الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات وأشهد أن ﻻ إله إلا الله وحده لا شريك له رب اﻷرض والسموات، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله بلّغ عنه رساﻻته ونصح له في برياته فجزاه الله بأفضل ما جزى به نبياً عن أمته صلى الله وملائكته والصالحون من خلقه عليه كما وحد الله وعرّف به ودعا إليه اللهم وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع هديه بإحسان إلى يوم الدين أما بعد: فإنه ما من مجلس أعظم من أن يجلس فيه المسلمون من مجلس يتدارسون فيه القرآن، ونبينا -صلى الله عليه وسلم- أكرم الخلق على الله فأيده الله -عز وجل- بأعظم المُعجزات قدرا وهي كتابه العظيم. وقد من الله علينا -برحمته وفضله وإحسانه- عبر خمس سنين مضت لنتدارس هذا القرآن في دروس متعاقبة متتالية وها نحن بحمد الله وفضله ونسأل الله أن يتم علينا نوره نتدارسه في العام السادس في محافظة جدة بمنطقة مكة المكرمة في هذا الجامع المبارك -جامع خديجة بغلف- نسأل الله أن يجزي القائمين عليه خير الجزاء. كانت الدروس فيما مضى تأخذ عناوين عدة، في كل عام نأخذ طريقة نتدارس فيها القرآن. وعامنا هذا -بإذن الله- سنأخذ المفردات المعرفة بأل.
في العام الماضي درسنا المعرف باﻹضافة وفي عامنا هذا -إن شاء الله تعالى- نتدارس المعرف بأل. فكل حلقة تحمل عنوانا معرفا بأل نتدارس اﻵيات التي جاءت فيها المفردة، حينا نعرِّج على اﻹيمانيات، وحينا على المعارف، وأحيانا نفيء إلى التاريخ وربما نزدلف إلى الفقه وهكذا ما بين ذلك وهذا نستعين الله -جل وعلا- في أن نقتبس من نور كتابه المبين جعلني الله وإياكم من أهل القرآن الذين هم أهل الله وخاصته.
ولقاء هذا اليوم عنوانه: النبوة. وهي مفردة عظيمة جليلة جاءت في القرآن كثيرا لكن بعضا منها تدارسناه فيما سلف فلا حاجة لتكراره والنبوة: رحمة من الله عظيمة وهي أجلّ منازل الخلق. ومن حيث الصناعة اللغوية فإن نبا بمعنى ارتفع ولهذا السيف إذا ضُرب به ثم ارتد إلى صاحبه ولم يضرب يقال نبا السيف ﻷنه رجع وارتدّ وارتفع ولم يفصِل في المكان الذي طلب منه أن يفصل فيه.
ويقال في اللغة: نبت العين إذا ارتفعت، إذا ارتفع بصرها ولم تنظر إلى ما هو مساو لها، يقال نبأ والمراد اﻻرتفاع، اشتقاق اﻻرتفاع في لفظ النبوة. واﻷنبياء جمّ غفير الله -عز وجل- أكرمهم بالنبوة وأكرم بعضهم بالرسالة فكل رسول نبي وليس كل نبي رسول.
واﻵية التي سنفسرها -إن شاء الله تعالى- في لقائنا هذا قول ربنا -تبارك اسمه وجل ثناؤه- في سورة آل عمران ( ما كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَٰكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ * وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا ۗ أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ )
أما قول الله -عز وجل- (ما كَانَ لِبَشَر) فهذا نفي، والنفي هنا نفي شرعي وقدري في آن واحد.
قد يأتي في القرآن نفي قدري ومعنى نفي قدري ﻻيمكن أن يقع، ﻻ يمكن أن يكون، ربنا -عز وجل- قال في كتابه العظيم (مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا) هذا نفي قدري مُحال أن ينبت أحد شجرا.
ويأتي في القرآن -أيها المبارك- نفي شرعي يمكن أن يقع الله يقول (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلا خَطَأً) هذا نفي شرعي لكن ممكن أن يقع قدريا أن مؤمنا يقتل مؤمنا عمدا ﻻ خطأ.
قول -رب العزة هنا- (ما كَانَ لِبَشَر) هذا نفي شرعي ونفي قدري، لماذا قلنا نفي شرعي؟ ﻷنه ﻻ يعقل أن أحدا من اﻷنبياء يدعو الناس إلى أن يعبدوه، ونفي قدري في آن واحد محال أن الله -عز وجل- يكرم أحداً بالنبوة ثم يأتي هذا الذي أكرمه الله بالنبوة فيدعو الناس إلى عبادته ﻷن معنى ذلك أن الله -عز وجل- ﻻ يعلم هذا، وهذا محال فالله -عز وجل- أعلم حيث يجعل رسالته، والله -جل وعلا- ﻻ يجعل الكذبة أنبياء، فمن أكرمه الله بالنبوة فالله قد علِم قبل أن يخلقه، كتب هذا وقدره وعلمه -جل وعلا- وأراده أن هذا العبد جعله الله برحمته نبيا ﻻ يمكن أن يفتري على الله الكذب، هذا محال، ﻻ يمكن أن يعطى النبوة أصلا، فالله خلقه وهو أعلم به. ظاهر هذا.
/ قال رب العزة (ما كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّة)
علاقة اﻵية بما قبلها: اﻵية في سورة آل عمران وصدر سورة آل عمران غالبه نزل في نصارى نجران، ونصارى نجران يزعمون -كذبا وزورا- أن عيسى بن مريم يقول لهم اعبدوني من دون الله أو اعبدوني مع الله أو أنا ابن الله. فالله -جل وعلا- يبريء عبده ونبيه ورسوله عيسى بن مريم مما اقترفته النصارى في حقه وأن هذا ﻻ يمكن أن يقع ولو زعمته النصارى، مُحال أن يكون عيسى بن مريم -عليه السلام- قد قال ﻷحد ما يوما من الدهر أنه ابن لله أو أنه يُعبد من دون الله.
قال -عز وجل- (ما كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّة) ثم بعد أن آتيناه الكتاب والحكم والنبوة (ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ) أي هذا ﻻ يمكن أن يقع ﻻ قدرا ولا شرعا. إذا مالذي تقوله اﻷنبياء؟ مالذي يقوله النبي؟ ذالكم البشر الذي آتاه الله النبوة. رب العزة والجلال يقول (وَلَٰكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ) أي أن النبي يأمر قومه، يأمر أتباعه أن يكونوا ربانيين، ومعنى ربانيين: الزيادة بالياء والنون للمبالغة وإنما الأصل أن يقال رباني والصواب -عندنا- أنها تحمل وجهين: وجه يتعلق بعلاقة العبد مع ربه، ووجه يتعلق بعلاقة العبد مع الناس
فأما ما يتعلق بعلاقة العبد مع ربه فإن العلماء الحقّ، الحكماء، الفقهاء،العلماء الذين هم أهلٌ ﻷن يقال عنهم أنهم ربانيون ﻻ يريدون بعملهم وتعليمهم للناس إلا وجه الله، يريدون وجه الله والدار اﻵخرة، هؤﻻء هم العلماء الربانيون حقا.
أما ما يتعلق بالناس فإن الله يجعلهم ساسة للخلق فإذا ظهرت الفتن وادلهمت ترى فيهم الرسوخ والتؤدة والرجوع إلى الكتاب والسنة، تراهم في كل أحوالهم، في أقوالهم وأفعالهم يفيء الناس إليهم ﻷن الناس يطمئنون إلى ما يقولونه ويفعلونه (وَلَٰكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ) .
ثم قال -جل ذكره- في اﻵية التي تليها ( وَلَا يَأْمُرَكُمْ) أي هذا البشر الذي جعله الله نبيا والمنفي في اﻵية اﻷولى (ما كَانَ لِبَشَر) (وَلَا يَأْمُرَكُم أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا) فإن قال قائل: أوَ يجوز اتخاذ غير الملائكة والنبيين أربابا؟ فالجواب -قطعا- ﻻ، لكن لماذا ذُكِر الملائكة والنبيون دون غيرهم؟ ذكر الملائكة والنبيون دون غيرهم ﻷنه ﻻ يُعرف عن النصارى أنهم عبدوا غير المسيح وغير الملائكة. هذا أوﻻ.
اﻷمر الثاني: وهو أنه إذا كان ذلكم البشر ﻻ يدعو الناس إلى عبادة نفسه وﻻ يدعو الناس إلى عبادة الملائكة وﻻ إلى عبادة النبيين فمن باب أولى أﻻّ يدعوهم إلى عبادة غير هؤلاء، مادام لم يدعُ إلى نفسه، لم يدعُ إلى الملائكة، لم يدعُ إلى النبيين وهؤلاء رفيعوا المقامات لكنهم ﻻ يستحقون من مقام اﻷلوهية شيء، مقام اﻷلوهية لله-جل وعلا- وحده (وَلَا يَأْمُرَكُم أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا) ﻷنهم لو أمروا أحدا من الناس أن يقبل أن يتخذ الملائكة أو أن يتخذ النبيين أربابا لعُدّ ذلك كُفرا إجماعا ولهذا قال الله -عز وجل- بعدها (أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) اختُلِف فيه معنى (بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) ﻷن اﻷصل أن هذه اﻵية تتكلم عن النصارى ﻻ تتكلم عن المسلمين. لكن يمكن أن يقال أن المراد باﻹسلام هنا الفطرة، والمعنى أنه ﻻ يمكن أن يأتي هؤلاء اﻷنبياء، هؤﻻء الرسل من الله -عز وجل- وهم يعلمون يقينا أن الناس فُطِروا على عبادة الله فيدعون الناس بعد ذلك، بعد الفطرة التي فطرهم الله -جل وعلا- عليها، يدعونهم إلى الكفر وإلى اﻹشراك بالله؟! هذا محال.
قال الله -عز وجل- (وَلَا يَأْمُرَكُم أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاب أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ). نبقى عند كلمة (ربانيين) رُوي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -رضي الله عنه وأرضاه- أنه كان يقول "قصم ظهري رجلان عالم متهتك وجاهل متنسك" معنى قول أمير المؤمنين -عليه السلام- قال "عالم متهتك": رجل يعطى علما ومع ذلك يرى الناس فيه جُرأة على محارم الله، يرى الناس علمه وقدرته العلمية ومع ذلك يرون فيه تعسفا في اﻷموال أو في الدماء أو في غير ذلك من الفتن يتقلدها وﻻ يبالي. فكونه عالم ومتهتك في آن واحد يجعل الناس ينصرفون عن العلم ﻷنهم ﻻ يريدون أن يكونوا مثله، هم يستقبحون عمله. هذا قول أمير المؤمنين "عالم متهتك". ثم قال "وجاهل متنسك" جاهل متنسك يظهر عليه الخشوع، يظهر عليه الزهد، يظهر عليه ما يظهر من التنسك لكنه جاهل قد يتعبّد الله -عز وجل- بما لم يشرعه الله، فالناس عندما يرون تنسُّكه، يرون تخشُّعه، يرون ما عليه يقبلون عليه وهو جاهل فيضلهم بجهله وهذا معنى قول أمير المؤمنين -رضي الله عنه- قال "عالم متهتك وجاهل متنسك".
فاﻷمة أحوج ما تكون إلى علماء يعملون بالعلم حتى يوصفون بأنهم ربانيون. وقد قال بعض العلماء: إن من دﻻئل الربانية أن يربيهم على صغار مسائل العلم قبل كبارها. وأقول: ﻻبد أن يُربّى الناس على اﻹجمال قبل التفصيل. هذا كله يتحدث عن النبوة.
النبوة بدأت بآدم، والرسالة بدأت بنوح وكلاً من النبوة والرسالة خُتما برجل واحد هو رسولنا ﷺ قال ربنا -وهو أصدق القائلين- (مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ) وقال -عليه الصلاة والسلام- (مثلي ومثل اﻷنبياء من قبلي كمثل رجل ابتنى دارا فأحسنها وجمّلها فجعل الناس يطوفون حولها ويقولون ما أحسنها ما أجملها -وترك فيها موضع لبِنة أي لم يكملها بقي منها لبنة- فجعل الناس يطوفون حولها ويقولون ما أحسنها ما أجملها لوﻻ موضع اللبنة) فقال -عليه الصلاة والسلام- (فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين).
بعض المعنِيين بالسِيَر -أي بكتابة السيرة- يقولون: إن النبي ﷺ نُبئ بإقرأ وأُرسل بالمدثر. ومعلوم، شائع ذائع بين المسلمين أنه -صلوات الله وسلامه عليه- كان يتحنث الليالي ذات العدد في غار حراء فجاءه الملك وقال له: اقرأ. هذا بدء النبوة، معنى بدء النبوة: اﻷربعين عاما قبل أن يقول له جبريل اقرأ كان أكمل الناس -عليه الصلاة والسلام- لكنه لم يكن نبيا، لما جاءه الوحي من السماء، جاءه جبريل بأمر الله، بوحي الله، بأول القرآن (اقرأ) أصبح - نبيا -صلوات الله وسلامه عليه- قال له: اقرأ، فقال -مُجيبا-: ما أنا بقارئ. فكان المَلَك -أي جبريل- يأتي نبينا -عليه الصلاة والسلام- ويضمُّه من وراء ظهره ثم يرسله، فضمه ثلاث مرات حتى بلغه الجهد ثم أرسله. قال بعض أهل العلم: هذا الضم الثلاث لِما لقيه النبي ﷺ في حياته من الجهد. ذكروا منها هجرته وذكروا منها ما لقيه يوم أحد، وذكروا منها ما لقيه وقومه في شعب بني هاشم. الجَهَد إشارة إلى هذه الثلاث، واﻹرسال أي الترك دلالة على أن عاقبته ﷺ إلى خير وإلى نصر كما وقع بعد ذلك في حياته -صلوات الله وسلامه عليه- قال شوقي -رحمه الله-:
ونودي اقرأ تعالى الله قائلها ** لم تتصل قبل من قيلت له بفم.
أي أنه ﷺ لما نُودي باقرأ بعد ذلك أصبح نبياً فنزل إلى داره وزملته -دثرته- أم المؤمنين خديجة فأنزل الحق -جل جلاله- عليه قوله (يا أيها المدثر) قالوا بعدها أصبح رسوﻻ -صلوات الله وسلامه عليه-. هذا والعلم عند الله وصلى الله على محمد وآله والحمد لله رب العالمين.
َ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق