الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللمسلمين والمسلمات أما بعد:
فيقول الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله في قوله (ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله وما الله بغافل عما تعملون)
ن/ «(ثم قست قلوبكم) أي اشتدت وغلظت فلم تؤثر فيها الموعظة، (من بعد ذلك) أي من بعد ما أنعم الله تعالى عليكم بالنعم العظيمة وأراكم الآيات ولم يكن ينبغي أن تقسو قلوبكم لأن ما شاهدتم مما يوجب رقة القلب وانقياده، ثم وصف قسوتها بأنها كالحجارة التي هي أشد قسوة من الحديد لأن الحديد والرصاص إذا أذيب في النار ذاب بخلاف الأحجار، وقوله (أو أشد قسوة) أي أنها لا تقصر عن قساوة الأحجار وليست (أو) بمعنى (بل)، ثم ذكر فضيلة الأحجار على قلوبهم فقال: (وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله) فبهذه الأمور فضلت الحجارة قلوبكم. ثم توعدهم تعالى أشد الوعيد فقال: (وما الله بغافل عما تعملون) بل هو عالم بها حافظ لصغيرها وكبيرها وسيجازيكم على ذلك أتم الجزاء وأوفاه، واعلم أن كثيرا من المفسرين رحمهم الله قد أكثروا في حشو تفاسيرهم من قصص بني إسرائيل»ت/ بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علما وأصلح لنا إلهنا شأننا كله ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين، اللهم فقهنا في الدين وعلمنا التأويل يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام أما بعد: يقول الله جل وعلا (ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة) لا يزال الخطاب لبني إسرائيل، قد ذكر الله عز وجل كما مر معنا في الآيات السابقات ما كانوا عليه من التعنت والجدال وأيضا غلطة القلوب والتكذيب بما جاء به موسى عليه السلام، ذكر الله سبحانه وتعالى عنهم أمورا عديدة ثم ختم ذلك بقصة القتيل الذي ادّارؤا فيه كلٌ يلقي بالتهمة على غيره فأحياه الله وقال الذي قتلني فلان، وهذه آية باهرة تليّن القلب القاسي، يرى آية باهرة تدل على عظمة الله، رجل قُتل يتشطح بدمه ثم يحيا، يُبعث حيا ويُعين قاتله، ومن قبلها أيضا مرّ معنا في سياق الآيات القرآنية الآيات التي أيّد الله سبحانه وتعالى بها موسى - مثل ما مر معنا - رفع الجبل كأنه ظلة وغير ذلك مما مرّ، فمع هذه الآيات كلها التي يفترض أنها تُلين القلب القاسي، مع هذه الآيات قست قلوبهم وازدادت قسوة والمفروض هو خلاف ذلك، لو كان القلب قاسيا أن يلين بما يرى من الآيات الباهرة الدالة على عظمة الله سبحانه وتعالى.
قال: (ثم قست قلوبكم من بعد ذلك) أي من بعد كل هذه الآيات التي من آخرها ذكرا إحياء القتيل وإخباره بقاتله.
●(ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة)
(فهي) أي قلوبهم، (كالحجارة) أي صارت كالحجارة، صارت مثل الحجارة.
● (فهي كالحجارة أو أشد قسوة)
(هي) هذا مبتدأ، والكاف: خبر (فهي) مثل الحجارة، الكاف خبر و(أشد) معطوفة على الكاف ولهذا جاءت مرفوعة عطفا على المرفوع قال: (فهي كالحجارة أو أشد قسوة) أي من الحجارة.
قيل: إن (أو) بمعنى الواو
وقيل: بمعنى (بل)
الشيخ - كما سيأتي – قال: ليست بمعنى (بل).
وقيل: إن (أو) للتخيير يعني: إن قلتم كالحجارة فهي كذلك، وإن قلتم أشد فهي كذلك، فقلوبهم في غلظتها إن وصفها الواصف بأنها كالحجارة في قسوتها فهي كذلك، وإن قال هي أشد من الحجارة في قسوتها فهي كذلك من شدة القسوة، هذا بيان شدة القسوة التي آلت إليها قلوب أولئك.
ثم ذكر جل وعلا في شأن الحجارة ما يدل على تفضيلها عليهم، وأيضا يتضمن هذا عذر للحجارة، الحجارة قاسية ومع ذلك فيها هذه المعاني العظيمة ولهذا قال أبو العالية: "عذر الله الحجارة ولم يعذر القاسية قلوبهم"، وقال قتادة: "عذر الله الحجارة ولم يعذر شقي بني آدم" عذر الله الحجارة قال (وإن من الحجارة) الحجارة قاسية صلبة لكن مع ذلك هذا من شأنها وهذا من حالها (إن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله) من الحجارة ما (لما يتفجر منه الأنهار) يعني ينفرج وتنبع منها المياه الغزيرة التي تصير أنهارا من غزارتها، (وإن منها لما يشقق) يتصدع (فيخرج منها الماء)، (وإن منها لما يهبط من خشية الله) يعني يسقط من أعلى الجبل إلى أسفله من خشيه الله سبحانه وتعالى.
ولما نقرأ مثل هذه الآيات لا يذهب ذهننا إلى أي معنى آخر غير الحقيقة التي يدل عليها اللفظ (يهبط من خشية الله) نقول كما قال ربنا (يهبط من خشية الله) ما نذهب مذاهب التأويل التي يصرف فيها المعنى عن حقيقتهم والله على كل شيء قدير.
الصحابة سمعوا حجارة في يد النبي عليه الصلاة والسلام تُسبح، سمعوا صوت تسبيحها والله يقول (تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم) وبعض الناس إذا لم يفقه هذه المعاني، إذا لم يفقهها ذهب إلى تأويلها وحملها على المعاني البعيدة، (تهبط من خشية الله) نقول تهبط من خشية الله، حجارة تهبط؟! نقول نعم ربنا الذي خلقها أخبرنا بذلك أنها تهبط ونحن نقول تهبط من خشية الله، نقول نعم من خشية الله كما قال الله جل وعلا وربنا على كل شيء قدير، ربنا سبحانه وتعالى على كل شيء قدير، ثبت في الحديث الصحيح أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (إني لأعلم حجرا في مكة يسلم علي إذا مررت به)، الجبل الذي شمال المدينة جبل أحد قال عليه الصلاة والسلام: (هذا جبل يحبنا ونحبه) نقول يحبنا مثل ما قال عليه الصلاة والسلام، فمثل هذه النصوص يُؤمن بها كما أخبر ربنا جل وعلا وما جاء في السنة، نؤمن به كما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام ونحذر من مسالك التأويل التي لما لم تفقه قلوبهم هذه المعاني صرفوها إلى معاني بعيدة وحملوها على مجاز اللغة وتأويلات بعيدة حاصلها صرف النص عن ظاهره، حاصلها نفي ما أثبت الله حاصل التأويل نفي ما أثبت الله، يعني الله يقول تهبط من خشيه الله، يقولون: لا ليست تهبط، المراد كذا والمراد كذا، ويأتون بتأويلات حاصلها نفي الذي أخبر الله سبحانه وتعالى به (وإن من الحجارة لما يهبط من خشية الله) يعني يسقط من أعلى الجبل إلى أسفله من خشية الله من خشية الله (لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله).
قال: (أو أشد قسوة وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله (وما الله بغافل عما تعملون) هذا فيه تهديد وعيد لهم، يعني الله سبحانه وتعالى مُطّلع ولا تخفى عليه سبحانه وتعالى خافية وكل أعمالكم محصاة والله جل وعلا مُطّلع عليها وسيجازيكم عليها ويحاسبكم عليها يوم تقفون بين يديه، (وما الله بغافل عما تعملون).
قال الشيخ رحمه الله: "(ثم قست قلوبكم) أي اشتدت وغلظت، أصبحت غليظة فلم تؤثر فيها الموعظة" الموعظة إذا غلظ القلب اشتدت غلظته لا تؤثر فيه، ما تلج الموعظة إلى قلب غلظ اشتدت غلظته.
"(من بعد ذلك) أي من بعد ما أنعم الله عليكم بالنعم العظيمة وأراكم الآيات الباهرة ولم يكن ينبغي أن تقسوا قلوبكم لأن ما شاهدتم مما يوجب رقة القلب" ما شاهدتم أي الذي شاهدتم يوجب رقة القلب، يوجب أن ترق قلوبكم، لو كان فيها قسوة الذي رأيتموه يوجب أن تلين قلوبكم، والذي حصل فيهم العكس رأوا آيات باهرة فقست قلوبهم واشتدت قسوتها.
قال: "ثم وصف قسوتها بأنها كالحجارة التي هي أشد قسوة من الحديد، لأن الحديد والرصاص إذا أذيب في النار ذاب، بخلاف الحجارة"
وقوله: (أو أشد قسوة) أي أنها لا تقصر عن قسوة الحجارة فماذا يكون المعنى (كالحجارة أو أشد قسوة)؟
يعني كالحجارة ولا تنزل عن قسوة الحجارة، إما كالحجارة أو أشد منها، أعلى منها، أكثر منها قسوة.
قال الشيخ: "وليست (أو) بمعنى (بل)"
من المفسرين من قال هي بمعنى (بل) التي للإضراب قال: "فهي كالحجارة بل قسوتها أشد من قسوة الحجارة"
وقيل (أو) بمعنى (الواو) كالحجارة وأشد قسوة من الحجارة
وقيل بمعنى التخيير يعني إن قلت هي كالحجارة أصبت، وإن قلت أشد أيضا أصبت لأنها بلغت مبلغا شديدا في القسوة.
قال: "ثم ذكر فضيلة الأحجار على قلوبهم" أي ما يدل على فضيلة الأحجار على قلوبهم "فقال: (وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشيه الله) هذه ثلاثة أمور، ثلاثة شواهد، ثلاثة دلائل على أن الحجارة حالها أفضل من حال قلوب أولئك" هذه الحجارة حالها أفضل من حال قلوب أولئك القاسية قلوبهم، فبهذه الأمور فضلت قلوبكم يعني الحجارة" فبهذه الأمور فضلت - أي الحجارة- قلوبكم.
ثم توعدهم تعالى أشد الوعيد فقال: (وما الله بغافل عما تعملون) أي هو عالم مطلع لا تخفى عليه أعمالكم الصغير منها والكبير ثم يجازيكم على ذلك الجزاء أتم الجزاء وأوفاه. نعم.
ن/ قال رحمه الله: "واعلم أن كثيرا من المفسرين رحمهم الله قد أكثروا في حشو تفاسيرهم من قصص بني إسرائيل ونزّلوا عليها الآيات القرآنية وجعلوها تفسيرا لكتاب الله محتجين بقوله صلى الله عليه وسلم (حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج) والذي أرى أنه وإن جاز نقل أحاديثهم على وجه تكون مفردة غير مقرونة ولا منزّلة على كتاب الله فإنه لا يجوز جعلها تفسيرا لكتاب الله تعالى قطعا إذا لم تصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك أن مرتبتها كما قال صلى الله عليه وسلم لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم فإذا كانت مرتبتها أن تكون مشكوكا فيها وكان من المعلوم بالضرورة من دين الإسلام أن القرآن يجب الإيمان به والقطع بألفاظه ومعانيه فلا يجوز أن تجعل تلك القصص المنقولة بالروايات المجهولة التي يغلب على الظن كذبها أو كذب أكثرها معاني لكتاب الله مقطوعا بها ولا يستريب بهذا أحد ولكن بسبب الغفلة عن هذا حصل ما حصل. والله الموفق"
ت/ نعم هذه فائدة ثمينة وتنبيه عظيم ومفيد من الشيخ رحمه الله تعالى، وأيضا هذا يبين المنهج الذي سلكه في تفسيره وهو الإعراض عن ذكر الإسرائيليات وخاصة في إبانة المعنى، معاني الآيات القرآنية ودلالاتها.
وأشار رحمه الله أن كثير من المفسرين في حشو تفاسيرهم - أي في ضمن - تفاسيرهم الآيات القرآنية أوردوا الكثير من القصص المتعلقة ببني إسرائيل ونزّلوا عليها معاني الآيات، الشيخ يقول قول النبي عليه الصلاة والسلام (حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج) يعني هذا إذا حدّث به من حدث على وجه الانفراد فلا حرج لكن أن يُجعل معنى للآية، وأن يُجعل مفسرا للآية وهو في الأصل مشكوك فيه لأنه قال في الحديث (لا تصدقوهم ولا تكذبوهم) يعني مشكوك فيه قد يكون صدق وقد يكون كذب والقرآن هو الذي يحكم، هو المهيمن، هو المصدق لما بين يديه، فإذا أوتي بهذه الأخبار المشكوك فيها إما صدق أو كذب ثم جُعلت مفسرة للآيات هذا محل إشكال، ولهذا الشيخ في تفسيره أعرض عنها ما يذكر هذه الإسرائيليات، قال: «الذي أرى أنه وإن جاز نقل أحاديثهم على وجه تكون مفردة غير مقرونة ولا مُنزلة على كتاب الله» غير مقرونة يعني بالآيات تفسيرا لها فإنه لا يجوز جعلها تفسيرا لكتاب الله قطعا إذا لم تصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
أما ما صح من أخبارهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فهذا لا شك أنه يستفاد منه حتى في تفسير الآيات وبيان معانيها وهداياتها نعم.
ابن كثير رحمه الله لو فتحتم تفسيره ذكر جملة من الروايات وأكثر من ذكرها تتعلق بمثل هذا الموطن يعني قصه القتيل، وأيضا تدارؤهم في القتيل (ادارأتم فيها) ذكر روايات كثيرة ثم أعقبها بكلام جميل في خاتمتها. نعم.
ن/ قال رحمه الله:
«قوله (أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون* واذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم أفلا تعقلون* أولا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون* ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني وإن هم إلا يظنون) هذا قطع لأطماع المؤمنين من إيمان أهل الكتاب أي فلا تطمعوا في إيمانهم وأخلاقهم لا تقتضي الطمع فيهم، فإنهم كانوا يحرفون كلام الله تعالى من بعد ما عقلوه وعلموه فيضعون له معاني ما أرادها الله ليوهموا الناس أنها من عند الله وما هي من عند الله، فإذا كانت هذه حالهم في كتابهم الذي يرونه شرفهم ودينهم يصدون به الناس عن سبيل الله فكيف يرجى منهم إيمان لكم فهذا من أبعد الأشياء»
ت/ يقول سبحانه وتعالى (أفتطمعون) الخطاب هنا تحول إلى المؤمنين، إلى أهل الإيمان، إلى النبي عليه الصلاة والسلام والصحابة الكرام وكانوا على حرص وطمع في هداية هؤلاء وطمع في دخولهم في الإسلام فيقول الله جل وعلا بعد ذكر ما سبق من قصص تُبين حال أسلافهم قال: (أفتطمعون) هذا فيه قطع للطمع القائم في قلوب أهل الإيمان أن يؤمن أولئك، فالله عز وجل يقول (أفتطمعون أن يؤمنوا لكم)
(يؤمنوا لكم) أي ينقادوا، (آمن) هنا عُديت باللام لأنه ضُمن معنى الانقياد، (أن يؤمنوا لكم) أي ينقادوا.
(أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوا وهم يعلمون) وهم على علم بما يصنعون، وفساد ما يصنعون، هم على علم بذلك، إذا كانت هذه حالهم مع كتابهم الذي هو شرف لهم فكيف تطمعون أن يؤمنوا بالرسول عليه الصلاة والسلام ويصدقوا بما جاء به عليه الصلاة والسلام، (أفتطمعون) هذا قطع للطمع في ايمان أولئك يعني أهل الكتاب.
(أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه) والموجودون على سنن أوائلهم وأسلافهم (وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه) قال قتادة: «هم اليهود كانوا يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما سمعوه ووعوه» وهذا معنى قوله (وهم يعلمون) بعد ما سمعوه ووعوه (ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون) ولهذا فالتحريف الذي هو صرف النص عن دلالته إلى معنى آخر غير المقصود بدلالة الآية هذا كان من عمل اليهود وصنيعهم،
فالله عز وجل وصفهم بالتحريف كما وصفهم فيما تقدم بالكتمان - كتمان الحق- ، (ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون) يعلمون أنهم مُحرفة لكلام الله، يعلمون من أنفسهم أنهم مُحرفون لكلام الله سبحانه وتعالى، أو يعلمون أن فيها عقوبة من الله هذا العمل الذي يقومون به يعلمون أنه فيه عقوبة من الله، والمعنيان كلاهما يدل عليه السياق وأحدهما مترتب على الآخر، يعلمون أنهم يحرفون وعاقبة التحريف لكلام الله عقوبة الله سبحانه وتعالى.
قال: (وإذا لقوا الذين امنوا قالوا آمنا) آمنا باللسان أما القلب باقي على ما هم عليه من الكفر (إذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا) أي بدينكم وبرسولكم المبشر به في التوراة عندنا، هكذا كانوا يقولون نحن مؤمنون بالدين الإسلامي، مؤمنون بالرسول عليه الصلاة والسلام، وهو مبشر به عندنا في التوراة، يقولون هكذا عند لقاء المؤمنين، وإذا خلا بعضهم إلى بعض بدأ يحصل بينهم عتاب، من هذا العتاب الذي يحصل بينهم (قالوا أتحدثونهم) أي تحدثون المسلمين (بما فتح الله عليكم) يعني تحدثونهم بما بيّن الله لكم في التوراة أن هذا هو فعلا الرسول، تحدثونهم بذلك (ليحاجوكم به عند ربكم) يعني يوم القيامة يأخذون حجة عليكم عند الله أنكم أقررتم بأنه رسول. (ليحاجوكم به عند ربكم أفلا تعقلون)،
(قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم) أي بما بيّن لكم في التوراة من أمر محمد صلى الله عليه وسلم، قال ابن عباس وغير واحد من المفسرين: «الذي فتحه الله عليهم ما أنزله عليهم من التوراة في صفة محمد صلى الله عليه وسلم» وهم كان بعضهم إذا لقي المؤمنين يقول نحن مؤمنون بدينكم ومؤمنون بالرسول محمد صلى الله عليه وسلم وبُشر به عندنا في التوراة، هذا يقولونه فقط عند لقاء المؤمنين لا عن إيمان، يقولونه نفاقا، ولهذا فإن هذه الآية (وإذا لقوا) هذه في صفة المنافقين، مثل ما تقدم نظيرها في صفات المنافقين التي جاءت في أول السورة في ثلاثة عشر آيات في صفات المنافقين (وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون)
قال (وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم) أي باعترافكم لهم أنه نبي هذا يكون حجة عليكم عند الله، (عند ربكم) يعني يوم لقاء الله، يوم القيامة لتكون لهم حجة بذلك عليكم عند الله عز وجل.
(أفلا تعقلون) يعني يقول بعضهم لبعض أفلا تعقلون أن هذا حجة عليكم لما تقولون لهم، (أفلا تعقلون) يعني أن هذا حجة عليكم.
ثم يقول جل وعلا (أولا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون) أي يعملون هذه الشنائع وهذه القبائح وهذه الأمور العظيمة ولا يعلمون أن الله يعلم سرهم ونجواهم، ما يسرون وما يعلنون والله سبحانه وتعالى عليم بكل شيء وهم يعلمون أن الله سبحانه وتعالى عليم بهم.
قال: (ومنهم) يعني هؤلاء أهل الكتاب (أميون) الأمي: الذي لا يقرأ ولا يكتب، (ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني) يعني العلم الذي عندهم بالكتاب هو مجرد قراءة للألفاظ وسماع للألفاظ.
(وإن هم إلا يظنون) غاية ما عندهم ظنون كاذبة، هذا غاية ما عندهم ظنون كاذبة (ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب الا أماني وإن هم إلا يظنون)
قال الشيخ رحمه الله: «ثم ذكر حال منافقي أهل الكتاب فقال (وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا) فأظهروا لهم الإيمان قولا بألسنتهم ما ليس في قلوبه، يقولون في ألسنتهم ما ليس في قلوبهم، (واذا خلا بعضهم إلى بعض) فلم يكن عندهم أحد من غير أهل دينهم قال بعضهم لبعض أي على وجه العتب (أتحدثونهم بما فتح الله عليكم) أي أتظهرون لهم الإيمان وتخبرونهم أنكم مثلهم فيكون ذلك حجة لهم عليكم، يقولون أنهم قد أقروا بأن ما نحن عليه حق وما هم عليه باطل فيحتج عليكم بذلك عند ربكم عند ربكم» وتقدم قول ابن عباس الذي فتح الله عليهم ما أنزله عليهم من التوراة في صفة محمد لأن بعضهم كان إذا لقي المؤمنين قال نحن على دينكم ونؤمن برسولكم وهو مُبشر به عندنا في التوراة، فبعضهم يعاتب بعض يقول كيف تقولون لهم أنه بُشر به في التوراة فيأخذوا ذلك حجة عليكم عند الله يوم القيامة ولهذا عقب الله بقوله (أولا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون)، (أفلا تعقلون) أي أفلا يكون لكم عقل فتتركون ما هو حجة عليكم؟ كيف تفعلون هذا ما عندكم عقل؟ يقول بعضهم لبعض تلقنونهم حجج عليكم، هذا يقوله بعضهم لبعض، قال جل وعلا (أولا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون) فهم وإن أسرّوا ما يعتقدونه فيما بينهم وزعموا أنهم بإسراره لا يتطرق عليهم حجة للمؤمنين فإن هذا غلط منهم وجهل كبير فإن الله يعلم سرهم وعلنهم فيظهر لعباده ما هم عليه.
● قال (ومنهم) أي جماعة منهم، أي أهل الكتاب، (أُميون) أي عوام وليسوا من أهل العلم، (لا يعلمون الكتاب إلا أماني) (إلا أماني) أي ليس لهم حظ من كتاب الله إلا التلاوة فقط، وفي قوله (إلا أمانيّ) بالتشديد، وأيضا قُرأت بالتخفيف (إلا أماني) قيل في معناها أقوال رجح شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى أن المراد بها أي مجرد تلاوة، أماني يعني مجرد تلاوة فهم لا يعلمون فقه الكتاب وإنما يقتصرون على ما يسمعون ويتلى عليهم، قال: «والأماني جمع أمنية وهي التلاوة ومنه قوله (وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنّى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته)» قيل: الأماني الكذب
وقيل: ما يتمنونه الأماني ما يتمنونه وفي آية أخرى قال (ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب) قال شيخ الإسلام: كلا القولين ضعيف والصواب الأول أن الأماني المراد بها مجرد التلاوة بلا فقه ولا فِهم.
(لا يعلمون الكتاب إلا أماني) أي ليس لهم حظ من كتاب الله إلا التلاوة فقط وليس عندهم خبر بما عند الأولين الذين يعلمون حق المعرفة حالهم وهؤلاء إنما معهم ظنون وتقاليد لأهل العلم منهم، ما عندهم إلا أماني حظهم من التوراة أماني مجرد قراءة لا يفهمون ولا يفقهون.
وأيضا (إن هم إلا يظنون) القائم عندهم مبني على الظن والتقليد لعلمائهم فذكر في هذه الآيات علماءهم وعوامهم ومنافقيهم.
تأمل قال: «ذكر في هذه الآيات علماءهم» علماءهم ذكرهم بماذا؟ (قد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه)
المنافقين (إذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا)، والعوام في قوله (ومنهم)، فذكر في هذه الآيات علماءهم وعوامهم ومنافقيهم ومن لم ينافق منهم، من لم ينافق منهم من اعترض على المنافق قال كيف تحدثونهم، كيف تظهرون عندهم، هذا من لم ينافق منهم، باقٍ على كفره لكنه لم ينافق، فذكر هؤلاء الأربعة: العلماء والعوام والمنافقين ومن لم ينافق منهم، قال: «فالعلماء منهم متمسكون بما هم عليه من الضلال والعوام مقلدون لهم لا بصيرة عندهم فلا مطمع لكم في الطائفتين» هذا تأكيد للمعنى الذي صُدرت به هذه الآيات (أفتطمعون أن يؤمنوا لكم) أي لا مطمع في إيمانهم وهذه حالهم، العلماء التحريف للنصوص، وعوامهم مقلدة لهم، اتباع لهم، فلا مطمع لكم في الطائفتين.
ابن كثير له كلام في موضعين. نعم اقرأ كلا الموضوعين:
قال ابن كثير رحمه الله في موضع سورة الأنعام « وما قصّه كثير من المفسرين وغيرهم فعامتها أحاديث بني إسرائيل فما وافق منها الحق مما بأيدينا عن المعصوم قبلناه لموافقته الصحيح، وما خالف شيئا من ذلك رددناه وما ليس فيه موافقة ولا مخالفة لا نصدقه ولا نكذبه بل نجعله وقفا، وما كان من هذا الضرب منها فقد ترخّص كثير من السلف في روايتها وكثير من ذلك ما لا فائدة فيه ولا حاصل له مما ينتفع به في الدين، ولو كانت فيه فائدة تعود على المكلفين في دينهم لبينته هذه الشريعة الكاملة الشاملة، والذي نسلكه في هذا التفسير الإعراض عن كثير من الأحاديث الإسرائيلية لما فيها من تضييع الزمان ولما اشتمل عليه كثير منها من الكذب المروج عليهم فإنهم لا تفرقة عندهم بين صحيحها وسقيمها كما حرره الأئمة الحفاظ المتقنون من هذه الأمة»
وقال في موضع البقرة: «وهذه السياقات كلها عن عبيدة وأبي العالية والسدي وغيرهم فيها اختلاف ما والظاهر أنها مأخوذة من كتب بني إسرائيل» هذا يتعلق في سياق (ادارأتم فيها) ذكر هذا عنده نعم. «وهي مما يجوز نقلها ولكن لا نصدق ولا نكذب فلهذا لا نعتمد عليها إلا ما وافق الحق عندنا والله أعلم»
نعم. قال لا نعتمد عليها إلا ما وافق الحق، لكن لا تجعل هي في نفسها مفسرة لمعاني القرآن لكن ما وافق منها الحق يعني شهد له القرآن أو شهدت له السنة - سنة النبي صلى الله عليه وسلم - بأنه حق قبلناه وإلا رددناه.
نفعنا الله أجمعين بما علمنا وزادنا علما وتوفيقا وأصلح لنا شأننا كله وهدانا إليه صراطا مستقيما... سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك اللهم صلِ وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين. جزاكم الله خيرا
----------------------------------
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق