الإنسان إذا تدبر كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وعرف أنه لا تناقض وأنه لا إشكال وأنه لا يمكن أن يعرض تناقض أو إشكال إلا من قِبل عقله هو أو بسبب معصية اقترفها ، أو نظرة إلى محرم فيقع لديه إشكال في فهم كتاب الله أو في فهم سنة رسوله ، فإذا تاب واستغفر زال عنه ذلك الإشكال واتضح له الأمر . فيوضع الران على قلبه فيحول ببنه وبين فهم الآية ، وبحسب ضخامة الذنب وكِبَرِه يشتد الران ويخف فالإنسان الذي ذنبه صغيرة أو وقع في مكروه أو خلاف الأولى يكون إشكاله إشكالا خفيفا وتسهل إزالته ، والإنسان الذي هو صاحب كبيرة من كبائر الإثم أو الفواحش تكون الظُلمة بينه وبين فهم كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - كبيرة فيشُق عليه الفهم . وهذا يشمل نور البصيرة فأنتم تعرفون أن الإنسان العابد تتنور بصيرته بعبادته ، وقد كان ابن تيمية - رحمه الله - إذا أراد التفهم في كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - مكث وقتا طويلا مقبلا على الذكر منقطعا عن الناس لا يخاطب الناس ثم يقول "يا معلم داود علمني ويا مفهم سليمان فهمني" فتنحل له المشكلات .
والذي يقبل على الذنوب لابد أن تقع ظُلمة كبيرة في قلبه فيكون كالذي ينظر من نظارات سوداء كل ما يقع عليه نظره يكون أسود لديه فتتأثر بذلك علاقته مع الله وعلاقته مع الناس ، فعلاقته مع الله تغشاها الظُلمة فيُطرد عن التقريب والأُنس ، وعلاقته مع الناس تغشاها الشبهة كما قال أبو الطيب المتنبي :
إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه *** وصدق ما يعتاده من توهم
وعادا محبيه بقول عدوه *** فأصبح في ليل من الشك مظلم
فمن يريد أن يكون أكبر حظا من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - فعليه أن ينور بصيرته بذكر الله ( أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) ، عليه أن يكون من العابدين من الذاكرين الله كثيرا والذاكرات ، عليه أن تكون له خلوات بالله - جل جلاله - يذكر الله خاليا فتفيض عيناه ، عليه أن يكون من أهل الأنس بالله - سبحانه وتعالى - فأنتم تعرفون قول ابن الجوزي - رحمه الله - في صيد الخاطر " أشد الناس بلاء المحجوبون عن الله - جل جلاله - وأشد المحجوبين بلاء الذين لا يشعرون بالحجب " فهم يتخبطون محجوبين عن الله وهم لا يشعرون أنهم محجوبون عنه . فلذلك الذي لا يقرأ وردا يوميا من القرآن ولا يتصل به ، أو لا يتصل بالسنة ولا يقرأها كيف يريد أن تستنير بصيرته وأن يفهم ما لم يفهمه غيره ؟! وكيف يستطيع أن يقول ما قال أحمد وسليمان المعري :
وإني وإن كنت لأخير زمانه *** لآت بما لم تستطعه الأوائل
لا يمكن أن يقول ذلك لأنه حيل بينه وبين الرمية فتترست منه بسور كبير أو برمل لا يستطيع النفاذ منه . فلذلك لابد أن يحرص الذي يريد التدبر على تنوير بصيرته بالإقبال على الله ، بل إن الذي يكثر من ملذات الحلال قلّما تستنير بصيرته في فهم كتاب الله بهذا المستوى ، ولنتذكر هنا حديث أبي طلحة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم ماتت ابنته خرج في جنازتها فلما حفروا لها قال (هل فيكم من لم يقارف الليلة ؟ قال أبو طلحة : فقلت أنا فقال أنزل في قبرها) وهذا الحديث فهمنا منه أمرا عجيبا وهو أن من يعافس النساء والأولاد على الفرش تكون بصيرته ثقيلة حتى ولو كان ذلك من حلال لا شبهة فيه . وتزداد البصيرة نورا كلما انقطع الإنسان عن الإقبال على الشهوات ولو كانت بالحلال ودليل هذا ما ثبت في صحيح مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - (قال له رجل من أصحابه نكون عندك فنكون على ما ترى فإذا خرجنا من عندك عافسنا النساء والأولاد على الفرش ، فقال : لو تدومون على ما تكونون عليه عندي لصافحتكم الملائكة في الطرقات ولكن ساعة وساعة) .فإذا أراد طلاب العلم أن يكونوا من الذين تصافحهم الملائكة في الطرقات فلابد لهم من الخلوات والإقبال على الله والإكثار من ذكره والانقطاع عن الشهوات فهي مزلة قدم حتى لو كانت من حلال ، فيقتصد الإنسان فيها ويقتصر على أداء الحق الواجب أو نحو ذلك ويحاول التقلل منها ما استطاع وبالأخص في أوقات التفهم والتدبر وأوقات المحاسبة ،لابد أن يكون للإنسان وِرد يحاسب نفسه عليه يوميا فلابد أن يحرص على ذلك وهذا من التعامل الذي لابد منه مع كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - .
كذلك إحداث العهد فالقرآن محبوب والمحبوب لابد أن يحرص الإنسان على لقائه :
كيف أصبحت ، كيف أمسيت ** مما يغرس الود في فؤاد الحبيب
وإذا طال العهد ستنتقص المحبة وقد قال غيلان :
تغير أهواء القلوب ولا أرى *** نصيبك من قلبي لغيرك يمنح
فبعض الهوى بالهجر يمحى فينمحي *** وحبك عندي يستجد ويربح
فلابد أن يزيد الإنسان حب كتاب الله وحب سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - في قلبه بـ" كيف أصبحت كيف أمسيت" إذا استيقظ أول محبوب ينظر في وجهه صفحات من كتاب الله في المصحف ، وإذا أمسى آخر محبوب ينظر في وجهه المصحف . وكان عكرمة بن أبي جهل - رضي الله عنه - عند موته يقلب المصحف على خديه ويقول " كلام ربي ، كتاب ربي " محبة للقرآن . والذي يحبه هذه المحبة لابد أن يباشر شغاف قلبه ولابد أن تفتح فيه الفتوحات الربانية ، وأن يُؤتى من عند الله علما لدُنيا يُحجب عنه من سواه .
-----------------------------------------------------------
من محاضرة : التعامل مع الكتاب والسنة للشيخ / محمد الحسن الددو
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق