د. محمد بن عبد الله الربيعة
كما أن للتدبر أركاناً فله واجبات وسنناً ، وتتمثل الواجبات بأقل القدر مما سأذكره من المظاهر ، وتتمثل السنن فيما زاد على ذلك . وهي كالآتي :
أولاً : الوقوف مع الآيات ( بإحضار القلب ، وإلقاء السمع ، وإمعان النظر ، وإعمال العقل )
ثانياً : التأمل فيما وراء النص ( بإدراك مغزى الآيات ، تفهم المعنى ، واستخراج الدلالات والهدايات ) .
ثالثاً : التفاعل مع الآيات بـ:
1- القلب ( بالإيمان والتعظيم للقرآن وللمتكلم به وهو الله تعالى ، واستحضار مقاصد القرآن العامة، والشعور بأن القارئ هو المخاطب بهذه الآيات )
2- اللسان ( بتلاوتها بترتيل وترسل وعلى مكث ، وتحزن وتباكي ، وترديد للآية ، والتفاعل معها بالسؤال والتعوذ والاستغفار عند المرور بما يناسب ذلك )
3- الجوارح ( بالقشعريرة ، ودمع العين ، والسجود عند آيات السجدة ونحوها ).
رابعاً : قصد الانتفاع والامتثال :
1- قصد الانتفاع بالعلم والإيمان والخشية
2- قصد الامتثال بالعمل والسلوك.
/ الأدلة على أن الوقوف مع الآيات يكون (بإحضار القلب وإلقاء السمع وإمعان النظر وإعمال العقل) ظاهرة منها :
1- قوله تعالى : (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) [ ق:37]. فقوله له قلب وقوله وهو شهيد دال على لزوم حضور القلب .
قال السعدي : " (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ) أي: قلب عظيم حي، ذكي، زكي، فهذا إذا ورد عليه شيء من آيات الله، تذكر بها، وانتفع، فارتفع ، وكذلك من ألقى سمعه إلى آيات الله، واستمعها، استماعًا يسترشد به، وقلبه شَهِيدٌ أي: حاضر، فهذا له أيضا ذكرى وموعظة، وشفاء وهدى " . وقوله أو ألقى السمع دال على حضور السمع وإنصاته وإصغاؤه .
قال ابن كثير : " وقال الضحاك: العرب تقول: ألقى فلان سمعه: إذا استمع بأذنيه وهو شاهد يقول غير غائب. وهكذا قال الثوري وغير واحد" .
وقال ابن القيم : " إذا أردت الانتفاع بالقرآن فاجمع قلبك عند تلاوته وسماعه ، وألق سمعك ، واحضر حضور من يخاطبه به من تكلم به سبحانه منه إليه ، فإنه خطاب منه لك على لسان رسوله) .
2- قوله تعالى : (وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآَنٌ مُبِينٌ (69) لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ (70)] [يس:69-70] . .
قال السعدي : " لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا أي: حي القلب واعيه، فهو الذي يزكو على هذا القرآن، وهو الذي يزداد من العلم منه والعمل، ويكون القرآن لقلبه بمنزلة المطر للأرض الطيبة الزاكية" .
/ الدليل على أن التدبر شامل للتأمل فيما وراء النص من إدراك المغزى ، وفهم المعنى ، واستخراج الدلالات والهدايات عدة أمور هي :
أولاً : إدراك مغزى الآيات : لأن القرآن الكريم له مقاصد وغايات جاء لتحقيقها في حياة الأفراد والمجتمعات وهي غايات عامة ، فلابد أن يكون من غرض المتدبر الوقوف على مقاصد الآيات وغاياتها ليدركها ويحققها في نفسه .
قال د.أحمد آل سبالك : " أما المعنى الاصطلاحي لتدبر القرآن كما ورد في كتب التفسير فهو التفكر في غايات القرآن ومقاصده التي يرمي إليها " .
وقالت الدكتور رقية العلواني : " والتدبر إعمالُ الذهن والفكر للتوصلِ إلى مقاصدِ الآياتِ وأهدافها ، وما ترمي إليه " . .
ثانياً : فهم المعنى : لأن التدبر يستلزم فَهْم معاني الآيات ؛ كما يقول ابن جرير - : "محال أنْ يُقَال لمن لا يَفهم ما يُقَال له ،و لا يَعْقِل تأويلَه : "اعتبرْ بِما لا فَهْم لك به ،و لا مَعْرفة مِن القيل والبيان" إلا على معنى الأمْرِ بأنْ يَفْهَمه ،و يفقهه ،ثم يتدبره ،و يعتبر به ،فأَمَّا قَبْل ذلك فمستحيلٌ أَمْرُهُ بتدبُّره ،و هو بمعناه جاهِلٌ " .
قال الشوكاني: " إِنَّ التدبر هو التأمُّل ؛ لفهم المعنى .. " .
/ أدلة وشواهد التفاعل مع الآيات :
التفاعل مع الآيات شامل لتفاعل القلب واللسان والجوارح ، والقصد منه أن يكون خارجاً من كونه حاكياً للكلام إلى كونه ممتثلاً له يعلم أنه هو المقصود والمخاطب به .
فأما تفاعل القلب فهو بالإيمان به والتعظيم الباعث على الخضوع والانقياد .
- أما الإيمان به : فهو يشمل الإيمان والتصديق ابتداءً بأنه كلام الله تعالى أنزله هدى للناس ، واستحضار مقاصده العامة ، وأنه لا سبيل للنجاة إلا به . وصدق الله تعالى حيث قال : (الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ) [ البقرة: 121]. قال مالك بن دينار : ( أقسم لكم لا يؤمن عبد بهذا القرآن إلا صدع قلبه). وقال الإمام البخاري : (لا يجد طعمه ونفعه إلا من آمن بالقرآن ولا يحمله بحقه إلا الموقن) .
والإيمان به يتضمن أيضاً شعور القارئ بأنه مقصود في الخطاب والأمر والنهي.
قال الحسن : " إنكم اتخذتم قراءة القرآن مراحل وجعلتم الليل جملا فأنتم تركبونه فتقطعون به مراحله ، وإن من كان قبلكم رأوه رسائل من ربهم فكانوا يتدبرونها بالليل وينفذونها بالنهار " .
وقال أبو حامد الغزالي عند حديثه عما سماه التخصيص : " أن يقدر قارئ القرآن الكريم أنه المقصود بكل خطاب ورد فيه ، فإن سمع أمراً أو نهياً قدّر أنه المنهي والمأمور ، وإن سمع وعداً أو وعيداً فكمثل ذلك.. " .
وقال ابن قدامة : " ينبغي لتالي القرآن أن يعلم أنه المقصود بخطاب القرآن ووعيده ، وأن القصص لم يرد بها السمر بل العبر ) .
- وأما التعظيم : فهو تعظيم الكلام وتعظيم المتكلم به وهو الله تعالى ؛ تعظيماً يبعث على الخضوع والانقياد والامتثال ، تأمل كيف كان حال النبي - صلى الله عليه وسلم - عند نزول القرآن عليه :
فعن عائشة أم المؤمنين أن الحارث بن هشام سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال يا رسول الله كيف يأتيك الوحي ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( أحياناً يأتيني مثل صلصلة الجرس وهو أشده علي فيفصم عني وقد وعيت عنه ما قال وأحياناً يتمثل لي الملك رجلا فيكلمني فأعي ما يقول ) . .
وعن ابن عباس قال : ( كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا نزل عليه الوحي ثقل عليه وتربَّد له جِلده ) - أي تغير بمثل القشعريرة - فانظر كيف كان عظم أمر الوحي في نفس رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
وتأمل قول الله تعالى في وصف أهل القرآن :
(اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ) [ الزمر :23] .
فانظر كيف وصفهم بالقشعريرة من خشيتهم لربهم وتعظيمهم له وتعظيماً لكلامه تعالى عند سماعه وقراءته ، وذلك الذي بعثهم على الخضوع له والانقياد، ولذلك قال بعدها : ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ . وبهذا نعلم بأن التدبر لا يكون إلا بالتعظيم .
قال أبو حامد الغزالي في أعمال الباطن في التلاوة: " فالأول فهم عظمة الكلام وعلوه وفضل الله ولطفه بخلقه في نزوله عن عرش جلاله إلى درجة إفهام خلقه .... فإن المعظم للكلام الذي يتلوه يستبشر به ويستأنس ولا يغفل عنه . والثاني التعظيم للمتكلم فالقارئ عند البداية بتلاوة القرآن ينبغي أن يحضر في قلبه عظمة المتكلم ويعلم أن ما يقرؤه ليس من كلام البشر وإن في تلاوة كلام الله عز و جل غاية الخطر"..
/ وأما تفاعل اللسان : فيكون في عدة أمور :
- منها : تحسين القراءة وترتيلها والتغني بها من غير تمطيط مفرط يغير النظم ، وذلك سنة ، ويشهد لذلك :
ما أخرجه أصحاب السنن وغيرهم عن البراء بن عازب ، قال - صلى الله عليه وسلم -: (( حسنوا القرآن بأصواتكم )) ..
وأخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال : قال - صلى الله عليه وسلم - -: (( ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي يتغنى بالقرآن )) زاد مسلم (( لنبي حسن الصوت ))
وأخرج البخاري عن أبي هريرة قال : قال - صلى الله عليه وسلم - : (( ليس منا من لم يتغن بالقرآن )) ، قيل أراد به الاستغناء ، وقيل أراد به الترنم وترديد الألحان به وهو أقرب عند أهل اللغة .
وعن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استمع إلى ابن مسعود وهو يقرأ فوقف طويلا ثم قال : (( من أحب أن يقرأ القرآن غضا طريا كما أنزل فليقرأه على قراءة ابن أم عبد)) .
- منها : قراءة القرآن بترسل وترتيل وعلى مكث : وقد جاء القرآن بالأمر بذلك ومنه :
1- قوله تعالى : (وَرَتِّلِ الْقُرْآَنَ تَرْتِيلًا) [ المزمل : 4]
قال ابن كثير : " وقوله: (وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلا) أي: اقرأه على تمهل، فإنه يكون عونا على فهم القرآن وتدبره। وكذلك كان يقرأ - صلى الله عليه وسلم - ، قالت عائشة: كان يقرأ السورة فيرتلها، حتى تكون أطول من أطول منها. وفي صحيح البخاري، عن أنس: أنه سئل عن قراءة رسول الله ، فقال: كانت مدًا، ثم قرأ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ يمد بسم الله، ويمد الرحمن، ويمد الرحيم. وقال ابن جُرَيج، عن ابن أبي مُلَيكة عن أم سلمة: أنها سُئلت عن قراءة رسول الله ، فقالت: كان يقطع قراءته آية آية، بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي. " ..
وقال ابن عاشور : " والترتيل : جعل الشيء مرتَّلاً ، أي مفرقاً ...وأريد بترتيل القرآن ترتيل قراءته ، أي التمهل .... وفائدة هذا أن يرسخ حفظه ويتلقاه السامعون فيعلَقُ بحوافظهم ، ويتدبر قارئه وسامعه معانيَه كي لا يسبق لفظُ اللسان عملَ الفهم" ..
2- قوله تعالى : (وَقُرْآَنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا) [ الإسراء :104] ، قال مجاهد على مكث على تؤدة .
3- كانت قراءة النبي - صلى الله عليه وسلم - كما نعتتها أم سلمة قالت : كانت قراءة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -مفسرة حرفاً حرفاً .
4- عن حفصة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - ، أنها قالت : (كان - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في السورة ، فيرتلها ، حتى تكون أطول من أطول منها ) .
5- قال ابن مسعود لعلقمة وقد عجل في القراءة : ( فداك أبي وأمي رتل فإنه زين القرآن) .
6- عن أبى حمزة قال قلت لابن عباس : ( إنى سريع القراءة وإني أقرأ القرآن في ثلاث فقال : لأن اقرأ البقرة في ليلة فأدبرها وأرتلها أحب إلى من أن أقرأ كما تقول) .
7- سئل مجاهد عن رجل قرأ البقرة وآل عمران ورجل قرأ البقرة ، قراءتهما واحدة وركوعهما واحد ، وسجودهما واحد ، أيهما أفضل ؟ قال : الذي يقرأ البقرة ، ثم قرأ (وَقُرْآَنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ) .
8- يقول إسحاق بن إبراهيم عن الفضيل بن عياض كانت قراءته حزينة شهية بطيئة مترسلة كأنه يخاطب إنساناً ، وكان إذا مرّ بآية فيها ذكر الجنة يردد فيها ويسأل ) .
قال الآجري : " القليل من الدرس للقرآن مع الفكر فيه وتدبره أحب إلى من قراءة الكثير من القرآن بغير تدبر ولا تفكر فيه ، فظاهر القرآن يدل على ذلك والسنة وأقوال أئمة المسلمين".
وقال ابن مفلح : " أقل الترتيل ترك العجلة في القرآن عن الإبانة ، وأكمله أن يرتل القراءة ويتوقف فيها " .
- ومنها : القراءة بتحزن وتباكي : القراءة بتحزن وتباكي هي من التفاعل مع القرآن ولها أثر بالغ في التدبر ويشهد لذلك :
1- ماروي عن سعد بن أبي وقاص قال قال - صلى الله عليه وسلم - : ( إن هذا القرآن نزل بحزن ، فإذا قرأتموه فابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا ، وتغنوا به فمن لم يتغن به فليس منا ) .
2- ما روي عن ابن عمر قال : قال - صلى الله عليه وسلم - : ( إن القرآن نزل بحزن فإذا قرأتموه فتحازنوا ) .
3- قال ابن عباس : ( إذا قرأتم سجدة سبحان فلا تعجلوا بالسجود حتى تبكوا فإن لم تبك عين أحدكم فليبك قلبه ) .
قال الإمام الغزالي : " البكاء مستحب مع القراءة .. وإنما طريق تكلف البكاء أن يحضر قلبه الحزن فمن الحزن ينشأ البكاء ، ووجه إحضار الحزن أن يتأمل ما فيه من التهديد والوعيد والمواثيق والعهود ثم يتأمل تقصيره في أوامره وزواجره فيحزن لا محالة ويبكي فإن لم يحضره حزن وبكاء كما يحضر أرباب القلوب الصافية فليبك على فقد الحزن والبكاء فإن ذلك أعظم المصائب" .
- ومنها : ترديد الآية: وترديد الآية وتكرارها له أثر عظيم في حضور القلب واستحضار الآيات والتأثر بها ، وهو من التدبر من حيث إعادة النظرة مرة بعد مرة . ويؤكد ذلك الزمخشري في تفسيره فيقول :" إن في التكرار تقريراً للمعاني في الأنفس ، وتثبيتاً لها في الصدور " .ويقول صاحب كتاب التعبير القرآني والدلالة النفسية : " إن الذين تحدثوا عن علم النفس أشاروا إلى أنه متى كثر تكرار أمر تولّد تيار فكري وعاطفي ، يتلوه ذلك المؤثر العظيم في الأفراد والجماعات ، وهو العدوى ".
وقد ورد ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - والسلف من بعده :
1- أخرج النسائي وابن ماجة عن أبي ذر قال : ( قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بنا ليلة فقام بآية يرددها وهي قوله تعالى : (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [المائدة :118 ].
2- ورد ذلك أيضاً عن عدد من الصحابة والتابعين كعائشة وسعيد بن جبير والربيع بن خثيم وغيرهم .
3- قال بعضهم :إني لأفتتح السورة ، فيوقفني بعض ما أشهد فيها عن الفراغ منها ، حتى يطلع الفجر .
4- روي عن الحسن أنه ردد ليلة (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) [ النحل : 18] حتى أصبح ، فقيل له في ذلك : فقال : إن فيها معتبرا مانرفع طرفا ولا نرده إلا وقع على نعمة ، وما لا نعلمه من نعم الله أكثر ) .
5- روي عن تميم الداري أنه قام ليلة بهذه الآية ( أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ) [ الجاثية : 21] .
6- قال محمد بن عوف الحمصي : "رأيت أحمد بن أبي الحواري عندنا بأنطرسوس ، فلما صلى العتمة قام يصلي : فاستفتح : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) فلما بلغ (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) فطفت الحائط كله ، ثم رجعت ، فإذا هو لا يجاوزها ، ثم نمت ، ومررت في السحر وهو يقرأ (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) فلم يزل يرددها إلى الصبح" .
7- روى أن عامر بن عبد قيس قرأ ليلة سورة (المؤمن) وهي المعروفة بسورة (غافر) ، فلما انتهى إلى هذه الآية (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآَزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ) [ غافر :18 ] لم يزل يرددها حتى أصبح .
8- حكي عن أبي سليمان الداراني أنه قال : " إني لأتلو الآية فأقيم فيها أربع ليال أو خمس ليال ولولا أني أقطع الفكر فيها ما جاوزتها إلى غيرها ) .
وقال ابن القيم : " هذه عادة السلف يردد أحدهم الآية حتى يصبح " । قال الإمام الغزالي : " وإذا لم يتمكن من التدبر إلا بترديد فليردد إلا أن يكون خلف إمام فإنه لو بقي في تدبر آية وقد اشتغل الإمام بآية أخرى كان مسيئاً " .
- ومنها : التفاعل مع الآيات بالسؤال والتعوذ والاستغفار ونحوه عند مناسبة ذلك ، فهو دال على التفاعل الحي وأن القارئ حاضر القلب مع التلاوة ، وهو من أعظم صفات التفاعل الدالة على التدبر ، ولذا كان هو هدي النبي - صلى الله عليه وسلم -والسلف الصالح :
1- أخرج مسلم عن حذيفة : قال صليت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ذات ليلة فافتتح البقرة ، فقلت يركع عند المائة ثم مضى ، فقلت يصلي بها في ركعة فمضى ، فقلت يركع بها ، ثم افتتح النساء فقرأها ثم افتتح آل عمران فقرأها ، يقرأ مترسلاً ، إذا مر بآية فيها تسبيح سبح ، وإذا مرّ بسؤال سأل ، وإذا مرّ بتعوذ تعوذ " .
2- عن أبي هريرة قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( من قرأ منكم بالتين والزيتون فانتهى إلى آخرها أليس الله بأحكم الحاكمين [ التين : 8 ] فليقل بلى وأنا على ذلك من الشاهدين ومن قرأ لا أقسم بيوم القيامة فانتهى إلى أليس ذلك بقادر على أن يحيى الموتى [ القيامة : 40 ] فليقل بلى ومن قرأ والمرسلات فبلغ فبأى حديث بعده يؤمنون [ المرسلات : 50 ] فليقل آمنا بالله ) .
3- عن عقبة بن عامر - رضي الله عنه - : قال : لمَّا نَزَلَتْ : (فَسبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ العَظيم) [الواقعة: 74 ، 96] قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - : (( اجْعلُوهَا في رُكوعِكم)) ، ولمَّا نَزَلَت : (سَبِّح اسمَ رَبِّكَ الأعلى) [الأعلى : 1] قال : ((اجعلوها في سُجُودِكم)) .
4- عن ابن عباس - رضي الله عنه - مرفوعا وموقوفا ( إذا قرأ ( سبح اسم ربك الأعلى [الأعلى:1] قال : سبحان ربي الأعلى )
5- عن جابر بن عبد الله ، قال : لما قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سورة الرحمن على أصحابه حتى فرغ ، قال : (( مالي أراكم سكوتا ؟ للجن كانوا أحسن منكم ردا . ما قرأت عليهم من مرة : فبأي آلاء ربكما تكذبان ، إلا قالوا : ولا بشيء من نعمك ربنا نكذب فلك الحمد ».
6- عن عائشة أنه ذكر لها أن ناسا يقرؤون القرآن في الليل مرة أو مرتين، فقالت: أولئك قرؤوا ولم يقرؤوا، كنت أقوم مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة التمام، فكان يقرأ سورة البقرة وآل عمران والنساء، فلا يمر بآية فيها تخوف إلا دعا الله واستعاذ، ولا يمر بآية فيها استبشار إلا دعا الله ورغب إليه
7- روي عن عباد بن حمزة قال : دخلت على أسماء وهي تقرأ : (فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ) [ الطور : 27] ، قال : فوقفت عليها فجعلت تستعيذ وتدعو ، فذهبت إلى السوق فقضيت حاجتي ثم رجعت وهي فيها بعد تستعيذ وتدعو " .
8- روي عن الحسين الكربيسي قال : بت مع الشافعي ليلة ، فكان يصلي نحو ثلث الليل ، فما رأيته يزيد على خمسين آية ، فإذا أكثر فمئة آية ، وكان لايمر بآية رحمة إلا سأل ، ولا بآية عذاب إلا تعوذ ، وكأنما جمع له الرجاء والرهبة جميعاً .
9- منه مشروعية التأمين بعد قراءة الإمام للفاتحة ، فهو اقتداء وامتثال وهو من التدبر بلا شك ؛ لأنه ناتج عن حضور القلب وفهم المعنى المقصود وهو سؤال الهداية .
/ أما تفاعل الجوارح : فيكون بعدة أمور :
- منها : القشعريرة يشهد لذلك قوله تعالى عن الجلود : (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ) [ الزمر :23] فتأمل كيف ذكر الجلود وتفاعلها بالقشعريرة .
- ومنها الأزيز ودمع العين والنشيج : وقد أثنى الله تعالى على الذين تدمع عيونهم عند سماع القرآن فقال تعالى : (وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آَمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ) [ المائدة :83]. وروى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي ولصدره أزيز كأزيز المرجل ॥ وروي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لابن مسعود " اقرأ علي قال: فافتتحت سورة النساء فلما بلغت " فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً " رأيت عينيه تذرفان بالدمع فقال لي: حسبك الآن ".. وفي صحيح البخاري عن عائشة : " وكان أبو بكر رجلا بكاء لا يملك عينيه إذا قرأ القرآن " .. وعن الحسن قال : كان عمر بن الخطاب يمر بالآية من ورده بالليل فتخنقه العبرة فيبكي حتى يسقط ، ثم يلزم بيته حتى يعاد يحسبونه مريضاً .. . وعن ابن أبي مليكة : قال : صحبت ابن عباس من مكة إلى المدينة ، فكان يصلي ركعتين ، فإذا نزل قام شطر الليل ويرتل القرآن حرفاً حرفاً ، ويكثر في ذلك من النشيج والنحيب. وروي عن بعضهم أنه يغشى عليهم ، ويعضهم يصعق ، ولكن ذلك لم يكن في الصحابة ، قالت أسماء بنت أبي بكر : " ماكان أحد من السلف يغشى عليه ، ولا يصعق عند قراءة القرآن ، وإنما يبكون ويقشعرون ، ثم تلين جلودهم وقلوبهم لذكر الله " .
- ومنها السجود : وقد أثنى الله على الذين يخرون سجداً إذا ذُكِّروا بآيات ربهم أو تليت عليهم : قال تعالى : (إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا) [ مريم : 58] وقال تعالى : (إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآَيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ) [ السجدة : 15] . وقال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا) (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا ) [ الإسراء : 109] .
وتأمل كيف شرع السجود عند هذه الآيات كأنه تفاعل من المستمع بحضور المشهد ودخوله مع الموصوفين ، وهو من التفاعل الدال على التدبر لأنه امتثال واقتداء . قال الإمام الغزالي في كلام نفيس حول التفاعل مع الآيات قلباً ولساناً وجوارحاً :" تأثر العبد بالتلاوة أن يصير بصفة الآية المتلوة :فعند الوعيد وتقييد المغفرة بالشروط يتضاءل من خيفته كأنه يكاد يموت، وعند التوسع ووعد المغفرة يستبشر كأنه يطير من الفرح، وعند ذكر الله وصفاته وأسمائه يتطأطأ خضوعاً لجلاله واستشعاراً لعظمته، وعند ذكر الكفار ما يستحيل على الله كذكرهم لله ولداً وصاحبة يغض صوته ويكسر في باطنه حياء قبح مقالتهم، وعند وصف الجنة ينبعث بباطنه شوقاً إليها، وعند وصف النار ترتعد فرائصه خوفاً منها فمثل هذه الأحوال يخرجه عن أن يكون حاكياً في كلامه: فإذا قال (إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) [يونس :15] ولم يكن خائفاً كان حاكياً. وإذا قال (رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) [الممتحنة :4] ولم يكن حاله التوكل والإنابة كان حاكياً. وإذا قال (وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آَذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ) [ إبراهيم :12] فليكن حاله الصبر أو العزيمة عليه حتى يجد حلاوة التلاوة، فإن لم يكن بهذه الصفات ولم يتردد قلبه بين هذه الحالات كان حظه من التلاوة حركة اللسان ... " .
/ أدلة وشواهد قصد الانتفاع والامتثال :
وهذا هو بيت القصيد ومحط الراحل وغاية المتدبر . وإنما قلنا بتضمن التدبر لقصد الانتفاع والامتثال لأن الغاية من قراءة القرآن هي الانتفاع والامتثال ، والتدبر وسيلة لذلك فلابد أن يتضمنه التدبر الذي هو مقصد نزول القرآن . أما قصد مجرد التلاوة ، أو مجرد العلم بالمعنى دون قصد الانتفاع والامتثال فذلك أمر قاصر عن التدبر . قال عبد الرحمن حبنكة : " ليس الغرض من التدبر مجرد الترف العلمي ، والافتخار بتحصيل المعرفة ، والتوصل إلى كشف المعاني للتعالي بمعرفتها واكتشافها ، وإنما وراء الفهم غرض التذكر والعظة ، والعمل بموجب العلم ، وهذا التذكر المقصود لا يحظى به إلا أولو الألباب " .
والانتفاع المقصود هنا هو الإيمان والعلم : قال شيخ الإسلام : " والإنسان يقرأ السورة مرات حتى سورة الفاتحة ويظهر له في أثناء الحال من معانيها ما لم يكن خطر له قبل ذلك حتى كأنها تلك الساعة نزلت فيؤمن بتلك المعانى ويزداد علمه وعمله ، وهذا موجود في كل من قرأ القرآن بتدبر بخلاف من قرأه مع الغفلة عنه" .
أما الإيمان فالمقصود به ماتورثه القراءة من زيادة الإيمان والخشية ، وهو أعظم غايات الانتفاع بالقرآن وثمراته ويشهد لذلك :
1- قوله تعالى : ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) [ الأنفال : 2].
2- قوله تعالى : ( وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ) [ التوبة :124] .
فتأمل التعبير في الآيتين بقوله زادتهم مما يدل على أن أعظم آثار القرآن هو الإيمان ، وذلك لا يكون إلا بالتدبر ، فالإيمان إذاً مقصد من مقاصد المتدبر.
3- قوله تعالى : ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ أُوْلَـئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمن يَكْفُرْ بِهِ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْخَاسِرُون﴾[20] . فتأمل قوله يتلونه حق تلاوته ثم عقبها بقوله أولئك يؤمنون به مما يدل على أن التلاوة المصاحبة للتدبر مؤدية للإيمان .
وأما العلم فالمقصود به أمران :
أولاً : العلم بما تضمنته الآيات من المعاني والدلالات .
الثاني : العلم بما تضمنته الآيات مما يلزم الامتثال له من الأوامر والنواهي ، وما يلزم الاتعاظ به من الوعد والوعيد ، والعبر والسنن الإلهية ، ويشهد لذلك :
1- قوله تعالى : (وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ) [ العنكبوت : 43]قال السعدي في تفسيره للآية : " ومَا يَعْقِلُهَا بفهمها وتدبرها، وتطبيقها على ما ضربت له، وعقلها في القلب إِلا الْعَالِمُونَ أي: أهل العلم الحقيقي، الذين وصل العلم إلى قلوبهم। وهذا مدح للأمثال التي يضربها، وحثٌّ على تدبرها وتعقلها، ومدح لمن يعقلها، وأنه عنوان على أنه من أهل العلم، فعلم أن من لم يعقلها ليس من العالمين. والسبب في ذلك، أن الأمثال التي يضربها اللّه في القرآن، إنما هي للأمور الكبار، والمطالب العالية، والمسائل الجليلة، فأهل العلم يعرفون أنها أهم من غيرها، لاعتناء اللّه بها، وحثه عباده على تعقلها وتدبرها، فيبذلون جهدهم في معرفتها" .
2- ماورد عن عمر أنه مكث في تعلم سورة البقرة اثنتي عشرة سنة ، وابنه عبد الله مكث في تعلمها ثماني سنين .
3- أخرج ابن أبي حاتم في تفسيره عن عبد الله بن مسعود قال : إذا سمعت الله يقول : ( يا أيها الذين آمنوا ) فأرعها سمعك ؛ فإنه خير يأمر به ، أو شر ينهى عنه . قال الغزالي : " إن سمع قصص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، وقصص الأولين علم أنها لم ترو للتسلية والسمر ، وإنما للعظة والاعتبار ، فما من قصة في القرآن إلا وسياقها لفائدة في حق النبي - صلى الله عليه وسلم - وأمته ، لذلك قال الله تعالى : (وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ) [ هود 120] "
وأما الامتثال فهو يشمل العمل والسلوك ، وهو ثمرة الإيمان وعاقبة التدبر. والقرآن بكونه مثاني مليء بالأساليب المحفزة للامتثال والعمل ، ومنها أسلوب الأمر والنهي ، وأسلوب الجزاء والعقاب ، وأسلوب الوعد والوعيد ، وأسلوب الترغيب والترهيب ، وهذه الأساليب وغيرها دالة على أن القرآن أنزل للامتثال والعمل ، وهذا يؤكد لنا أن التدبر لايكون إلا بالإقبال على القرآن بنية الامتثال والعمل . وهذا هو منهج النبي - صلى الله عليه وسلم - والسلف الصالح ، وغاية مرادهم من القرآن ، ويشهد له :
1- أخرج مسلم عن سعد بن هشام بن عامر قال : سألت عائشة فقلت يا أم المؤمنين : أنبئيني عن خلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالت ألست تقرأ القرآن قلت بلى ، قالت فإن خلق نبي الله - صلى الله عليه وسلم - كان خلقه القرآن। فقلت : أنبئيني عن قيام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت ألست تقرأ يا أيها المزمل[ المزمل :1] قلت : بلى । قالت : فإن الله افترض قيام الليل في أول هذه السورة فقام نبي الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه حولا وأمسك الله خاتمتها اثني عشر شهراً في السماء حتى أنزل الله في آخر هذه السورة التخفيف فصار قيام الليل تطوعا بعد فريضة। । ففي هذا الحديث دلالة على منهج النبي - صلى الله عليه وسلم - في التعامل مع القرآن وهو التخلق بأخلاقه ، والعمل بأوامره ، ولذا حين نزلت عليه سورة المزمل عرف - صلى الله عليه وسلم - حقيقة الأمر وقدّره ، فقال لخديجة وهي تدعوه أن يطمئن وينام : « مضى عهد النوم يا خديجة» .
2- ويشهد لذلك أيضاً ما أخبرت به عائشة حينما سئلت عن خلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقالت:"كان خلقه القرآن، يغضب لغضبه، ويرضى لرضاه" । يصدق ذلك القرآن بقوله تعالى : (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) [ القلم : 4] .
3- وروي عن عمر بن الخطاب أنه قال له رجل هىَّ يا ابن الخطاب ، فوالله ما تعطينا الجزل ، ولا تحكم بيننا بالعدل ، فغضب حتى هم به ، فقال له الحر: يا أمير المؤمنين إن الله تعالى قال لنبيه - صلى الله عليه وسلم - (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) [ الأعراف:199] وإن هذا من الجاهلين ، يقول ابن عباس : والله ما جاوزها عمر حين تلاها عليه ، وكان وقافا عند كتاب الله ).
4- وماروي عن ابن مسعود قال : ( كان الرجل منّا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن والعمل بهن ) .
5- وقال ابن عمر : ( كان الفاضل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - في صدر هذه الأمة لا يحفظ من القرآن إلا السورة أو نحوها ، ورزقوا العمل بالقرآن ، وإن آخر هذه الأمة يرزقون القرآن منهم الصبي والأعمى ، ولا يرزقون العمل به ) .
6- وقال أبو عبد الرحمن السلمي ، وهو أحد تلاميذ الصحابة : إنما أخذنا القرآن من قوم أخبرونا أنهم كانوا إذا تعلموا عشر آيات لم يجاوزوهن إلى العشر الأخر حتى يعلموا ما فيهن من العمل ، قال : فتعلمنا العلم والعمل جميعاً .
7- وقال الحسن البصري: ( والله ما تدبره بحفظ حروفه وإضاعة حدوده حتى إن أحدهم ليقول قرأت القرآن كله ما يرى له القرآن في خلق ولا عمل) .
وقد أكد السلف والعلماء على أن يكون هذا هو حال حامل القرآن وتاليه بحيث يظهر أثر القرآن عليه خلقاً وعملاً ومن ذلك :
1- قال ابن مسعود : ( ينبغي لحامل القرآن أن يعرف بليله إذا الناس ينامون ، وبنهاره إذا الناس يفرطون ، وبحزنه إذا الناس يفرحون ، وببكائه إذا الناس يضحكون ، وبصمته إذا الناس يخوضون ، وبخشوعه إذا الناس يختالون ، وينبغي لحامل القرآن أن يكون مستكينا لينا ، ولا ينبغي له أن يكون جافيا ولا مماريا ولا صياحاً ولا صخاباً ولا حديداً " .
2- عن الفضيل بن عياض قال : ( حامل القرآن حامل راية الإسلام لا ينبغي أن يلهو مع من يلهو ولا يسهو مع من يسهو ولا يلغو مع من يلغو تعظيما لحق القرآن) .
3- قال الآجري في أخلاق حملة القرآن : " يتصفح القرآن ليؤدب به نفسه همته ، متى أكون من المتقين ؟ ، متى أكون من الخاشعين ؟ متى أكون من الصابرين ؟ متى أزهد في الدنيا ؟ متى أنهى نفسي عن الهوى ؟ " .
فهذا يؤكد لنا أن القارئ للقرآن لابد أن يكون مستصحباً في تلاوته نية الامتثال والعمل وهذا هو التدبر .
كما أن للتدبر أركاناً فله واجبات وسنناً ، وتتمثل الواجبات بأقل القدر مما سأذكره من المظاهر ، وتتمثل السنن فيما زاد على ذلك . وهي كالآتي :
أولاً : الوقوف مع الآيات ( بإحضار القلب ، وإلقاء السمع ، وإمعان النظر ، وإعمال العقل )
ثانياً : التأمل فيما وراء النص ( بإدراك مغزى الآيات ، تفهم المعنى ، واستخراج الدلالات والهدايات ) .
ثالثاً : التفاعل مع الآيات بـ:
1- القلب ( بالإيمان والتعظيم للقرآن وللمتكلم به وهو الله تعالى ، واستحضار مقاصد القرآن العامة، والشعور بأن القارئ هو المخاطب بهذه الآيات )
2- اللسان ( بتلاوتها بترتيل وترسل وعلى مكث ، وتحزن وتباكي ، وترديد للآية ، والتفاعل معها بالسؤال والتعوذ والاستغفار عند المرور بما يناسب ذلك )
3- الجوارح ( بالقشعريرة ، ودمع العين ، والسجود عند آيات السجدة ونحوها ).
رابعاً : قصد الانتفاع والامتثال :
1- قصد الانتفاع بالعلم والإيمان والخشية
2- قصد الامتثال بالعمل والسلوك.
/ الأدلة على أن الوقوف مع الآيات يكون (بإحضار القلب وإلقاء السمع وإمعان النظر وإعمال العقل) ظاهرة منها :
1- قوله تعالى : (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) [ ق:37]. فقوله له قلب وقوله وهو شهيد دال على لزوم حضور القلب .
قال السعدي : " (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ) أي: قلب عظيم حي، ذكي، زكي، فهذا إذا ورد عليه شيء من آيات الله، تذكر بها، وانتفع، فارتفع ، وكذلك من ألقى سمعه إلى آيات الله، واستمعها، استماعًا يسترشد به، وقلبه شَهِيدٌ أي: حاضر، فهذا له أيضا ذكرى وموعظة، وشفاء وهدى " . وقوله أو ألقى السمع دال على حضور السمع وإنصاته وإصغاؤه .
قال ابن كثير : " وقال الضحاك: العرب تقول: ألقى فلان سمعه: إذا استمع بأذنيه وهو شاهد يقول غير غائب. وهكذا قال الثوري وغير واحد" .
وقال ابن القيم : " إذا أردت الانتفاع بالقرآن فاجمع قلبك عند تلاوته وسماعه ، وألق سمعك ، واحضر حضور من يخاطبه به من تكلم به سبحانه منه إليه ، فإنه خطاب منه لك على لسان رسوله) .
2- قوله تعالى : (وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآَنٌ مُبِينٌ (69) لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ (70)] [يس:69-70] . .
قال السعدي : " لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا أي: حي القلب واعيه، فهو الذي يزكو على هذا القرآن، وهو الذي يزداد من العلم منه والعمل، ويكون القرآن لقلبه بمنزلة المطر للأرض الطيبة الزاكية" .
/ الدليل على أن التدبر شامل للتأمل فيما وراء النص من إدراك المغزى ، وفهم المعنى ، واستخراج الدلالات والهدايات عدة أمور هي :
أولاً : إدراك مغزى الآيات : لأن القرآن الكريم له مقاصد وغايات جاء لتحقيقها في حياة الأفراد والمجتمعات وهي غايات عامة ، فلابد أن يكون من غرض المتدبر الوقوف على مقاصد الآيات وغاياتها ليدركها ويحققها في نفسه .
قال د.أحمد آل سبالك : " أما المعنى الاصطلاحي لتدبر القرآن كما ورد في كتب التفسير فهو التفكر في غايات القرآن ومقاصده التي يرمي إليها " .
وقالت الدكتور رقية العلواني : " والتدبر إعمالُ الذهن والفكر للتوصلِ إلى مقاصدِ الآياتِ وأهدافها ، وما ترمي إليه " . .
ثانياً : فهم المعنى : لأن التدبر يستلزم فَهْم معاني الآيات ؛ كما يقول ابن جرير - : "محال أنْ يُقَال لمن لا يَفهم ما يُقَال له ،و لا يَعْقِل تأويلَه : "اعتبرْ بِما لا فَهْم لك به ،و لا مَعْرفة مِن القيل والبيان" إلا على معنى الأمْرِ بأنْ يَفْهَمه ،و يفقهه ،ثم يتدبره ،و يعتبر به ،فأَمَّا قَبْل ذلك فمستحيلٌ أَمْرُهُ بتدبُّره ،و هو بمعناه جاهِلٌ " .
قال الشوكاني: " إِنَّ التدبر هو التأمُّل ؛ لفهم المعنى .. " .
/ أدلة وشواهد التفاعل مع الآيات :
التفاعل مع الآيات شامل لتفاعل القلب واللسان والجوارح ، والقصد منه أن يكون خارجاً من كونه حاكياً للكلام إلى كونه ممتثلاً له يعلم أنه هو المقصود والمخاطب به .
فأما تفاعل القلب فهو بالإيمان به والتعظيم الباعث على الخضوع والانقياد .
- أما الإيمان به : فهو يشمل الإيمان والتصديق ابتداءً بأنه كلام الله تعالى أنزله هدى للناس ، واستحضار مقاصده العامة ، وأنه لا سبيل للنجاة إلا به . وصدق الله تعالى حيث قال : (الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ) [ البقرة: 121]. قال مالك بن دينار : ( أقسم لكم لا يؤمن عبد بهذا القرآن إلا صدع قلبه). وقال الإمام البخاري : (لا يجد طعمه ونفعه إلا من آمن بالقرآن ولا يحمله بحقه إلا الموقن) .
والإيمان به يتضمن أيضاً شعور القارئ بأنه مقصود في الخطاب والأمر والنهي.
قال الحسن : " إنكم اتخذتم قراءة القرآن مراحل وجعلتم الليل جملا فأنتم تركبونه فتقطعون به مراحله ، وإن من كان قبلكم رأوه رسائل من ربهم فكانوا يتدبرونها بالليل وينفذونها بالنهار " .
وقال أبو حامد الغزالي عند حديثه عما سماه التخصيص : " أن يقدر قارئ القرآن الكريم أنه المقصود بكل خطاب ورد فيه ، فإن سمع أمراً أو نهياً قدّر أنه المنهي والمأمور ، وإن سمع وعداً أو وعيداً فكمثل ذلك.. " .
وقال ابن قدامة : " ينبغي لتالي القرآن أن يعلم أنه المقصود بخطاب القرآن ووعيده ، وأن القصص لم يرد بها السمر بل العبر ) .
- وأما التعظيم : فهو تعظيم الكلام وتعظيم المتكلم به وهو الله تعالى ؛ تعظيماً يبعث على الخضوع والانقياد والامتثال ، تأمل كيف كان حال النبي - صلى الله عليه وسلم - عند نزول القرآن عليه :
فعن عائشة أم المؤمنين أن الحارث بن هشام سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال يا رسول الله كيف يأتيك الوحي ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( أحياناً يأتيني مثل صلصلة الجرس وهو أشده علي فيفصم عني وقد وعيت عنه ما قال وأحياناً يتمثل لي الملك رجلا فيكلمني فأعي ما يقول ) . .
وعن ابن عباس قال : ( كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا نزل عليه الوحي ثقل عليه وتربَّد له جِلده ) - أي تغير بمثل القشعريرة - فانظر كيف كان عظم أمر الوحي في نفس رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
وتأمل قول الله تعالى في وصف أهل القرآن :
(اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ) [ الزمر :23] .
فانظر كيف وصفهم بالقشعريرة من خشيتهم لربهم وتعظيمهم له وتعظيماً لكلامه تعالى عند سماعه وقراءته ، وذلك الذي بعثهم على الخضوع له والانقياد، ولذلك قال بعدها : ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ . وبهذا نعلم بأن التدبر لا يكون إلا بالتعظيم .
قال أبو حامد الغزالي في أعمال الباطن في التلاوة: " فالأول فهم عظمة الكلام وعلوه وفضل الله ولطفه بخلقه في نزوله عن عرش جلاله إلى درجة إفهام خلقه .... فإن المعظم للكلام الذي يتلوه يستبشر به ويستأنس ولا يغفل عنه . والثاني التعظيم للمتكلم فالقارئ عند البداية بتلاوة القرآن ينبغي أن يحضر في قلبه عظمة المتكلم ويعلم أن ما يقرؤه ليس من كلام البشر وإن في تلاوة كلام الله عز و جل غاية الخطر"..
/ وأما تفاعل اللسان : فيكون في عدة أمور :
- منها : تحسين القراءة وترتيلها والتغني بها من غير تمطيط مفرط يغير النظم ، وذلك سنة ، ويشهد لذلك :
ما أخرجه أصحاب السنن وغيرهم عن البراء بن عازب ، قال - صلى الله عليه وسلم -: (( حسنوا القرآن بأصواتكم )) ..
وأخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال : قال - صلى الله عليه وسلم - -: (( ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي يتغنى بالقرآن )) زاد مسلم (( لنبي حسن الصوت ))
وأخرج البخاري عن أبي هريرة قال : قال - صلى الله عليه وسلم - : (( ليس منا من لم يتغن بالقرآن )) ، قيل أراد به الاستغناء ، وقيل أراد به الترنم وترديد الألحان به وهو أقرب عند أهل اللغة .
وعن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استمع إلى ابن مسعود وهو يقرأ فوقف طويلا ثم قال : (( من أحب أن يقرأ القرآن غضا طريا كما أنزل فليقرأه على قراءة ابن أم عبد)) .
- منها : قراءة القرآن بترسل وترتيل وعلى مكث : وقد جاء القرآن بالأمر بذلك ومنه :
1- قوله تعالى : (وَرَتِّلِ الْقُرْآَنَ تَرْتِيلًا) [ المزمل : 4]
قال ابن كثير : " وقوله: (وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلا) أي: اقرأه على تمهل، فإنه يكون عونا على فهم القرآن وتدبره। وكذلك كان يقرأ - صلى الله عليه وسلم - ، قالت عائشة: كان يقرأ السورة فيرتلها، حتى تكون أطول من أطول منها. وفي صحيح البخاري، عن أنس: أنه سئل عن قراءة رسول الله ، فقال: كانت مدًا، ثم قرأ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ يمد بسم الله، ويمد الرحمن، ويمد الرحيم. وقال ابن جُرَيج، عن ابن أبي مُلَيكة عن أم سلمة: أنها سُئلت عن قراءة رسول الله ، فقالت: كان يقطع قراءته آية آية، بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي. " ..
وقال ابن عاشور : " والترتيل : جعل الشيء مرتَّلاً ، أي مفرقاً ...وأريد بترتيل القرآن ترتيل قراءته ، أي التمهل .... وفائدة هذا أن يرسخ حفظه ويتلقاه السامعون فيعلَقُ بحوافظهم ، ويتدبر قارئه وسامعه معانيَه كي لا يسبق لفظُ اللسان عملَ الفهم" ..
2- قوله تعالى : (وَقُرْآَنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا) [ الإسراء :104] ، قال مجاهد على مكث على تؤدة .
3- كانت قراءة النبي - صلى الله عليه وسلم - كما نعتتها أم سلمة قالت : كانت قراءة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -مفسرة حرفاً حرفاً .
4- عن حفصة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - ، أنها قالت : (كان - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في السورة ، فيرتلها ، حتى تكون أطول من أطول منها ) .
5- قال ابن مسعود لعلقمة وقد عجل في القراءة : ( فداك أبي وأمي رتل فإنه زين القرآن) .
6- عن أبى حمزة قال قلت لابن عباس : ( إنى سريع القراءة وإني أقرأ القرآن في ثلاث فقال : لأن اقرأ البقرة في ليلة فأدبرها وأرتلها أحب إلى من أن أقرأ كما تقول) .
7- سئل مجاهد عن رجل قرأ البقرة وآل عمران ورجل قرأ البقرة ، قراءتهما واحدة وركوعهما واحد ، وسجودهما واحد ، أيهما أفضل ؟ قال : الذي يقرأ البقرة ، ثم قرأ (وَقُرْآَنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ) .
8- يقول إسحاق بن إبراهيم عن الفضيل بن عياض كانت قراءته حزينة شهية بطيئة مترسلة كأنه يخاطب إنساناً ، وكان إذا مرّ بآية فيها ذكر الجنة يردد فيها ويسأل ) .
قال الآجري : " القليل من الدرس للقرآن مع الفكر فيه وتدبره أحب إلى من قراءة الكثير من القرآن بغير تدبر ولا تفكر فيه ، فظاهر القرآن يدل على ذلك والسنة وأقوال أئمة المسلمين".
وقال ابن مفلح : " أقل الترتيل ترك العجلة في القرآن عن الإبانة ، وأكمله أن يرتل القراءة ويتوقف فيها " .
- ومنها : القراءة بتحزن وتباكي : القراءة بتحزن وتباكي هي من التفاعل مع القرآن ولها أثر بالغ في التدبر ويشهد لذلك :
1- ماروي عن سعد بن أبي وقاص قال قال - صلى الله عليه وسلم - : ( إن هذا القرآن نزل بحزن ، فإذا قرأتموه فابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا ، وتغنوا به فمن لم يتغن به فليس منا ) .
2- ما روي عن ابن عمر قال : قال - صلى الله عليه وسلم - : ( إن القرآن نزل بحزن فإذا قرأتموه فتحازنوا ) .
3- قال ابن عباس : ( إذا قرأتم سجدة سبحان فلا تعجلوا بالسجود حتى تبكوا فإن لم تبك عين أحدكم فليبك قلبه ) .
قال الإمام الغزالي : " البكاء مستحب مع القراءة .. وإنما طريق تكلف البكاء أن يحضر قلبه الحزن فمن الحزن ينشأ البكاء ، ووجه إحضار الحزن أن يتأمل ما فيه من التهديد والوعيد والمواثيق والعهود ثم يتأمل تقصيره في أوامره وزواجره فيحزن لا محالة ويبكي فإن لم يحضره حزن وبكاء كما يحضر أرباب القلوب الصافية فليبك على فقد الحزن والبكاء فإن ذلك أعظم المصائب" .
- ومنها : ترديد الآية: وترديد الآية وتكرارها له أثر عظيم في حضور القلب واستحضار الآيات والتأثر بها ، وهو من التدبر من حيث إعادة النظرة مرة بعد مرة . ويؤكد ذلك الزمخشري في تفسيره فيقول :" إن في التكرار تقريراً للمعاني في الأنفس ، وتثبيتاً لها في الصدور " .ويقول صاحب كتاب التعبير القرآني والدلالة النفسية : " إن الذين تحدثوا عن علم النفس أشاروا إلى أنه متى كثر تكرار أمر تولّد تيار فكري وعاطفي ، يتلوه ذلك المؤثر العظيم في الأفراد والجماعات ، وهو العدوى ".
وقد ورد ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - والسلف من بعده :
1- أخرج النسائي وابن ماجة عن أبي ذر قال : ( قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بنا ليلة فقام بآية يرددها وهي قوله تعالى : (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [المائدة :118 ].
2- ورد ذلك أيضاً عن عدد من الصحابة والتابعين كعائشة وسعيد بن جبير والربيع بن خثيم وغيرهم .
3- قال بعضهم :إني لأفتتح السورة ، فيوقفني بعض ما أشهد فيها عن الفراغ منها ، حتى يطلع الفجر .
4- روي عن الحسن أنه ردد ليلة (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) [ النحل : 18] حتى أصبح ، فقيل له في ذلك : فقال : إن فيها معتبرا مانرفع طرفا ولا نرده إلا وقع على نعمة ، وما لا نعلمه من نعم الله أكثر ) .
5- روي عن تميم الداري أنه قام ليلة بهذه الآية ( أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ) [ الجاثية : 21] .
6- قال محمد بن عوف الحمصي : "رأيت أحمد بن أبي الحواري عندنا بأنطرسوس ، فلما صلى العتمة قام يصلي : فاستفتح : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) فلما بلغ (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) فطفت الحائط كله ، ثم رجعت ، فإذا هو لا يجاوزها ، ثم نمت ، ومررت في السحر وهو يقرأ (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) فلم يزل يرددها إلى الصبح" .
7- روى أن عامر بن عبد قيس قرأ ليلة سورة (المؤمن) وهي المعروفة بسورة (غافر) ، فلما انتهى إلى هذه الآية (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآَزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ) [ غافر :18 ] لم يزل يرددها حتى أصبح .
8- حكي عن أبي سليمان الداراني أنه قال : " إني لأتلو الآية فأقيم فيها أربع ليال أو خمس ليال ولولا أني أقطع الفكر فيها ما جاوزتها إلى غيرها ) .
وقال ابن القيم : " هذه عادة السلف يردد أحدهم الآية حتى يصبح " । قال الإمام الغزالي : " وإذا لم يتمكن من التدبر إلا بترديد فليردد إلا أن يكون خلف إمام فإنه لو بقي في تدبر آية وقد اشتغل الإمام بآية أخرى كان مسيئاً " .
- ومنها : التفاعل مع الآيات بالسؤال والتعوذ والاستغفار ونحوه عند مناسبة ذلك ، فهو دال على التفاعل الحي وأن القارئ حاضر القلب مع التلاوة ، وهو من أعظم صفات التفاعل الدالة على التدبر ، ولذا كان هو هدي النبي - صلى الله عليه وسلم -والسلف الصالح :
1- أخرج مسلم عن حذيفة : قال صليت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ذات ليلة فافتتح البقرة ، فقلت يركع عند المائة ثم مضى ، فقلت يصلي بها في ركعة فمضى ، فقلت يركع بها ، ثم افتتح النساء فقرأها ثم افتتح آل عمران فقرأها ، يقرأ مترسلاً ، إذا مر بآية فيها تسبيح سبح ، وإذا مرّ بسؤال سأل ، وإذا مرّ بتعوذ تعوذ " .
2- عن أبي هريرة قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( من قرأ منكم بالتين والزيتون فانتهى إلى آخرها أليس الله بأحكم الحاكمين [ التين : 8 ] فليقل بلى وأنا على ذلك من الشاهدين ومن قرأ لا أقسم بيوم القيامة فانتهى إلى أليس ذلك بقادر على أن يحيى الموتى [ القيامة : 40 ] فليقل بلى ومن قرأ والمرسلات فبلغ فبأى حديث بعده يؤمنون [ المرسلات : 50 ] فليقل آمنا بالله ) .
3- عن عقبة بن عامر - رضي الله عنه - : قال : لمَّا نَزَلَتْ : (فَسبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ العَظيم) [الواقعة: 74 ، 96] قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - : (( اجْعلُوهَا في رُكوعِكم)) ، ولمَّا نَزَلَت : (سَبِّح اسمَ رَبِّكَ الأعلى) [الأعلى : 1] قال : ((اجعلوها في سُجُودِكم)) .
4- عن ابن عباس - رضي الله عنه - مرفوعا وموقوفا ( إذا قرأ ( سبح اسم ربك الأعلى [الأعلى:1] قال : سبحان ربي الأعلى )
5- عن جابر بن عبد الله ، قال : لما قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سورة الرحمن على أصحابه حتى فرغ ، قال : (( مالي أراكم سكوتا ؟ للجن كانوا أحسن منكم ردا . ما قرأت عليهم من مرة : فبأي آلاء ربكما تكذبان ، إلا قالوا : ولا بشيء من نعمك ربنا نكذب فلك الحمد ».
6- عن عائشة أنه ذكر لها أن ناسا يقرؤون القرآن في الليل مرة أو مرتين، فقالت: أولئك قرؤوا ولم يقرؤوا، كنت أقوم مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة التمام، فكان يقرأ سورة البقرة وآل عمران والنساء، فلا يمر بآية فيها تخوف إلا دعا الله واستعاذ، ولا يمر بآية فيها استبشار إلا دعا الله ورغب إليه
7- روي عن عباد بن حمزة قال : دخلت على أسماء وهي تقرأ : (فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ) [ الطور : 27] ، قال : فوقفت عليها فجعلت تستعيذ وتدعو ، فذهبت إلى السوق فقضيت حاجتي ثم رجعت وهي فيها بعد تستعيذ وتدعو " .
8- روي عن الحسين الكربيسي قال : بت مع الشافعي ليلة ، فكان يصلي نحو ثلث الليل ، فما رأيته يزيد على خمسين آية ، فإذا أكثر فمئة آية ، وكان لايمر بآية رحمة إلا سأل ، ولا بآية عذاب إلا تعوذ ، وكأنما جمع له الرجاء والرهبة جميعاً .
9- منه مشروعية التأمين بعد قراءة الإمام للفاتحة ، فهو اقتداء وامتثال وهو من التدبر بلا شك ؛ لأنه ناتج عن حضور القلب وفهم المعنى المقصود وهو سؤال الهداية .
/ أما تفاعل الجوارح : فيكون بعدة أمور :
- منها : القشعريرة يشهد لذلك قوله تعالى عن الجلود : (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ) [ الزمر :23] فتأمل كيف ذكر الجلود وتفاعلها بالقشعريرة .
- ومنها الأزيز ودمع العين والنشيج : وقد أثنى الله تعالى على الذين تدمع عيونهم عند سماع القرآن فقال تعالى : (وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آَمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ) [ المائدة :83]. وروى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي ولصدره أزيز كأزيز المرجل ॥ وروي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لابن مسعود " اقرأ علي قال: فافتتحت سورة النساء فلما بلغت " فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً " رأيت عينيه تذرفان بالدمع فقال لي: حسبك الآن ".. وفي صحيح البخاري عن عائشة : " وكان أبو بكر رجلا بكاء لا يملك عينيه إذا قرأ القرآن " .. وعن الحسن قال : كان عمر بن الخطاب يمر بالآية من ورده بالليل فتخنقه العبرة فيبكي حتى يسقط ، ثم يلزم بيته حتى يعاد يحسبونه مريضاً .. . وعن ابن أبي مليكة : قال : صحبت ابن عباس من مكة إلى المدينة ، فكان يصلي ركعتين ، فإذا نزل قام شطر الليل ويرتل القرآن حرفاً حرفاً ، ويكثر في ذلك من النشيج والنحيب. وروي عن بعضهم أنه يغشى عليهم ، ويعضهم يصعق ، ولكن ذلك لم يكن في الصحابة ، قالت أسماء بنت أبي بكر : " ماكان أحد من السلف يغشى عليه ، ولا يصعق عند قراءة القرآن ، وإنما يبكون ويقشعرون ، ثم تلين جلودهم وقلوبهم لذكر الله " .
- ومنها السجود : وقد أثنى الله على الذين يخرون سجداً إذا ذُكِّروا بآيات ربهم أو تليت عليهم : قال تعالى : (إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا) [ مريم : 58] وقال تعالى : (إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآَيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ) [ السجدة : 15] . وقال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا) (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا ) [ الإسراء : 109] .
وتأمل كيف شرع السجود عند هذه الآيات كأنه تفاعل من المستمع بحضور المشهد ودخوله مع الموصوفين ، وهو من التفاعل الدال على التدبر لأنه امتثال واقتداء . قال الإمام الغزالي في كلام نفيس حول التفاعل مع الآيات قلباً ولساناً وجوارحاً :" تأثر العبد بالتلاوة أن يصير بصفة الآية المتلوة :فعند الوعيد وتقييد المغفرة بالشروط يتضاءل من خيفته كأنه يكاد يموت، وعند التوسع ووعد المغفرة يستبشر كأنه يطير من الفرح، وعند ذكر الله وصفاته وأسمائه يتطأطأ خضوعاً لجلاله واستشعاراً لعظمته، وعند ذكر الكفار ما يستحيل على الله كذكرهم لله ولداً وصاحبة يغض صوته ويكسر في باطنه حياء قبح مقالتهم، وعند وصف الجنة ينبعث بباطنه شوقاً إليها، وعند وصف النار ترتعد فرائصه خوفاً منها فمثل هذه الأحوال يخرجه عن أن يكون حاكياً في كلامه: فإذا قال (إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) [يونس :15] ولم يكن خائفاً كان حاكياً. وإذا قال (رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) [الممتحنة :4] ولم يكن حاله التوكل والإنابة كان حاكياً. وإذا قال (وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آَذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ) [ إبراهيم :12] فليكن حاله الصبر أو العزيمة عليه حتى يجد حلاوة التلاوة، فإن لم يكن بهذه الصفات ولم يتردد قلبه بين هذه الحالات كان حظه من التلاوة حركة اللسان ... " .
/ أدلة وشواهد قصد الانتفاع والامتثال :
وهذا هو بيت القصيد ومحط الراحل وغاية المتدبر . وإنما قلنا بتضمن التدبر لقصد الانتفاع والامتثال لأن الغاية من قراءة القرآن هي الانتفاع والامتثال ، والتدبر وسيلة لذلك فلابد أن يتضمنه التدبر الذي هو مقصد نزول القرآن . أما قصد مجرد التلاوة ، أو مجرد العلم بالمعنى دون قصد الانتفاع والامتثال فذلك أمر قاصر عن التدبر . قال عبد الرحمن حبنكة : " ليس الغرض من التدبر مجرد الترف العلمي ، والافتخار بتحصيل المعرفة ، والتوصل إلى كشف المعاني للتعالي بمعرفتها واكتشافها ، وإنما وراء الفهم غرض التذكر والعظة ، والعمل بموجب العلم ، وهذا التذكر المقصود لا يحظى به إلا أولو الألباب " .
والانتفاع المقصود هنا هو الإيمان والعلم : قال شيخ الإسلام : " والإنسان يقرأ السورة مرات حتى سورة الفاتحة ويظهر له في أثناء الحال من معانيها ما لم يكن خطر له قبل ذلك حتى كأنها تلك الساعة نزلت فيؤمن بتلك المعانى ويزداد علمه وعمله ، وهذا موجود في كل من قرأ القرآن بتدبر بخلاف من قرأه مع الغفلة عنه" .
أما الإيمان فالمقصود به ماتورثه القراءة من زيادة الإيمان والخشية ، وهو أعظم غايات الانتفاع بالقرآن وثمراته ويشهد لذلك :
1- قوله تعالى : ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) [ الأنفال : 2].
2- قوله تعالى : ( وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ) [ التوبة :124] .
فتأمل التعبير في الآيتين بقوله زادتهم مما يدل على أن أعظم آثار القرآن هو الإيمان ، وذلك لا يكون إلا بالتدبر ، فالإيمان إذاً مقصد من مقاصد المتدبر.
3- قوله تعالى : ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ أُوْلَـئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمن يَكْفُرْ بِهِ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْخَاسِرُون﴾[20] . فتأمل قوله يتلونه حق تلاوته ثم عقبها بقوله أولئك يؤمنون به مما يدل على أن التلاوة المصاحبة للتدبر مؤدية للإيمان .
وأما العلم فالمقصود به أمران :
أولاً : العلم بما تضمنته الآيات من المعاني والدلالات .
الثاني : العلم بما تضمنته الآيات مما يلزم الامتثال له من الأوامر والنواهي ، وما يلزم الاتعاظ به من الوعد والوعيد ، والعبر والسنن الإلهية ، ويشهد لذلك :
1- قوله تعالى : (وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ) [ العنكبوت : 43]قال السعدي في تفسيره للآية : " ومَا يَعْقِلُهَا بفهمها وتدبرها، وتطبيقها على ما ضربت له، وعقلها في القلب إِلا الْعَالِمُونَ أي: أهل العلم الحقيقي، الذين وصل العلم إلى قلوبهم। وهذا مدح للأمثال التي يضربها، وحثٌّ على تدبرها وتعقلها، ومدح لمن يعقلها، وأنه عنوان على أنه من أهل العلم، فعلم أن من لم يعقلها ليس من العالمين. والسبب في ذلك، أن الأمثال التي يضربها اللّه في القرآن، إنما هي للأمور الكبار، والمطالب العالية، والمسائل الجليلة، فأهل العلم يعرفون أنها أهم من غيرها، لاعتناء اللّه بها، وحثه عباده على تعقلها وتدبرها، فيبذلون جهدهم في معرفتها" .
2- ماورد عن عمر أنه مكث في تعلم سورة البقرة اثنتي عشرة سنة ، وابنه عبد الله مكث في تعلمها ثماني سنين .
3- أخرج ابن أبي حاتم في تفسيره عن عبد الله بن مسعود قال : إذا سمعت الله يقول : ( يا أيها الذين آمنوا ) فأرعها سمعك ؛ فإنه خير يأمر به ، أو شر ينهى عنه . قال الغزالي : " إن سمع قصص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، وقصص الأولين علم أنها لم ترو للتسلية والسمر ، وإنما للعظة والاعتبار ، فما من قصة في القرآن إلا وسياقها لفائدة في حق النبي - صلى الله عليه وسلم - وأمته ، لذلك قال الله تعالى : (وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ) [ هود 120] "
وأما الامتثال فهو يشمل العمل والسلوك ، وهو ثمرة الإيمان وعاقبة التدبر. والقرآن بكونه مثاني مليء بالأساليب المحفزة للامتثال والعمل ، ومنها أسلوب الأمر والنهي ، وأسلوب الجزاء والعقاب ، وأسلوب الوعد والوعيد ، وأسلوب الترغيب والترهيب ، وهذه الأساليب وغيرها دالة على أن القرآن أنزل للامتثال والعمل ، وهذا يؤكد لنا أن التدبر لايكون إلا بالإقبال على القرآن بنية الامتثال والعمل . وهذا هو منهج النبي - صلى الله عليه وسلم - والسلف الصالح ، وغاية مرادهم من القرآن ، ويشهد له :
1- أخرج مسلم عن سعد بن هشام بن عامر قال : سألت عائشة فقلت يا أم المؤمنين : أنبئيني عن خلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالت ألست تقرأ القرآن قلت بلى ، قالت فإن خلق نبي الله - صلى الله عليه وسلم - كان خلقه القرآن। فقلت : أنبئيني عن قيام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت ألست تقرأ يا أيها المزمل[ المزمل :1] قلت : بلى । قالت : فإن الله افترض قيام الليل في أول هذه السورة فقام نبي الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه حولا وأمسك الله خاتمتها اثني عشر شهراً في السماء حتى أنزل الله في آخر هذه السورة التخفيف فصار قيام الليل تطوعا بعد فريضة। । ففي هذا الحديث دلالة على منهج النبي - صلى الله عليه وسلم - في التعامل مع القرآن وهو التخلق بأخلاقه ، والعمل بأوامره ، ولذا حين نزلت عليه سورة المزمل عرف - صلى الله عليه وسلم - حقيقة الأمر وقدّره ، فقال لخديجة وهي تدعوه أن يطمئن وينام : « مضى عهد النوم يا خديجة» .
2- ويشهد لذلك أيضاً ما أخبرت به عائشة حينما سئلت عن خلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقالت:"كان خلقه القرآن، يغضب لغضبه، ويرضى لرضاه" । يصدق ذلك القرآن بقوله تعالى : (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) [ القلم : 4] .
3- وروي عن عمر بن الخطاب أنه قال له رجل هىَّ يا ابن الخطاب ، فوالله ما تعطينا الجزل ، ولا تحكم بيننا بالعدل ، فغضب حتى هم به ، فقال له الحر: يا أمير المؤمنين إن الله تعالى قال لنبيه - صلى الله عليه وسلم - (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) [ الأعراف:199] وإن هذا من الجاهلين ، يقول ابن عباس : والله ما جاوزها عمر حين تلاها عليه ، وكان وقافا عند كتاب الله ).
4- وماروي عن ابن مسعود قال : ( كان الرجل منّا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن والعمل بهن ) .
5- وقال ابن عمر : ( كان الفاضل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - في صدر هذه الأمة لا يحفظ من القرآن إلا السورة أو نحوها ، ورزقوا العمل بالقرآن ، وإن آخر هذه الأمة يرزقون القرآن منهم الصبي والأعمى ، ولا يرزقون العمل به ) .
6- وقال أبو عبد الرحمن السلمي ، وهو أحد تلاميذ الصحابة : إنما أخذنا القرآن من قوم أخبرونا أنهم كانوا إذا تعلموا عشر آيات لم يجاوزوهن إلى العشر الأخر حتى يعلموا ما فيهن من العمل ، قال : فتعلمنا العلم والعمل جميعاً .
7- وقال الحسن البصري: ( والله ما تدبره بحفظ حروفه وإضاعة حدوده حتى إن أحدهم ليقول قرأت القرآن كله ما يرى له القرآن في خلق ولا عمل) .
وقد أكد السلف والعلماء على أن يكون هذا هو حال حامل القرآن وتاليه بحيث يظهر أثر القرآن عليه خلقاً وعملاً ومن ذلك :
1- قال ابن مسعود : ( ينبغي لحامل القرآن أن يعرف بليله إذا الناس ينامون ، وبنهاره إذا الناس يفرطون ، وبحزنه إذا الناس يفرحون ، وببكائه إذا الناس يضحكون ، وبصمته إذا الناس يخوضون ، وبخشوعه إذا الناس يختالون ، وينبغي لحامل القرآن أن يكون مستكينا لينا ، ولا ينبغي له أن يكون جافيا ولا مماريا ولا صياحاً ولا صخاباً ولا حديداً " .
2- عن الفضيل بن عياض قال : ( حامل القرآن حامل راية الإسلام لا ينبغي أن يلهو مع من يلهو ولا يسهو مع من يسهو ولا يلغو مع من يلغو تعظيما لحق القرآن) .
3- قال الآجري في أخلاق حملة القرآن : " يتصفح القرآن ليؤدب به نفسه همته ، متى أكون من المتقين ؟ ، متى أكون من الخاشعين ؟ متى أكون من الصابرين ؟ متى أزهد في الدنيا ؟ متى أنهى نفسي عن الهوى ؟ " .
فهذا يؤكد لنا أن القارئ للقرآن لابد أن يكون مستصحباً في تلاوته نية الامتثال والعمل وهذا هو التدبر .
--------------------------------------
من (دراسة) مفهوم التدبر في ضوء القرآن والسنة وأقوال سلف الأمة
إعداد :د. محمد بن عبد الله الربيعة
الأستاذ المساعد بقسم القرآن وعلومه
بكلية الشريعة وأصول الدين في جامعة القصيم
ملتقى أهل التفسير
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق