمر। وهذا التَّعليل لمناسبة الآية لأنّ له ملك السموات والأرض، ولا يملك السّموات والأرض إلاّ من هو على كُلِّ شيءٍ قدير .
المقطع الثالث
قال تعالى: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191) رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ (192) رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ (193) رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (194) فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُواْ وَقُتِلُواْ لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَابًا مِّن عِندِ اللّهِ وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ (195) لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي الْبِلاَدِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197) لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلاً مِّنْ عِندِ اللّهِ وَمَا عِندَ اللّهِ خَيْرٌ لِّلأَبْرَارِ (198) وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلّهِ لاَ يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً أُوْلَـئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (199) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200))[8]
هذه الآيات الكريمة من الحسَن أن نختِم بها هذا اللِّقاء الذِّي أسأل الله ـ عزوجل ـ أن يجعله لقاءً مباركاً , هذه الآيات فيها دعوةٌ للتَّفكُر والنَّظر في ملكوت الله ـ عزوجل ـ في بديع صُنعه وجليل خلقه وتقديره سبحانه وبحمده.ولهذا استفتحت الآيات بقوله: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ) في هذه السَّماوات التي خَلَقها وهذه الأرض التي أوجدها وما بينهما من اختلافٍ في اللَّيل والنهار ينتج عن حركة هذه النجوم والأفلاك , في هذه كلّها ومضمونها آيات بيّنه ظاهرة لأُولي الألباب , لأصحاب العُقول والنُّهى , فهذه الآية لو الإنسان أراد أن يجلس فيتفكّر في خَلق الله ـ عز وجل ـ ومُلكه وسَعته , كم يحتاج من النَّظر والتأمّل والتدبّر ؟! لو قضى دهره يتأمّل في آيات الله ـ عز وجل ـ في الآفاق وفي الأنفس لانقضى عُمره دون أن ينقضي هذا النَّظر في هذا الملكوت العظيم , ولذلك الحقيقة إنَّ النظر في ملكوت الله والتأمّل فيه من أعظم ما يُقوِّي الإيمان في القلب ويُعظّمه ولذلك كان التفكّر في ملكوت الله من أعظم العبادات التي دَعت إليها نصوص الكتاب والسنّة ,لأنّ التفكر يُورث الإيمان في القلب والخشية والخضوع لله , ولذلك جاء في الأثر أنّ أكثر عبادة أبي ذرّ كانت التفكّر والنظر في هذا الملكوت , فالذي يقضي وقته في التفكّر في ملكوت الله عزوجل وبديع صُنعه وجليل خَلقِه وجمال خَلقِه سبحانه يُورث ذلك إيماناً في القلب وخشيةً له وخشوعاً وخضوعاً لله ـ عز وجل ـ هذا الكون العظيم الذي لا يَقدُر قَدره أحد , وما ذكروه الآن في العلم الحديث عن سعة هذا الكون لا يكاد الإنسان يُصدّقه , نحن الآن الواحد منّا كم يُشكّل من نسبة في الأرض ؟ كم قدرك في الأرض؟ لا شيء ! هذه الأرض كم تُشكّل بالنسبة للشمس؟! لا شيء ! والشمس كم هي في المجموعة الشمسية نفسها؟ وفي مجرّتها؟ ثم هذه المجرّة فيها غيرها ملايين المجرّات , حتى إنَّ بعض علماء الفلك أراد أن يُقرّب الصورة للناس فقال: الإنسان نقطة على حرف من كتاب من خمسمائة مجلد!!! كم يُشكّل الإنسان بالنسبة لهذا الكون العظيم ؟! ولذلك كلما ازداد الإنسان تأمّلاً في هذا الكون كلما ازداد إيماناً بالخالق جلّ وعلا . ولذلك لمّا سُئل الأوزاعي عن غاية التفكّر في هذه المخلوقات :ما الغاية منها؟ قال: " أن يقرأها وهو يعقلهنّ " بأن تقرأ هذه الآيات وأنت تعقلها , هذه الآيات التي سنتدارسها أن يقرأها الإنسان وهو يَعقل معناها ودلالتها وما تُشير إليه وتدُل عليه.
قال الله ـ عزوجل ـ : (لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ) لأصحاب العقول , من هم أصحاب العقول الذين يتذكّرون منها؟ هل هم الذين يُتقنون علم الرياضيات أو علم الفيزياء أو غير ذلك من علوم الناس؟ كلاّ , انظروا ما هي صفات هؤلاء أصحاب العقول والنُّهى :قال: (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)
قال: (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ) أي يُديمُون ذكر الله عزوجل في قلوبهم وعلى ألسنتهم وعلى جوارحهم , يذكرون الله ـ عز وجل ـ على كلّ أحيانهم , ولهذا قال: (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا) في حال قيامهم (وَقُعُودًا) حال قعودهم (وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ) أي وهم مُضطّجعون , وذِكر هذه الأحوال التفصيلية دلالة على الاعتناء بمبدأ ذِكر الله ـ عز وجل ـ أنّ الإنسان يكون ذكره لله على كل أحيانه سواء كان قائماً أو قاعداً أو مُضّطجعاً , فإذا ذكر الله على هذه الأحوال دلّ على أنّ ذِكر الله مُصاحبٌ له في كل أحواله , وهذا هو الذي ينتفع بتفكّره , الذِّي يُديم ذكر الله ـ عز وجل ـ واستحضار عظمته , وأعظم ما يَبعث في الإنسان استحضار عظمته ـ عز وجل ـ أن يتأمّل في ملكوت الله ـ عز وجل ـ (يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ) ذكر الله يُورث أي شيء؟! (وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ) يعني يُعملُون فِكرهم ونظرهم في خلق السَّماوات والأرض,كيف خَلَقَ الله السماوات والأرض وكيف أوجدها وكيف بثّ فيها هذه الكائنات العظيمة المتنوعة التي لا يُحصِيها أحد , وهذا النظام البديع الذي تجري عليه هذه النُّجوم غايةً في الإتقان وغايةً في الدقّة على نحوٍ لا يَميل ولا يَحيد (وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً) ذِكر الله والتفكّر في خلقه يُورث الإيمان به والتسليم له ولذلك قالوا: (مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً) التفكّر وذِكر الله يُورث اليقين والإيمان (مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً) مُحَال هذا الخلق العظيم خُلق عبثاً وخُلق باطلاً لغير غاية (مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سبحانك) تنزّهت عن العبث , تنزّهت أن تخلق هذه المخلوقات العظيمة دُون حكمة ودُون غاية , ثمّ سألوا الله عزوجل أن يقيهم عذاب النّار فقالوا: (فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ) بمعنى جنبّنا عذاب النار وذلك بأن يُوفقهم إلى عمل الصالحات , فإنّ من وُفّق إلى عمل الصالحات وأُعين على ترك السيئات فقد جُنّب عذاب النار .ثم قالوا: (رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ) هؤلاء المُتفكِّرون الذاكِرون المُتدبِّرون الذِّين يسألون الله ـ عز وجل ـ يقولون يُخاطبون ربهم مُتذلّلين إليه خاشعين له يقولون: (رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ) يعني من دخل النار فقد خَزِي , نعم والله إنّ النار هي الخزي العظيم لأهله , لا خزي بعدها , ومن سلِم منها فقد نجا وفاز فوزاً عظيماً ومن دخلها فقد خزي الخزي العظيم الذي لا خزي بعده (إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَالِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ) والإشارة إلى الظالمين هنا إشارة أنّ الذين يدخلون النار هم الظالمين , فالظالمون هم الذين يستحقّون ويستوجبون دخول النار , وهؤلاء الظالمون المُعتدون ليس لهم أنصار ينصرونهم من الله ولا أنصار يمنعونهم من دخول النار (وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ)ثمّ قال ـ عز وجل ـ : (رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ) انظروا غاية التذلّل والخضوع لله ـ عز وجل ـ وانظروا عِظم التوسّل إليه والتقرّب منه ـ عز وجل ـ بأعظم ما يتقرّب به العبد من ربه , فقالوا: (رَّبَّنَا إِنَّنَاسَمِعْنَا مُنَادِيًا) يعني سمعنا داعياً , المُنادي هو الداعي (سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ) يعني داعٍ يدعو إلى الإيمان , وقوله: (يُنادي) لاشكّ أنّ المُنادي أنّه يُنادي ومن يُنادي فهو مُنادي فالجمع بين الأمرين من باب التأكِيد لأنّ هذا الرجل الذي يُنادي كأنّه ليس له مَهمّة إلا النداء إلى الإيمان (سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ) سمعنا داعياً يدعوا إلى الإيمان , يعني لا يدعو إلاّ إلى الإيمان , معناها أنّ كل ما جاء به الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ هو دعوة للإيمان وكل ما شرعه عليه الصلاة والسلام هو دعوة إلى الإيمان بالله ـ عز وجل ـ وهذا معنى قوله: (وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى ) .(سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ) هذا المُنادي يقول: (أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ) انظروا هذا التأكيد لمَهمّة النبيّ ذَكَر الداعي مرتين (مُنَادِيًا يُنَادِي) ذكر المُنادي مرتين , والإيمان ذكره مرتين أيضاً (يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ) فهو تأكيد على أنّ مهمّة النبيّ ـ عليه الصلاة والسلام ـ هي الدَّعوة إلى الإيمان وأنّه لا يدعو إلاّ إلى الإيمان بالله (أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا) اتبّعناه ، صدّقناه أقررنا بما دعا إليه وانقدنا إليه، واتبّعنا شريعته واستجبنا لأمره ونهيه فقنا عذاب النار هذه أعظم ما يتوسّل بها المؤمنين إلى ربهم , يتوسلّون إليه بإيمانهم نحن لا نملك شيئاً نتوسّل إلى الله به أعظم من الإيمان به،لا نملك شيئاً نتوسّل إلى الله به أعظم من قولنا لا إله إلا الله , هذه الكلمة التي نرجو إن شاء الله بها أن نُعصم وأن نسلم وأن ننجو , هذه أعظم ذخيرة يدخرّها المؤمن عند الله ـ عزوجل ـ كلمة التوحيد وإيمانه بالله عزوجل , لذلك هؤلاء المؤمنون لم يتقربّوا إلى الله عزوجل ولم يتوسلّوا إليه بغير إيمانهم وتصديقهم بالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ليس بأعمالهم وليس بجدّهم واجتهادهم ولا جهادهم ولا الخير الذي بذلوه , وإنما تقربّوا إليه وتوسلوا إليه بإيمانهم وتصديقهم للنبيّ وهذا أعظم ما يُتوسل به المؤمنون بإيمانهم بالله وتصديقهم لرسوله , وهذه هي التي نرجو بها أن يُكفّر عنا ربّنا سيئاتنا (فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا) الغَفْر: بمعنى التغطية والستر , اغفر ذنوبنا أي استرها وتجاوز عنا (وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا) فاستر ذنوبنا بفضلك وكفّر سيئاتنا وذلك بتوفيقنا للعمل الصالح , فقوله: (فاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا) هذا كما تقدّم معنا في الدرس السابق أنّها ألفاظ مُتقاربة في المعنى مُتباعدة في لفظها , فبعض أهل العلم يقول إنّ التكفير والمغفرة بمعنى واحد وبعضهم يحمل هذه على معنى وتلك على معنى , فمغفرة الذنوب سِترها، والتَّكفير يكون بعمل الصالحات (وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ) انظروا كمال الخضوع لله ـ عز وجل ـ ومعرفة مَقَامِه ـ عز وجل ـ أنّهم سألوا الله أن يتوَفَّاهم مع الأبرار بان يكونوا من الأبرار الذين يتوفاهم , فهم لم يثِقوا بما عندهم من العمل ولا بما عندهم من العلم بل علِموا أنّ ذلك قد يحول ويزول وأنّ ذلك قد يتقلّب ويتصرّف ويتحوّل ولهذا فزِعوا إلى الله عزوجل أن يتوفاهم مع الأبرار أي أن يُثبتِّهم على الإيمان حتى يموتوا كما يموت الأبرار .هذا معنى (وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ) فالتوفّي مع الأبرار أن يُوَّفقوا للعمل الصالح وأن يموتُوا على العمل الصالح
ثمّ قال الله ـ عز وجل ـ عنهم: (رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَاد) ثمّ سألوا الله ـ عز وجل ـ بعد ذلك أن يُعطيهم ما وعدهم على ألسنة رسله وقد وعد الله عباده المؤمنين على ألسنة رسله بأمور:· وعدهم أولاً بهدايتِهم إلى الحقّ وسبيل الرشاد والطريق المُوصل إليه .
· وعدهم أيضاً بالنصر على عدوّهم والتمكين لهم في الأرض .
· ووعدهم أيضاً بدخول الجنّة والسلامة من النار , وهذه أعظم الموعودات التي وعد الله بها عباده المؤمنين الذين اتّبعوا رسله (وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ) في الدنيا من التوفيق والهداية والنصر (وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ) أي لا تفضحنا يوم القيامة , ومعنى ذلك أي لا تفضحنا بذنوبنا التي ارتكبناها في الدنيا، ولا تفضحنا بعذابك لنا يوم القيامة ولا تفضحنا بدخول النار يوم القيامة (إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَاد) فالله ـ عز وجل ـ لا يُخلف وعده لأنّه القادر والمالِك فلا يمنعه شيء من الوفاء بما وعد سبحانه وبحمده وتبلغ هذه الآيات العظيمة وهذا التذلُل لله ـ عز وجل ـ ومناجاة الله والخضوع بين يديه هذا المبلغ , فتنزل الآيات للإجابة عليه.
وتأمّلوا أنّ الإجابة تأتي مُبتدئةً بحرف "الفاء" (فَاسْتَجَابَ لَهُمْ) يدلّ على أنّ هذه الإجابة جاءت بعد الدعاء مُباشرة , قال الله ـ عز وجل ـ : (فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ) وانظروا اللفظ في الآية حيث قال الله: (فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ) فذكر لفظ الربوبية , ولفظ الربوبية مرتبطٌ بالإنعام والإحسان ولذلك ناسب أن يُذكر , ما قال فاستجاب لهم الله , وإنما قال: (فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ) لأنّ لفظ الربوبية يتعلّق بالإنعام والخلق والإيجاد والعطاء , ولذلك قال: (فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ) أي استجاب لهم دعاءهم وما سألوا الله , ثم قال سبحانه وبحمده: (أنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم) يعني استجاب دعاءهم قائلاً لهم: (أنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم) أي لا أُضيع ثواب عاملٍ عمل منكم سواء عَمِل قليلاً أو كثيراً سواء كان العامِل ذكراً أم أُنثى (بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ) فأنتم مِثل بعض في أصل خلقكم , أنتم كلكم أبناء آدم من ذكرٍ وأنثى (بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ) يعني مُتساوون في التكليف , فأنتم مُتساوون في أصل الخلق مُتساوون في التكليف , ولذلك لا يضيع الله أجر العاملين من الرِّجال ومن النِّساء , وهذا من فضل الله ـ عز وجل ـ ورحمته وعدله , فلا يزيد لذكرٍ لأنّه ذَكَر ولا ينقص لأنثى لأنَّها أنثى , بل الله يُوفّي لكل عاملٍ عمله ولا يُضيع أجره .
ثم قال ـ عزَّوجل ـ نصّ على طائفةٍ من العاملين , قال: (فَالَّذِينَ هَاجَرُواْ) يعني هاجروا من بلادهم في سبيل الله , لم يُهاجروا تجارةً ولا مغنماً ولا مكسباً وإنّما هاجروا في سبيل الله (فَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ) يعني أَخرجهم الكفار من دِيارهم وهذا أصدق ما ينطبق على المُهاجر , أوَّل ما يدخل في ضمن هذه الآية المهاجرون (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) فأول من يدخل في ضمن فضل هذه الآية المُهاجرون , ثم من جاء بعدهم مّمن كان على صفتهم (فَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي) يعني آذاهم الناس , لقِيَهم الأذى في أنفسهم وأموالهم وأبدانهم وأهليهم , أنواع الأذى الذي قد يصل إلى القتل , وأُوذوا ليس على مغنمٍ دنيوي ولا على عرضٍ من عرض الدنيا وإنّما أوذوا في سبيل الله أي لأجل الله ـ عز وجل ـ لأجل إيمانهم لأجل إتبّاعهم لأجل جهادهم , لأجل ذلك كان الأذى عليهم (وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُواْ وَقُتِلُواْ لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ) قاتَلوا أعداءهم وقُتلوا في ذلك (لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ) هؤلاء الذين على هذه الصفة وعدهم الله بأعظم الثواب فقال: (لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ) يعني لأُغطّي سيئاتهم وأتجاوز عنها ولا أُحاسبهم ولا أؤاخذهم عليها , وبعد التكفير عن السيئات أُدخلهم الجنّة مقاماً يستقرّون فيه , هذه الجنّة التي تجري من تحتها أي من تحت قصورها الأنهار , ثمّ قال الله ـ عز وجل ـ : (ثَوَابًا مِّن عِندِ اللّهِ) يعني هذا الذي أعطاهم الله جزاءً على أعمالهم (وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ) عنده ـ عز وجل ـ أحسن الثواب , عنده من الثواب ومن النعيم ما لا يخطر على قلبِ بشر, ما لا عينٌ رأت ولا أُذنٌ سمعت ولا خطَر على قلبِ بشر ,[9] هذا من النعيم الذي أعدّه الله ـ عز وجل ـ لعباده المؤمنين حتى مجرّد أن يخطر في بال الإنسان لا يَرِد في باله , فضلاً عن أن يراه أو يسمع به أو يكون قد جرّبه أو توقعه , فنسأل الله الكريم من فضله.
بعد هذا قال الله ـ عز وجل ـ : (لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي الْبِلاَدِ مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ) يُخاطب الله نبيّه يقول: يا أيّها النبيّ ـ عليه الصلاة والسلام لا يغررُك ويخدعك تقلُّب الذين كفروا في البلاد يعني تنقُلّهم فيها حيث شاءوا وتمكنّهم منها , هذا التمكّن القائم على قدرتهم على التحكّم فيها , قُدرتهم على التنقل بين فِجاجها وسُهولها وجبالها , تمكنّهم من أسباب القدرة والقوّة وتسلطّهم في الأرض , فإنّ هذا كله (مَتَاعٌ قَلِيلٌ) مهما كان , في النهاية سيذهب الإنسان ويرحل عنه ويدعه (مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ) الدنيا بكل ما فيها من نعيم هي متاع , وفي مُقابلها النّار حيث قال الله: (ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ) سمّى ذلك متاعاً قليلاً يعني يزول , وفي النار قال مأوى , وقلنا إنّ المأوى هو: المكان الذي يرجع إليه الإنسان ويستقرّ ويأوِي فيه , معنى مأواه جهنّم أي أنّ جهنّم هي مَقرُّه , وهذه ترد كثيراً في القرآن الكريم أن يُذكر أنّ جهنّم هي المأوى والمقرّ والمستقرّ , وهذه من الأدلة التي استدلّ بها أهل السنّة والجماعة على خلود أهل النّار في النار فإنَّها مستقرّ لهم ومقام , ويؤكدّ لك قوله: (خالدين فيها) وفي مواضع أخرى: (خالدين فيها أبداً) ثم قال الله ـ عز وجل ـ : (مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ) المِهَاد هو الفِراش, أي بِئس فراشهم الذي يفترشونه النار, وتأمّلوا كيف يكون هذا الفراش الذي هو من النار يفترشونه ويُمهدونه؟!!
في مُقابل هؤلاء قال الله: (لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلاً مِّنْ عِندِ اللّهِ وَمَا عِندَ اللّهِ خَيْرٌ لِّلأَبْرَارِ) اتّقوه فآمنوا به , واتّقوه فعمِلوا ما أمرهم به واجتنبوا ما نهى عنه ـ عز وجل ـ فحقَقُوا التقوى له, هؤلاء المُتقّون لهم (جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَاالأَنْهَارُ) الجنّات أصلها من الجَنّ وهو السَّتر والمقصود به البساتين التي تُغطّيها الأشجار , كثيفة الأشجار حتى تكون مُغطّاة , هذه هي البساتين إذا كان شجرها كثيفاً يُغطّيها ويُجِنُّها ويسترها تُسمّى جنّات , أي ليس جنّة واحدة , وإنّما جنّات , هذه الجنّات (تَجْرِي مِن تَحْتِهَاالأَنْهَارُ) أي من تحت قصورها وهذه أكمل صُور النعيم الذي يتخيّله الإنسان وإلاّ فالجنّة فيها ما هو أعظم من ذلك (خَالِدِينَ فِيهَا) يعني مُقيمين ماكِثين فيها ,أصل الخلود طُول المُكث في المكان يُسمّى ذلك خلوداً (خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلاً مِّنْ عِندِ اللّهِ) هذا النعيم الذي أُعطوا إيّاه ونزل عليهم وكافأهم الله به هو نُزٌل من عند الله , وأصل النُزُل أول ما يُعَدّ للضيف عند نزوله, هذا النَّعيم يأخذونه وينالونه أول نزولهم إلى الجنّة (نُزُلاً مِّنْ عِندِ اللّهِ وَمَاعِندَ اللّهِ خَيْرٌ لِّلأَبْرَارِ) ما عند الله من النعيم والثواب والجزاء (خَيْرٌ لِّلأَبْرَارِ) أي خيرٌ للمتقّين المُحسنين أعمالهم , وقوله: (وَمَا عِندَ اللّهِ خَيْرٌ لِّلأَبْرَارِ) في مُقابل ما يُتمتّع به الكفار في الدنيا من النَّعيم فإنّ ذلك النعيم يحول ويزول , أمّا نعيم أهل الجنّة فإنه باقٍ خالد , ولذلك جاء في الحديث[10]: أنّه يُؤتى بأنعم أهل النار في الدنيا , أكثر أهل الدنيا نعيماً فيُغمس في النار غمسة واحدة - يُدخل في النار ويُخرج منها - ثم يُقال يا فلان هل رأيت نعيماً قط؟! هل مرّ بك نعيماً قطّ , يقول: لا وربي ما رأيت نعيماً قطّ وما مرّ بي نعيمٌ قطّ, وفي مُقابله يُؤتى بأبأس أهل الدنيا من أهل الجنّة فيُغمس في الجنّة غمسة واحدة , ثم يُقال يا فلان هل مرّ بك بؤسٌ قط؟! هل رأيت بلاءً قط؟ يقول لا وربي , وهذا مجرّد الغمسة!!
وأمّا أقلّ أهل الجنّة منزلة[11] رجلٌ يدخل الجنّة بعد أن يدخل الناس الجنّة وينزِلون فيها منازلهم حتى يظنّ أنّه لم يبقَ له فيها منزلة , فيقول له الله ـ عز وجل ـ : فإنّ لك مِثَل مَلِك من ملوك الدنيا - أيّ لك من النعيم مِثَل نعيم مَلِك من ملوك الدنيا - فلا يكاد يُصدّق الرجل من عِظم النعيم الذي ينتظره , ثم يقول: ولك مثله ومثله ومثله , فيقول الرجل قد رضيتُ يا ربي قد رضيت، قد رضيت , يعني نعيم أقلّ أهل الجنّة نعيمهم مُضاعف أضعافاً كثيرة على ملِك من ملوك الدنيا , هذا أقلّ أهل الجنّة منزلة ,نسأل الله الكريم من فضله .
ثم قال الله ـ عز وجل ـ بعد ذلك: (وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلّهِ لاَ يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً أُوْلَـئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ) يقول الله ـ عز وجل ـ إنّ أهل الكتاب ليسُوا سواءً في كل أحوالهم , فإنّ من أهل الكتاب (لَمَن يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ) يعني يُصدِّق بالذي أُنزل إليكم (وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَآأُنزِلَ إِلَيْهِمْ) قدّم إيمانهم يما أُنزل إلى النبيّ لأنّ من آمن من أهل الكتاب بما أُنزل إلى النبيّ , فقد آمن قطعاً بما أُنزل إليهم في كتبهم السابقة ولذلك قدّم ذكرهم , يعني من أهل الكتاب من يُؤمن بكتبهم لكن لا يؤمن بالذي أُنزل وهذا لا ينفعه , ولهذا قدّم ذكرهم قال: (لَمَن يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلّهِ)
· فيُؤمنون بما أُنزل إلى النبيّ وما أُنزل إلينا من الحقِّ والهدى .
· ويؤمنون بما أُنزل إليهم في كتبهم
· ولا يُفرّقون بين رُسل الله وهم خاضعين مُتذلِلين لله رغبة في ثوابه ورهبةً من عقابه
· والوصف الرابع لهم (لاَ يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً) يعني لا يستبدلون بآيات الله ثمناً قليلا , وليس المقصود أنّ هذا الثمن قليل فلو كان الثمن كثيراً لاستبدلوه ولكن هذا كما ذكرنا سابقاً من الأوصاف الكاشفة, يعني لا يستبدِلون ثمناً مهما كان هذا الثمن ولو كان الدنيا كلها فإنّه قليلٌ أمام الإيمان بالله .
هؤلاء الموصوفون بهذه الصفات صفة الإيمان بالله وما أُنزل إلى النبيّ وما أُنزل إليهم والخشوع لله وعدم الشراء بآيات الله ثمناً قليلاً هؤلاء (لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ) لهم ثوابهم عند الله وهذا الثواب عظيم لأنّه من الله وهذا الثواب يأتيهم سريعاً لأنّ الله ـ عز وجل ـ سريع الحساب والجزاء على الأعمال.
ثم قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) بهذه الآية الكريمة تُختم هذه السورة العظيمة , والحقيقة إنّ هذه الخاتمة هي تلخِيص لمضمون هذه السورة فالمُؤمن مطلوبٌ منه أن يصبر على تكاليف الشريعة وعلى أقدارِ الله التي تُصيبه , ومطلوبٌ منه أيضاً أن يُصابر أيّ أن يُغالب الكفار في الصبر , فلا يكون صبر الكفار أعظم من صبر المؤمنين بل الواجب على المؤمنين أن يكون صبرهم أشدّ لأنّنا نصبر ونحن نرجو الثواب وأولئك يصبرون ولا ثواب لهم , (وَرَابِطُواْ) يعني أقيِموا على الجهاد في سبيل الله , وهذا أول المعاني التي ينصرِف إليها معنى الرباط , لكنّ المقصود بالرباط أعمّ , الرباط على هذا الدين حفظاً له وقياماً به وذوداً عن حياضِه في شتّى الميادين , وهذا من الرِباط الذي أمر به الله ـ عز وجل ـ (وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) واتقّوا الله بامتثال أوامِره واجتناب نواهِيه لعلّكم تنالُون مطلوبكم بدخول الجنّة والسلامة من النّار أجارنا الله منها , حقيقة هذه الآية الكريمة هي تلخِيص لمضمون هذه السورة العظيمة بتحقيق هذه الصفات العظيمة التي اختتم بها السورة الإيمان، والصبر، والمصابرة والمرابطة، وتقوى الله ـ عز وجل ـ يُحقِقّ بها العبد الفلاح والنجاح يوم القيامة.
نسأل الله ـ عز وجل ـ أن يجعلنا ممّن حققّ هذه الصفات وأن يسلك بنا سبيل أهلها , هذا والله أعلم وصلى الله وسلّم وبارك على نبيّنا محمد.
-----------------------------------------------------(لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ....) نستمع إلى الآيات أولًا :
المقطع الأول
(لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (١٨١) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (١٨٢) الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (١٨٣) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (١٨٤) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (١٨٥))[1]
بسم الله، والصّلاة والسّلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه..
أمّا بعد :
هَذِه الآياتُ الكريمة بدأت بـِخَبر الله ـ عزّوجل ـ عن سمعه لمقالة اليَّهُود. يقول الله ـ عزّ وجل ـ (لقدسَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ) وهذه المقالة قد قالها اليهود قَاتلهم الله ـ عز وجل ـ ، وقالوا ذلك استهزاءً بعد أن سَمِعُوا الآيات التّي فيها دعوةٌ للمؤمنين إلى الإِنفاق في سبيل الله وإلى إقراض الله القَرض الحسن ، فلأجل ذلك قالوا ( إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ) حيث يطلُب منّا القرض، ونحن أغنياء بما عندنا من الأموال. يقول ـ عزّ وجل ـ (سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا) أيّ سنكتُب هذا القول الذِّي قَالوه في صحائف أعمالهم التّي سيُلاقونها ويُجَازونَ عليها يوم القيامة ، ونكتُب أيضاً عليهم رِضَاهم بقتل الأنبياء أو بقتل أسلافهم لأنبياء الله ـ عز ّوجل ـ حيثُ قتلُوهم عمداً وعدواناً بغير حقّ ، ونقول لهم جميعاً ذوقوا عذاب النار المحرق (ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ) هذا العَذاب الذِّي نزل بهم وحلّ بهم بِسبب أعمالهم يقول ـ عزّ وجل ـ (ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ).قد يقول قائل: الله يقول (وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ) فهل هناك قتلٌ للأنبياء بحق؟
هذه تَرِد كثيراً في القرآن، وتُسمّى الأوصاف الكاشفة[2]لا يُرادُ بها القَيد، يزيد في بيان حالهم، ويكشِف حالهم. أنّهم قتلوهم وتلبَّس هذا القتل بغير الحق، فهو يكشف حقيقةَ قتلهم وأنّه بغير حق. ليس المقصود به التَّقييد لِنَوع ذلك القتل، بمعنى أنّ هُناك قتل بحق، مثل قوله عزّوجل ( ومَن يَدعُ مع الله إلهاً آخرِ لا بُرهانَ له بهِ فإنَّما حسابُهُ عند ربّه) هل هُناك من يدعُ مع الله إلهاً آخر له على دعوته بُرهان؟ كلاَّ، وإنّما هي أوصافٌ كاشفة. كُل من يدعو مع الله إلهاً آخر فإنّه لا برهان له به.وكُلُّ من قتل الأنبياء فإنّهم قد قتلوهم بغير حق.
يقول الله ـ عزّوجل ـ (ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) هذا الذِّي نزل بهم من العذاب بسبب ما قدَّمت أيديهم وأنّ الله ليس بظلاّمٍ لَعبيده، بل هو ـ عزّوجل ـ العَدل الحَكَم الذِّي لا يظلم أحداً سبحانه وبحمده، وهو القائل في الحديث القُدسي: ( يا عبادي إنّي حرّمتُ الظُّلمَ على نفسي وجعلتُهُ بينكم محرّماً فلا تظالموا) .[3]
قال الله ـ عزّ وجل ـ بعد ذلك بعد أن ذكر شيئاً من صِفات اليّهود، ذَكَرَ صفةً أخرى، قال الله ـ عزّ وجل ـ (الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ)(الذَّينَ قَالُوا) يعني هُمُ الذِّين قالوا، أوّ وهُمُ الذّين قالوا (إنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا) هُم الذّين قالوا كَذِباً وافتراءً إنَّ الله قد أوصانا وعَهِدَ إلينا (أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ) يدَّعي أنّه رسول (حَتَّى يَأْتِيَنَابِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ) قالوا ذلك كَذِباً على الله ـ عزّ وجل ـ أنّ الله عَهِدّ إليهم هذا العهد وجعل أمارةَ صِدق الرَّسول أن يأتِيَ بِقُربان يعني يتقرّب إلى الله بأيّ نوع من أنواع الطّاعات. وقد كان قديماً إذا قرّب الإنسان قُرباناً فعلامة قَبُول هذا القُربان أن تنزِل ناراً من السّماء فتُحرِق هذا القُربان وعندئذٍ يكون قد تُقُبِّلَ منه فَقالوا لا نُصَّدِق لرسولٍ حتى يُقدِّم قرباناً فتُحرِقُهُ النّار ونحن نراه عندئذٍ نُؤمن بصدقه.
أوّلاً: هُم قد كذبوا على الله وافتروا أنّ الله عهد إليهم بهذا العهد.
ثانياً: ثمّ إنّهم كذبُوا على الله أيضاً أن حَصَروا أدّلة صدق النّبي ودلائل نُبُوَّته في هذه الصفات ، فكذبُوا على الله من جهتين.
ولهذا قال ـ عزَّ وجل ـ آمِراً نبيّه بأنّ يَرُدَّ عليهم فقال:(قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ). ( قُل) أيّ يا أيُّها النّبي ـ صلى الله عليه وسلّم ـ (قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَات) يعني بالأدّلة الظّاهرة البيّنة الدّالة على صِدقِك، بل ومن رسل الله من جاء بالذّي قُلتم وادعيتموه (وَبِالَّذِي قُلْتُمْ) يعني من الأنبياء من جاء بنفس الآيات التّي طلبُوها، والصِّفة التّي ذَكُروها (فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ) يعني ليس المسألة أنّهم لم يقبلوا منهم، ولم يتَّبِعُوهم، لا، بل أعظم من هذا قتلُوهم، وما يُعرَف في أُمَّة من الأُمم تقتل أنبيائها إلاّ اليَّهُود هُمُ الذّين تجرّأوا على قتل الأنبياء، وتجَّرأُوُا على ما هو أعظم من ذلك حيثُ وصفوا الله عزّوجل – تعالى الله عن قولهم- بكُلِّ نقيصة. ثم قال (إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) في زَعمِكُم أنّ الله عهد إليكم. وأنَّ هذه هي البيّنات الدَّالة على صدق النّبيّ.
/ ثُمّ قال (فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ) يعني إن كذَّبُوك أيُّها النَّبي فيما تقول وفيما رَدَدت عليهم به فاعلم أنّ هذا هو ديدنهم وهِي سجِّيَتهم وطبيعتهم، فلستَ أوَّلَ الرُّسل الذِّين كذَّبُوك، بل قد كُذِّبت رُسُلٌ من قبلك رسُلٌ كثيرة (جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ ) جاؤوا بالبيّنات بالأدَّلة الواضحة على صِدقك، وجاؤوا أيضاً بالكتُب المشتملة على المواعظ والرَّقائق وهِي الزُّبُر وهُو: الكُتُب التّي يغلب عليها جانب الوَّعظ والتَّذكرة، والكِتاب المنير هو الكتاب الهادي بما فيه من الأحكام والشَّرائع ، ولذلك قال (وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ) يعني جِنس الكتاب المنير الذّي يُنير للإنسان هُوَ منيرٌ في ذاته ومنيٌر لغيره .
المقطع الثاني
(كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (١٨٥) لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (١٨٦) وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ (١٨٧) لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (١٨٨) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٨٩))[4]ثم قال الله عزّوجل: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ) يقول عزّوجل (كُلُّ نَفْسٍ) وهذه من ألفاظ العُمُوم مهما تَكُن هذه النَّفس صغيرةً أو كبيرة، شريفةً أو وضيعة، قوِّيةً أو ضعيفة.مهما تكُن تلك النّفس فإنّها لابد أن تذوق الموت. أبداً كُلُّ نفسٍ تذوق هذا الموت، ولذلك قيل إنَّ الموت أعدلُ مخلوق فإنّه لا يُفَرِّق بين أحد لأنّه يُسَّوي بين الصَّغير والكبير، والشَّريف والوَضِيع، والذّكَر والأُنثى لا يُفرّق بين أحد، وقيل أنّ الموت كأسٌ كُلٌّ سيشرب منه،(كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ) فإذا كانت كلُّ نفسٍ ذائقةُ الموت فلا يغتَّر الإنسان في هذه الدُّنيا ولا بما فيها من النَّعيم। لأنَّ يوم القيامة هِيَ الــمَحكّ الذِّي يكون عليه الإنسان ولذلك قال (وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) تُوَّفَونَها وتُوَافُونها،تلقاكم الأجور وأنتم الذِّين تلقونها ، تُوَفَّونها تامّة غير ناقصة إن حَسناً فحَسَن، وإن سَيئاً فَسَيِّء. ولذلك جاء في الحديث القُدسي :( إنّما هي أعمالكم أُحصيها لكم ثمّ أُوَّفيكم إيّاها فمن وَجَد خيراً فليحمَدِ الله، ومن وجد غير ذلك فلا يَلُومنَّ إلا نفسه)[5]
ثمَّ قال عزَّوجل (فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ) زُحزح عن النّار يعني أُبِعد عنها (وأُدخِلَ الجنّة) فقد فاز هذا هو الفوز الحقيقي الذّي لا فوز قبله ولا فوز بعده. هذا هو الفَوز النِّهائي غاية الفوز أن يُبعَدَ الإنسان وينجُو من النّار وأن يَدخُلَ الجنّة عندئذ يكون الفوز الذِّي لا فوز مثله ولهذا قال (فَقَدْ فَازَ) فقد فاز فوزاً تامّاً.
ثمّ قال (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ) لأنَّ الحياة الدُّنيا قد يفوز فيها الإنسان وقد ينال شيئاً من مناصب الدُّنيا ومكاسِبها ولكن هذه المناصب والمكاسب تزول مهما أُعطِيَ الإنسان، تزول وتذهب سريعاً فالإنسان يعيش في هذه الدُّنيا ستين أو سبعين أو مائة سنة ثمّ بعد ذلك يَدَع هذا النَّعيم ويذهب لو لم يكن من حَسرة أهل النَّعيم إلا أنّهم سيعلمون أنّه سيُغادِرون هذا النَّعيم لكفى بهذه الحَسرة عذاباً عليهم لأنَّ الذِّي لا يملك النَّعيم لا يختلف عنده الأمر أن يذهب أو أن يبقى لكن من الذِّي يتحسَّر؟
صاحبُ النَّعيم أن يُغادر هذا النَّعيم। فكيف إذا عَلِم أنّه سيُغادر النّعيم لا إلى مصيرٍ حسن يعرفه ويرجوه। بل إنّه لا يعلم هل سيذهب إلى جنّة أو إلى نار أو أنّ هناك يوم القيامة. ولذلك هي متاعٌ زائل ، (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ) يعني متاع المخدوع الذّي يُخدع بهذه الدُّنيا ويُغتَّر بها.
/ ثمّ قال الله تعالى بعدذلك: (لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا.وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ )يقول الله عزّوجل لِعباده المؤمنين لتُختَّبُرُنَّ أيُّها المؤمنون، تُـــــختبُرُون في أموالكم، وتــُــــختَبُرون في أنفسكم، وتُـــــختَبَرون في أداء الحقوق والواجبات التّي أمركم الله بها، كُلّ هذه أنواع من أنواع الاختبارات والابتلاءات التّي يُبتلى بها المؤمن. وليس هذا فقط بل هناك نوع من الابتلاء آخر الذّي يُصيب الإنسان في دينه وعقيدته يُبتلى بها من هؤلاء الكُفّار من كفرة أهلالكتاب ومن المشركين (وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا) أذىً كثيراً بالاستهزاء بكم وبدينكم، بالطَّعن، وبالسَّب. وهذا الحقيقة ممّا يُؤذي المؤمنين الصّادقين من هذا التَّطاول على دينهم، وعلى عقيدتهم، وعلى ملَّتهم. ونحن لا نزال نرى في عَصرنا هذا تطاولاً على دِيننا وتطاولاً على قِيَمنا، وتطاولاً على كُلِّ عزيزٍ عندنا،وهذا من الأَذى الذّي يُبتلى به المؤمنون والواجب على المؤمنون أن يصبروا على ذلك وألاّ يَفُتَّ في عَضُدُهم، لهذا يقول عزّوجل (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) إن تصبروا على هذا الأذى،وأن تصبروا على الابتلاء الذِّي ينالكم، وأن تَصبروا على أداء الحقوق التّي أوجبها الله عليكم وتتّقوا الله في هذا الصَّبر بطاعته واجتناب نهيه فإنّ هذا الفعل منكم فعل الصَّبر والتَّقوى من عزم الأمور أيّ من الأمور التّي يُعزم عليها، من الأُمُور التي يَجتهد الإنسان في تحصيلها، ولذلك قال الله ـ عزّ وجل ـ (فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) أيّ التّي يعزِم النّاس عليها ويتنافس المتنافسون عليها. أيّ أنّ هذا من أشرف وأفضل ما عَزَم الإنسان على القيام به، وأشرف ما تنافس الإنسان عليه .
/ ثمّ قال الله تعالى: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ )هذه الآية فيها إشارة إلى بعض أخلاق أهل الكتاب، والإِشارة هُنا خُصُوصاً إلى عُلماء أهل الكتاب من اليّهود والنّصارى فقال الله ـ عزّ وجل ـ (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ ) أي اذكر أيُّها النّبي ـ صلى الله عليه وسلّم ـ حين أخذ الله الميثاق أيّ :العهد الـــمُؤَّكَد، وهذا التَّأكيد قد يكون تأكيداً لفظِّياً وقد يكون تأكيداً كتابيّاً وكُلُّ ذلك يُسمّى توثيق للعهد। أخذ الله ميثاقاً وعهداً مُؤكداً على عُلماء أهل الكِتاب من اليَّهُود والنَّصارى، أن يُوَّضِحُوا الكتاب وأن يُبيِّنوه وألاَّ يكتموه، لا يكتُمُوا شيئاً جاءَ في هذا الكِتاب من الحقِّ الذّي أنزلَهُ الله ـ عزّ وجل ـ ومن الحقِّ الذِّي أنزله الله ـ عزَّ وجل ـ في تلك الكُتُب مَا ورد في صفة النّبي ـ صلى الله عليه وسلّم ـ لذلك قال ( الذِّي يَجِدُونَهُ مكتُوباً عندَهُم في التّوراةِ والإنجيل) فصفّة نبيّنا صلى الله عليه وسلّم موجودة عندهم، بل يعرفونه كما يعرفون أبناءهم।كما جاء عن أَحدهم لــمّا قَدِمَ النّبي إلى المدينة ، قال : أَهُوَ هُوَ. [6]يعني هذا الرَّجُل هو النّبي الذّي نُوعَد به؟ قال : هُوَ هوَ. قال : فما أنتَ صَانع؟ قال: عداوُتُه مَا بَقِي. لـــم يرضى أن يَتَّبع. وعبدالله بن سَلاَم لـــمّا سأله أحدُ الصّحابة: هل تعرف صفة النّبي؟ قال : إنّي لأعرفه أشّد من معرفتي بولدي، فإنّي أجدُ صفته في الكتاب، ولا أدري ما صَنَعت الأُمَّهات أو كلمةً نحوها قد يقع من الأُمّ خيانة فلا تدري أَوَلُدك حقيقة ً أم لا ؟ لكن هُم يعلمون حقيقة صفة النّبيّ ـ صلى الله عليه وسلّم ـ كما هُو عندهم في التّوراة.
هذا العَهد الأكيد الذّي أخذه الله ـ عزّوجل ـ عليهم. ما الذِّي فَعَلُوه بعد ذلك وانظُروا العهد على عُلمائهم يعني أشرف النّاس فيهم وليس على عامَّتهم.لأنَّهم هُم أهل العلم هُمُ الذِّين يُبيِّنُون الكتاب ويُوَّضحُونه، وهُمُ الذِّين قد يكتمُونه فماذا فعلوا؟ قال الله : (فَنَبَذُوهُ وَرَاءَظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا) لـــم يكتَفُوا فقط بالإعراض عنه ، بل نبذُوه وراء ظُهُورهم دلالة على شِدَّةِ الإِعراض। الإنسان حينما يُلقي الشيء أمامه رُبَّما في حالةٍ من الحالات رُبّما ينظر إليه فلعلَّه أن يسترجعه ، يعني مظنَّة أن يسترجع هذا الشّيء ، لكن إذا ألقى الشّيء وراء ظهره رُجوعه إليه ونظره إليه مرّة أخرى بعيد، وهم مع أنّهم نبذُوا الكتاب وراء ظُهُورهم لم يكتفُوا بهذا بل اشتروا به ثمناً، يعني استبدلُوا بآيات الله ثمناً قليلاً، هذا الثَّمن القليل سمّاه الله قليلاً لأنّه حقير،مهما يكن حتى لو كان الدُّنيا كُلَّها وهذا الثَّمن الذّي أخذوه هو الرئاسة والمال وما يأخذونه على أتباع ديانتهم من الــمُكُوس والضَّرائب الكَبيرة التّي يأخذونها. هذا هُو الثّمن الذّي أخذوه مقابل كِتمان الحقّ وعدم بيانه، والإعراض عنه، فبئس هذا الثمن ولذلك قال: (فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ) وبئس هذا الثَّمن،بئس ما يستبدلون لأنَّ الشِّراء بمعنى الاستبدال.
هذه الآية من أعظم الآيات التّي تُحذِّر أهل العلم من كِتمان الحقّ، وعدم توضيحه للنّاس، وغِشَّهِم فيما أنزل الله عزّوجل والتَّلبيس بسبب الأهواء أو الخوف أو الأَطماع فإنَّ من كتم شيئاً من العلم من علماء هذه الأُمّة فإنّ فيه مشابهة لليَّهود، فإنّه يُشابههم في أخلاقهم، فإنّ كتم الحقّ هو صفة اليَّهود. فإنَّ من كتم الحقّ من أهل العلم من هذه الأُمّة فإنّه قد شابه اليَّهُود في صفاتهم وفي أخلاقهم.
يقول ـ عزّ وجل ـ بعد ذلك ( لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) يقول ـ عز ّوجل ـ لنبيِّه لا تَظُنَّنَّ أيُّها النّبي عليه الصّلاة والسّلام أنّ الذّين يفرحُون بما فعلوا من القبائح (ويُحبُّون أن يُحمَدُوا بما لم يفعلوا) أن يحمدهم النّاس ويُثنُوا عليهم بخير لم يفعلوه، (فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ) المفازة النّجاة أي بمكان نجاةٍ من العذاب وسلامةٍ منه، بل لهم العذاب المقيم ولذلك قال الله (وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) على هذا الأمر.
هذه الآية الحقيقة فيها إشارة إلى خطورةِ أن يتلبَّس الإنسان أو أن يتشَّبَع بما لم يُعطى،[7] فإنَّ الــمُتَّشَّبع بما لم يُعطى كلابس ثوبي زُور كما قال عليه الصّلاة والسّلام. فالإنسان تجده بعيد عن الله ـ عزّوجل ـ بعيد عن طاعته ومع ذلك يُحبّ النّاس أن يحمدوه على تقواه وعلى زهده وعلى ورعه، فهو قد جمع السَّوأتين سوأة التّقصير، وسوأة محاولته أن يُشابه أهل الكمال وهذه من أقبح الصّفات وأخَسِّها، ولذلك ذمَّها الله ـ عزّوجل ـ كما في هذه الآيات، وتوّعد عليها بالعذاب الأليم عليها يوم القيامة.
وقد استشكل هذا بعض النّاس، استشكل أن يُقال كما جاء في الرِّواية أظُّنّه مروان أو نحوٍ منه، أنّه بعث إلى أحد الصَّحابة يسألهم ـ ولعلّه أبوسعيد ـ فقال: إن كانَ كُلُّ رجُلٍ فرِحَ بما أوتي وأحبَّ أن يُحمدَ بما لم يفعل أنّه مُعذَّب لنُعَذَّبَنَّ أجمعون. فأجابه : إنّ هذا ليست فيك وإنَّما في أهل الكتاب خُصوصاً.
وهذا جوابًا على هذا الإشكال، وإلاَّ فالحقيقة إنّ الآية كما هو مُقرّرٌ في أصول الفقه أنّ العبرة بعموم لفظها لا بخصوص سببها لو صحَّ أنَّ فيها سبباً خاصّاً نزل بها، ولكنَّنا لو تأَمَّلنا لفظ هذه الآية وجدناها عامّة لأنّ الله قال ( لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) لكن كيف نُجيب عن هذا الإشكال؟ أن يُقال :إنَّ الفرح هنا ليس بما أُعطيَ الإنسان من النّعمة والمال، وإنّما فرحُهم هنا بفعلهم للقبائح واستبشارهم بها ومع فعلهم للقبائح يتَزَّيَنُون بزينة التّقوى، من تخلّق بهذا الخُلُق وتشبَّعَ بهذا الأمر فإنّه حقيقةً مستَحِقٌ لهذا العذاب لأنّه جمع السَّوأتين جمع فعل المنكرات والتَّظاهر بالصَّلاح، ولذلك كما قال عليه الصّلاة والسلام : الـــمُتَّشبع بما لم يُعطى، كلابس ثوبي زُور.
/ ثمّ قال الله عزّوجل بعد ذلك : (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) يعني لله وحده دون سواه مُلكُ ما في السّماوات وما في الأرض، مُلكُهُمَا خلقاً وإيجاداً، وتدبيراً وإحكاماً سبحانه وبحمده، فَلَهُ الخَلق وله الأمر। وهذا التَّعليل لمناسبة الآية لأنّ له ملك السموات والأرض، ولا يملك السّموات والأرض إلاّ من هو على كُلِّ شيءٍ قدير .
المقطع الثالث
قال تعالى: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191) رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ (192) رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ (193) رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (194) فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُواْ وَقُتِلُواْ لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَابًا مِّن عِندِ اللّهِ وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ (195) لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي الْبِلاَدِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197) لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلاً مِّنْ عِندِ اللّهِ وَمَا عِندَ اللّهِ خَيْرٌ لِّلأَبْرَارِ (198) وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلّهِ لاَ يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً أُوْلَـئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (199) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200))[8]
هذه الآيات الكريمة من الحسَن أن نختِم بها هذا اللِّقاء الذِّي أسأل الله ـ عزوجل ـ أن يجعله لقاءً مباركاً , هذه الآيات فيها دعوةٌ للتَّفكُر والنَّظر في ملكوت الله ـ عزوجل ـ في بديع صُنعه وجليل خلقه وتقديره سبحانه وبحمده.ولهذا استفتحت الآيات بقوله: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ) في هذه السَّماوات التي خَلَقها وهذه الأرض التي أوجدها وما بينهما من اختلافٍ في اللَّيل والنهار ينتج عن حركة هذه النجوم والأفلاك , في هذه كلّها ومضمونها آيات بيّنه ظاهرة لأُولي الألباب , لأصحاب العُقول والنُّهى , فهذه الآية لو الإنسان أراد أن يجلس فيتفكّر في خَلق الله ـ عز وجل ـ ومُلكه وسَعته , كم يحتاج من النَّظر والتأمّل والتدبّر ؟! لو قضى دهره يتأمّل في آيات الله ـ عز وجل ـ في الآفاق وفي الأنفس لانقضى عُمره دون أن ينقضي هذا النَّظر في هذا الملكوت العظيم , ولذلك الحقيقة إنَّ النظر في ملكوت الله والتأمّل فيه من أعظم ما يُقوِّي الإيمان في القلب ويُعظّمه ولذلك كان التفكّر في ملكوت الله من أعظم العبادات التي دَعت إليها نصوص الكتاب والسنّة ,لأنّ التفكر يُورث الإيمان في القلب والخشية والخضوع لله , ولذلك جاء في الأثر أنّ أكثر عبادة أبي ذرّ كانت التفكّر والنظر في هذا الملكوت , فالذي يقضي وقته في التفكّر في ملكوت الله عزوجل وبديع صُنعه وجليل خَلقِه وجمال خَلقِه سبحانه يُورث ذلك إيماناً في القلب وخشيةً له وخشوعاً وخضوعاً لله ـ عز وجل ـ هذا الكون العظيم الذي لا يَقدُر قَدره أحد , وما ذكروه الآن في العلم الحديث عن سعة هذا الكون لا يكاد الإنسان يُصدّقه , نحن الآن الواحد منّا كم يُشكّل من نسبة في الأرض ؟ كم قدرك في الأرض؟ لا شيء ! هذه الأرض كم تُشكّل بالنسبة للشمس؟! لا شيء ! والشمس كم هي في المجموعة الشمسية نفسها؟ وفي مجرّتها؟ ثم هذه المجرّة فيها غيرها ملايين المجرّات , حتى إنَّ بعض علماء الفلك أراد أن يُقرّب الصورة للناس فقال: الإنسان نقطة على حرف من كتاب من خمسمائة مجلد!!! كم يُشكّل الإنسان بالنسبة لهذا الكون العظيم ؟! ولذلك كلما ازداد الإنسان تأمّلاً في هذا الكون كلما ازداد إيماناً بالخالق جلّ وعلا . ولذلك لمّا سُئل الأوزاعي عن غاية التفكّر في هذه المخلوقات :ما الغاية منها؟ قال: " أن يقرأها وهو يعقلهنّ " بأن تقرأ هذه الآيات وأنت تعقلها , هذه الآيات التي سنتدارسها أن يقرأها الإنسان وهو يَعقل معناها ودلالتها وما تُشير إليه وتدُل عليه.
قال الله ـ عزوجل ـ : (لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ) لأصحاب العقول , من هم أصحاب العقول الذين يتذكّرون منها؟ هل هم الذين يُتقنون علم الرياضيات أو علم الفيزياء أو غير ذلك من علوم الناس؟ كلاّ , انظروا ما هي صفات هؤلاء أصحاب العقول والنُّهى :قال: (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)
قال: (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ) أي يُديمُون ذكر الله عزوجل في قلوبهم وعلى ألسنتهم وعلى جوارحهم , يذكرون الله ـ عز وجل ـ على كلّ أحيانهم , ولهذا قال: (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا) في حال قيامهم (وَقُعُودًا) حال قعودهم (وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ) أي وهم مُضطّجعون , وذِكر هذه الأحوال التفصيلية دلالة على الاعتناء بمبدأ ذِكر الله ـ عز وجل ـ أنّ الإنسان يكون ذكره لله على كل أحيانه سواء كان قائماً أو قاعداً أو مُضّطجعاً , فإذا ذكر الله على هذه الأحوال دلّ على أنّ ذِكر الله مُصاحبٌ له في كل أحواله , وهذا هو الذي ينتفع بتفكّره , الذِّي يُديم ذكر الله ـ عز وجل ـ واستحضار عظمته , وأعظم ما يَبعث في الإنسان استحضار عظمته ـ عز وجل ـ أن يتأمّل في ملكوت الله ـ عز وجل ـ (يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ) ذكر الله يُورث أي شيء؟! (وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ) يعني يُعملُون فِكرهم ونظرهم في خلق السَّماوات والأرض,كيف خَلَقَ الله السماوات والأرض وكيف أوجدها وكيف بثّ فيها هذه الكائنات العظيمة المتنوعة التي لا يُحصِيها أحد , وهذا النظام البديع الذي تجري عليه هذه النُّجوم غايةً في الإتقان وغايةً في الدقّة على نحوٍ لا يَميل ولا يَحيد (وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً) ذِكر الله والتفكّر في خلقه يُورث الإيمان به والتسليم له ولذلك قالوا: (مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً) التفكّر وذِكر الله يُورث اليقين والإيمان (مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً) مُحَال هذا الخلق العظيم خُلق عبثاً وخُلق باطلاً لغير غاية (مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سبحانك) تنزّهت عن العبث , تنزّهت أن تخلق هذه المخلوقات العظيمة دُون حكمة ودُون غاية , ثمّ سألوا الله عزوجل أن يقيهم عذاب النّار فقالوا: (فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ) بمعنى جنبّنا عذاب النار وذلك بأن يُوفقهم إلى عمل الصالحات , فإنّ من وُفّق إلى عمل الصالحات وأُعين على ترك السيئات فقد جُنّب عذاب النار .ثم قالوا: (رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ) هؤلاء المُتفكِّرون الذاكِرون المُتدبِّرون الذِّين يسألون الله ـ عز وجل ـ يقولون يُخاطبون ربهم مُتذلّلين إليه خاشعين له يقولون: (رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ) يعني من دخل النار فقد خَزِي , نعم والله إنّ النار هي الخزي العظيم لأهله , لا خزي بعدها , ومن سلِم منها فقد نجا وفاز فوزاً عظيماً ومن دخلها فقد خزي الخزي العظيم الذي لا خزي بعده (إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَالِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ) والإشارة إلى الظالمين هنا إشارة أنّ الذين يدخلون النار هم الظالمين , فالظالمون هم الذين يستحقّون ويستوجبون دخول النار , وهؤلاء الظالمون المُعتدون ليس لهم أنصار ينصرونهم من الله ولا أنصار يمنعونهم من دخول النار (وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ)ثمّ قال ـ عز وجل ـ : (رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ) انظروا غاية التذلّل والخضوع لله ـ عز وجل ـ وانظروا عِظم التوسّل إليه والتقرّب منه ـ عز وجل ـ بأعظم ما يتقرّب به العبد من ربه , فقالوا: (رَّبَّنَا إِنَّنَاسَمِعْنَا مُنَادِيًا) يعني سمعنا داعياً , المُنادي هو الداعي (سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ) يعني داعٍ يدعو إلى الإيمان , وقوله: (يُنادي) لاشكّ أنّ المُنادي أنّه يُنادي ومن يُنادي فهو مُنادي فالجمع بين الأمرين من باب التأكِيد لأنّ هذا الرجل الذي يُنادي كأنّه ليس له مَهمّة إلا النداء إلى الإيمان (سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ) سمعنا داعياً يدعوا إلى الإيمان , يعني لا يدعو إلاّ إلى الإيمان , معناها أنّ كل ما جاء به الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ هو دعوة للإيمان وكل ما شرعه عليه الصلاة والسلام هو دعوة إلى الإيمان بالله ـ عز وجل ـ وهذا معنى قوله: (وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى ) .(سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ) هذا المُنادي يقول: (أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ) انظروا هذا التأكيد لمَهمّة النبيّ ذَكَر الداعي مرتين (مُنَادِيًا يُنَادِي) ذكر المُنادي مرتين , والإيمان ذكره مرتين أيضاً (يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ) فهو تأكيد على أنّ مهمّة النبيّ ـ عليه الصلاة والسلام ـ هي الدَّعوة إلى الإيمان وأنّه لا يدعو إلاّ إلى الإيمان بالله (أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا) اتبّعناه ، صدّقناه أقررنا بما دعا إليه وانقدنا إليه، واتبّعنا شريعته واستجبنا لأمره ونهيه فقنا عذاب النار هذه أعظم ما يتوسّل بها المؤمنين إلى ربهم , يتوسلّون إليه بإيمانهم نحن لا نملك شيئاً نتوسّل إلى الله به أعظم من الإيمان به،لا نملك شيئاً نتوسّل إلى الله به أعظم من قولنا لا إله إلا الله , هذه الكلمة التي نرجو إن شاء الله بها أن نُعصم وأن نسلم وأن ننجو , هذه أعظم ذخيرة يدخرّها المؤمن عند الله ـ عزوجل ـ كلمة التوحيد وإيمانه بالله عزوجل , لذلك هؤلاء المؤمنون لم يتقربّوا إلى الله عزوجل ولم يتوسلّوا إليه بغير إيمانهم وتصديقهم بالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ليس بأعمالهم وليس بجدّهم واجتهادهم ولا جهادهم ولا الخير الذي بذلوه , وإنما تقربّوا إليه وتوسلوا إليه بإيمانهم وتصديقهم للنبيّ وهذا أعظم ما يُتوسل به المؤمنون بإيمانهم بالله وتصديقهم لرسوله , وهذه هي التي نرجو بها أن يُكفّر عنا ربّنا سيئاتنا (فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا) الغَفْر: بمعنى التغطية والستر , اغفر ذنوبنا أي استرها وتجاوز عنا (وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا) فاستر ذنوبنا بفضلك وكفّر سيئاتنا وذلك بتوفيقنا للعمل الصالح , فقوله: (فاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا) هذا كما تقدّم معنا في الدرس السابق أنّها ألفاظ مُتقاربة في المعنى مُتباعدة في لفظها , فبعض أهل العلم يقول إنّ التكفير والمغفرة بمعنى واحد وبعضهم يحمل هذه على معنى وتلك على معنى , فمغفرة الذنوب سِترها، والتَّكفير يكون بعمل الصالحات (وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ) انظروا كمال الخضوع لله ـ عز وجل ـ ومعرفة مَقَامِه ـ عز وجل ـ أنّهم سألوا الله أن يتوَفَّاهم مع الأبرار بان يكونوا من الأبرار الذين يتوفاهم , فهم لم يثِقوا بما عندهم من العمل ولا بما عندهم من العلم بل علِموا أنّ ذلك قد يحول ويزول وأنّ ذلك قد يتقلّب ويتصرّف ويتحوّل ولهذا فزِعوا إلى الله عزوجل أن يتوفاهم مع الأبرار أي أن يُثبتِّهم على الإيمان حتى يموتوا كما يموت الأبرار .هذا معنى (وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ) فالتوفّي مع الأبرار أن يُوَّفقوا للعمل الصالح وأن يموتُوا على العمل الصالح
ثمّ قال الله ـ عز وجل ـ عنهم: (رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَاد) ثمّ سألوا الله ـ عز وجل ـ بعد ذلك أن يُعطيهم ما وعدهم على ألسنة رسله وقد وعد الله عباده المؤمنين على ألسنة رسله بأمور:· وعدهم أولاً بهدايتِهم إلى الحقّ وسبيل الرشاد والطريق المُوصل إليه .
· وعدهم أيضاً بالنصر على عدوّهم والتمكين لهم في الأرض .
· ووعدهم أيضاً بدخول الجنّة والسلامة من النار , وهذه أعظم الموعودات التي وعد الله بها عباده المؤمنين الذين اتّبعوا رسله (وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ) في الدنيا من التوفيق والهداية والنصر (وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ) أي لا تفضحنا يوم القيامة , ومعنى ذلك أي لا تفضحنا بذنوبنا التي ارتكبناها في الدنيا، ولا تفضحنا بعذابك لنا يوم القيامة ولا تفضحنا بدخول النار يوم القيامة (إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَاد) فالله ـ عز وجل ـ لا يُخلف وعده لأنّه القادر والمالِك فلا يمنعه شيء من الوفاء بما وعد سبحانه وبحمده وتبلغ هذه الآيات العظيمة وهذا التذلُل لله ـ عز وجل ـ ومناجاة الله والخضوع بين يديه هذا المبلغ , فتنزل الآيات للإجابة عليه.
وتأمّلوا أنّ الإجابة تأتي مُبتدئةً بحرف "الفاء" (فَاسْتَجَابَ لَهُمْ) يدلّ على أنّ هذه الإجابة جاءت بعد الدعاء مُباشرة , قال الله ـ عز وجل ـ : (فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ) وانظروا اللفظ في الآية حيث قال الله: (فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ) فذكر لفظ الربوبية , ولفظ الربوبية مرتبطٌ بالإنعام والإحسان ولذلك ناسب أن يُذكر , ما قال فاستجاب لهم الله , وإنما قال: (فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ) لأنّ لفظ الربوبية يتعلّق بالإنعام والخلق والإيجاد والعطاء , ولذلك قال: (فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ) أي استجاب لهم دعاءهم وما سألوا الله , ثم قال سبحانه وبحمده: (أنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم) يعني استجاب دعاءهم قائلاً لهم: (أنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم) أي لا أُضيع ثواب عاملٍ عمل منكم سواء عَمِل قليلاً أو كثيراً سواء كان العامِل ذكراً أم أُنثى (بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ) فأنتم مِثل بعض في أصل خلقكم , أنتم كلكم أبناء آدم من ذكرٍ وأنثى (بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ) يعني مُتساوون في التكليف , فأنتم مُتساوون في أصل الخلق مُتساوون في التكليف , ولذلك لا يضيع الله أجر العاملين من الرِّجال ومن النِّساء , وهذا من فضل الله ـ عز وجل ـ ورحمته وعدله , فلا يزيد لذكرٍ لأنّه ذَكَر ولا ينقص لأنثى لأنَّها أنثى , بل الله يُوفّي لكل عاملٍ عمله ولا يُضيع أجره .
ثم قال ـ عزَّوجل ـ نصّ على طائفةٍ من العاملين , قال: (فَالَّذِينَ هَاجَرُواْ) يعني هاجروا من بلادهم في سبيل الله , لم يُهاجروا تجارةً ولا مغنماً ولا مكسباً وإنّما هاجروا في سبيل الله (فَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ) يعني أَخرجهم الكفار من دِيارهم وهذا أصدق ما ينطبق على المُهاجر , أوَّل ما يدخل في ضمن هذه الآية المهاجرون (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) فأول من يدخل في ضمن فضل هذه الآية المُهاجرون , ثم من جاء بعدهم مّمن كان على صفتهم (فَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي) يعني آذاهم الناس , لقِيَهم الأذى في أنفسهم وأموالهم وأبدانهم وأهليهم , أنواع الأذى الذي قد يصل إلى القتل , وأُوذوا ليس على مغنمٍ دنيوي ولا على عرضٍ من عرض الدنيا وإنّما أوذوا في سبيل الله أي لأجل الله ـ عز وجل ـ لأجل إيمانهم لأجل إتبّاعهم لأجل جهادهم , لأجل ذلك كان الأذى عليهم (وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُواْ وَقُتِلُواْ لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ) قاتَلوا أعداءهم وقُتلوا في ذلك (لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ) هؤلاء الذين على هذه الصفة وعدهم الله بأعظم الثواب فقال: (لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ) يعني لأُغطّي سيئاتهم وأتجاوز عنها ولا أُحاسبهم ولا أؤاخذهم عليها , وبعد التكفير عن السيئات أُدخلهم الجنّة مقاماً يستقرّون فيه , هذه الجنّة التي تجري من تحتها أي من تحت قصورها الأنهار , ثمّ قال الله ـ عز وجل ـ : (ثَوَابًا مِّن عِندِ اللّهِ) يعني هذا الذي أعطاهم الله جزاءً على أعمالهم (وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ) عنده ـ عز وجل ـ أحسن الثواب , عنده من الثواب ومن النعيم ما لا يخطر على قلبِ بشر, ما لا عينٌ رأت ولا أُذنٌ سمعت ولا خطَر على قلبِ بشر ,[9] هذا من النعيم الذي أعدّه الله ـ عز وجل ـ لعباده المؤمنين حتى مجرّد أن يخطر في بال الإنسان لا يَرِد في باله , فضلاً عن أن يراه أو يسمع به أو يكون قد جرّبه أو توقعه , فنسأل الله الكريم من فضله.
بعد هذا قال الله ـ عز وجل ـ : (لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي الْبِلاَدِ مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ) يُخاطب الله نبيّه يقول: يا أيّها النبيّ ـ عليه الصلاة والسلام لا يغررُك ويخدعك تقلُّب الذين كفروا في البلاد يعني تنقُلّهم فيها حيث شاءوا وتمكنّهم منها , هذا التمكّن القائم على قدرتهم على التحكّم فيها , قُدرتهم على التنقل بين فِجاجها وسُهولها وجبالها , تمكنّهم من أسباب القدرة والقوّة وتسلطّهم في الأرض , فإنّ هذا كله (مَتَاعٌ قَلِيلٌ) مهما كان , في النهاية سيذهب الإنسان ويرحل عنه ويدعه (مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ) الدنيا بكل ما فيها من نعيم هي متاع , وفي مُقابلها النّار حيث قال الله: (ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ) سمّى ذلك متاعاً قليلاً يعني يزول , وفي النار قال مأوى , وقلنا إنّ المأوى هو: المكان الذي يرجع إليه الإنسان ويستقرّ ويأوِي فيه , معنى مأواه جهنّم أي أنّ جهنّم هي مَقرُّه , وهذه ترد كثيراً في القرآن الكريم أن يُذكر أنّ جهنّم هي المأوى والمقرّ والمستقرّ , وهذه من الأدلة التي استدلّ بها أهل السنّة والجماعة على خلود أهل النّار في النار فإنَّها مستقرّ لهم ومقام , ويؤكدّ لك قوله: (خالدين فيها) وفي مواضع أخرى: (خالدين فيها أبداً) ثم قال الله ـ عز وجل ـ : (مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ) المِهَاد هو الفِراش, أي بِئس فراشهم الذي يفترشونه النار, وتأمّلوا كيف يكون هذا الفراش الذي هو من النار يفترشونه ويُمهدونه؟!!
في مُقابل هؤلاء قال الله: (لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلاً مِّنْ عِندِ اللّهِ وَمَا عِندَ اللّهِ خَيْرٌ لِّلأَبْرَارِ) اتّقوه فآمنوا به , واتّقوه فعمِلوا ما أمرهم به واجتنبوا ما نهى عنه ـ عز وجل ـ فحقَقُوا التقوى له, هؤلاء المُتقّون لهم (جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَاالأَنْهَارُ) الجنّات أصلها من الجَنّ وهو السَّتر والمقصود به البساتين التي تُغطّيها الأشجار , كثيفة الأشجار حتى تكون مُغطّاة , هذه هي البساتين إذا كان شجرها كثيفاً يُغطّيها ويُجِنُّها ويسترها تُسمّى جنّات , أي ليس جنّة واحدة , وإنّما جنّات , هذه الجنّات (تَجْرِي مِن تَحْتِهَاالأَنْهَارُ) أي من تحت قصورها وهذه أكمل صُور النعيم الذي يتخيّله الإنسان وإلاّ فالجنّة فيها ما هو أعظم من ذلك (خَالِدِينَ فِيهَا) يعني مُقيمين ماكِثين فيها ,أصل الخلود طُول المُكث في المكان يُسمّى ذلك خلوداً (خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلاً مِّنْ عِندِ اللّهِ) هذا النعيم الذي أُعطوا إيّاه ونزل عليهم وكافأهم الله به هو نُزٌل من عند الله , وأصل النُزُل أول ما يُعَدّ للضيف عند نزوله, هذا النَّعيم يأخذونه وينالونه أول نزولهم إلى الجنّة (نُزُلاً مِّنْ عِندِ اللّهِ وَمَاعِندَ اللّهِ خَيْرٌ لِّلأَبْرَارِ) ما عند الله من النعيم والثواب والجزاء (خَيْرٌ لِّلأَبْرَارِ) أي خيرٌ للمتقّين المُحسنين أعمالهم , وقوله: (وَمَا عِندَ اللّهِ خَيْرٌ لِّلأَبْرَارِ) في مُقابل ما يُتمتّع به الكفار في الدنيا من النَّعيم فإنّ ذلك النعيم يحول ويزول , أمّا نعيم أهل الجنّة فإنه باقٍ خالد , ولذلك جاء في الحديث[10]: أنّه يُؤتى بأنعم أهل النار في الدنيا , أكثر أهل الدنيا نعيماً فيُغمس في النار غمسة واحدة - يُدخل في النار ويُخرج منها - ثم يُقال يا فلان هل رأيت نعيماً قط؟! هل مرّ بك نعيماً قطّ , يقول: لا وربي ما رأيت نعيماً قطّ وما مرّ بي نعيمٌ قطّ, وفي مُقابله يُؤتى بأبأس أهل الدنيا من أهل الجنّة فيُغمس في الجنّة غمسة واحدة , ثم يُقال يا فلان هل مرّ بك بؤسٌ قط؟! هل رأيت بلاءً قط؟ يقول لا وربي , وهذا مجرّد الغمسة!!
وأمّا أقلّ أهل الجنّة منزلة[11] رجلٌ يدخل الجنّة بعد أن يدخل الناس الجنّة وينزِلون فيها منازلهم حتى يظنّ أنّه لم يبقَ له فيها منزلة , فيقول له الله ـ عز وجل ـ : فإنّ لك مِثَل مَلِك من ملوك الدنيا - أيّ لك من النعيم مِثَل نعيم مَلِك من ملوك الدنيا - فلا يكاد يُصدّق الرجل من عِظم النعيم الذي ينتظره , ثم يقول: ولك مثله ومثله ومثله , فيقول الرجل قد رضيتُ يا ربي قد رضيت، قد رضيت , يعني نعيم أقلّ أهل الجنّة نعيمهم مُضاعف أضعافاً كثيرة على ملِك من ملوك الدنيا , هذا أقلّ أهل الجنّة منزلة ,نسأل الله الكريم من فضله .
ثم قال الله ـ عز وجل ـ بعد ذلك: (وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلّهِ لاَ يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً أُوْلَـئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ) يقول الله ـ عز وجل ـ إنّ أهل الكتاب ليسُوا سواءً في كل أحوالهم , فإنّ من أهل الكتاب (لَمَن يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ) يعني يُصدِّق بالذي أُنزل إليكم (وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَآأُنزِلَ إِلَيْهِمْ) قدّم إيمانهم يما أُنزل إلى النبيّ لأنّ من آمن من أهل الكتاب بما أُنزل إلى النبيّ , فقد آمن قطعاً بما أُنزل إليهم في كتبهم السابقة ولذلك قدّم ذكرهم , يعني من أهل الكتاب من يُؤمن بكتبهم لكن لا يؤمن بالذي أُنزل وهذا لا ينفعه , ولهذا قدّم ذكرهم قال: (لَمَن يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلّهِ)
· فيُؤمنون بما أُنزل إلى النبيّ وما أُنزل إلينا من الحقِّ والهدى .
· ويؤمنون بما أُنزل إليهم في كتبهم
· ولا يُفرّقون بين رُسل الله وهم خاضعين مُتذلِلين لله رغبة في ثوابه ورهبةً من عقابه
· والوصف الرابع لهم (لاَ يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً) يعني لا يستبدلون بآيات الله ثمناً قليلا , وليس المقصود أنّ هذا الثمن قليل فلو كان الثمن كثيراً لاستبدلوه ولكن هذا كما ذكرنا سابقاً من الأوصاف الكاشفة, يعني لا يستبدِلون ثمناً مهما كان هذا الثمن ولو كان الدنيا كلها فإنّه قليلٌ أمام الإيمان بالله .
هؤلاء الموصوفون بهذه الصفات صفة الإيمان بالله وما أُنزل إلى النبيّ وما أُنزل إليهم والخشوع لله وعدم الشراء بآيات الله ثمناً قليلاً هؤلاء (لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ) لهم ثوابهم عند الله وهذا الثواب عظيم لأنّه من الله وهذا الثواب يأتيهم سريعاً لأنّ الله ـ عز وجل ـ سريع الحساب والجزاء على الأعمال.
ثم قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) بهذه الآية الكريمة تُختم هذه السورة العظيمة , والحقيقة إنّ هذه الخاتمة هي تلخِيص لمضمون هذه السورة فالمُؤمن مطلوبٌ منه أن يصبر على تكاليف الشريعة وعلى أقدارِ الله التي تُصيبه , ومطلوبٌ منه أيضاً أن يُصابر أيّ أن يُغالب الكفار في الصبر , فلا يكون صبر الكفار أعظم من صبر المؤمنين بل الواجب على المؤمنين أن يكون صبرهم أشدّ لأنّنا نصبر ونحن نرجو الثواب وأولئك يصبرون ولا ثواب لهم , (وَرَابِطُواْ) يعني أقيِموا على الجهاد في سبيل الله , وهذا أول المعاني التي ينصرِف إليها معنى الرباط , لكنّ المقصود بالرباط أعمّ , الرباط على هذا الدين حفظاً له وقياماً به وذوداً عن حياضِه في شتّى الميادين , وهذا من الرِباط الذي أمر به الله ـ عز وجل ـ (وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) واتقّوا الله بامتثال أوامِره واجتناب نواهِيه لعلّكم تنالُون مطلوبكم بدخول الجنّة والسلامة من النّار أجارنا الله منها , حقيقة هذه الآية الكريمة هي تلخِيص لمضمون هذه السورة العظيمة بتحقيق هذه الصفات العظيمة التي اختتم بها السورة الإيمان، والصبر، والمصابرة والمرابطة، وتقوى الله ـ عز وجل ـ يُحقِقّ بها العبد الفلاح والنجاح يوم القيامة.
نسأل الله ـ عز وجل ـ أن يجعلنا ممّن حققّ هذه الصفات وأن يسلك بنا سبيل أهلها , هذا والله أعلم وصلى الله وسلّم وبارك على نبيّنا محمد.
[1] سورة آل عمران ١٨٥
[2]فائدة حول الصفة الكاشفة وجدتها في موقع المشكاة وأنقلها هنا للفائدة (سم الله ، والصلاة والسلام على رسولالله ، أما بعد يقول شيخ الإسلام ، ، في "الإيمان" ، في قوله تعالى : (استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم) : هو لايدعو إلا إلى ذلك ، (أي أوامر الإحياء) ، والتقييد هنا لا مفهوم له ، فإنه لا يقعدعاء لغير ذلك ولا أمر بغير معروف ، وهذا كقوله تعالى : (ولا تكرهوا فتياتكم علىالبغاء إن أردن تحصنا) ، فإنهن إذا لم يردن امتنع الإكراه ، ولكن في هذا بيان الوصفالمناسب للحكم . اهــــ
(فالوصف المناسب للاستجابة للرسول هو دعاؤه لما فيه الحياة ، والوصف المناسب لتحريم إكراه الفتيات على البغاء هوامتناعهن عنه وإرادتهن التحصن) ، فمفهوم المخالفة هنا ، (أي وإن دعاكم لما لايحييكم ، فلا تستجيبوا له ، وإن لم يردن التحصن فأكرهوهن) ، لا اعتبار له ، لأنالكلام خرج مخرج الغالب ، فالغالب على أوامر الرسول ، بل كلها ،أوامر خير تدعو للحياة الكاملة في الدارين ، والغالب على الفتيات المحترفات للبغاء، أن أسيادهن يجبرونهن عليه .
ثم يستطرد شيخ الإسلام ، بالاستشهاد بآية : (ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه إنه لا يفلحالكافرون) ، (فكل إله غير الله لا برهان لعابده به) ، وقوله تعالى : (ويقتلونالنبيين بغير الحق) ، (وقتل الأنبياء لا يكون بحق أبدا) ، ومنه قوله تعالى : (سأصرفعن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق) ، فالاستكبار في الأرض لا يكون بحقأبدا) ، فالتقييد في جميع هذا البيان والإيضاح لا لإخراج وصف آخر ، ولهذا يقول من يقول من النحاة : الصفات في المعارف للتوضيح لا للتخصيص .
وضرب الشيخ، ، مثالا بقوله تعالى : (سبح اسم ربك الأعلى ، الذي خلق فسوى ، ........) ، فكلها صفات للفظ (ربك) ، وهو معرفة فذكرها لإيضاح صفات هذا الرب ، لا لتخصيصه من باقي الأرباب ، فلا رب سواه .
خلاف قوله تعالى في قصة بقرة بنيإسرائيل : (بقرة صفراء) ، ثم ذكر عدة صفات لهذه البقرة ، ولفظ (بقرة نكرة) ، وجنس البقر أفراده كثيرة ، خلاف جنس الرب ، فلا رب إلا الله الواحد ، فطلبوا تخصيص هذاالجنس ، فخصص بصفة اللون الأصفر ، ثم طلبوا تخصيصا ثانيا ، وتخصيصا ثالثا ، وهكذا ،وكلما خصص جنس البقر ، بما طلبوه ، ضاقت دائرة الاختيار ، حتى وصل التخصيص إلى فردواحد فقط ، تنطبق عليه الصفات التي سألوا عنها .
[3] في صحيح مسلم باب تَحْرِيمِ الظُّلْمِ. عَنْ أَبِى ذَرٍّ عَنِ النَّبِىِّ -- فِيمَا رَوَى عَنِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَّهُ قَالَ « يَا عِبَادِى إِنِّى حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِى وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلاَ تَظَالَمُوا يَا عِبَادِى كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلاَّ مَنْ هَدَيْتُهُ فَاسْتَهْدُونِى أَهْدِكُمْ يَا عِبَادِى كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلاَّ مَنْ أَطْعَمْتُهُ فَاسْتَطْعِمُونِى أُطْعِمْكُمْ يَا عِبَادِى كُلُّكُمْ عَارٍ إِلاَّ مَنْ كَسَوْتُهُ فَاسْتَكْسُونِى أَكْسُكُمْ يَا عِبَادِى إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا فَاسْتَغْفِرُونِى أَغْفِرْ لَكُمْ يَا عِبَادِى إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّى فَتَضُرُّونِى وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِى فَتَنْفَعُونِى يَا عِبَادِى لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا زَادَ ذَلِكَ فِى مُلْكِى شَيْئًا يَا عِبَادِى لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِى شَيْئًا يَا عِبَادِى لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِى صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِى فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِى إِلاَّ كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ يَا عِبَادِى إِنَّمَا هِىَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلاَ يَلُومَنَّ إِلاَّ نَفْسَهُ ». قَالَ سَعِيدٌ كَانَ أَبُو إِدْرِيسَ الْخَوْلاَنِىُّ إِذَا حَدَّثَ بِهَذَا الْحَدِيثِ جَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ.
[4] سورة آل عمران١٨٩
[5] سبق ذكره
[6]دلائل النبوة للبيقهي وسيرة بن هشام (قال بن إسحاق وحدثني عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم قال حدثت عن صفية بنت حيي بن أخطب أنها قالت كنت أحب ولد أبي إليه وإلى عمي أبي ياسر لم ألقهما قط مع ولد لهما إلا أخذاني دونه قالت فلما قدم رسول الله المدينة ونزل قباء في بني عمرو بن عوف غداً عليه أبي حيي بن أخطب وعمي أبو ياسر بن أخطب مغلسين قالت فلم يرجعا حتى كانا مع غروب الشمس قالت فأتيا كالين كسلانين ساقطين يمشيان الهوينى قالت فهششت إليهما كما كنت أصنع فوالله ما التفت إلي واحد منهما مع ما بهما من الغم قالت وسمعت عمي أبا ياسر وهو يقول لأبي حيي بن أخطب أهو هو قال نعم والله قال أتعرفه وتثبته قال نعم قال فما في نفسك منه قال عداوته والله ما بقيت) .
[7] في صحيح البخاري المتشبع بما لم ينل وما ينهى من افتخار الضرة عن هشام حدثتي فاطمة عن أسماء : أن امرأة قالت يا رسول الله أن لي ضرة فهل علي جناح إن تشبعت من زوجي غير الذي يعطيني . فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم ( المتشبع بما لم يعطي كلابس ثوبي زور ) وفي صحيح مسلم باب النَّهْىِ عَنِ التَّزْوِيرِ فِى اللِّبَاسِ وَغَيْرِهِ وَالتَّشَبُّعِ بِمَا لَمْ يُعْطَ، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَقُولُ إِنَّ زَوْجِى أَعْطَانِى مَا لَمْ يُعْطِنِى فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -- « الْمُتَشَبِّعُ بِمَا لَمْ يُعْطَ كَلاَبِسِ ثَوْبَىْ زُورٍ ».
[8] سورة آل عمران 200
[9]صحيح البخاري باب قوله فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين حدثنا علي بن عبد الله حدثنا سفيان عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال
: ( قال الله أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ) . قال أبو هريرة اقرؤوا إن شئتم فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين )
[10] قال رسول الله - - (يُؤتى بأنعم أهْلِ الدنيا من أهل النارِ فيُصبغُ في النارِ صبغةً ثم يُقال له يا ابْن آدم هل رأيْت خيراً قطُّ؟ هل مرّ بك نعيمٌ قط؟ فيقولُ لا والله يا ربِّ! ويُؤتى بأشدِّ الناسِ بؤساً في الدُّنيا من أهلِ الجنةِ فيُصبغُ صبغةً في الجنةِ فيُقال له: يا ابْن آدم! هل رأيت بُؤساً قطُّ؟ هل مَرَّ بك من شدةٍ قطُّ؟ فيقولُ لا والله يا ربِّ! ما مر بي بُؤسٌ قطُّ، ولا رأيتُ شدةً قطُّ) صحيح مسلم والبيهقي.
[11] صحيح مسلم باب أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْزِلَةً فِيهَا.حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ حَدَّثَنَا مُطَرِّفٌ وَابْنُ أَبْجَرَ سَمِعَا الشَّعْبِىَّ يَقُولُ سَمِعْتُ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ يُخْبِرُ بِهِ النَّاسَ عَلَى الْمِنْبَرِ قَالَ سُفْيَانُ رَفَعَهُ أَحَدُهُمَا - أُرَاهُ ابْنَ أَبْجَرَ - قَالَ « سَأَلَ مُوسَى رَبَّهُ مَا أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْزِلَةً قَالَ هُوَ رَجُلٌ يَجِىءُ بَعْدَ مَا أُدْخِلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ فَيُقَالُ لَهُ ادْخُلِ الْجَنَّةَ. فَيَقُولُ أَىْ رَبِّ كَيْفَ وَقَدْ نَزَلَ النَّاسُ مَنَازِلَهُمْ وَأَخَذُوا أَخَذَاتِهِمْ فَيُقَالُ لَهُ أَتَرْضَى أَنْ يَكُونَ لَكَ مِثْلُ مُلْكِ مَلِكٍ مِنْ مُلُوكِ الدُّنْيَا فَيَقُولُ رَضِيتُ رَبِّ. فَيَقُولُ لَكَ ذَلِكَ وَمِثْلُهُ وَمِثْلُهُ وَمِثْلُهُ وَمِثْلُهُ. فَقَالَ فِى الْخَامِسَةِ رَضِيتُ رَبِّ. فَيَقُولُ هَذَا لَكَ وَعَشَرَةُ أَمْثَالِهِ وَلَكَ مَا اشْتَهَتْ نَفْسُكَ وَلَذَّتْ عَيْنُكَ.فَيَقُولُ رَضِيتُ رَبِّ. قَالَ رَبِّ فَأَعْلاَهُمْ مَنْزِلَةً قَالَ أُولَئِكَ الَّذِينَ أَرَدْتُ غَرَسْتُ كَرَامَتَهُمْ بِيَدِى وَخَتَمْتُ عَلَيْهَا فَلَمْ تَرَ عَيْنٌ وَلَمْ تَسْمَعْ أُذُنٌ وَلَمْ يَخْطُرْ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ ». قَالَ وَمِصْدَاقُهُ فِى كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ (فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِىَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ) الآيَةَ.
----------------------------------
مصدر التفريغ / ملتقى أهل التفسير
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق