يا معاشر النساء لكُن من الفضل في كتاب الله -عز وجل- ما ليس للرجال .
لما كنا نتحاور مع بعض النصارى في خارج بلادنا كنا نقول لهم مباشرة في كتاب الله -عز وجل- سورة باسم مريم ... عيسى عليهما السلام،ليس في القرآن سورة باسم أبي بكر ولا عثمان ولا علي بل وليس في القرآن سور بأسماء كثير من الأنبياء ، هناك سور بأسماء الأنبياء ولكن أكثر
الأنبياء لم تأتِ لهم سور بأسمائهم في كتاب الله -عز وجل- ومع ذلك جاءت سورة باسم مريم ، وسبحان الله حينما أتأمل في هذا الاسم العجيب
لهذه السورة العجيبة وأتأمل في مقصودها الذي أشار إليه شيخ الإسلام بن تيمية يقول " سورة مريم هي سورة رحمة الله بأوليائه وعباده الصالحين "
فسورة مريم هي سورة رحمة ، وجاء تسميت هذه السورة باسم أنثى لأن مضمونها رحمة في رحمة والأنثى متى ما كانت قر يبة من الله كانت قريبة من
رحمة الله ، قريبة من أن تكون سببا هي في تنزّل رحمة الله على أسرتها بل وعلى الناس من حولها .ولذلك هذه المرأة العفيفة الشريفة الطاهرة مريم عليها
السلام لما كانت بهذا النحو من الإيمان والحفاظ على طهارتها أنزل الله -عز وجل- عليها رحمة بل وسمّى سورة الرحمة باسمها فكانت علامة على نشر الرحمة
بين الناس ، ولذلك لما نقرأ في أولها سنجد ونحن نُطالع - أيها الأحبة - إن أردنا أن نجعل سورة مريم حياة لنا في كل أحوالنا ، بمعنى أن نستنزل رحمة الله علينا
وعلى أبنائنا وعلى أسرتنا بل وعلى جيراننا والناس من حولنا فعلينا أن نقرأ هذه السورة بتؤدة حتى نجعلها بالفعل حياة لنا في كل حال وفي كل زمان .
الله -عز وجل- في مطلعها بدأ بحروف مقطعة عجب (كهيعص) هكذا بدأت السورة ، وقد تكلم المفسرون كثيرا في هذه الحروف المقطعة كيف بدأت على هذا النحو
، لا يهمنا ذلك ولكنها حروف جاء بعدها مباشرة التنبيه لسبب تنزّل هذه السورة حينما قال الله -عز وجل- (ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا) فهذه السورة هي ذكر رحمة الله
-عز وجل- على عبد من عباده وهو زكريا -عليه السلام- وزكريا حينما تنزّلت عليه هذه الرحمة كان أن الله وهبه يحي من ذريته ، ثم مريم جاءها عيسى فكانت الرحمة
هنا مُنصبّة على قضية في غاية الأهمية وهي: أن يُوهب المرء من ذريته من يكون رحمة عليه وعلى الناس أجمعين ولذلك إذا طلب العبد رحمة من الله فيكون أول ما يطلب أن يقول لله -عز وجل- (رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ) لأن رحمة الله لما تنصب عليك تكون بدءا في ذريتك وما يرزقك الله -عز وجل- في أسرتك أن يكونوا رحمة عليك وعلى الناس وعلى العالمين أجمعين .
/ رحمة الله التي ذكرها الله -عز وجل- في هذه السورة إذا أردت أن تتلبس بها دعني أعطيك شيئا وطريقا سهلا ويسيرا . الله -عز وجل- يقول (إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ) لما تريد أن تكون ممن رحمهم الله كن من المحسنين في كل أحوالك . دعني أذكر لك شيئا من الأخبار في هذا الشأن : أذكر أن أحد أقاربي وهو شيخ كبير في السن كانت زوجته تحكي عنه تقول : إن أبا محمد هذا كان مع والدته من أبر الناس حتى إن بِره بأمه يصل ، تقول تزوجت به - يعني رجل كبير في السن - فلما تغضب عليه والدته ويتغير شيء من ملامحها ، تعاتبه بنظرة من عينيها ، تقول والله إنه يدخل في فراشه في الليل ويبكي كما يبكي الطفل ، فتقول له : يا صالح أنت رجل قد بلغت هذه المرحلة وإلى الآن تبكي هذا البكاء المرير ؟ قال : إن أمي قد تغير وجهها علي . حتى يأتي الفجر فتقوم هذه الأم لتتعبد الله قليلا فلا يرتاح حتى يسقط عند قدمي والدته فيُقبلهما حتى تقول له يا صالح خلاص رضيت عليك يا صالح ، رضيت عليك .
وربي إني أعرف هذا الرجل تماما ، من قرابتي القريبه جدا . إن الله -عز وجل- قد نثر رحمته عليه فيه وفي ذريته ، من ذريته أفاضل وأخيار وبارك الله فيهم وأعطاهم ما أعطاهم ، وأقول دائما إن الله حينما نظر إلى هذا العبد ورحمه وأكرمه إنما كان ذلك بسبب إحسانه إلى والدته بل وإحسانه إلى الناس من حوله فإن أردت رحمة الله فعليك أن تكون من المحسنين .
/ من عجائب سورة مريم أن اسم الرحمن ومشتقات هذا الاسم تكررت في هذه السورة ما لم تتكرر في سورة أخرى ، لننظر في خطاب إبراهيم الخليل لأبيه وهو يعظه ، نقرأ في سورة مريم كيف يقول الله -عز وجل- عن هذا الخطاب قال (يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَن) سبحان الله عذاب من الرحمن ؟ نعم هذه سورة الرحمة فهو يُخاطبه بالرحمة هنا (يَمَسَّكَ عَذَابٌ) ليس من الجبار قال (مِّنَ الرَّحْمَن). وحينما نأتي للآيات بعدها ونحن نتصفح آيات هذه السورة العظيمة سنلحظ جليا كيف يتكرر هذا الاسم وننظر في قول الله -عز وجل- (ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا) يتكرر اسم "الرحمن" كثيرا ، ولذلك من أراد أن يتعلم كيف يستنزل رحمة الله -عز وجل- على نفسه فعليه أن يتلو في آياته سيجد أم من أعظم أسباب تنزل الرحمة هي الرحمة بالخلق ولذلك يحي -عليه السلام- ، عيسى -عليه السلام- كلاهما إنما كان رحمة بالناس ، هذا رحمة بوالديه وهذا رحمة بأمه (لَمْ يَكُن جَبَّارًا عَصِيًّا) وذاك لم يكن (جَبَّارًا شَقِيًّا) وإنما هو رحمة بالناس ، ولذلك من أراد أن يستنزل رحمة الله أول ما يكون أن يرحم الناس كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- (الراحمون يرحمهم الرحمن) ، (ارحموا من في الأرض يرحكم من في السماء) كثير منا يوقن بهذا كله ويؤمن به لكن أين من يطبق هذا في الحياة :
أين الأم حينما تكون شديدة على ولدها تضربه وتدعو عليه ، أين رحمتها في قلبها وهي تتعامل مع صغيرها ؟!
أين رحمة الجار بجاره حينما يمر به ظرف في حياته ؟!
أين رحمة رئيس دولة وقوي بشعبه حينما يُسلّط عليهم الجند ليسجنوا ويقتلوا ويجرحوا ويفعلوا ما يفعلوا ؟!
أين هذه الرحمة في واقع الحياة ؟!
هي التي نريد أن نجعلها حياة لنا في كل أمورنا . من أراد ذلك فما عليه إلا أن يتدبر في سورة مريم سيرى مظاهر هذه الرحمة في كل آية من آياتها ، سيرى رحمة الله -عز وجل- في كل كلمة من كلمتها ، سيرى الوسيلة التي إن اتبعها سيكون هو من المرحومين بل ويكون سببا في رحمة الله -عز وجل- على الناس . ولذلك أيها الأحباب اقرؤا سورة الرحمة ، تأملوا وتدبروا في سورة مريم ستجدون أن رحمة الله -عز وجل- تتنزل علينا ، على بيتنا ، وتتنزل على حينا ، تتنزل على الأمة من حولنا .
أسأل الله -عز وجل- أن يجعلني وإياكم من المرحومين .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق