الحلـقـ الثانية والعشرون ـة / الأسباب المُهيأة لقبول الحق

سلام الله عليكم ورحمة الله وبركاته الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين..
وعدت في الحلقة الماضية أن نقف عند قوله تعالى (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ (52) وَإِذَا يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ )
هناك أسباب تهيؤ لقبول الحق -يتفقد الواحد منا نفسه- ماهي هذه الأسباب؟
يقول الله جل وعلا بعدها (أُولَٰئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا) لاحظوا ( بِمَا صَبَرُوا) يبين الله جل وعلا أهمية الصبر هنا
 (أُولَٰئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (54) (وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ) طبق هذه الصفات، هذه أسباب هداية فمن وُفِق لهذه الأسباب وُفِق للهداية، وهي من محاسن الأخلاق لأنها تدلّ على التجرد وعلى الصِّدق وعلى الإخلاص فيُهدى الإنسان (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) [العنكبوت:٦٩] نقف معها أو مع بعضها آية آية:
/ (بِمَا صَبَرُوا) الصبر عظيم أيها الإخوة (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ) [السجدة:٢٤] ألست تريد أن تكون إماما؟ فرعون ومن معه أئمة في الشر والله جل وعلا وعد بني إسرائيل أن يكونوا أئمة في الخير وتحقق ذلك (وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَىٰ عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ) [الدخان:٣٢]، ألست تدعو وتقرأ في القرآن في آخر صفات عباد الرحمن (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا ) [الفرقان:٧٤] كل هذه تتحقق في هذه الصفات ( بِمَا صَبَرُوا) الصبر أمره عظيم.
قد يقول قائل: هذه الآيات في بني إسرائيل الذين آمنوا أي في أهل الكتاب الذين آمنوا (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ).
أقول لك خير من ذلك بيّن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال -في معنى الحديث- (يا ليتني رأيت إخواني، قالوا: ألسنا إخوانك؟ قال: أنتم أصحابي، إخواني الذين لم يأتوا بعد) هذا لي ولك ولمن قبلنا ومن بعدنا، هؤلاء الذين هم قابضون على دينهم كالقابض على الجمر أي صبروا على الحق في زمن الغربة، القضية ليس أن يندرج الناس مع الناس، يندرج الإنسان مع الناس لعاداتهم الباطلة بل يثبت على الحق -الثبات- ( بِمَا صَبَرُوا).
/ (وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ) يا أخي..يا مُحِب في هذا الشهر الكريم، في شهر الغفران والرحمة، في هذا العشر المباركة وأنت ستول وتقول دائما وقد قلت "اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني" (وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ) لاحظوا..تأملوا هذه الآية ليس فقط أنهم يعفون فقط بل يقابلون السيئة بالحسنة إذا أساء لهم أحد أحسنوا إليه (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) هذه المعاني تغيب عن البال (وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ) فخذها قاعدة كلما أصابك سيئة من أحد قابلها بالحسنة سترى جنة في الدنيا عجيبة من لم يدخلها قد لا يدخل جنة الآخرة، وإن كان المعنى فيه تجوُّز أي قد يعاقب بذنوب وقد يعفو الله عنه -نسأل الله أن يعفو عنا-.
(وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ) ماذا بعدها؟ (وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ) نحن في شهر الخير، كان النبي صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الخيل المُرسلة وأجود بذلك من الريح المرسلة وكان أجود ما يكون في رمضان صلى الله عليه وسلم، كريم صلى الله عليه وسلم.
كريم ليس فقط في ماله مع أن البعض أول ما نقرأ الآية أول ما يتبادر للذهن جانب المال، لاشك، لكن أيضا رزقك الله السمع رزقك الله العِلم رزقك الله الجاه أنفق منه، كل نعمة لها نفقة، نعم الآية مباشرة في النفقة -المال- لكن تدخل في أي نفقة، أي نعمة أنعمها الله عليك فلها زكاة فافعل ذلك وبذلك يزيد، يزيد علمك بالنفقة، يزيد مال بالنفقة، يزيد جاهك بالنفقة أي بالشفاعة للناس، يزيد حِلمك بالنفقة أي بأن تكون حليما ... وهلم جرا. تكون مرحوما بمقدار رحمتك بالخلق.
/ ثم يقول بعد ذلك (وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ) سبحان الله!! تجد البعض يركز على هذا المعنى في رمضان -ولاشك هذا مهم- (فإن سابّه أحد أو شاتمه فليقل إني امرؤ صائم) (من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه) لكن مع أهمية هذا في رمضان وورود الأحاديث فيه أن يكون منهجا لك في حياتك، هؤلاء الذين آتاهم الله الأجر مرتين وقبل ذلك هم آمنوا وهيأ لإيمانهم بالنبي صلى الله عليه وسلم بينما صدّ آخرون من أهل الكتاب وبخاصة اليهود بل كانوا أشدّ الناس عداوة هؤلاء الذين آمنوا من أسبابها إذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا (سَلَامٌ عَلَيْكُمْ) ليس السلام التحية هنا..لا، هي المتاركة، الإعراض (سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ) (وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ) ميزان لأخلاقك هل أنت إذا سمعت اللغو أعرضت عنه؟ سواء سباً أو شتما أو حراما (وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آَيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ ) [الأنعام:٦٨] (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا) ماذا يقول سبحانه وتعالى (فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ) [سورة النساء:١٤٠] أمرنا بالإعراض، الخروج، الترك.
 (وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا) [الفرقان:٧٢] (وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَاماً) [الفرقان:٦٣]
أخلاق عظيمة جدا أخلاق محمد صلى الله عليه وسلم (فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ ۚ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) [الزخرف:٨٩] آيات عظيمة جدا في القرآن تأمر  بالصفح  والإعراض وعدم مجارات الجاهلين (سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ) هذا جهل وإذا بدأ الإنسان يُرادّ الجاهل فهو مكافئ له، نعم وجزاء سيئة سيئة مثلها. قد يقول قائل: أليس من حقي أن أدافع؟ أقول لا.. من حقك لكن تُجاريه لا يليق به (وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَٰلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) [الشورى:٤٣] (وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) [فصّلت:٣٥] لماذا أقول هذا؟ لأني أرى البعض عندما يأتي بعض السفهاء ويقعون في أعراضهم يدخل معهم في جدل ونقاش ورد، لا يا أخي الكريم إن كان ولابد فبيّن ما يدفع عن نفسك التهمة أو غيرها وإلا فالأصل هو الإعراض أسلم لك (وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ) مادام لغوا فأعرض عنه (وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ) الله سيحاسبنا سبحانه وتعالى وليس أنتم (سَلَامٌ عَلَيْكُمْ) يعني نترككم (لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ) لا يليق بالإنسان أن يُخالط الجاهل، أن يكون فيه صفة من صفات الجاهلين (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) من صفات عباد الرحمن  ونحن حريّ أن نتخلّق بها (وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا).
 من صفاتهم (وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَاماً) لاحظ (سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ) هنا في القصص، وفي سورة الفرقان (وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَاماً) مادمت تعرف أنه جاهل. أعطي مثال قريب يقرِّب المعنى: لو كان فيه مجنون معروف عند الناس وبدأ يشتم إنسان هل يليق بعاقل يبدأ يُشاتمه؟! سيضحك الناس على هذا الرجل ليس على المجنون، هذا مجنون أعرض عنه دع الناس يقولون هذا مجنون إذا كان ما يعرف أنه مجنون ولو شاتمه ورد عليه قال الناس لا هذا مجنون. كذلك الله سبحانه وتعالى يقول عن هؤلاء أنهم جُهّال، حكم الله عليهم ووصفهم في أكثر من موضع في القرآن أنهم جُهّال (لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ) سبحان الله!! هل يليق بالإنسان أن يدخل في هذا المجال، بل في رمضان إن سابّه أحد أو شاتمه فيقل إني صائم لا يليق بي أن أتحدّث بمثل ما تقول.
كل هذه المعاني تساعد على تحقيق هذه الصفة، هذه الأخلاق أخلاق النبوة نحن حريون أن نتقمصها، اضبط لسانك يا أخي الكريم.
أعرف علماء من مشايخنا -وهم قدوتنا ولاشك أن قدوتنا هو محمد صلى الله عليه وسلم- لا أذكر وقد عرفتهم سنوات طويلة قالوا كلمة في الرد على خصومهم، نعم يُبيّنون الحق لا يُداهنون في دين الله لكن إذا كان الأمر يتعلق بالنفس أعرض عنها، يقول أحد العلماء: ل"ا يستطيع الإنسان أن يقوم بالخير والدعوة إلى الله إلا أن يتصدق بشيء من عِرضه للناس" أي سينالك شيء من الناس مادمت سلكت هذا الطريق سيأتيك الناس (لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ) المُحاسب الله جل وعلا سلام عليكم (فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ) [الزخرف:٨٩] انظر تكررت كلمة (سلام) أي ترك..إعراض لا يكون فيه مقابل (لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ) لا نحاكيهم لا نرُد عليهم، لو أخذنا بهذه الصفة والله لاستقامت بيوت، كم أتألم عندما أرى مثل ذلك يقع بين الزوج والزوجة، شتيمة وكلام، وبين بعض الآباء وأبنائه، وبين بعض الجيران، بين بعض الأقارب، وتتسع الدائرة، لو أخذنا بهذه الآيات (سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ) اجعلها منهجا في حياتك (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) [فصلت:٣٤] ولله رأيناها رؤيا العين ولا نحتاج إلى أن نراها فهو قول الله جل وعلا -وهو الحق- ولكن رأينا مثال ذلك (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) سبحان الله ينقلب من عدو إلى وليّ حميم بأسلوبك بطريقتك بمنهجك، يستقِّر بيتك، تستقِّر عائلتك تكون لك هذا الشأن تكون من هؤلاء الأخيار الذين أثنى الله جل وعلا عليهم. فيا أحبتي لا يتسع المقام في مثل هذا المكان وفي هذا الوقت وإن كان ما ذكرته كافيا لمن أراد الحق فلنقل لمن يؤذينا، لمن يشتمنا (سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ).
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.