د. محمد بن عبدالله الخضيري
بسم الله الرحمن الرحيم، إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ومن مُضلات الفتن، من يهدهِ الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله عليه من ربه أفضل الصلاة وأتمّ السّلام .
اللهم انفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً وعملاً يا أرحم الراحمين، اللَّهم اجعل ما تعلَّمناه، وما نقوله وما نسمعه، دائماً وأبداً حجةً لنا لا علينا .
أُحيِّيكم أيُّها الأحبة بتحية الإسلام: فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته،وأُحييّي الإخوة القائمين على مكتب الجاليات ببُريدة أحيّيهم تحية عامّة، وتحية خاصَّة على هذا المجهود المبارك وعلى هذه السُّنة الحسنة والتِّي أحسَبُ أنّ لهم قصَبَ السَّبق في بدء مثل هذه الدورات المكثفة التي تُعنى بتفسير القرآن كُلِّه وفي زمن يسير.
الحديثُ أيُّها الأحبة: سيكون عن هذا المقطع وبدايتُهُ: من الآية الخامسة بعد المائتين من سورة البقرة، وسنستمر في الدُّروس أو في اللقاءات الأربع إلى الآية الرابعة والسبعين أو الخامسة والسبعين بعد المائتين.
السورة أيها الأحبة ونحن في هذا المقطع (وَمِنَ النَّاسِ) ولعلكم لاحظتم أنه في المقطع السابق الذي انتهى عنده أحد المشايخ الفضلاء قبلي أيضا جاء قول الله - سبحانه وتعالى - (فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ) فتكرر في هذه السورة عدد من المواضع يتبين فيها حال الناس في عباداتهم وفي قبولهم للأمر والنهي ، وحالهم مع البعث ، وهذه السورة - وأرجو أن تلتفت لهذا - افتُتحت بقوله - سبحانه وتعالى - (الم*ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ*الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ...) بدأت في ذكر أصناف الناس من المؤمن بالغيب ثن ثنت بعد ذلك ولم تُطل بأحوال الكافرين ، ثم أطالت وفصلت في أحوال المنافقين ، ثم سارة الآيات ومرّ بعد آيات قليلة ضرب المثل للناس فكان الناس في هذا المثل على شقين منهم من يقول (مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً) ومنهم من آمن بهذا المثل . ثم بعد ذلك أيضا سارت الآيات لتبين لنا قصة آدم وموقف الملائكة ثم موقف الشيطان ، كلها أحوال .
ثم أيضا جاءت قصص أخرى في بيان حال بني إسرئيل ، وجاءت قصة بني إسرائيل واستغرقت ما يقرب من بقية الجزء إلى نهاية الجزء الأول في بيان قبول بني إسرائيل وأحوالهم في قبولهم لأمر نبيهم ونهيه وشرعه وتردده ومعارضتهم له ، كل هذا في بيان تلك القصة التي كُررت ، قصة موسى وبني إسرائيل ، ثم جاءت تلك الصورة المشرقة في الامتثال لأمر الله عز وجل وهي قصة أبونا إبراهيم (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ) كيف أن إبراهيم وإسماعيل في طاعة الله - عز وجل - وهم القدوة ، ثم سارت بعد ذلك الآيات وفي ثناياها جاء الأمر في بداية الجزء الثاني من قول الله - سبحانه وتعالى - (سَيَقُولُ السُّفَهَاء مِنَ النَّاسِ) شغب واعتراض كثير من المنافقين على تولي الفتنة ، ثم قال الله تعالى في ثناياها (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا) .
إذا السورة كأنها تُعالج وتُبين قضية في أحوال الناس ، قبولهم وردهم وتلكؤهم في الأمر والنهي وخاصة أن السورة مدنية وجاء فيها كثير من التشريعات فجاءت بتلك المقدمات وبيان لأحوال الناس وأصنافهم بل إن السورة لتُبين أحوال الناس أيضا في محبة الله في قوله تعالى(وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ) ، ثم ذكرت أيضا صنف من أصناف الناس وهم العلماء وأمرتهم بالبلاغ والبيان في هذا الأمر وحُرمة كتم العلم ، ثم بعد ذلك جاءت جملة من التفريعات ، والتفريعات على نوعين جاءت تفريعات عامة في النصف الثاني من الجزء الأول من ذِكر القصاص وذكر الحج والصيام والوصية ثم بعد ذلك ثنت في أواخر الجزء الثاني على جملة من أحكام الأسرة من الإيلاء والطلاق وغيرها من الأحكام كأنَّ الآية تُرشد- ونحن سنبتدئ الآن في الآية التي معنا- يقول الله بعد أن ثـنَّـت - وإن كان كثير من المفسرين قالوا هي تعود لأقرب مذكور- وهو " فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ" . لكن الحقيقة نجد أن تتبُع السورة، بل حتى لو تأملنا في قصص الذين حاجُّوا فيمن أنكر البعث، أو من تردد، أو من كان قلبه مطمئن أيضاً وفي قصة المُتلكِئين في أرض الجهاد، وكيف تميزوا على فريقين، بل أختم ذلك أيضاً بحال الناس مع المال ،خاصة في السُّبعُ الأخير من السورة . ما هو حال الناس مع المال؟*إما إما إنفاق وتجارة مع الله.
*وإما ربا وحرب- وكلهم في مقام المال،أحوال الناس مع المال.
* وكذلك الأخير وهو حال آية الدين، والمُداينة، والبيع والشراء.
فإذن لو تأملنا ونظرنا إلى ما في السورة من وحدة، نجد هذه الوحدة الموضوعية التي قلَّما يُلتفت إليها، وبالذات في هذه السورة التي كثر فيها التشريعات ،والتفريعات.
أعود إلى ما يكون الحديث فيه وعيد يقول الله " وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ "
" وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا " ، ولاحظوا أنَّ الإعجاب هنا وقد ذكر في الآية بيان أن هذا المُتحدث كلامه استُحسن ليس استغراباً فقط ، بل يزيد عليه أنَّه استُحسن؛ وذلك من شدة بلاغته كما قال الله - سبحانه وتعالى - " وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ " .
فمن شِدة الإعجاب به أنه استُحسن كلامه " وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ"، لكن هذا الإعجاب إنَّما هو في الحياة الدنيا وأمّا في الآخرة فعند الله تظهر الحقائق،ويتجلَّى صدق الكلمات.
"وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ" أي :أنه وهو يتكلم ،وبهذا المنطق العجيب من الإقناع، ومن حلاوة اللسان، وقوة البيان، كأنَّه يَشعُر في نفسه، لأن قلبه فيه ما فيه ،فيُشهد الله على ما في قلبه ،يُشهد الله كأنَّه يُقسم للنَّاس ويقول لهم إني قلت هذا، وأنا عندي من الغيرة على الدين، ومن الحب للدين، ومن الخير،ومن ومن... فيقسم لهم بالله أنه صادق؛ لأنه يَشعُـر أنَّ منطوق اللسان غير منطوق القلب، فيأتي بهذه الشهادة ليؤكِّد ما عنده أيضاً من البلاغة والقوة . ولذلك يقول أهل العلم عند هذه الآية أنه ينبغي للمؤمن ألاّ يغتر بالظَّواهر، ولذا ذهب أهل العلم أنه ينبغي الاختبار، والنَّظر، والتدقيق في أحوال الشُّهداء، وأنه لايُصَدَّق القول إلا إذا تُبِع بالعمل. ولذلك قال الله إذا أردتم أن تعرفوا أنَّ هذا الذي يُعجبُ قوله في الحياة الدنيا انظروا في أفعاله . قال الله في صفته " وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا" والصفة الثانية أنه " وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ" وإن كان بعض المفسرين قال " وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا" أن المراد :أنه إذا تكلم في أمور الدنيا يُحسِنُها كل الإحسان، وإذا تكلم في أمور الآخرة لا يعرفُ شيءٌ منها "يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا" لكن هذا المعنى بعيد. ولنبقى مع المعنى القريب : وهو أنه يُعجِـب من يسمع لقوله، فيخدع النَّاس بحسن منطقه، وغيرته، وحبه للدِّين، لكن - عياذاً بالله - هو إذا قال الله في صفته الثالثة: " وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ " اللَّدد بمعنى : ليست الخصومة العادية ،إنما شدة الخصومة - شديد الخصومة- هذه الصِّفة من صفاته ،يعني إذا خاصم كما قال النبي صلى الله عليه وسلّم فجر فهذه أيضاً فيه خصومة ؛لأنه لا يريد لأحد أن يغلبه "وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَام"الصفة الرابعة: التي ينبغي أن نضبط ،وينبغي أن يكون أهل الإيمان عندهم حِسّ، وبصيرة ونظر ثاقب، وفــِراسة أن ينظروا مع قوله في فعله "وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ" . (تولَّى) من ظاهر الآية أنَّ معناه:
* انصَرف أو أدبر، أدبر انتهى القول، فأدبر إلى العـَمل ، وقيل - كما رَجَّحه بعض المفسرين -وقد يكون له شيءٌ من القوة ، كما رجَّحَهُ محمد عبده في المَنار في تفسيره، ونقله عنه رشيد رضا في المنار، ونقله أيضاً عنه القاسمي – في محاسن التأويل- : "وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ" أنَّ الولاية هنا بمعنى السُّلطة، أنه إذا تولى الوِلاية ليست التَّولي إنما الذَّهاب،إنما هي إذا تولى وأمر ونهى وصارت له السُّلطة والأمر والنَّهي -عياذاً بالله - ظَهر ما يخالف ذاك القول الجميل، والغيرة، والمنطق الذي أُعجب به الناس.نعُـود للمعنى الأول، وهو الأشهر، والأكثر عند المفسرين:"وإذا تولى" أدبر.وإذا تولى سعى، العجيب "سعى" وليس "ذهب" .والسَّعي معناه: الإسراع الحثيث -عياذاً بالله- "وإذا تولى سعى" أسرع في الفساد، ،ليس مسيراً عادياً، يعني مع هذا المنطق الجميل لكنّه لَدِدٌ في خُصُومته. " وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ" . إذاً أفعالُه تُخالف أقواله، بل تُخالِفها في مقابلةٍ عجيبة بين قول في غاية الحُسن ويأخُذ بالألباب، وبين فِعلٍ فيه من الانحراف بل والسَّعي للانحراف والإفساد .
"وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ" . قيل في سبب نزولها أنها نزلت في الأخنس الثقفي أنه جاء إلى النبي وأظهر الإسلام ثم لما خرج من عند النبي خرج وكان يخـفي في قلبه ما لا يظهره، وأحرق بعض الزُّروع. لكن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب."وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا" . والسَّير على غير منهج الله فساد كائِناً ما كان هذا المسير.لأنَّ أهل النفاق "وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ" . كما أخبر الله عن حال النَّاس في أول السُّورة " وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ" ولذلك هم يتصَوَّرون أنهم يصلحون، فقال الله " وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ" وهو بفساده سواء كان تولَّى وكانت له من القُوَّة ما كانت. وبالمناسبة بعض المفسرين - أيضاً كما قلت لكم في مسألة التَّولي – قال يظهر أيضاً ممَّا يُرجِّح أنَّ التولي بمعنى الولاية- طبعاً صغرت هذه الولاية أو كبرت-قد تكون ولاية صغيرة أو متوسطة، أو كبيرة؛ لأنه إذا تولّى، دلالة الولاية قال " وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ" . فكونه عزيز، هذا عزيز فيه عزة . فهذا مُرجِّح من خلال الآية على من ذهب من المفسرين للقول الثاني.
ونعود للقول الأول: وهو أنَّه إذا تولى أدبر، وأصبح لا يُـرى خالف فعلُهُ قوله " وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ " . "ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ" . بهذا الانحراف، فهو بانحرافه هذا أظهَرَ الفساد ،بل بدعوته لهذا ،بل ليس مسيره العادي إنَّما بِسَعيه " وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ" والمراد بالحرث:الزرع . والنسل:هو مانتج من البهائم. والبهائم أيضاً تكون على الزُّروع.
" وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ"
أيضاً من الصفة الأخيرة له " وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ" وهذا يدُّ لُكُـم على لَدد خصومته، وعلى بعده عن قوله"وَإِذَا قِيلَ" مع أن المسألة قول "وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ" والمراد هنا بتقوى الله أيّ سِر على منهج الله؛ لأنّه الآن بفساده هذا وسعيه بالفساد، انحرف عن منهج الله وتصوَّر أن ماعنده من أفكار، وماعنده من أُطروحات، وما عنده من حلول أحسن وأفضل ممن جاء من عند الله فيُقال له اتق الله ،عُـد إلى منهج الله " وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ"، قال الله - عز وجل - في الكافرين" بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ" لكن " وَشِقَاق" وهنا أخذته العزة بالإثم، وليست العزة المحمودة " وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ" . إنَّما أخذته العزة مُتلبِّسة بالإثم. وبئست العزة، تعزّزَ من مثله، كيف يُؤمن! . وخاصَّةً إذ كانت متولِّي، أوقد يكون أيضاً معناها - لأنَّ منطقه جميل وعنده من الفصاحة، والبيان. وعنده من العلم في ظاهر الحياة الدنيا ،ما يجعل منطقه غير منطق العامة، أو منطق الذين يأمرونه ،فإذا قيل له – تصوَّر أن ما عنده مما أتقنه من المنطوق، ومن الكلام، ومن السفسطة – أن هؤلاء الذين يقولون له اتق الله أقل منه لايصلح أن يأمرونه وينهوه ،فازداد بغياً على بغيا – "أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ" وليست أي عزة وإنما العزّة الآثمة .
قال - سبحانه وتعالى - " فَحَسْبُهُ" يكفيه "جَهَنَّمُ" قال الله :وبئس المصير؟ لا بل قال "وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ" – نسأل الله العافية- جهنم ليست مهاد ولا محل، لكن احتقاراً له وسخرية به ؛ لأنَّه جاء في مقام العزة فجُعِل جزاؤه جهنم، والمهاد له من هذه النار، هذا حال من الناس، وأرجوا أن نلتفت إلى هذا الحال وألا نغتر بظواهر الناس كائِناَ من كان، حتى لو كان ظاهرهم من الصَّا لحين، فنُفتِّش في أحوالهم، وصدقهم في أفعالهم، القول يُصدِّقه الفعل .قال بعد ذلك :" وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ" انظروا إلى المفارقة "وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا " وهذا "وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ" : جاء في التفسير عند الطبري مسنداً عن علي - رضي الله عنه - قال "من فقه علي - رضي الله عنه - قال :لما قرأ هاتين الآيتين قال عليٌ - رضي الله عنه - (اقتتلا ورب الكعبة)" من هم المقتتلين؟هذا الذي يُعجبك قوله في الحياة الدنيا ويسعى في الفساد، والذِّي يشري نفسه ابتغاء مرضات الله . فرق كبير ولذلك الآية كأنها ترسم أردى المناهج، وأعلى المناهج كما قلت لكم في قصة إبراهيم نموذج، وقدوة .
"وَمِنَ النَّاسِ" يعني ليس كل الناس على هذه الحال السَّيئة الرديئة ،لا هناك أُناس في غاية من البذل لدين الله "وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ" "ويَشري" بمعنى يبيع وهي من الأضداد "وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ" شراء النَّفس باعها لله ،ولذلك " وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ" باعوه، فالبيع والشراء بمعنى الضد ،أمام، وراء من الأضداد .
"وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ" باع نفسه لله ابتغاء مرضات الله، أفلح "قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ"
ينبغي أن يكون كل ما فينا لله، الصلاة، والنُّسك، وأيضاً المحيا والممات- نبيع هذه النفس لله ،وربح البيع .
ولذلك يقال في قصتها أنَّها جاءت في صهيب الرومي - رضي الله عنه - أنه لمَّا قدم إلى مكة لم يكن عنده مال، وتاجَر وأصبح عنده مالٌ كثير فأراد أن يهاجِـر فتبِعوه وكان أيضاً رامياً، فنزل من على دابته ومعه النَّبل، وقال تعلمون أني رامي ومعي السِّيف ،سأرمي بهذا الرمي عليكم وأنتم تتبعوني وأُقاتل بهذا السيف ثم قال - رضي الله عنه - ألا أدلكم على خير من هذا ؟ خذوا مالي ، تأخذون مالي وتدعوني؟ قالوا: نعم - كُلّ مَا لك ياصهيب!! - فتنازل عن المال كله لأجل أن يدعوه ويتركوه يهاجر- فهاجر ولما لقيه عمر على أبواب المدينة قال: ربح البيع، ربح البيع، ربح البيع،ثم قابل النبي - صلى الله عليه وسلم - ،فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : (ربح البيع يا صهيب ) يقال هذه الآية نزلت فيه لكن العبرة كما قلنا بعموم السبب لابخصوصه. (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ) .
وبالمناسبة في قوله تعالى : "وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ" ذكر بعض المفسرين قصة طريفة أذكرها في هذا المقام أن هارون الرشيد كان يتردد عليه أحد النصارى، فلم يقابله ومكث طويلا لم يقابله ، أيام، بل قيل سنة،ولما صادف هارون وراءه جاء يجري إلى هارون ،وقال: يا أمير المؤمنين - مع أنه ليس مسلماً - قال: يا أمير المؤمنين اتق الله ،فما كان من هارون- وعرف أن عنده من الحنث والغضب- فما كان منه إلا أن نزل وبدأ يستمع إليه ، وقال إني لمَّا سمعت قوله اتق الله تذكرت قول الله : (وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ). فخشيتُ أن تنطبق عليَّ . فمع أنه أمير المؤمنين خاف،وهذا الذي يقوله من عامة الناس، بل إنَّه من غير المسلمين ومع ذلك توقف عند هذا الأمر وتذكر هذه الآية . لنا إذا قيل لنا اتق الله أن نتذكر مثل هذه الصفة وأن نرعوي،وقد قِيلت للنبي - صلى الله عليه وسلم - : "يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّه".
إذاً يقول الله :" وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤوفٌ بِالْعِبَادِ " وهنا رؤوف بالعباد خِتامُها: أنَّ الذي باع نفسه لله ، الله رؤوف به وبأمثاله الله يعني وهُـو يأمرنا بالأوامر، وينهانا عن النَّواهي، في النهي انتهوا عن كل شيء ،وفي الأمر ائتمروا بما تستطيعون ،فلم يكلفنا الله شططاً. ولذلك قال الله - عز وجل - مع أنه باع نفسه،ولكن الله - سبحانه وتعالى - رؤوف بالعباد ،ويجزي على هذا البيع والشراء الشيء الكثير.
ثم قال الله - عز وجل - بعد أن بيّن صنفين من الناس :صنف الأرداء وصنف الأحسن قال: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً" " ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً " ما العلاقة هنا ؟
"أُدخلوا في السِّلم" أي أُدخلوا في الإسلام، خذوا الإسلام كله بكل شرائِعه، لاتأخذوا بعضاً وتتركوا بعضا كما فعل بني اسرائِيل . ولذلك لأنه سيأتي أيضا تفريعات، وجزئيات، وأُمور دقيقة في مسائل الصيام، ومسائل الحج، ومسائل النكاح، ومسائل الطلاق. فقال الله " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا"، يعني انحراف الذي انحرف لأ نَّه ترك هذا السِّلم، وفوز هذا الذي فاز لأنه دخل في السِّلم كافة .
قال الله - عز وجل - بعد هاتين الآيتين " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً" وقلت "كَافَّةً" يعني كأنَّ الآية مقدمة تشير إلى أنَّه ينبغي لكم أن تدخلوا في شرائع الإسلام كُلها، ولا تأخذوا ببعضها.
وقيل: " ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً" : أنها نزلت في أهل الإسلام ادخلوا جميعاً في التطاوع، والإسلام.
وقيل: أنَّها نزلت في بعض من آمن من أهل الكتاب كعبد الله بن سلام، وعبد الله بن سلام كان آمن ولكن بقي في نفسه بقية من تعظيمه يوم السبت، وفي كراهيته لِلحم الإبل في إحلاله فقيل: "ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً" يعني ادخلوا في كل شرائع الإسلام .
وقيل:وهو أضعف الأقوال روي عن قتادة - وأمّا كثير من المفسرين السلف فلم يُروى عنهم هذا القول - روي عن قتادة القول مثل قول الجمهور ادخلوا في السِّلم كافة في تشريعاته كلها، وروي عنه أن المراد به المُوادعة والمسالمة ،ادخلوا في السِّلم يعني الموادعة.
والعجيب أنَّ كثير من الناس يأخذ هذا المعنى الضعيف أو الأقل شهرة، ويحسِب أنَّ الآية تقصده، والآية بالأساس أنَّها تقصد الإسلام، ولا تقصد الموادعة والسلام وإن كانت آيات أُخرى . بل إنَّ ابن جرير الطبري ردَّ هذا القول الذي يقول أن السِّلم بمعنى الموادعة، وعدم الحرب لا، قال : " لأنَّ الإسلام لم يَأمر به ابتداءً" يُمكن إذا جنحوا للسِّلم فاجنح لها وطبعاً والسّلم بالكسر وبالفتح.
قيل:هما لغتان مختلفتان وقيل:بالكسرهي الإسلام، وبالفتح:الموادعة .
لكن كما قلت لكم إن ابن جرير الطبري رد هذا القول أنها الموادعة ،وقال أن الله في مسألة قال الله " فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ" فالله سبحانه نهى عن الموادعة، وطلب السِّلم إما إذا هم طلبوا وإن جنحوا للسِّلم إذا طلب منهم فلا بأس بذلك ،وإن كانت تختلف بأحوال المسلمين هذا ليس مقام الحديث عنه، لكن أقصد في هذه في الآية فينصرف المعنى للمعنى الأشهر والأظهر والذي عليه جماهير المفسرين بأنَّ المراد به الإسلام كله.
" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً" ما الذي يجعلنا نتقاعس في دخولنا؟! "وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ" الشَّيطان يخطو بنا خطوات، والعجيب أن كثير من الناس يتَّبعون الشَّيطان مع أنَّ الله في أكثر من آية أكَّـد أنه عدوٌ ، وليست العدواة مخفية بل بيِّنة ، خطوات الشيطان، الشيطان يخطو بالناس كلهم، يأتي للناس من باب الكُفُر كلهم ويحرص أن يكون في الكُفُر، فإن أسلموا أو آمنوا جاءهم من باب الشِّرك، فإن كانوا من أهل التوحيد ما استطاع خطا لهم خطوة الكبائر ،فإن كانوا من أهل قوة الإيمان والصلاح خطا لهم خطوة من باب الصَّغائر، فإن كانوا أيضاً عندهم من الصَّلابة ما تمنعهم من الوقوع في ذلك،وقبل ذلك - قبل الدُّخول في الكبائر- يقول ابن القيم - رحمه الله - : " إن لم يستطع عليهم في باب الشرك ، كانوا أهل توحيد جاءهم من باب البدعة حتى يعرفهم ،وإن لم يستطع عليهم من باب البدعة جاءهم من باب الكبائر ،فإن لم يستطع من باب الكبائر جاءهم من باب الصغائر واحتقار الذنوب حتى تُهلِك العبد، فإن ما استطاع من باب الصغائر جاءهم من باب الإشغال بالفاضل عن المفضول، والإشغال بالسُّنة عن الواجب "
إذاً لا يمكن للشيطان أن يأتي للعابد من باب العبادة، ويأتي الزاهد من باب الزهد،ويأتي التَّاجر ،والعالم، كل واحد يأتيه بما يناسبه ولذلك قال" ثُمَّ لَآَتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ" فله مداخل، وله خطوات، ولنحذر من خطوات الشيطان .
إذاً يقول الله "وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ" انظروا ختام الآية بالتأكيد "إِنَّهُ لَكُمْ" وليس لغيركم "لَكُم" مؤكدات "إِنَّهُ لَكُمْ" ثم "عدوُّ"، والعداوة بيِّنة "أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ" . الله - سبحانه وتعالى - يعيب وستأتي الآيات تؤكد هذا المعنى "إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ" .ثم قال - سبحانه وتعالى - بعد أن أمر بالدخول في السِّلم والإسلام كافّة بكل تفريعات الإسلام ، بكل أصوله وفروعه ونهى عن خطوات الشيطان قال :" فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ" وهُنا الزلل ليس الخطأ العادي، ولذلك لاحظوا أنَّ الختام في الآية ليس "غفور رحيم" ولا "توَّاب حكيم" ماهو الختام ؟ - ويمكن بعض أخوان الحُفاظ يلبس عليهم، وقد يخلِطُـون في هذه الآية "فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ" قد يُخطأ ويقول "فإن الله غفور رحيم"،"تواب رحيم" - ولكن الختام "فإنَّ الله عزيز" لأن أولاً لاحظوا أنَّ الخطأ هنا الزلل- في لغة العرب - : الزَّلة :هي الخطأ الفاحش، ومشكلة هذا الخطأ الفاحش إن جاء بعد مجيء البيِّنات، فيُصبح سوء على سوء ،أولاً: زلَّة وخطأ ليس يسيراً ، ثم بعد أن جَاءت البينات الواضحات،وليست الغامضات.
"فَإِنْ زَلَلْتُمْ" ولذلك الإنسان يحذر" فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ". ثم قُـدِّمت بقوله "فَاعْلَمُوا" فيه تخويف (أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) عزيز، واضحة لكن حكيم ؟ وجدتُ قليل من المفسرين من أشار إلى سِرّ الحكيم فقالوا كلاماً- لكن نريد أن نتأمل في ذلك. والمعتاد أن آيات الذم تُختم بالغفران،والرحمة، وهنا ختمت بالعــِزَّة! لأنَّ العزّة فيها قوة وتهديد بالانتقام، و"حكيم " كما قلت "ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً" أوامر كثيرة، ونواهي كثيرة ، أوامر في الأصول، في الفروع، في الدَّقائق، في الطلاق، في النَّكاح، في كل شيء، أيّ فيما حكم وأمر به ، يعني أنتم تتملَّصون بعض الأحيان من الأمر، لأنكم تستثقلون هذا الأمر، لكن إذا علمتَ أنَّ الذِّي فرض عليك هذا الحُكم، وأمرك بالدُّخول في صغيره،وكبيره حكيم. فإذاً هو عزيزٌ حكيم - وأرجو أن نلتفت إلى ذلك " فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ".
ثم قال - سبحانه وتعالى - " هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ"
"هَلْ يَنْظُرُونَ" هل ينتظرون يوم القيامة أن يأتيهم الله في ظُلل من الغمام؟ هل ينظرون إلى هذا المصير؟ وينتظرون هذا المصير؟
"وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ" فكأنّه أيضاً تهديد بذلك اليوم ، إذاً يقول الله " هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ" بمعنى هل ينتظرون ذاك اليوم الذي لا ينفع فيه الندم، ولا ينفع فيه العَـود "إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ" ونحن نؤمن - في هذه الآية - بِصِفة الله وهي الإتيان والمجيء على الوجه اللائق بجلاله، لا ما يقوله بعض المنحرفين من المعـتزلة، أو حتى من الأشاعرة أنّه بمعنى إتيان الأمر! إنما يأتي الله – مجيئاً يليقُ بجلاله وعظمته سبحانه- يقول الله " هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ" والله يأتي على الوجه اللائق به . ففي هذه الآية إثبات صفة المجيء، والإتيان . المقطع الثاني:{سلْ بَنِىٓ إِسْرَٰٓءِيلَ كَمْ ءَاتَيْنَـٰهُم مِّنْ ءَايَةٍۭ بَيِّنَةٍۢ ۗ وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ مِنۢ بَعْدِ مَا جَآءَتْهُ فَإِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ ﴿٢١١﴾ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا۟ ٱلْحَيَوٰةُ ٱلدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ ۘ وَٱلَّذِينَ ٱتَّقَوْا۟ فَوْقَهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ ۗ وَٱللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍۢ ﴿٢١٢﴾ كَانَ ٱلنَّاسُ أُمَّةًۭ وَٰحِدَةًۭ فَبَعَثَ ٱللَّهُ ٱلنَّبِيِّۦنَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ ٱلْكِتَـٰبَ بِٱلْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ ٱلنَّاسِ فِيمَا ٱخْتَلَفُوا۟ فِيهِ ۚ وَمَا ٱخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا ٱلَّذِينَ أُوتُوهُ مِنۢ بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ ٱلْبَيِّنَـٰتُ بَغْيًۢا بَيْنَهُمْ ۖ فَهَدَى ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ لِمَا ٱخْتَلَفُوا۟ فِيهِ مِنَ ٱلْحَقِّ بِإِذْنِهِۦ ۗ وَٱللَّهُ يَهْدِى مَن يَشَآءُ إِلَىٰ صِرَٰطٍۢ مُّسْتَقِيمٍ ﴿٢١٣﴾ أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا۟ ٱلْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ ٱلَّذِينَ خَلَوْا۟ مِن قَبْلِكُم ۖ مَّسَّتْهُمُ ٱلْبَأْسَآءُ وَٱلضَّرَّآءُ وَزُلْزِلُوا۟ حَتَّىٰ يَقُولَ ٱلرَّسُولُ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ مَعَهُۥ مَتَىٰ نَصْرُ ٱللَّهِ ۗ أَلَآ إِنَّ نَصْرَ ٱللَّهِ قَرِيبٌۭ ﴿٢١٤﴾ يَسْـَٔلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ ۖ قُلْ مَآ أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍۢ فَلِلْوَٰلِدَيْنِ وَٱلْأَقْرَبِينَ وَٱلْيَتَـٰمَىٰ وَٱلْمَسَـٰكِينِ وَٱبْنِ ٱلسَّبِيلِ ۗ وَمَا تَفْعَلُوا۟ مِنْ خَيْرٍۢ فَإِنَّ ٱللَّهَ بِهِۦ عَلِيمٌۭ ﴿٢١٥﴾}ثم قال سبحانه " سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آَتَيْنَاهُمْ مِنْ آَيَةٍ بَيِّنَةٍ" يعني :أنَّ بني إسرائيل في تلكُئهم في الأمر كانوا يطلُبون الآيات ،إذا قيل لهم افعلوا أو لا تفعلوا تلكؤا ،ومع ذلك كان منهم من الإعراض ما كان، فليست القضية أن يروا آية بينة عياناً حتى يعتبروا ، لكن الأصل هو إستسلام وطاعة هذا القلب لله ، وليست القضية قضية رؤية آيات ومعجزات،فقد رأى بني إسرائيل من الآيات من العصا، وغيرها من الآيات، وفلق البحر وغيرها من الآيات التي جاء بها موسى ،فقال الله " سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آَتَيْنَاهُمْ مِنْ آَيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ" . والنعمة هنا هو ما هداهم الله فيه،والتحذير من الارتداد والإنحراف .
يقول الله بعد أن بيَّن الأمر بالدخول بالسِّلم كافة، وأحوال الناس، بيَّن أيضاً أن من أسباب انحراف الكافرين تزيين الحياة الدنيا ، فقال جلّ وعلا "زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا" . جزء من النَّاس ينحرف بسبب شبهة. وجزء ينحرف بسبب شهوة.
فمن ضمن انحراف بعض الذين كفروا "زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا" ومع هذا التزيين يحسَبون أنَّ الميزان للحياة الدنيا،ولذلك ضرب الله أمثلة، ومن أوضحها ما جاء في قصة سورة الكهف أنَّ الدنيا سبب في انحراف الكثير، بل إنّ هناك علماءً ينحرفون قال الله في سورة الأعراف " وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آَتَيْنَاهُ آَيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ" ، "أخلد إلى الأرض" أحب الدنيا، لاحظوا – التّعبير القرأني- "أخلد" حتى في التصاق الحروف "أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ" ولذلك ضرب الله له مثل مع أنَّه من العـُلماءبلعام بن باعوراء من علماء بني إسرائيل، انحرف بسبب زينة الحياة الدنيا ، فضرب الله له المثل بالكلب "إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث" । والكلب من أخس الحيوانات في مسألة واحدة وهي أنَّه إذا جاع لهث ، وإن شبع لهث. وهذا الذي آتاه الله من العلم، أشبعه الله بالآيات، لكنَّه أخلد إلى الأرض "وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا" تأمّل في قوله "لَرَفَعْنَاهُ" !. وسنأتي إلى مسألة الفوقية والدُّونية في الآية.
إذاً قال الله " زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا" ولذلك أيضاً قال " وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ" وقال للنبي - صلى الله عليه وسلم - " وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا" . فإذاً هؤلاء الذين كفروا "زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا" ومع هذا التَّـزيين، وظنّهم أنَّ الحياة تبدأ هنا، وتنتهي هنا، يسخـرون! يعني مع هذا الانحراف في التَّصور سخروا من الذين آمنوا "وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا" قال الله " إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (30) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31) وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ" . عجيب كأنهم مسؤولين عنهم ؟! من الضّال؟! إذاً الحياة الدنيا "كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآَهُ اسْتَغْنَى " .
فالحياة الدنيا قد تُطغي، فهؤلاء زُيِّنت لهم هذه الحياة ،والدنيا بعمومها تُزيَّن للمؤمن والكافر لكن المؤمن لايستغرق في كل زينتها. ولا ينخدع بهذه الزِّينة، ويعلم أنَّ هذا ابتلاء، وأمّا الكافر فإنّه ينساق وراء هذه الزينة. "إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أيّهُم أحسن عملاً" فهُـناك ابتلاء، ولكن نجح أهل الإيمان، وانحرف أهل الكفر،وانتقلوا من كفرهم إلى السخرية كذلك بمن آمن وحسبوا أنَّ الذين آمنوا دونهم "وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا" ولذلك قال " وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ" وليس المقام فقط في هذه الحياة. ولذلك قال الله "وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ" ما مناسبة الفوقية؟ لأنَّ العادة أنَّ الذي يسخر يرى أن المسخُـور به دونه ، هل يوجد أحد يسخر بمن هو أعلى منه ؟! هذا نادر، لكن السخرية عادةً تقع من الأعلى إلى الأقل في الغالب، ولذلك هنا جاء الردّ والعقاب مناسب "وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ" .ثم قال الله سبحانه في بيان أحوال النَّاس: "كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً" واختُلِف في الناس، هل المـُراد بالناس يوم أن كانوا أمة واحدة على شريعة واحدة : قيل: هم آدم وحواء. قيل: هم ذرية آدم وحواء وخاصةً - كما يقول المؤرخون- أنّ بين آدم ونوح ألف ومئتين سنة (1200). وآدم كما تذكر كتب التاريخ عاش تسعمائة وستين عام (960)، فكان هو وأبناؤه على التوحيد، لم يحصل انحراف، ولما وقع الانحراف أُرسل الله نوحاً . قيل : أنّه كان أمة واحدة –الذين هم في سفينة نوح- عليه السلام - .
على كل حال قال الله سبحانه "كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً" فحصل الاختلاف، ولمَّا حصل الاختلاف معنى ذلك أنَّ منهم من كان على المنهج الصحيح، ومنهم من انحرف فبعث الله النبيِّين والأنبياء كثير: قيل أنهم أكثر من مئة وأربع وعشرين ألف نبي ، وأما الرسل فهم ثلاثمائة وثلاث عشرة رسول. والذين جاء ذكرهم في القرآن: ما يقارب العشرين أو ثمانية عشر رسول.
"فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ" هنا نلاحظ أنَّ التبشير سابق للإنذار، وأظن في اثنين وأربعين آية كٌلّها يأتي التبشير في الرسالات قبل التنذير، أظن إلا في موضعين في سورة هود وفي سورة الأعراف ؛لأنّها في موضع الإنكار في مسائل العقيدة فقُدِّمت وإلا المعتاد أن البشارة تأتي قبل النذارة، ولذلك ينبغي أن نسلك هذا المسلك في دعوتنا أنَّ تكون الدعوة يغلبُ عليها التبشير، ثم يليها التنذيرونجمع بين الأمرين"مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ" .ثم قال الله " أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ" فهنا أيضاً جاءت في قصة تبوك ، وذلك لما أتت بعض المحن، والفتن لأصحاب النَّبي -صلى الله عليه وسلّم - خاصة في تلك الغزوة "حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ" والمراد هنا ليس استبعاد وإنما استبطاء، بمعنى يتمنُّون، كأنهم يقولون يارب نصرك القريب، يارب فرجك . مررت بهذه الآية مروراً سريعا حتى نتحدث في بعض التفصيلات في آيات الأحكام.
نأتي - بعد هذه المقدمة - بالأمر بالدخول في السِّلم كافَّة، والحذر من اتباع خطوات الشيطان وغيرها..
جاءت التفريعات لأجل أن ننضبط، فلا يأتي أحد ويقول هذه فروع وقشور، وهذه أصول، لا. ينبغي أن ندخل في السِّلم كافة، حتى أنَّ أحد اليهود أنكر على سلمان وقال: إن رسولكم أخبركم بكل شيء !। قال نعم أخبرنا وأنبأنا بكل شيء وعلمنا كل شيء حتى الخِراءة. - يعني حتى كيف نفعل في آداب قضاء الحاجة. لذلك ينبغي على الإنسان أن يسأل في كل أحواله صغيرها، وكبيرها عن ماذا أمر الله؟ وماذا أمر رسوله؟ وأين الدليل في هذه المسألة في صغير الأمر وكبيره؟
نأتي بعد ذلك إلى أول سؤال في هذه الآيات "يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ" . والسؤال في القرآن جَاء في عموم القرآن في خمسة عشر موضعاً، والعجيب أنّها جاءت في سورة البقرة في سبع مواضع بصيغة "يَسْأَلُونَكَ" ، وصيغة يسألونك بالمضارع تدل على التَّجدُ د والاستمرار، وأنَّ السؤال وقع منهم، أمَّا ما جاء في النهي عن السؤال فالمراد بالنهي عن السؤال سؤال التعنُّت، والعجيب "يَسْأَلُونَكَ" جاءت أكثرفي مسائل التفريعات ، وقد جاءت أيضاً في بعض السور" يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ" ،" وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ" . ولكن أكثر آيات السؤال في أمور التفريعات والتشريعات.
"يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ" ، والجواب؟ السؤال عن نوع المنفَق والجواب عن المصرِف. وإن كان بعض أهل العلم قال أنّه جاء ضمن الآية لكنَّه- باختصار ومطوي – في كلمة "من خير" ولم يفصِّل فيه، وإنَّما التَّـفصيل جاء في الأهم وهم أهله . وتُلاحظون أنّ أكثر سؤال النَّاس اليوم - مع الأسف - عن المال وزكاته، قلَّ من يسأل عن أنواعه وفيمن يصرفه ، ولذلك قد تصرف الأموال وتوضع في غير موضعها. وهذا السُّؤال إمَّا أن نقول جاء الجواب بالأهم، أو نقول جاء الجواب لكن فيه زيادة، فينبغي إذا جاء المعلم أن يُعلِّم فسأله السائل ورأى أن سؤاله يدل على ضَعفٍ فيه في جانب ويحتاج إلى جانب أهم بيَّن له كما سُئِلَ النبي عن البحر،عندما سئل النبي عن البحر في ركوبهم في البحر فأجابهم بالوضوء وبحلِّ ميتته، مادام يجهلون هذا فمن باب أولى سيجهلون غيره. فقالوا (إنا نركب البحر أفنتوضأ منه) .. الحديث فننتبه إلى أنَّ السؤال هنا – لعله الأقرب- أنَّه جَاء التفصيل في الشَّيء الأهم "يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْر" والخير في القرآن يُراد به: المال قال الله "وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ". " إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ " ، ولذ لك علي سأله سائل أراد أن يوصي،قال: كم خلَّفت؟ قال : ألفي درهم أو ألفي دينار ،قال: ما تركت خير لا توصي ، يعني هذا ليس خيراً، ليس مالاً كثيرا.
"إِنْ تَرَكَ خَيْرًا" ولذلك هنا قال الله سبحانه : " يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ" ثم جاء الترتيب، والترتيب مقصود ،فالأوَّل من هم؟ طبعاً هل هذه الآية منسوخة، أو محكمة؟ ،قيل أنَّها منسوخة، بـ "إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ" لأن الوارد بالنسبة للزَّكاة إذا كانت زكاة ففرعُك وأصلك لا يجُوز أن تعطيه من الزكاة، والبقية ممكن ، فهنا جاء الوالدين والأقربين، ويمكن بعض الأقربين ممن تلزمك نفقتهم، والصَّحيح أنه تُضبط بالفروع والأصول، والزوجة أيضا ؛لأنَّها تلزمك نفقتها.
" يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ" بدأ التَّرتيب - فللوالدين، والأقربين، ثُمَّ اليتامى - سبقوا المساكين- لأنَّ هذا جَمَعَ بين انفراد وضعف، وذاك مسكين لكن ليس عنده انفراد والمساكين - من باب أولى- يدخل الفقير، والفقير – أشد حاجة- فإذا دخل المسكين وهو أقل، طبعاً إذا اجتمع الفقير والمسكين يصبح الفقير أقل حاجة، وإذا افترقوا؟ فقال الله "إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ" لأنَّ المسكين يستطيع أن يُدبِّر نفسه، لكن عنده ضعف "أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ" عندهم سفينة، عندهم آلة يتَّجِرُون بها ومع ذلك سمَّاهم مساكين، وتجوز لهم الزكاة أيضاً، وعليهم النَّفقة، لكن هنا لما ذكرالأعلى وقد يُطلق أيضا على الفقير .
قال الله "وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ" سُمِّيَ ابن السبيل لأنّ السبيل الطَّريق فكأنه أصبح ابنُ الطريق؛لأنه انقطع به الطريق .
ثم قال :" وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ" ،يعني المفترض أن يقول "وما تنفقوا من خير" أليس كذلك؟ لأنَّه قال: " يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ " ، "وما تنفقوا من خير" لكن قال "وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ " ليُدخِل كُلَّ فعل فيصبح المال، وغير المال وهذا من فضل الله لأنَّ ليس كل الناس لديه مال ينفق، هل الصدقات فقط بالمال؟ الحديث في الصحيحين (ذهب أهل الدُّثور بالأُجور يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم ويتصدقون ولا نتصدق) فالنبي - صلى الله عليه وسلم - قال لهؤلاء الفقراء : أوليس لكم ما تصدقون به ؟ إنَّ بكل تسبيحة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وكل تهليلة صدقة فرأى الأغنياء ما صنع الفقراء فبدأوا يسبحون ويهللون ويكبرون ، فرأى الفقراء الأغنياء فقالوا يارسول رأى الأغنياء ما صنعنا فصنعوا ثمّ ذكر في نهاية الحديث بعد أن قالوا يا رسول الله سمع إخواننا الأغنياء ذلك ففعلوه ، فقال النّبي ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ( الحديث) . فإذاً ذكر الله قد يقوم مقامه، وقد ينافس فيه الذّي لا يملُك مالاً ، وحتّى الذّي عنده أيضاً من هؤلاء الأغنياء الذين لم تلهِهِم تلك التجارة، والبيع عن ذكر الله ، و من الصدّقات أيضاً: التَّبسم صدقة، حتى التَّصرفات صدقة ، إماطة الأذى عن الطريق صدقة، يعني ليس الصدقات في المال فقط. إذاً فمن رحمة الله أنّه قال " وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ" بمعنى حتى أنَّ الفقراء يستطيعون أن يُنافسوا، ويُسابقوا الأغنياء قال: "وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ" ولم يقل "وما تنفقوا من خير" بل قال ربُّ العزّة – جلّ جلاله "وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ" .
المقطع الثالث:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌۭ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰٓ أَن تَكْرَهُوا۟ شَيْـًۭٔا وَهُوَ خَيْرٌۭ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰٓ أَن تُحِبُّوا۟ شَيْـًۭٔا وَهُوَ شَرٌّۭ لَّكُمْ ۗ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴿٢١٦﴾ يَسْـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلشَّهْرِ ٱلْحَرَامِ قِتَالٍۢ فِيهِ ۖ قُلْ قِتَالٌۭ فِيهِ كَبِيرٌۭ ۖ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ وَكُفْرٌۢ بِهِۦ وَٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِۦ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ ٱللَّهِ ۚ وَٱلْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ ٱلْقَتْلِ ۗ وَلَا يَزَالُونَ يُقَـٰتِلُونَكُمْ حَتَّىٰ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ ٱسْتَطَـٰعُوا۟ ۚ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِۦ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌۭ فَأُو۟لَـٰٓئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَـٰلُهُمْ فِى ٱلدُّنْيَا وَٱلْءَاخِرَةِ ۖ وَأُو۟لَـٰٓئِكَ أَصْحَـٰبُ ٱلنَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَـٰلِدُونَ ﴿٢١٧﴾} إذاً جاءت المسألة في النفقة - وسبحان الله- هناك ارتباط بين النفقة وبين الجهاد ، بل جُلُّ آيات الجِهاد بدأت بالجهاد بالمال قبل النفس "جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ ". لأنَّ المال عصب الحياة وعصب الجهاد، فأُمر بالجهاد بالمال قبل النفس ،وهناك اقتران في الآيات بين المال، والقتال والجهاد. والعجيب أنَّ في هذه السورة فقط "كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ " لماذا؟ لأنّه كما قلنا أن السُّورة فيها من التَّشريعات والتفريعات، وفيه من الناس من يشغب "سيقول السفهاء من الناس"، "إنَّ الصفا والمروة"، وكثير من الأشياء الأحكام.فقال الله - عز وجل - وصدق " كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ " كُتِب بمعنى: "فُـرِض"، "فُـُرض" بمعنى كُـتِب "فُرِض" و"كُـتـِب" هل هما سواء؟ نحن نُقربها لكم ونقول بأنه بمعنى فرض لكن كُتب أبلغ ؛لأن كُتب بمعنى فُرض ودُّوِن ، يعني أشد من الكتابة نحن نقرِّب المعنى ولذلك التفسير ليس معناه المعنى المطابق بل المقارب، كلام الله - عز وجل - لا يمكن أن نأتي بتعبير مطابق لكن نقرِّب المعنى فقط.
إذاً قال الله دلالة على شِدَّة الكتابة، وأنًّه أشد من الفرض "كُتِبَ عَلَيْكُمُ" ولاحظوا "عَلَيْكُمُ". لم يقل "كتب القتال عليكم" قَدِّم الجار كأنَّه لم يُكتب إلا عليهم مع أنّه قد كتب على غيرنا. يعني زيادة في الحث على الأمر"كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ".
"كُـتب" "وهو كره" كُره! نعم "كُره" والذِّين الآن يَشغبون في أمر القتال، والجهاد يقولون؟ يا أخي القتال والجهاد لا يمكن أن يقوم، ويمكن يقع، ويمكن يقع من المفاسد ويمكن نخسر، ويمكن يصير، ويمكن،ويمكن، لم تأتِ بجديد، الله - عز وجل - قاله!
قال الله "كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ" ونقول لبعض إخواننا لا ينبغي أيضاً لمَّا يُتحدَّث عن الجهاد، أو القتال، نسَّهِل، والقتال سهل!، لا. بل القتال صعب وشديد، وهكذا جاء الأمر بصراحة كتب وهو كره،والمراد بالكُره؟ مثل ما قال النبي : "حُفَّت الجنة بالمكاره" .
جنَّة عرضها السموات والأرض تأتي بلا شيء! لا. لابد أن تُكره هذه النفس "كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ" فليس المراد كراهية ما أمرالله به إنَّما الخَوف وما يُصيب الإنسان من كراهية في هذا الأمر من ثُقُل لكن ليس المراد الكُره الجبلي الفطري، يعني السلامة لا يعد لها شيء، وهذا فيه إتلاف لمال، لنفس فقال الله (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ) طيب يارب مادام أنّه كره فَلمَاذا كتبته ؟ وعسى من الله واجب.
قال: "كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ" ولكن وعسى؟ وهذا عسى من الله "وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ" أقف مع هذه الآية وقفة وخاصةً في مقام الكره،وقد وقف معها ابن القيم وقفة وتكلم عن هذه الآية في مسألة ماذا يستفيد العبد المؤمن من هذا من هذا التوجيه من الآية وعسى أن تكرهوا ،وعسى أن تحبوا والقائل هو الله الذي يعلم ونحن لا نعلم - آمنوا بهذه الآية، وصدِّقوا بها وتأملوا فيها تريحكم من أشياء كثيرة- يقول ابن القيم (بدائع الفوائد) :
قال: "ومن فوائدها إذا علم العبد أن المكروه يأتي بالمحبوب- "وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ" وهو خير- تكره خير!- إذا علم العبد أنَّ المكروه يأتي بالمحبوب انشرح صدره للمكروه" مكروه! ، لكن هل تعرف هذا المكروه؟ الآن وأنت تأخذ الدواء مُرّ! لكن تعرف أن فيه عافية، تجده يسأل عن الدواء، أين الدواء؟ لماذا لم تُعطُوني؟ لم تُخبُروني؟ وتأخذه، وأنت فرحان ! لأنك تعرف أن العاقبة حميدة، وهذا في علم الطب ، فكيف إذا كان الأمر في علم الله! والله الذِّي يُخبرك به، ومن أصدق منه سبحانه، فإذا كرهت أي شيء وقع لك خسارة في دنيا،خسارةً في تجارة،في دراسة،في حياة اجتماعية. أنت بذلت الجهود، لكن وقع المقدور، فإذا وقع المقدور وكان هذا المقدور مكروهاً فقال الله : "وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا" بل يقول الشيخ السعدي - رحمه الله - تأمّلوا:
(وإذا عَلِمَ العبد أن الذي يقضي بالقضاء- عليم، حكيم، رحيم- تأمَّل في الصفات الثلاث في المقدور، و في القدر الواقع عليك سواء كان مكروهاً، أومحبوباً لكن نحن في المكروه " إذا علم العبد أن الذي قدر بهذا المكروه متصف بهذه الصفات عليم، حكيم -بل أحكم الحاكمين- ، رحيم -بل أرحم الراحمين- من الذِّي قدر عليك؟ رحيم ، بل أرحم بك من نفسك ،حكيم أحكم الحاكمين ،عليم يعلم ما الذّي يصلحك) .
لو طبقنا معنى هذه الآية وسيأتي بعض الفوائد التي ذكرها ابن القيم، أظن أن الإنسان لو علم هذه الآية وتأمل فيها ونظر، وأعاد النظر، وكرر،ونظر، وجعلها نبراس لحياته يمكن بإذن الله يتخلَّص من كثير من الأمراض ولا تأتيه أمراض ضغط، ولا سكر، ولاهم، هو يسير في قدر الله . ولذلك يقول ابن القيم: " إذا علم العبد أن المكروه يأتي بالمحبوب وعسى أن تكرهوا - وهو خير محبوب - انشرح صدره للمكروه "والثانية "وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا" " وإذا عـلم أنَّ المحبوب قد يأتي بالمكروه- لم يطمئن ولم يتَّكل على هذا المحبوب " ، فأخطر شيء أنك تُؤّمل في تجارة، في ولد، في زوجة، في كذا، وتضع كل آمالك عليه، وفرحتك عليه ، وتحبُّه غاية الحُبّ، وتُفاجأ بفقده، أو بفقد أجزاء منه لكن إذا كان حُبَّك مقتصد ارتحت . ولذلك يقول ابن القيم : "ولذلك إذا علم العبد أنَّ المحبوب، لم يطمئن" - يعيش بدون مبالغة – الله نهى عن الفرح الشديد، وعن الحزن الشديد، وجاء عن علي يرفع عن النبي (صلى الله عليه وسلّم) والصحيح أنه علي يقول "أحبب حبيبك هوناً ما عسى أن يكون بغيضك يوماً ما، وأبغض بغيضك هوناً ما عسى أن يكون حبيبك يوماً ما " فلا تبالغ في فرح ولا في ترح، إذاً الثانية قلنا ينشرح للمكروه، لا يطمئن إذا كأنّ لقائل أن يقول: وأين عقولنا؟ في الآية "وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ" . نقول في هذا المقام أخلص في الدعاء أن الله تعالى يختار لك الخيرة دائما . دائماً قل (اللهم خِر لي في جميع أموري) ، (اللهم إني أسألك من الخير كله)، (اللهم اخترلي) تبرأ من حولك، ومن قوتك، واتَّجه لحول الله، وقوة الله، واختيار الله، خيرٌ الخيرية لله "لا تحسبوه شر بل هو خير" شر ظاهره! أُمُّنا يقال فيها! قال الله "لا تحسبوه شر"، حتى الحادثة التي وقعت "لا تحسبوه شر" ،يظهر لنا الخيرية في بعض الأحيان في العاجل قبل الآجل، بل يظهر لنا في عاجل العاجل. إذاً الثالثة قال - رحمه الله - أن يسأل الله الخيرية .
قال ابن القيم : "يفوض الأمر إلى الله"، دائماً يفوض، يُوَّكل الله ، - ولله المثل الأعلى - لو أن واحداً عنده مشكلة، وخصومة، وعنده ضعف في التدبير،ماذا يحصُل إذا حصل له خصومة؟ يذهب يبحث عن محامي، بل وأحسن محامي، ولو جاءه أحسن محامي بالبلد قال أنا أتوكل عنك، كفيتك। تجده يذهب للبيت، ينام، يرتاح لأنه على علم أنّ الذي تولى هذا الإشكال عني هو هذا المحامي - ولله المثل الأعلى- فإذاً يلتجئ إلى لله ، فـوِّض أمورك لله طبعاً مع اتخاذ الأسباب ، لكن لا تجعل النتائج تقعدك –التي في ظاهرها الفشل- ثم يقول ابن القيم: إذا علم العبد أيضاً أنه فوَّض يقول ينتج عنه قوة، يعني يصبح عند العبد قوة في نفسه، قويّ يتحرّك بقوّة .
ثم قال من الفوائد: "يرتاح من كثير من الوساوس، والاختيارات " أكثر مايشغل أذهاننا الآن الإختيارات ! تريد أن تتخلص؟ أفعل كذا ،أوأفعل كذا ؟، يفعل الإنسان لكن لا يبالغ في القلق والنظر، فتجده يُصلِّي يكبر في الصلاة، وكل تفكيره في الأمور! فـوِّض أمرك إلى الله ،ولذلك تجد أنَّك تعطى قوة ، ولذلك أيضا تبعد عنك كثير من الوساوس.
على كُلٍّ حتّى لا أطيل، عليكم بالرُّجوع إلى هذه الآية في كلام ابن القيم المجموع سواء في تفسيره القيِّم أو بدائع التفسير، ففيه كلام جيِّد، لو حتى يُحفظ ، ويُتأ مل فيه، ويُقرن بما ذكره السعدي- في قوله : (إنَّ العبد إذاعلم .... ) خاصَّة وأنّه جاء في حديث في صحيح مسلم أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال " مايقضي الله لمؤمن من قضاء إلا كان خيرًا له " القضاء بعد ذلك يقع خير، حتى ولو ساءك.
حتَّى ابن القيم قال: " يا إمام وفي كل شيء؟ قال حتى في المعصية، إذا صَـحِبَها توبة " ،يمكن بعض المعاصي تقلبك إلى عابد ، فإذاً سِــر مع خيرية الله ، واجعل الله يختار لك، ولا تبالغ، وتقلق "وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ" وهذه صفة العلم أضِـف إليها صفة (الحكمة- والرَّحمة ) فإذا جاءك أيّ عارِض، وقدَر،عِـش في تأمُّلِك في هذه الصِّفات الثلاث تريحك "وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ".ثم قال بعد أن شرع القتال، وقيل هذه من أوائل الآيات التي جاءت في الأمر بالقتال وإن كان قد جاء قبلها "أذن للذين يقاتلون" . لكن هذه جاءت من أوائل الآيات:"كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا" ومن رحمة الله أنَّه علَّل هذا الحكم ثم قال بعد ذلك "يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ" بدؤا يسأ لون أيضاً مادام كتب القتال نسأل..
وقيل أنَّ السَّائل - وهو الصحيح - : أنَّ السَّائل الذين سألوا عن القِتال هم الكُفَّار؛ لأنها لها سبب نزول : أن سريٍّا من سرايا المسلمين في آخر جماد الآخرة ،حسبوا أنه آخر يوم من جمادي الآخرة ،وكان أول يوم من رجب لقُـوا سَرِّية من الكُفـَّار، وكان فيهم ابن الحضرمي فقتلوه، فالكفار ها جُـوا، وماجُـوا، انظروا الغـَيرة عند الكفار، ومشاغبتهم، قالوا كيف تقاتلون في الأشهرالحرم؟! والأشهر الحُــرُم ؟ أربعة :ثلاثة سرد وواحد فرد . السَّرد :ذي القعدة ،وذي الحجة ،ومحرم، والفرد :التي بعدها رجب، وكان يُسَّمى الشَّهر الأصم لأنـَّه لايسمع للسِّلاح فيه قعقعة، إذاً فما السِّر في الثلاثة، والواحد ؟الثلاثة هي ثلاثة أشهر للحجّ، حتى يأتون من أقاصي الجزيرة، يأمنون الذَّهاب والإياَّب، ورجب لأجل العمرة يكفيهم أيام قليلة، فكانوا يُعظِّـمُون الأشهر الحرم . وهذا يحل لكم إشكال في الآية ؛لأن الله قال" يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ" لم يقُـل الأشهر الحرم، لماذا؟ لأنَّ سبب نزولها يوضِّحها؛ لأنَّ المشكلة وقعت في شهر واحد (شهر رجب). وقد ظنه المسلمين من جُمادى، وكان من رجب.
فالكفار من حرصهم على الدماء، وخوفهم من الظلم، وحرصهم على الإنسانية، وحبُّهم للعدل "يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ" ! قال الله "قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ" لكن في أكبر منه. نعم هذا كبير وهذا خطأ.
انظروا المنهج الرباني " يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ" قلت: لماذا قيل الشَّهر؟ ولم يقُل الأشهر"يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ" أين؟ "وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ" الصَّد عنه "وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ" وكل هذا والفتنة أشد من هذا، أين فعلكم هذا ! جـِيئوا بهذا وبذاك وانظروا !. " وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ".ثم قال في بيان درسٍ ينبغي لأهل الإيمان ألاَّ ينسَوه، -وَصَدَق الله وكَذَبَ كل من قال بخلاف ذلك " وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ".هذه سياسة ،الله يقول" وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ" إلى متى؟ إلى متى؟ يعني لو سالمناهُـم قليلاً نعطيهم مال!، نُهادنهم !،أرض! مال! ، سياسات! تنازَل بعض الشيء، "حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ"، هذه الغاية صعبة !.
إذاً يقول الله لاتحسبوا أنَّ هذا كراهية للقتال منهم، أو ورع من محارم، هذا شغب للكفار فقط ، يشغـبُون بالقديم والحديث ، كل يوم لازالوا يشغـبُون، وكأنَّهم حُمَاة للإنسانية وعندهم المكيال مكيالين، إذا جاء عندهم قال لماذا تقاتلون؟ لماذا تقتلون أحدهم، وبالشهر الحرام، ولو قتلتوه خطأ! . فيأتون يسألون لماذا محمد يقتل " يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ" لكن الله منهجه أيضا ليس كأيّ منهج ،فإذا أخطأنا نقول أخطأنا، وليس من المنهج أن يكون عندنا جهل ..
ألا لا يجـــهَلنَّ أحدٌ علينا ... فنجهل فوق جهل الجـــَـاهلينا
لا ، نحن نقول كَبِيرٌ "وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ" كل هذه من الكبائر، من الأمور التي هي أكبر من تلك الواقعة . وبالمناسبة ما حكم القتال في الأشهُر الحُــرُم ؟ هل الآية منسوخة ؟ أوباقي حكمها ؟الصحيح أنَّه منسوخ، وعليه الأئمة الأربعة، وبل قيل إنَّه لم يخا لف إلا عطاء ابن أبي رباح في المنسوخ،لأن النبي قاتل وحاصر ثقيف في ذي القعدة، ووقع من الصَّحابة وأهل الثغور. ، لأن الحمد لله الأشهر الحرم الآن أصبحت بديار الإسلام، يعني الأشهر الحُرم كانت حرم لأجل أن يأمن الناس، والآن قد أَمِنَ النّاس.
يقول الله "يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ) ليست القضية أنهم قاتلوا، لا، سيستمرون في قتالكم. فكأنَّ الآية تقول "استمروا في قتالهم". يقول الله "وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا".(إن) تفيد التقليل، "إِنِ اسْتَطَاعُوا" يعني كأنَّه صعب، وهذا يدل على تزكية الصحابة بقوة إيمانهم .
" إن " وهذا يدل هنا على التقليل، وهذا ثناء على الصحابة "إِنِ اسْتَطَاعُوا" وكأنه استبعاد أن يقع منكم ذلك "حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا" ، ثم قال " وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ"،" وَمَنْ يَرْتَدِدْ " لاحظوا لم يقل ومن "يرتد" !। بل قال " وَمَنْ يَرْتَدِد" دلالة الزيادة في المبنى زيادة في المعنى، كأنَّ الارتداد هنا حصل باختياره لأنه لم يقل " ومن يرتد" لأن من يرتد احتمال أن غيره أجبره، فيحصل عنده الردّة ، لكن "يرتدد" دلالة على أنَّ الرِّدة قد وقعت منه "وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ" هل يحبط عمله في الدنيا؟ إنسان ارتد الآن يحبط عمله ؟تأملوا في ظاهر الآية "وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ" ارتد، أشرك الآن .؟
وقع خلاف قوي بين أهل العلم، وأهل العلم على رأيين في هذا، نحن إذا سـِرنا على ظاهر الآية نقول متى؟
الجواب: إذا مات على الكفر، لكن لو لم يمُت؟ إنسان أرتد هل عمله السابق يحبط؟ حج ثم ارتد، هل يحج مرة أخرى ؟
الحنابلة والأحناف قالوا: الشرط فيمت وهو كافر ، المالكية والحنفية قالوا بذلك، تشدَّدوا في هذا الباب،واستدلوا بقوله " لئن أشركت ليحبطن عملك " أن مجرد الشرك يحبط العمل، فيعود عليه تعود عليه الشرائع مرة أخرى، يعود من جديد.
لكن ظاهر الآية يدل على أنه لو عاد للإسلام يبقى له ما أسلف من أعمال، نأخذها من ظاهرالآية ، لن ندخل في التفريعات لأننا لو أردنا أن ندخل التفريعات لذهبنا كل مذهب .
إذاً "فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ" ونقصد هنا في الدنيا لأن الآية جاءت في الدنيا " فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا " لكن شرط الآية على قول الحنابلة والحنفية قالوا بذلك وهو : أنه كافر "فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ" لكن الآية تصلح للتخويف،فإذا كنت في مقام التخويف من الشِّرك، يمكن أن تقول: وذهب بعض أهل العلم من المالكية إلى أنَّ الشرك – وتخوِّف وخاصة مثل الحجاج- في حالة إقبالهم على الحجّ، عندما تأتي تعظ الحجاج تقول لهم: حججتم ،هنيئاً لكم وتعودون مغفورٌلكم ما تقدم من ذنوبكم وما تأخر، ثمّ تخوِّفهم بهذا القول أيضاً إنّك إن أشركت عاد عليك الحج مرة أخرى بدلالة هذه الآية ، وتذكرهذا القول بدون أن ترجَّح في المسألة حتى أيضاً يخاف ؛ لأن فيه التحذير من الشرك .
ثم قال الله - عز وجل - بعد هذه الآية " إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ" ما علاقة الآية ؟
في الحقيقة من كان حافظاً لهذه الآيات، قد ينسى في بعض الأحيان هذه الآية، كأنَّ هذه الآية ليس لها علاقة بالسابق واللاحق
اللاحق: "يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ" والسابق: كان في مقام الردة.
فقال الله في هذه الآية "إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ" أولاً بدأ بالهجرة، هناك آيات كثيرة تبدأ بالهجرة قبل الجهاد ،ولعل الهجرة مفتاح للجهاد فهي أفضل. فما السِّـر؟ "إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا.." ثم أيضا ما السِّر المعتاد في القرآن، أنَّ الإيمان يأتي مع الهجرة، والجهاد بدون عطف الموصول عليها؟ يعني هنا أظهر الموصول قال " إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا" في آيات كثيرة في القرآن يأتي،" إنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا " لكن هنا أظهر للموصول أو عطف الموصول فجاء به مظهراً، فما السِّر هنا ؟لأنَّه لها علاقة بمسألة "يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ" جاء في سبب نُزولها قالوا بعض الصحابة: هب أنَّ ليس علينا ذنب، فهل لنا أجر؟ يعني السرية التي اعتدينا عليها، نحن اعتدينا عليها في الشهر الحرام ولم نكن نعلم، فهل لنا أجر؟
فقال الله ، وأظهر مقام الهجرة والجهاد وعظَّمها ، فصلح الإيمان مع أنها تبَعٌ الإيمان فعظم من شأنها وأكدها "إنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا" ثم قال "وَالَّذِينَ" ما كانت تأتي " وَالَّذِينَ" ، "وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ" ، وكما يقول الرَّبيع ابن أنس : أولئك أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أهل رجاء، ، ومن رجا طلب، ومن طلب هرب. ( فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ ) ومع ذلك يرجون ولا يجزمون- لاحظوا ! "إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ" أيضا ناسب الغفران ؛لأنه كأنَّه غفر لهم ما وقع منهم .
يقول الشيخ السعدي عند هذه الآية: "وهذه الآية تدل على أنَّه لا ينفع الإيمان والرجاء بدون عمل" فالذي يرجوا حقيقةً لابد أن يعمل (إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا) لاحظوا أعمال كبيرة، ومع ذلك تواضعا منهم يرجون فهؤلاء يرجون، لأنَّ الرجاء لعل أن يقع ذلك ، نسأل الله أن يعفوا عن الجميع، البعض منّا لم يقدِّم إلا أقل القليل ومع ذلك يجزم وليس يرجو، قال الله في وصف أهل الإيمان في سورة المؤمنون :" يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ " ولذلك من صفتهم : " أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ" وليست أيَّ مسارعة "وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ" هذا الذي يرجون صحيح. وهؤلاء أيضاً رجوا. ومع ذلك من تواضعهم يرجون وأخبر الله بحالهم أنهم كذلك.
إلى هنا ، انتهت المادة الصوتية
-------------------------------
مصدر التفريغ/ملتقى أهل التفسير (بتصرف يسير)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق