الأحد، 10 أغسطس 2025

| الدرس الخامس والأربعون | تفسير سورة البقرة: من الآية (٤٠) (يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي…)

 تفسير سورة البقرة: من الآية (٤٠) (يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي…) 



الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.. اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللمسلمين والمسلمات أما بعد: فيقول الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله:
ن/  " ثم شرع تعالى يُذكر بني إسرائيل نعمه عليهم وإحسانه فقال: (يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم وإياي فارهبون* وآمنوا بما أنزلت مصدقا لما معكم ولا تكونوا أول كافر به ولا تشتروا بآيات ثمنا قليلا وإياي فاتقون* ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون* وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واركعوا مع الراكعين) (يا بني إسرائيل) المراد بـ (إسرائيل) يعقوب عليه السلام، والخطاب مع فِرق بني إسرائيل الذين بالمدينة وما حولها، ويدخل فيهم من أتى بعدهم، فأمرهم بأمر عام فقال (اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم) وهو يشمل سائر النعم التي سيذكر في هذه السورة بعضها. والمراد بذكرها بالقلب اعترافا، وباللسان ثناء، وبالجوارح استعمالا فيما يحبه ويرضيه.
(وأوفوا بعهدي) وهو ما عهده إليهم من الإيمان به وبرسله، وإقامة شرعه.
(أوفِ بعهدكم) وهو المجازاة على ذلك.
 والمراد بذلك ما ذكره الله تعالى في قوله (ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثنين عشر نقيبا وقال الله إني معكم لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي) إلى قوله (فقد ضل سواء السبيل)، ثم أمرهم بالسبب الحامل لهم على الوفاء بعهده وهو الرهبة منه تعالى، وخشيته وحده، فإن مَن خشيه أوجبت له خشيته امتثال أمره، واجتناب نهيه."

ت/ بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علما، وأصلح لنا إلهنا شأننا كله ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين، اللهم يا ربنا فقهنا في الدين، وعلمنا التاويل، أما بعد:
هذه الآيات وما بعدها هي وصايا لبني اسرائيل أبناء يعقوب عليه السلام، لأن إسرائيل هو يعقوب عليه السلام، (يا بني إسرائيل) أي يا أبناء يعقوب ولذا جاء في الحديث في المسند وغيره (أن نفرا من اليهود أتوا النبي عليه الصلاة والسلام فقال: أتعلمون أن إسرائيل يعقوب؟ قال نعم، قال اللهم فاشهد) أو كما جاء في الحديث. فإسرائيل هو يعقوب، (يا بني إسرائيل) أي بني يعقوب، ناداهم بهذا النداء أبوة إسرائيل لهم الذي هو يعقوب نبي من أنبياء الله (يا بني إسرائيل)، وتتكرر هذه المناداة (يا بني إسرائيل) هذه - كما ذكر أهل العلم - فيها إثارة للنفس، تهييج للنفس حتى تُقبل على الوصية، أرأيت لو قلت لأحد الأشخاص - مذكرا له بكرم والده وفضله وإحسانه - لو قلت له يا ابن فلان الكريم كن مثل والدك، أو أعمل كذا، هذا فيه حث، فيه تهييج للنفس، فقوله (يا بني إسرائيل) كأنه يقول يا أبناء هذا العبد الصالح المطيع لله عز وجل، القائم بأمر الله، الممتثل لأمر الله سبحانه وتعالى كونوا مثله، أطيعوا الله، امتثلوا أوامر الله، التزموا بوصاياه سبحانه وتعالى لعباده.
(يا بني إسرائيل) إسرائيل هذه اللفظة تتكون من كلمتين (إس) و (رائيل) وهي بمعنى عبد الله، ولهذا جاء في الأثر عن ابن عباس رضي الله عنه قال: "إسرائيل كقولك عبد الله" (يا بني إسرائيل) أي يا أبناء هذا العبد الصالح المطيع لله عز وجل، العابد لله جل وعلا اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم. ثم جاء بعد ذلك جملة من الوصايا في هذه الآية وآيات بعدها، لكن بُدأت الوصايا بماذا؟ (اذكروا نعمتي)، ولعلك وأنت تطالع القرآن وتتدبر آياته تجد في دعوات الأنبياء يأتي التذكير بالنعمة (فاذكروا آلاء الله لعلكم تفلحون)، (فاذكروا آلاء الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين)، و (يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين) يأتي كثيرا التذكير بالنعمة، والتذكير بالنعمة وذكرها في القلب باب عظيم لإقبال القلب على المُنعم لما يذكر النعمة، ويُذكّر بالنعمة وعظمها هذا باب عظيم في تأثيره على القلب بإقباله على المُنعم المتفضل سبحانه وتعالى.
 قال (اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم) المقصود بالذكر:
● ذكر النعمة بالقلب أن يعرف بقلبه عظم نعمة الله عليه، وأن يكون ذاكرا هذا في قلبه، فضل الله وإنعامه ومنّه وكرمه سبحانه وتعالى.
وبلسانه حمدا وشكرا وثناء على المُنعم سبحانه وتعالى، نحمد الله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، حمدا وثناء على المُنعم.
● وبالجوارح استعمالا للنعم في طاعة المُنعم لا في ما يسخطه ويغضبه سبحانه وتعالى.
 وقوله (نعمتي) هذا مفرد مضاف فيفيد العموم. وأهل العلم من المفسرين لهم في قوله (نعمتي) أقوال:
 / منهم من قال التوراة، قال المراد بالنعمة التوراة.
/ ومنهم من قال: إنجاء آبائهم من فرعون وآله.
/ ومنهم من قال: تعم كل نعمة، لفظها واحد ومعناها جمع، والمفرد إذا أضيف يفيد العموم (وما بكم من نعمة فمن الله)، (وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها) نِعم الله (وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها) فالمفرد إذا أضيف أفاد العموم، ولا تعارض مع إفادة الآية الجمع مع تفسير بعض أئمة السلف لها بالتوراة أو بالإنجاء، هذا تفسير ببعض أفراد النعمة لا على وجه الحصر والتخصيص.
 (يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم)
هذا يستفاد منه فائدة أشرت إليها وهو أن التذكير بالنعم نافع جدا في استصلاح القلوب وهداية العباد، ودلالتهم إلى الخير.
أن يُذكّر الغافل والعاصي واللاهي والمُعرض بنعمة الله عليه: يا فلان اتق الله، اذكر نعمة الله عليك، انظر هذه النعم التي أمدك الله بها في صحتك، في عافيتك، في مالك، في قوتك، اذكر نعمة الله عليك، اتق الله يا عبد الله، هذا نافع جدا وهو كثير -كما قدمت- في دعوات الأنبياء لأقوامهم، ولهذا الكافر يُذكّر بالنعمة في سبيل استصلاحه وهدايته للإسلام، والعاصي كذلك يذكر بالنعمة، يذكر بنعمة الله سبحانه وتعالى عليه.
■ (اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم)
(أنعمت عليكم) أي تفضلت بها عليكم ومننت بها عليكم، وهذا فيه أن النعمة فضل الله ومنه وحده جلّ في علاه (وما بكم من نعمة فمن الله).
 ●(وأوفوا بعهدي أوفي بعهدكم)
عهدي: أي ما عهدت إليكم من التزام بالشرع وامتثال للأمر، واجتناب للنهي.
المقصود بالوفاء بالعهد: العمل بالشرائع امتثالا للأوامر، واجتنابا للنواهي، قال أبو العالية رحمه الله تعالى: "عهده إلى عباده دينه الإسلام أن يتبعوه" قال (أوفوا بعهدي أوفي بعهدكم)  (عهدكم) أي ما وعد الله عز وجل به المطيع من قبول عمله وإثابته عليه، فقوله (أوفِ بعهدكم) أي بالقبول لأعمالكم، وإثابتكم عليها الثواب العظيم.
● قال: (وإياي فارهبون) أي: اخشوني وخافوني، وهذا ترهيب. والذي قبله (أوفِ بعهدكم) ترغيب، فجُمع في هذه الآية لهم بين الترغيب والترهيب، وهذا مسلك القرآن في الدعوة ترغيب وترهيب،
قال (أوفِ بعهدكم) أي: أثيبكم، أجزل لكم الثواب، أوفيكم ما وعدتكم هذا ترغيب، (وإياي فارهبون) هذا ترهيب.
 وهذا أيضا يستفاد منه - إضافة إلى ما سبق- أهمية الترغيب والترهيب في باب الدعوة، وإيقاظ القلوب واستصلاح الناس، وهذا نهج القرآن.
قال (وإياي فارهبون* وآمنوا بما أنزلت)
المقصود بالمُنزل القرآن: وحي الله، وتنزيله على عبده ومصطفاه محمد صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين.
 (أنزلت) والنزول من أعلى وهذا فيه إثبات علو الله على خلقه، لأن القرآن نزل من الله (تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين) والنزول إنما يكون من أعلى. (أنزلتُ) المراد بالمُنزل القرآن.
(مصدقا لما معكم) أي الكتاب الذي معكم، والخطاب لبني إسرائيل، الكتاب هو التوراة ثم نزل من بعده الإنجيل، ثم جاء هذا القرآن (مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه) ولهذا فإن قوله (مصدقا لما معكم) فيه أن القرآن حاكم على الكتب التي قبله وقد دخلها تحريف، فما حكم القرآن عليه بالحق فهو حق، وما حكم عليه بخلاف ذلك فهو باطل.
(وآمنوا بما أنزلت مصدقا لما معكم ولا تكون أول كافر به)
● قوله (ولا تكونوا أول كافرا به) قيل: (به) أي محمد عليه الصلاة والسلام، وقيل (به) أي القرآن وكلا القولين صحيح، يتناوله اللفظ ويتناوله السياق، (وآمنوا بما أنزلت مصدقا لما معكم ولا تكونوا أول كافر به) لما خوطب بنوا إسرائيل بهذا الخطاب ألم يكن يوجد كفار كفروا بالنبي عليه الصلاة والسلام، وكذبوه؟ أكان موجود كفار أو لم يكن؟ كفار قريش لما نزل هذا الخطاب لبني إسرائيل كانوا موجودين كفارا بالنبي عليه الصلاة والسلام، فما معنى (أول كافر به) وهو يوجد أناس وأقوام سبقوهم إلى الكفر بالقرآن والكفر بالرسول؟
 
أول كافر به من جنسكم أنتم يا أهل الكتاب، يا بني إسرائيل، (ولا تكونوا أول كافر به) أي يا أيها المخاطبون بهذا الخطاب، يا بني إسرائيل، نعم، يوجد كفار من قريش ومن العرب عموما كفروا بالنبي صلى الله عليه وسلم قبل هؤلاء، فإذن قوله (ولا تكون أول كافرا به) يعني أنتم يا أهل الكتاب، يا بني إسرائيل.
● قوله (ولا تكونوا أول كافرا به) فيه دلالة أن المتقدم إلى الكفر والسابق إليه أعظم جرما ممن أتى بعده لماذا؟
لأنه سيؤثر فيمن جاء بعده، فيبوء بإثم نفسه وإثم من صار مقتديا به في كفره، فيبوء بإثمه وآثام الآخرين. يعني رأيتم الآن هؤلاء المخاطبون لما يبادر أحد كبرائهم ورؤسائهم ومتبوعيهم، لما يبادر إلى الكفر بالنبي عليه الصلاة والسلام ويعلن كفره كم من العوام والجُهال تحته سيتبعونه، كم من الجُهّال والسفهاء سيتبعونه فيبوء بإثمه وإثم هؤلاء لأنه تسبب أيضا في ذلك.
● قال (ولا تكونوا أول كافر به ولا تشتروا بآيات ثمنا قليلا)
 (تشتروا بآياتي) تستبدلوا بآياتي ثمنا قليلا. (ثمنا قليلا) ما المراد به؟ المتع الدنيوية، إما رئاسة  فبعض هؤلاء المخاطبين كان رئيسا في قومه، زعيما له شأن، له مكانة، فيخشى إن أعلن إسلامه تذهب هذه المكانة فماذا يصنع؟ يشتري بآيات الله ثمنا قليل هذه الرئاسة التي يطمع فيها. بعضهم كان له لمكانته لمنزلته في قومه أعطيات من قومه يؤدونها، فيخشى أن هذه كلها تتوقف، له شأن في قومه، يخشى أن يذهب هذا الشأن وهذه المكانة فيشتري بآيات الله، يستبدل بآيات الله الثمن القليل.
 (ثمنا قليلا) الحسن البصري إمام التابعين رحمه الله قال كلمة جميلة، قال: "الثمن القليل الدنيا بحذافيرها"
ماذا تكون لو اشترى بالدنيا بحذافيرها آيات الله؟ يعني هذا مغبون، خاسر أعظم الخسران، إذا كان النبي عليه الصلاة والسلام في بعض الأعمال الصالحة يقول (خير من الدنيا وما فيها) (خير مما طلعت عليه الشمس) بعض الأعمال الصالحة مثل ركعتي الفجر النافلة، قال (خير من الدنيا وما فيها) وقال: (لأن أقول سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، أحب إلي مما طلعت عليه الشمس) يعني الدنيا وما فيها، فإذا كان الدين كله استبدله بـ: إما رئاسة، أو قليل من المال، أو شيء من الجاه أو المكانة، هذا خاسر أعظم الخسران، استبدل أيات الله بالثمن القليل.
(ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا وإياي فاتقون)
اتقوا الله، انتبهوا، اجعلوا بينكم وبين غضب الله وسخطه وعقابه والنار وقاية تقيكم بفعل الأوامر وترك النواهي كما قال طلق ابن حبيب رحمه الله - من علماء التابعين – قال: "(تقوى الله أن تعمل بطاعة الله، على نور من الله، رجاء ثواب الله، وأن تترك معصية الله، على نور من الله، تخاف عقاب الله".
● قال (ولا تلبسوا) لا يزال السياق في الوصايا لبني إسرائيل (ولا تلبسوا الحق بالباطل) اللبس: هوالخلط، لبس الحق بالباطل خلطه بالباطل، وهذه الطريقة يفعلها من يفعلها من أئمة الضلال من من أجل ترويج الباطل على العوام والجُهال، يخلط الباطل بشيء من الحق حتى يغتر العوام بما يرونه فيه من الحق، أو الجانب الذي فيه من الحق، فيغتر بذلك، فيفعل ذلك الباطل. تلبس الحق هذه وسيلة يفعلونها من أجل التغرير بالعوام، ومن ذلك ما يفعله كثير من أهل الضلال بتسمية الأعمال الباطلة التي يدعون إليها بأسماء جميلة، أو أسماء حسنة، أو أسماء طيبة، فيغتر الجهال بتلك الأسماء، هذا من لبس الحق، تلبس الحق بالباطل.
 بعض المفسرين ذكروا مثال على ذلك لأن قبلها قال (آمِنوا بما أنزلت مصدقا لما معكم ولا تكونوا أول كافر به) عرفنا أن بعض المفسرين قالوا: (أول كافر به) أي بمحمد صلى الله عليه وسلم، ولا تكونوا أول كافر به، فبعض علمائهم في ذلك الوقت لما قامت الحجج، وظهرت أن هذا النبي هو الذي بُشر به في التوراة، وذُكر باسمه،  وذُكرت صفاته، وبدأ هذا الأمر يظهر بين اليهود، وبدأ بعضهم يدخل في الإسلام، رأوا شيئا واضحا، فبعضهم قالوا: نحن ذكر عندنا في التوراة أنه سيبعث نبي، وبُشرنا في التوراة بنبي من الأميين، لكن لم يذكر أنه من العرب، وهذا من العرب، لم يذكر أنه من العرب، فكانوا يأتون بأشياء يُلبسون بها على العوام، وفعلا أثروا على العوام، أو على عدد من العوام، فبقوا على الكفر بسبب هذه الطريقة لبس الحق بالباطل.
 وأيضا طريقة أخرى كانوا يسلكونها: كتمان الحق، اليهود وخاصة علماؤهم عُرِفوا بأمور سيئة للغاية في التعامل مع الشرع أخطرها - وكلها ذكرت في القرآن- التحريف، ولبس الحق بالباطل، وكتمان الحق.
● قال: (ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق)، (تكتموا الحق) أي تخفوه، الكتمان ضد البيان (وتكتموا الحق) و(تكتموا) هذا معطوف على الفعل المجزوم بـ (لا الناهية)، ولا تلبسوا، ولا تكتموا، (ولا تلبسوا الحق) (وتكتموا) أي: ولا تكتموا الحق.
(وأنتم تعلمون) الواو هنا حالية أي والحال أنكم تعلمون أنه حق، حق مُنزل من الله سبحانه وتعالى رب العالمين.
ثم أمرهم بأعظم فرائض الدين وهذا فيه دلالة على أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة، أمرهم بأعظم فرائض الدين بعد الإيمان والتوحيد وهو إقام الصلاة وإيتاء الزكاة.
قال (وأقيموا الصلاة) ولم يقل صلوا، ولهذا في القرآن (يقيمون، أقيموا) لأنه مطلوب من العبد إقامة الصلاة أي بأركانها وشروطها وواجباتها، والحرص على توفيتها وتكميلها. (وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة) أي  التي افترضها الله وكتبها عليكم، وإيتاؤها: إخراجها في وقتها بنفس طيبة سمحة متقربا بذلك العمل إلى الله سبحانه وتعالى. وسميت زكاة لأنها زكاة للنفس والمال والمجتمع.

●(وآتوا الزكاة واركعوا مع الراكعين) 
قوله (مع الراكعين) أخذ منه أهل العلم وجوب صلاة الجماعة قال (واركعوا مع الراكعين، وأخذوا منه كذلك أن الركوع ركن من أركان الصلاة لأنه سمى الصلاة بهذا العمل الذي هو الركوع، (اركعوا) أي صلوا مع المصلين، قال (اركعوا مع الراكعين) أي صلوا مع المصلين، سمى الصلاة ركوع مما يدل على أن الركوع من أركانها لأنه سمى الصلاة بهذا العمل الذي هو الركوع، (اركعوا) أي صلوا مع المصلين، قال (اركعوا مع الراكعين) أي صلوا مع المصلين، سمى الصلاة ركوع مما يدل على أن الركوع من أركانها.

● قال المصنف رحمه الله: "(يا بني إسرائيل) المراد بـ (إسرائيل) يعقوب عليه السلام، والخطاب مع فِرق بني إسرائيل الذين بالمدينة وما حولها، ويدخل فيهم من أتى بعدهم، كلهم يتناولهم هذا الخطاب، فأمرهم بأمر عام فقال (اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم) اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم"
 قال الشيخ: "وهو يشمل سائر النِعم التي سيذكر في هذه السورة بعضها"، قال مجاهد رحمه الله: "نعمة الله عليهم فيما سمى - أي ذكر في القرآن- وفيما سوى ذلك،  فجّر لهم الحجر، وأنزل عليهم المنّ والسلوى، وأنجاهم من عبودية آل فرعون" ذكر أمثلة فقط، فهو لفظ عام يتناول كل نعمة أنعم بها عليهم، قال: "وهو يشمل سائر النعم التي سيذكر في هذه السورة بعضها" ولهذا سيأتي بعدها بآيات (وإذ أنجيناكم من آل فرعون) اذكروا هذه النعمة، اذكروا إذ أنجيناكم من آل فرعون، وهكذا يأتي ذكر نعم عديدة أنعم الله، (وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد) ويُذكّرهم، في السورة ذكر بعض النعم، إذ دا قوله (نعمتي) تتناول النعم التي ذكر بعضها في هذه السورة والنعم أيضا التي لم تُذكر، نعمتي أي عموم نعمي عليكم.
قال: "والمراد بذكرها بالقلب اعترافا، وباللسان ثناء، وبالجوارح باستعمالها فيما يحب الله ويرضى سبحانه وتعالى"
● قال: "(وأوفوا بعهدي) وهو ما عهده إليهم من الإيمان به وبرسله، وإقامة شرعه" وتقدم قول أبي العالية: "عهده إلى عباده دينه الإسلام أن يتبعوه" قال: "وهو ما عهده إليهم من الإيمان به وبرسله، وإقامة شرعه، (أوفِ بعهدكم) وهو المجازات على ذلك بالثواب والجنة والنعيم". ابن عباس رضي الله عنهما قال في معنى قوله (أوفِ بعهدكم): "أدخلكم الجنة لأن الله عز وجل وعد من أطاعه وأتبع رسله بالجنة، وهو سبحانه وتعالى لا يخلف الميعاد.
قال: "وهو مجازاتهم على ذلك"، والمراد بذلك ما ذكره الله في قوله (ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا وقال الله إني معكم لأن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي وعزرتموهم وأقرضتم الله قرضا حسنا لأكفرن عنكم سيئاتكم ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار فمن كفر بعد ذلك فقد ضل سواء السبيل). جاء في الأثر عن قتادة رحمه الله تعالى بقوله (وأوفوا بعهدي أوفِ بعهدكم) قال: "العهد الذي أخذ الله عليهم في قوله (ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثنين عشر نقيبا) وذكر الآية بتمامها إلى قوله تعالى (فقد ضل سواء السبيل)، فتكون هذه الآية التي في سورة المائدة مفسرة لقوله (أوفوا بعهدي أوفِ بعهدكم) فإن قوله (أوفوا بعهدي) هو قوله (لئن أقمتم الصلاة وأتيتم الزكاة وآمنتم برسلي وعزرتموهم وأقرضتم الله قرضا حسنا) ، وقوله (أوفِ بعهدكم) تفسيره قوله (لأكفرن عنكم سيئاتكم ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار).
● ثم بعدها قال (وإياي فارهبون) هذا ماذا قلنا هنا في تمام الآية؟ قال (فمن كفر بعد ذلك منكم فقد ضل سواء في السبيل) فهذه الآية التي في المائدة مفسرة لقوله (وأوفوا بعهدي أوفِ بعهدكم وإياي فارهبون).

ن/ قال رحمه الله: " ثم أمرهم بالسبب الحامل لهم على الوفاء بعهده وهو الرهبة منه تعالى، وخشيته وحده، فإن من خشيه أوجبت له خشيته امتثال أمره، واجتناب نهيه".
ت/ نعم يقصد قول ختم الله الآية بقوله (وإياي فارهبون) هذا ترهيب وتهديد وتخويف يحمل المرء على الطاعة والامتثال. نعم.

ن/ قال رحمه الله: " ثم أمرهم بالأمر الخاص الذي لا يتم إيمانهم ولا يصح إلا به فقال (وآمنوا بما أنزلت) وهو القرآن الذي أنزله على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم. فأمرهم بالإيمان به واتباعه، ويستلزم ذلك الإيمان بمن أُنزل عليه، وذكر الداعي لإيمانهم فقال (مصدقا لما معكم) أي موافقا له لا مخالفا ولا مناقضا، فإذا كان موافقا لما معكم من الكتب غير مخالف لها فما فلا مانع لكم من الإيمان به لأنه جاء بما جاءت به المرسلون فأنتم أولى من آمن به وصدق به لكونكم أهل الكتب والعلم".

نفعنا الله أجمعين بما علمنا وزادنا علما وتوفيقا، وأصلح لنا شأننا كله، وهدانا إليه صراطا مستقيما...
سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك، اللهم صلِ وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين. جزاكم الله خيرا.
اقرأ المزيد...

السبت، 9 أغسطس 2025

اسم الله (الرؤوف) من كتاب [فقه الأسماء الحسنى للشيخ عبد الرزاق البدر]

 (الرؤوف) ورد هذا الاسم في عشر آيات من القرآن الكريم يأتي ذكرها. و «الرأفة» - كما قال ابن جرير رحمه الله: "أعلى معاني الرحمة، وهي عامة الجميع الخلق في الدنيا، ولبعضهم في الآخرة" (١) وهم أولياؤه المؤمنون، وعباده المتقون. 
هذا؛ وإن من القواعد المفيدة التي قررها أهل العلم في باب فقه أسماء الله الحسنى أنَّ ختم الآيات القرآنية بأسماء الله الحسنى يدلُّ على أنَّ الحكم المذكور فيها له تعلق بذلك الاسم الكريم الذي خُتمت به الآية، وتأمل ذلك من أعظم ما يعين العبد على فقه أسماء الله الحسنى.
وفيما يلي عرض لمواضع ذكر هذا الاسم في القرآن الكريم، وتنبيه على دلالاته من خلال سياق الآيات التي ختمت به.
/ قال الله تعالى: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ ) [البقرة: ١٤٣]، أي: لا ينبغي له ولا يليق به أن يضيع إيمانكم، وهذا من كمال رأفته ورحمته بهم، وفي هذا بشارة عظيمة لمن منّ الله عليهم بالإسلام والإيمان بأن الله سيحفظ عليهم إيمانهم، فلا يضيعه بل يحفظه من الضياع والبطلان، ويتممه لهم، ويوفقهم لما يزداد به إيمانهم ويتم به إيقانهم، فكما ابتدأهم بالهداية للإيمان فسيحفظه لهم ويتمه عليهم رأفة منه بهم ورحمة، ومنا منه عليهم وتفضلا.
/ وقال الله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِى نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رءُوفٌ بِالْعِبَادِ ﴾ [البقرة: ۲۰۷]، وهؤلاء هم الموفقون من عباده الذين باعوا أنفسهم وأرخصوها وبذلوها طلباً لمرضاة الله ورجاءً لثوابه، فهم بذلوا الثمن للملي الوفي الرؤوف بالعباد، الذي من رأفته ورحمته بهم أن وفقهم لذلك، ووعدهم عليه عظيم الثواب، وحسن المآب، ولا تسأل عما يحصل لهم من التكريم وما ينالونه من الفوز العظيم، فقدومهم يوم القيامة على رب رؤوف رحيم.
/ وقال تعالى : (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ) [آل عمران : ٣٠].
وهذا يفيد أن الله سبحانه مع شدَّة عقابه وعظم نكاله فإنه رؤوف بالعباد، ومن رأفته بهم أن خوّف العباد وزجرهم عن الغي والفساد، ليسلموا من مغبتها، ولينجوا من عواقبها، فهو جل وعلا رأفة منه ورحمة سهّل لعباده الطرق التي ينالون بها الخيرات ورفيع الدرجات، ورأفة منه ورحمة حذر عباده من الطرق التي تفضي بهم إلى المكروهات.
/ وقال تعالى: ﴿لَقَد تَابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيعُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ ﴾ [التوبة: ١١٧].
وفي هذا السياق أن من رأفة الله بهم أن منّ عليهم بالتوبة ووفقهم لها، وقبِلها منهم، وثبتهم عليها، ولولا أنه رأف بهم ورحمهم لما حصل لهم شيء من ذلك.
/ وقال تعالى: ﴿ خَلَقَ الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ* وَالْأَنْعَمَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ* وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالُ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ* وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ ﴾ [النحل : ٤ - ٧]. وفي هذا أن من رأفة الله بالإنسان أن سخر له الأنعام لأجل مصالحه ومنافعه، وجعل له فيها دفئا بما يتخذه من أصوافها وأشعارها وأوبارها من لباس ومنافع أخرى عديدة، ومنها يأكل، وجعل له فيها جمالا في وقت رواحها وحركتها ووقت هجوعها وسكونها، وسخرها له تحمل متاعه إلى البلدان الشاسعة، والأقطار البعيدة وكل ذلك من رأفته ورحمته سبحانه.
 وليتنا نذكر رأفة الله بنا ورحمته وفضله ومنه بما سخر لنا في هذا الزمان من وسائل النقل الحديثة الحسنة في مركبها المريحة في تحركها وتنقلها، الجميلة في شكلها و منظرها، والسريعة في سيرها، ويسر مع ذلك طرقها وذلل سبلها، وهيأ كل الوسائل المحققة للراحة فيها، ينتقل الناس عليها من مكان إلى مكان، ومن بلد إلى بلد بلا مشقة أو تعب، فله الحمد كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، وسعة جوده وبره.
/ وقال تعالى: ﴿ أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَن يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ ﴾ [النحل : ٤٥ - ٤٧].
وفي هذا أن من رأفته سبحانه أنه لا يعاجل العاصين بالعقوبة، بل يمهلهم ويعافيهم ويرزقهم، وهم يؤذونه ويؤذون أولياءه، ومع هذا يفتح لهم أبواب التوبة ويدعوهم إلى الإقلاع عن السيئات، ويعدهم بذلك أفضل الكرامات، ومغفرة ما كان منهم من ذنوب وخطيئات. أفلا يستحي المجرم من ربه الرؤوف الرحيم أن تكون نعم الله عليه نازلة في جميع اللحظات متوالية عليه في كل الأوقات؛ وهو مكب على إجرامه، متماد في غيه وعصيانه.
/ وقال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَن تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ ﴾ [الحج : ٦٥] .
فتسخير الله الأرض وما فيها من حيوانات ونباتات و جمادات، والفلك تجري في البحر بأمره تحمل الناس وتجاراتهم وأمتعتهم من محل إلى محل، وإمساكه سبحانه السماء أن تسقط على الأرض فتتلف ما عليها، وتهلك من فيها، كل ذلكم من رحمته ورأفته سبحانه بالعباد.
/ وقال تعالى: ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ، وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ ﴾ [النور: ٢٠]، قال ذلك سبحانه بعد بيانه لأحكامه العظيمة ومواعظه البليغة، ما يفيد أن هذا البيان النافع والشرع الحكيم هو من رأفة الله بالعباد ورحمته بهم.
/ وقال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَتٍ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ ﴾ [الحديد: 9].
وهذه أعظم النعم وأجل العطايا والمنن أن نزّل على عبده ورسوله آياته البينات، وحججه الظاهرات تدل أهل العقول على صحة جميع ما جاء به، وأنه الحق اليقين، ليخرج سبحانه من شاء من عباده بإرسال الرسول وما أنزل عليه من الآيات والحكمة من الظلمات إلى النور، وهذا من رأفته بعباده، ورحمته بأوليائه وأصفيائه.
/ وقال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاءُو مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلَّا لِلَّذِينَ ءَامَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [الحشر: ١٠]، وهذا من رحمة الله ورأفته بعباده المؤمنين أن أوثق بينهم عقد الإيمان ورابطة الدين ووشاج التقوى، وجعل اللاحق منهم محباً للسابق، داعيا له بكل خير، فما أسناها من عطية، وما أجلها من منة تفضل بها مولانا الرؤوف الرحيم.
--------‐------------------

(۱) تفسير الطبري (٢/ ٦٥٤).

اقرأ المزيد...

الاثنين، 4 أغسطس 2025

| الدرس الرابع والأربعون | تفسير سورة البقرة: من الآية (٣٨) (قلنا اهبطوا منها جميعا…)

 الدرس الرابع والأربعون \ تفسير سورة البقرة: من الآية (٣٨) (قلنا اهبطوا منها جميعا…) 



الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللمسلمين والمسلمات أما بعد: فيقول الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله:
ن / "قوله (قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون* والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) كرر الإهباط ليرتب عليه ما ذُكر وهو قوله (فإما يأتينكم مني هدى) أي أيَ وقت وزمان جاءكم مني يا معشر الثقلين هدى أي رسول وكتاب يهديكم لما يقربكم مني ويدنيكم من رضائي، فمن تبع هداي منكم بأن آمن برسلي وكتبي واهتدى بهم، وذلك بتصديق جميع أخبار الرسل والكتب، والامتثال للأمر، والاجتناب للنهي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون، وفي الآية الأخرى (فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى) فرتب على اتباع هداه أربعة أشياء نفي الخوف والحزن، والفرق بينهما أن المكروه إن كان قد مضى أحدث الحزن، وإن كان منتظرا أحدث الخوف، فنفاهما عمن اتبع الهدى، وإذا انتفيا حصل ضدهما وهو الأمن التام، وكذلك نفي الضلال والشقاء عمن اتبع هداه، وإذا انتفيا ثبت ضدهما وهو الهدى والسعادة، فمن اتبع هداه حصل له الأمن والسعادة الدنيوية والأخروية، والهدى، وانتفى عنه كل مكروه من الخوف والحزن والضلال والشقاء، فحصل له المرغوب واندفع عنه المرهوب، وهذا عكس من لم يتبع هداه فكفر به وكذب بآياته (فأولئك أصحاب النار) أي الملازمون لها ملازمة الصاحب لصاحبه، والغريم لغريمه، (هم فيها خالدون) لا يخرجون منها ولا يفتر عنهم العذاب، ولا هم ينصرون. وفي هذه الآيات وما أشبهها انقسام الخلق من الجن والإنس إلى أهل السعادة، وأهل الشقاوة، وفيها صفات الفريقين، والأعمال الموجبة لذلك، والأعمال الموجبة لذلك وأن الجن كالأنس في الثواب والعقاب، كما أنهم مثلهم في الأمر والنهي"

ت / بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علما، وأصلح لنا إلهنا شأننا كله ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين. اللهم يا ربنا فقهنا أجمعين في الدين، وعلمنا التاويل، أما بعد: قول الله عز وجل (قلنا اهبطو منها جميعا) تقدم فيما قبل هذه الآية بآيتين قول الله عز وجل (قلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو) ثم هنا تقدم قوله (وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو) هنا قال (قلنا  اهبطو منها جميعا) هذا الإهباط الذي تكرر ذكره في الآيتين (وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو)، ثم هنا قال (قلنا اهبطوا منها جميعا) هل هو إهباطان أو واحد؟ يعني ذُكر أولا ثم ذكر ثانيا هل الذي ذكر أولا غير الذي ذكر ثانيا أم هو هو؟
أهل العلم من أهل التفسير في هذا التكرار لهم ثلاثة أقوال:
 القول الأول: أن ذكر الإهباط مرتين لما عُلِق بكل منهما حكما غير الحكم الآخر. يعني لما تنظر في الإهباط الأول ما الذي ذكر بعده؟ قال (قلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو) يعني علّق بالأول العداوة، يعني اهبطوا في ابتلاء يكون بينكم هذه العداوة بعضكم لبعض عدو، الثاني علّق فيه ذكر إتيان الهدى قال (اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى) أي اهبطوا للتكليف، فهناك ذكر الإهباط وذكر بعده وجود العداوة بين آدم وذريته مع الشيطان إبليس وذريته. هذا قول وهوأظهر الأقوال التي قيلت في معنى الآية.
الثاني: قيل إن التكرار على وجه التغليط على وجه تغليظ الأمر وتأكيده.
والقول الثالث: قيل هما إهباطان الأول من الجنة إلى السماء الدنيا، والثاني من السماء الدنيا إلى الأرض.
 لكن إذا تأملت في الآية الأولى التي قيل إن الإهباط فيها من الجنة إلى السماء، الدنيا، والثاني قالوا من السماء الدنيا إلى الأرض، لو نظرت إلى الآية الأولى تجد فيها ما يدل على أن الإهباط الذي أُمر في الآية الأولى كان أيضا إلى الأرض (قلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر) فالإهباط إلى الأرض حتى في الآيات الأولى، ولهذا يعني في الآية ما يدل على ضعف القول، لأنه عقّبه في الموضع الأول بقوله (ولكم في الأرض مستقر)  فالسياق الأول يدل على أنه إهباط إلى الأرض، كما أن هذا أيضا الثاني إهباط من الجنة إلى الأرض. لكن كُرر على القول الأظهر في ما قيل في معنى الآية لاختلاف المتعلق، الأول علق به العداوة، والثاني علق به إتيان الهدى.

(قلنا اهبطوا منها جميعا) (جميعا) هذه حال في اللفظ، والمعنى: تأكيد (اهبطوا منها جميعا) مثل قوله اهبطوا أجمعون، وهذا لا يستلزم أن يكون الهبوط من جميعهم في زمن واحد أو في وقت واحد، الآن يعني لما يقول قائل هل وصل الطلاب؟ فيقول المجيب وصلوا جميعا، هل يلزم من وصلوا جميعا أن دخولهم كان في زمن واحد؟ ما يلزم، السياق اللفظ ما يلزم منه ذلك، فهو حال وهو أيضا في معنى التأكيد، تأكيد أي كلكم لا يتخلف أحد أجمعين، فهي كقوله اهبطوا أجمعون، (قلنا اهبطوا منها جميعا) (جميعا) هذا يتناول آدم وحواء وإبليس كما قال قتادة رحمه الله قال: "يعني من الجنة جميعا" آدم وحواء وإبليس.
 قال (فإما يأتينكم مني هدى) هذا متى كان؟ قوله (فإما يأتينكم مني هدى) يقول قتادة: "أوحي إليهم بعدما هبطوا (فإما يأتينكم مني هدى) لأنهم الآن نزلوا هبطوا إلى دار ماذا؟ دار ابتلاء وامتحان، امتحان في الهدى الذي يأتيهم من الله (فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون* والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون)، إذا قوله (فإما يأتينكم مني هدى) هذا يتناول آدم وحوا وإبليس، و ذريتهما، وإبليس على هذا مخاطب بالإيمان، مخاطب بهذا الهدى هو وذريته، ولهذا وجد في ذريته من أسلم، من آمن ودخل في الإسلام، فهم مخاطبون بهذا التكليف بهذا الأمر في هذا الهدى الذي نزل من الله سبحانه وتعالى.
(فإما يأتينكم مني هدى) هذا شرط، جواب الشرط هو الشرط الثاني في قوله (فمن تبع هداي فلا خوف عليهم) هذا فيه شرط وجوابه، جملة الشرط وجوابه هي جواب الشرط الأول في قوله (فإما ياتينكم مني هدى)، والمراد  بالهدى الرسول والكتاب المنزل مع الرسول بالوحي من رب العالمين سبحانه وتعالى. وأيضا في قوله (مني هدى) فيه أن الهداية من الله، وأنها مِنة من الله وتوفيق، (مني) فهي فضل ومنة ولهذا لا تتحقق لأحد إلا إذا هداه الله ووفقه لأنها من الله، وهذا أيضا فيه أهمية سؤال الله الهداية. وهذا هو أعظم الدعاء وأجلّه. قد تقدم معنا فضله وعظيم شأنه في سورة الفاتحة في قوله سبحانه (اهدنا الصراط المستقيم).
(فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون)
(لا خوف عليهم) فيما يستقبلون من أمر الآخرة، (ولا يحزنون) أي فيما يتركونه من الدنيا ، أو ما فاتهم من أمور الدنيا، فهذه الجملة (فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون) جمعت بين الأمن أمنهم بعد الموت، لأن نفي الخوف فيه ثبوت ضده وهو الأمن، ففيه أمنهم فيما بعد الموت، ونفي الحزن فيه تسلية لهم عن الدنيا، فأمّنهم، وسلّاهم، أمنهم فيما هم قادمون عليه، وسلّاهم فيما هم تاركون له، لا تحزن على ما أنت تارك من أمر الدنيا، وما فاتك من أمور الدنيا قال (فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون)
(والذين كفروا) أي بالله وبشرعه ووحيه المُنزّل، وبدينه الذي خلقهم لأجله، وأوجدهم لتحقيقه.
(وكذبوا بآياتنا) كذبوا بوحي الله المنزل على رسله عليهم صلوات الله وسلامه.
(أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) انتبه للفظة الصحبة، صحبة هؤلاء للنار (أصحاب النار) هذه الكلمة تعني أن هؤلاء هم أهل النار الذين إنما خُلقت النار لهم ، هم أهلها. أهلها الذين هم أهلها، فهذه اللفظة تعني الملازمة الدائمة، الخلود الأبدي، ولهذا قال (أصحاب النار هم فيها خالدون) ولهذا جاء في صحيح مسلم من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (أما أهل النار الذين هم أهلها فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون)، (لا يموتون) واضحة لأنه خلود لا موت فيه
لكن ما معنى (لا يحيون)؟ يعني هي حياة لكنها حياة عذاب، حياة جحيم (لا يموتون فيها ولا يحيون)، لكن قوما أو أقواما أصابتهم النار بخطاياهم، أو قال بذنوبهم فأماتتهم إماتة حتى إذا صاروا فحما أُذن في الشفاعة، هذا قسم آخر، كانوا دخلوا أو يدخلون النار ويخرجون بالشفاعة، وهم عصاة الموحدين، عصاة الموحدين ليسوا هم أهل النار الذين هم أهلها إنما هم من أهل الجنة، ولهذا في الآية الكريمة قال: (ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير* جنات عدن يدخلونها) حتى مَن؟ الظالم، لكن الظالم قد يصيبه شيء من الدخول للنار من أجل أن يُطهّر، يُنقى من الذنوب التي ارتكبها، لكن أهل النار الذين هم أهلها، أصحاب النار الذين هم الكفار، الذين إنما أعدت لهم، تقدم معنا قبل آيات أُعدت لمن؟ للكافرين تقدمت معنا، (أعدت للكافرين) أعدت لأهلها الذين هم أهلها، لكن هؤلاء الذين هم عصاة الموحدين إنما يكون دخولهم لها دخول مؤقتا على قدر جرائمهم وذنوبهم من أجل التطهير والتنقية، ولهذا بعد خروج  العصاة الموحدين واكتمال خروجهم من النار حيث لا يبقى في النار إلا أهلها الذين هم أهلها في ذاك الوقت يؤتى - كما جاء في الصحيح- بكبش ويجعل بين الجنة والنار وينادى أهل النار تعرفونه؟ فيقولون نعم هذا الموت، وينادى أهل الجنة تعرفونه؟ فيقولون نعم هذا الموت، ثم يذبح الموت بين الجنة والنار ويقال يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت وهذا قوله سبحانه وتعالى (هم فيها خالدون) أي أبد الآباد، (لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها).
 قال الشيخ رحمه الله تعالى: "كرر الإهباط ليرتب عليه ما ذُكر" هذا فيه اختيار الشيخ لأي الأقوال الثلاثة؟ نعم الأول.
الأول منها قال كرر الإهباط ليرتب عليه ما ذكر، ما ذكر هنا الهدى، إتيان الهدى، والأول رتب عليه وجود العداوة، فكرر اللفظ لاختلاف أو تغاير ما رُتب عليه، لتغاير ما رتب عليه ، كرر الإهباط ليرتب عليه ما ذُكر وهو قوله (فإما يأتينكم مني هدى) أما الموضع الأول ذكر الإهباط ورُتب عليه (بعضكم لبعض عدو) قال: "وهو قوله (فإما يأتينكم مني هدى) أي وقت وزمان جاءكم مني يا معشر الثقلين هدى" الخطاب لمن؟ آدم وحواء وإبليس وذريتهما، ولهذا قال الشيخ "يا معشر الثقلين" أي رسول وكتاب، الهدى ما هو؟ أي الرسول والكتاب. "يهديكم لما يُقربكم مني ويُدنيكم من رضاي، (فمن تبع هداي منكم أي يا معشر الجن والإنس بأن آمن برسلي وكتبي واهتدى بهم وذلك بتصديق جميع أخبار الرسل والكتب والامتثال للأمر والاجتناب للنهي (فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون).
 في الآية الأخرى أي من سورة طه قال: (فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى) لما تجمع الآيتين تجد رُتب على ذلك نفي أربعة أمور: نفي الخوف، ونفي الحزن، ونفي الضلال، ونفي الشقاء. أربعة من مجموع الآيتين ولهذا قال الشيخ رحمه الله: "فرتب على اتباع هداه أربعة أشياء: الأول والثاني نفي الخوف والحزن (فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون) والنفي فيه ثبوت الضد، ضد المنفي نفي الخوف والحزن والفرق بينهما أن المكروه إن كان قد مضى أحدث الحزن، وإن كان منتظرا أحدث الخوف، فنفاهما عمن اتبع الهدى، واذا انتفيا حصل ضدهما وهو الأمن التام. إذن الخوف يتعلق في المستقبل، والحزن يتعلق فيما فات، ولهذا من يتألم لشيء فقده أو أمر آلمه، قد مضى يقال له لا تحزن، ما يقال له لا تخاف، والشخص الذي عنده تخوفات من أشياء في مستقبل أيامه ما يقال له لا تحزن وإنما يقال له لا تخاف، الخوف فيما سيأتي والحزن فيما مضى، هذا الفرق بين الخوف والحزن.
قال: "وكذلك نفي الضلال والشقاء عمن اتبع هداه، وإذ انتفيا ثبت ضدهما وهو الهدى والسعادة" الهدى ضد الضلال، والسعادة ضد الشقاء، في قوله (لا يضل) هذا فيه إثبات الهداية، وفي قوله (لا يشقى) إثبات السعادة، وهذا فيه أن القرآن كتاب السعادة، هكذا قال في سورة طه قال (فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى) وماذا قال في أولها؟ (طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى) نفي الشقاء يدل على ثبوت ضده وهو السعادة أي إنما أنزلناه عليك أو إليك لتسعد، فالقرآن هو كتاب السعادة، وكلما عظُم حظ الإنسان من القرآن قراءة وتدبرا وعملا عظُم حظه من السعادة في الدنيا والآخرة (فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى)
 قال: "فمن اتبع هداه حصل له الأمن والسعادة الدنيوية والأخروية والهدى، وانتفى عنه كل مكروه من الخوف والحزن، والضلال والشقاء، فحصل له المرغوب، واندفع عنه المرهوب، وهذا عكس من لم يتبع هداه فكفر به، وكذب بآيات فأولئك أصحاب النار، ولهذا قال جل وعلا بعدها (والذين كفروا وكذبوا بآياتنا فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون)، (فأولئك أصحاب النار) أي: الملازمون لها ملازمة الصاحب لصاحبه والغريم لغريمه.
(هم فيها خالدون) أي لا يخرجون منها، ولا يُفتر عنهم العذاب، ولا هم ينصرون.
قال الشيخ: "وهذه الآيات فيها فوائد منها:
/ انقسام الخلق من الجن والأنس إلى أهل السعادة وأهل الشقاوة.
 انقسام الجن والإنس فريقين، أهل سعادة وأهل شقاوة. أيضا ماذا يترتب على ذلك؟ فريق في الجنة وفريق في السعير.
/ وفيها صفات الفريقين، والأعمال الموجبة لذلك، الموجبة للسعادة والأعمال الموجبة للشقاء.
/ وأن الجن كالإنس في الثواب والعقاب لأنهم مخاطبون بالتكليف، ومخاطبون بقوله (فإما يأتينكم مني هدى) مخاطبون بهذا مثل الإنس، كما أنهم مثلهم في الأمر والنهي أي مخاطبون بالأوامر والنواهي.
وأيضا فيها من الفوائد:
/ تهديد عظيم للعصاة
، وتخويف لهم، وتحذير لهم من المعصية، لأن - كما تقدم- في الإخراج لأبينا آدم من الجنة إنما كان بماذا؟ بمعصية واحدة، فمن تصور ما جرى لآدم بسبب معصية واحدة كان على وجل شديد من المعاصي وخوف عظيم منها. نعم

ن/ قال رحمه الله: "ثم شرع تعالى يذكر بني إسرائيل نعمه عليهم وإحسانه فقال (يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوفوا بعهدكم وإياي فارهبون* وآمنوا بما أنزلت مصدقا لما معكم ولا تكونوا أول كافر به ولا تشتروا بآيات ثمنا قليلا وإياي فاتقون* ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون* وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واركعوا مع الراكعين)
نفعنا الله أجمعين بما علمنا وزادنا علما وتوفيقا، وأصلح لنا شأننا كله، وهدانا إليه صراطا مستقيما....
سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك. اللهم صلِ وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين. جزاكم الله خيرا.
اقرأ المزيد...

الأربعاء، 23 يوليو 2025

اسم الله (الودود) من كتاب [فقه الأسماء الحسنى للشيخ عبد الرزاق البدر]

  ورد في القرآن الكريم مرتين:
 الأولى: في قوله تعالى: ﴿وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ ) [هود: ۹۰].
والثانية: في قوله تعالى : (إِنَّهُ هُوَ يُبْدِي وَيُعِيدُ (١٣) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ) [البروج: ١٣ - ١٤]. ومعناه: أي: الذي يحب أنبياءه ورسله وأتباعهم، ويحبونه، فهو أحب إليهم من كل شيء، قد امتلأت قلوبهم محبة له.
قال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي في تقرير عظيم له في بيان معنى هذا الاسم ودلالاته: " الودود أي: المتودد إلى خلقه بنعوته الجميلة، وآلائه الواسعة، وألطافه الخفية، ونعمه الخفية والجلية، فهو الودود بمعنى الواد، وبمعنى المودود يحب أولياءه وأصفياءه ويحبونه، فهو الذي أحبهم وجعل في قلوبهم المحبة، فلما أحبوه أحبهم حبا آخر جزاء لهم على حبهم. فالفضل كله راجع إليه، فهو الذي وضع كل سبب يتوددهم به، ويجلب ويجذب قلوبهم إلى وده، تودد إليهم بذكر ما له من النعوت الواسعة العظيمة الجميلة الجاذبة للقلوب السليمة والأفئدة المستقيمة، فإن القلوب والأرواح الصحيحة مجبولة على محبة الكمال والله تعالى له الكمال التام المطلق، فكل وصف من صفاته له خاصية في العبودية وانجذاب القلوب إلى مولاها، ثم تودد لهم بآلائه ونعمه العظيمة التي بها أوجدهم، وبها أبقاهم وأحياهم، وبها أصلحهم، وبها أتم لهم الأمور، وبها كمل لهم الضروريات والحاجيات والكماليات، وبها هداهم للإيمان والإسلام، وبها هداهم الحقائق الإحسان وبها يسر لهم الأمور، وبها فرج عنهم الكربات، وأزال المشقات، وبها شرع لهم الشرائع ويسرها ونفى عنهم الحرج، وبها بين لهم الصراط المستقيم وأعماله وأقواله، وبها يسر لهم سلوكه، وأعانهم على ذلك شرعا وقدرا، وبها دفع عنهم المكاره والمضار كما جلب لهم المنافع والمسار، وبها لطف بهم ألطافا شاهدوا بعضها، وما خفي عليهم منها أعظم. فجميع ما فيه الخليقة من محبوبات القلوب والأرواح والأبدان الداخلية والخارجية، الظاهرة والباطنة فإنها من كرمه وجوده، يتودد بها إليهم؛ فإن القلوب مجبولة على محبة المحسن إليها، فأي إحسان أعظم من هذا الإحسان الذي يتعذر إحصاء أجناسه فضلا عن أنواعه، فضلا عن أفراده، وكل نعمة منه تطلُب من العباد أن تمتلئ قلوبهم من مودته وحمده وشكره والثناء عليه. ومن تودده: أن العبد يشرد عنه فيتجرأ على المحرمات، ويقصر في الواجبات والله يستره ويحلم عنه ويمده بالنعم، ولا يقطع عنه منها شيئا، ثم يفيض له من الأسباب والتذكيرات والمواعظ والإرشادات ما يجلبه إليه، فيتوب إليه وينيب، فيغفر له تلك الجرائم، ويمحو عنه ما أسلفه من الذنوب العظائم ، ويعيد عليه وده وحبه، ولعل هذا - والله أعلم ـ سر اقتران الودود بالغفور في قوله: (وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ) [البروج: ١٤].
ومن كمال مودته للتائبين أنه يفرح بتوبتهم أعظم فرح يقدر، وأنه أرحم بهم من والديهم وأولادهم والناس أجمعين، وأن من أحبه من أوليائه كان معه وسدده  في حركاته وسكناته، وجعله مجاب الدعوة وجيها عنده، كما في الحديث القدسي: «لا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته» رواه البخاري (١)وآثار حبه لأوليائه وأصفيائه عليهم لا تخطر ببال، ولا تحصيها الأقلام، وأما مودة أوليائه له فهي روحهم وروحهم وحياتهم وسرورهم ، وبها فلاحهم وسعادتهم، بها قاموا بعبوديته، وبها حمدوه وشكروه، وبها لهجت ألسنتهم بذكره، وسعت جوارحهم لخدمته، وبها قاموا بما عليهم من الحقوق المتنوعة، وبها كفوا قلوبهم عن التعلق بغيره وخوفه ورجائه، وجوارحهم عن مخالفته، وبها صارت جميع محابهم الدينية والطبيعية تبعا لهذه المحبة. أما الدينية فإنهم لما أحبوا ربهم أحبوا أنبياءه ورسله وأولياءه، وأحبوا كل عمل يقرب إليه، وأحبوا ما أحبه من زمان ومكان وعمل وعامل. وأما المحبة الطبيعية فإنهم تناولوا شهواتهم التي جبلت النفوس على محبتها من مأكل ومشرب وملبس وراحة على وجه الاستعانة بها على ما يحبه مولاهم، وأيضا فكما قصدوا بها هذه الغاية الجليلة فإنهم تناولوها بحكم امتثال الأوامر المطلقة في مثل قوله : (كُلُوا وَاشْرَبُوا) ونحوها من الأوامر والترغيبات المتعلقة بالمباحات والراحات، فصار السبب الحامل لها امتثال الأمر، والغاية التي قصدت لها الاستعانة بها على محبوبات الرب، فصارت عاداتهم عبادات، وصارت أوقاتهم كلها مشغولة بالتقرب إلى محبوبهم. وكل هذه الآثار الجميلة الجليلة من آثار المحبة التي تفضل بها عليهم محبوبهم، وتقوى هذه الأمور بحسب ما في القلب من الحب الذي هو روح الإيمان، وحقيقة التوحيد، وعين التعبد، وأساس التقرب.
فكما أن الله ليس له مثيل في ذاته وأوصافه، فمحبته في قلوب أوليائه ليس لها مثيل ولا نظير في أسبابها وغاياتها، ولا في قدرها وآثارها، ولا في لذتها وسرورها، وفي بقائها ودوامها، ولا في سلامتها من المنكدات والمكدرات من كل وجه" اهـ (٢).
وإذا عرف العبد بأنَّ رَبَّه سبحانه ودود يحبُّ أولياءه ويحب من أطاعه، يحب المؤمنين المتقين، ويحب الصابرين المتوكلين، ويحب التوابين المتطهرين، ويحب الصادقين المحسنين ويحب جميع الطائعين، ولا يحب الظالمين الكافرين، ولا يحب الخائنين المسرفين، ولا يحب المختالين المستكبرين؛ فإنه يجب عليه أن يطيع أمره، ويفعل ما يحبه ويرضاه من سديد الأقوال وصالح الأعمال، وأن يتقرب إليه سبحانه بامتثال أمره، واجتناب نهيه، وحب ما يحبه من الأقوال والأعمال، وحب كلامه سبحانه وحب رسوله وسنته، والاجتهاد في متابعته، فبذلك تنال محبة الله، قال تعالى: ﴿قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ﴾ [آل عمران: ۳۱] ، وفي الدعاء المأثور عن النبي : أسألك حبك، وحب من يحبك، وحُبَّ عمل يقربني إلى حبك» رواه الإمام أحمد، والترمذي (٣).
----‐------------------------------------
(١) (رقم: ٦١٣٧) من . حديث أبي هريرة الله .
(٢) فتح الرحيم الملك العلام» (ص/ ٥٥ - ٥٧).
(٣) مسند أحمد (٢٤٢/٥)، وجامع الترمذي رقم: (۳۲۳۵) من حديث طويل عن معاذ ابن جبل نه . وصححه الترمذي ونقل تصحيحه أيضاً عن الإمام البخاري.
وانظر شرحاً مفيداً لهذا الدعاء في كتاب اختيار الأولى في شرح حديث اختصام الملأ الأعلى لابن رجب (ص/ ١٢٥) وما بعدها.
اقرأ المزيد...

اسم الله (البَر) من كتاب [فقه الأسماء الحسنى للشيخ عبد الرزاق البدر]

 ورد  اسم الله البر في القرآن الكريم في موضع واحد، وهو قوله تعالى: ﴿ إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُ الرَّحِيمُ﴾ [الطور : ۲۸] ، ومعناه: أي الذي شمل الكائنات بأسرها ببره ومنه وعطائه، فهو مولي النعم، واسع العطاء، دائم الإحسان، لم يزل ولا يزال بالبر والعطاء موصوفًا، وبالمَن والإحسان معروفاً، تفضل على العباد بالنعم السابغة، والعطايا المتتابعة، والآلاء المتنوعة، ليس لجوده وبره وكرمه مقدار، فهو سبحانه ذو الكرم الواسع والنوال المتتابع، والعطاء المدرار.
وبره سبحانه بعباده نوعان: عام وخاص.
فالعام: وَسِعَ الخلق كلهم، فما من شخص إلا وسعه من الله تعالى وفاض عليه إحسانه، قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي ءَادَمَ وَحَمَلْتَهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا ﴾ [الإسراء: ٧٠]، وهذا التكريم يدخل فيه خلق الإنسان على هذه الهيئة الحسنة والصورة الجميلة، والقامة الطيبة، وجعل له سمعا وبصرا وفؤادا، وجعله يمشي قائما منتصبا على رجليه، ويأكل بيده، وغيره من الحيوانات يمشي على أربع، ويأكل بفمه، وخصه بأنواع من المطاعم والمشارب والملابس، إلى غير ذلك مما خص به بني آدم و كرمهم به.
والخاص: هو هدايته من شاء منهم لهذا الدين القويم، وتوفيقهم لطاعة رب العالمين، ونيل ما يترتب على ذلك من السعادة في الدنيا والآخرة، كما قال تعالى: (إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ) [الانفطار : ١٣]، أي: في دورهم الثلاثة: في الدنيا، والبرزخ، ويوم القيامة، وتفاصيل بره بعباده وأصفيائه أمر لا يمكن حصره، ولا سبيل إلى استقصائه.
فمن بره بهم أنه تبارك وتعالى يريد بهم اليسر، ولا يريد بهم العسر، يتقبل منهم القليل من العمل، ويثيب عليه الثواب الكثير، ويعفو عن كثير من سيئاتهم، ولا يؤاخذهم بجميع جناياتهم، ويجزيهم بالحسنة عشر أمثالها، ويضاعف لمن يشاء، ولا يجزي بالسيئة إلا مثلها، ويكتب لهم الهم بالحسنة، ولا يكتب عليهم الهم بالسيئة، فعن أبي هريرة منه قال : قال رسول الله الله : «من همّ بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة، ومن هم بحسنة فعملها كتبت له عشراً إلى سبعمائة ضعف، ومن هم بسيئة فلم يعملها لم تكتب، وإن عملها كتبت» 
رواه مسلم (۱).
ومن بره بعباده فتحه أبواب الإنابة والتوبة والأوبة إليه مهما كثرت الذنوب وتعددت الآثام، قال تعالى: ﴿قُلْ يَعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ [الزمر : ٥٣]. وفي الحديث القدسي يقول تعالى: (يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي، يا ابن آدم لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة) (٢).
ومن بره بهم معاملتهم بالصفح والعفو وستر الذنوب والتجاوز عنها، فعن ابن عمر قال: سمعت رسول الله الله يقول: «إن الله يدني المؤمن فيضع عليه كنفه، ويستره، فيقول: أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ فيقول: نعم أي رب حتى إذا قرره بذنوبه ورأى في نفسه أنه هلك قال: سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم، فيُعطى كتاب حسناته، وأما الكافر والمنافق فيقول الأشهاد (هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ﴾ [هود: ١٨]» متفق عليه (٣).
ومطالعة العبد لهذا البر العظيم من سيده ومولاه نافع له غاية النفع؛ إذ به يعرف عزة الله في قضائه، وبره في ستره، وحلمه في إمهاله وكرمه في تيسيره لعبده التوبة والإنابة، وفضله في مغفرته، وهذا يسوق العبد إلى حسن الإقبال على مولاه خضوعا وتذللا، رغباً ورهباً، رجاء وطمعاً.
قال ابن القيم - رحمه الله- : ".... يعرف بره سبحانه في ستره عليه حال ارتكاب المعصية مع كمال رؤيته له، ولو شاء لفضحه بين خلقه فحَذِرُوه، وهذا من كمال بره، ومن أسمائه: «البر»، وهذا البر من سيده كان عن كمال غناه عنه، وكمال فقر العبد إليه، فيشتغل بمطالعة هذه المنة ومشاهدة هذا البر والإحسان والكرم، فيذهل عن ذكر الخطيئة، فيبقى مع الله سبحانه، وذلك أنفع له من الاشتغال بجنايته، وشهود ذل معصيته، فإن الاشتغال بالله والغفلة عما سواه هو المطلب الأعلى والمقصد الأسنى» (٤).
وما نبه عليه رحم الله أمر يغفل عنه كثير من التائبين، فينشغلون بعظم الذنوب التي ارتكبوها وكثرتها ويغفلون عن ذكر سعة بر الله وعظم منه وجزيل كرمه.
ومن عظيم بره بعباده أنه سبحانه - مع كمال غناه - يفرح بتوبة التائبين وإنابة المنيبين، ففي صحيح مسلم (٥) من حديث أنس بن مالك عنه قال: قال رسول الله : الله أشد فرحاً بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة، فانفلتت منه، وعليها طعامه وشرابه، فأيس منها، فأتى شجرة فاضطجع في ظلها قد أيس من راحلته، فبينا هو كذلك إذا هو بها قائمة عنده، فأخذ بخطامها ثم قال من شدة الفرح : اللهم أنت عبدي وأنا ربُّك، أخطأ من شدة الفرح».
ولهذا الفرح شأن لا ينبغي للعبد إهماله والإعراض عنه؛ إذ إن مطالعته من أعظم ما يُكسب القلب طمأنينة وشوقا إلى الله ولهجا بذكره وشهودا لبره ولطفه وكرمه وإحسانه، وأنه سبحانه أجود الأجودين وأكرم الأكرمين، وأرحم الراحمين.
ومما ينبغي أن يعلم هنا أنَّ البَرَّ سبحانه يحب أهل البر، فيقرب قلوبهم منه بحسب ما قاموا به من البر، ويحب أعمال البر، فيجازي عليها بالهدى والفلاح والرفعة في الدنيا والآخرة، والبر أصله: التوسع في فعل الخيرات، وأجمع الآيات لخصاله قوله تعالى: ﴿ لَيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ ءَامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَئكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ﴾ [البقرة: ١٧٧].
وقال الله تعالى : (لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ﴾ [آل عمران: ۱۹۲]، قال قتادة رحم الله: "لن تنالوا بر ربكم حتى تنفقوا مما يعجبكم ومما تَهْوَوْنَ من أموالكم" (٦).
ألهمنا الله جميعا رشد أنفسنا، ورزقنا من فضله وبره وجوده ما لا نحتسب، إنه سميع مجيب.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(۱) (رقم: ۱۳۰).
(۲) سبق تخريجه.
(٣) رواه البخاري (رقم : (۲۳۰۹) - واللفظ له، ومسلم (رقم: ٢٤٤١).
(٤) مدارج السالكين» (٢٠٦/١).
(٥) (رقم: ٢٧٤٧).
(٦) انظر : تفسير ابن جریر الطبري (٦٦٦/٣).
اقرأ المزيد...

الأربعاء، 9 يوليو 2025

تدبر سورة الكهف (٢٥)/ د.محمود شمس


 

بسم الله الرحمن الرحيم
الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهَ ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَجْمَعِينَ. سُبْحَنَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ [سورة البقرة : ٣٢] . اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا يا رب العالمين؛ وَبَعْدُ: فإني أحييكم بتحية الإسلام : السَّلامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ. وإني لأسأل الله أن يشرح صدورنا، وأن يجعلني وَإِيَّاكُمْ من أهل القرآن الكريم الَّذِينَ هم أهل الله وخاصته. وها نحن نلتقي في لقائنا هذا وتدبر سورة الكهف.
توقفت عند قول الله : ( وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءِ أَنزَلْتَهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيحُ ) 
هذا التشبيه للدنيا بالماء الذي أنزله الله من السماء (فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ) هو من التشبيه التمثيلي، تشبيه تمثيلي بمعنى: أنَّ الله يضرب لنا مثلا؛ ولذلك لأنَّ الله يضرب لنا المثل حرف التشبيه وهو الكاف: (كَمَاءٍ أَنزَلْنَهُ مِنَ السَّمَاء) دخل هنا عَلَى المُشبَّه به أم عَلَى المُشبَّه؟ دخل هنا عَلَى المشبه به وهو الماء الذي أنزله الله من السماء؛ لأنَّ المَثَل لا يمكن أن يكون عَلَى الحقيقة، كما كنا نتكلم في محاضرة التشبيه، ما أذكر كنا في أي محاضرة. لكن هنا هو تمثيل، ولهذا التمثيل غاية ما الغاية؟ الغايةُ : أَنَّ الله يضرب هذا المثل لكل من انهمك في إقباله على الحياة الزائلة، لأنه كما قلت سابقا أن لنا حياتين اثنتين: حياتنا هذه هي حياة التكليف، وحياة الابتلاء، وحياة المنغصات، وحياة التمحيص، فالله يبتلي العباد جميعًا ليمحص قلوبهم، لتكون قلوبهم خالصة له، وهو هنا يبين أنَّ الدنيا كالماء الذي ينزل من السماء، فيختلط به نبات الأرض، فيصبحهشيما، أين المراحل ؟ هناك مراحل حذفها الله .
(فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا) احذف كل المراحل، أنت ولدت أنت مت يعني كل مولود يوم ولد هو ميت، وما بين الحياة والموت والانتقال من هذه الدار ومن هذه الدنيا عليك أن تنجح في الابتلاء، يبتليك الله بالشر ويبتليك بالخير، فكل الناس في هذا الابتلاء، والله يضرب لنا المثل، ويبين لنا أنَّ هذه الحياة أنت ستصبح لا شيء إلا ما تركت من أثر، ومن أثر طيب، تركت كلمة طيبة، تركت أفعالاً صالحة، تركت أعمالاً صالحة، تركت خُلُقًا كريمًا، تركت فعلا طيبًا فعلته والناس يقلدونك أنت في النهاية ذكرى وأثر، فَإِما أن تترك الأثر الصالح، وَإِمَّا أن يكون غير ذلك.
إذا هذا المثل موجه لكل من يغتر بالحياة الدنيا، ولكل من يعتقد أن الحياة الدنيا هي نهاية المطاف. لا، ليست نهاية المطاف، إِنَّما هي دار مؤقتة، أنت فيها ضيف وستنتقل منها لا محالة، ولذلك رب العباد وهو يتحدث عن مراحل خلق الإنسان في سورة المؤمنون: (ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَعِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَهُ خَلْقًا ءَاخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَلِقِينَ ثُمَّ إِنَّكُم بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ ﴾ [سورة المؤمنون: ١٤-١٥]، وأين مراحل الدنيا؟ وأين مراحل الحياة؟ الله يقول لك : انتبه مهما بلغت في الدنيا من مكانة ومن منصب ومن جاه، أنت بعد ذلك ميت. وقلت قبل ذلك بأنَّ الله الله أكد الموت بثلاث مؤكدات، وهي نهاية المؤكدات في اللغة، لماذا؟ مع أنَّ النَّاس لم يُنكر أحد أنه يموت، والواقع يؤكد ذلك، لكن الله يؤكد الموت بالمؤكدات الثلاثة؛ لينزلنا منزلة المنكرين نظرًا لأحوالنا؛ لأننا انشغلنا بتلك الدنيا والتهينا بتلك الدنيا عن الآخرة.
إذا هذا المثل لكل من اعتبر الدنيا نهاية المطاف، ولذلك ختم الله الآية بختام في منتهى الدقة : (وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ) ، «كان» هنا لا تفيد زمنا، يعني لا تفيد الزمن الماضي فَقَطْ ، وَإِنَّمَا تفيد جميع الأزمنة كان وما زال وسيظل على (كُلِّ شَيْء) عموم، والعموم يشمل كل شيء في الدنيا، فكلمة شيء سورة الكهف : ١٤٥ تُطلق على كل شيء ما سوى الله ، ثُمَّ يأتي بصيغة الافتعال مُقْتَدِرًا [ سورة الكهف : ٤٥]، (مُقْتَدِر » هذا تسمى في اللغة: صيغة الافتعال. ماذا يعني صيغة الافتعال؟
 يعني : فيها كامل الصفة، يعني هو كامل القدرة، متمكن من قدرته، لا تعمل عقلك في كيفية قدرة الله الله ، فالله قادر ومقتدر، ولذلك هناك فرق دائما بين «فعَلَ، افْتَعَلَ»؛ «افتعل فيها تكلف، وفيها تمام قدرة، وفيها تمام الصفة، ولذلك كان المشركون في حذر عندما قالوا عن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ﴿وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا [سورة الفرقان : ١٥ ، لاحظوا : اكْتَتَبَهَا [سورة الفرقان: ٥]، لماذا لم يقولوا: «كتبها»؟ إشارة إلى أنه لا يكتب، وهو لم يكتب هو، إِنَّمَا أكتبها سورة الفرقان : ٥] : طلب من غيره أن يكتبها له، تكلف في كتابتها، فالله عَلَى كل شيء مقتدر.
وقلت سابقا : إنَّ هناك فرقا بين «سَمِعَ، اسْتَمَعَ »:
- «سمع»: ما يسمعه الإنسان بالطبع والعادة، وأنت تمشي في الشارع تسمع كلاما دون أن تعطيه أذنك أو قلبك، تسمع، كل كلام يتكلم فيه بصوت مرتفع أنت تسمعه مع أنك لم تعط سمعك ولم تعط قلبك للمتكلم.
- إذا أعطيت سمعك وقلبك للمتكلم، فأنت استمعت، تكلفت في الاستماع، بذلت جهدًا، وضعت أذنك بالقرب ممن يتكلم، حاولت أن تستمع أي كلمة يقولها، هذه هي صيغة الافتعال.
ولذلك «اقتدر» أو (مقتدر) وردت في القرآن الكريم تقريبا في أربعة مواضع، هذا هو الموضع الأول.
الموضع الثاني : وردت في أخذ الله لفرعون وآله ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿وَلَقَدْ جَاءَ ءالَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ كَذَّبُوا بِعَايَتِنَا كُلَّهَا فَأَخَذْنَهُمْ أَخْذَ عَزِيزِ مُقْتَدِرٍ ﴾ [سورة القمر : ٤١-٤٢] ، فرعون الَّذِي قَالَ : (وَأَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى) [سورة النازعات : ٢٤]، ما كان أحدًا ليصدق أنَّ فرعون الذي يُذبح الأطفال خوفًا من الطفل الذي سيأتي ليطيح بملكه، يُربيه في بيته، ويلاعبه ويداعبه ويطعمه، ومع ذلك كان هو الطفل المنتظر، هل هناك أحد من الخلق يستطيع ذلك؟ لا يوجد أبدا من الخلف من يفعل ذلك؛ واحد يُذبح كل الأطفال، ومع ذلك أنت الذي ستُربيه، وهذا كله بأن ألقى الله عَلَى موسى محبةً منه وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي ﴾ [سورة طه : ٣٩ ، ولذلك يجب أن تدعو الله دائما أن يُلقي عليك محبة منه؛ فإذا ألقى عليك محبة منه فأنت قد فزت بالدنيا وبالآخرة.
فأخذ فرعون لو أعملت عقلك، تقول: كيف أغرق الله فرعون؟ لا تعمل عقلك؛ لأن الله أَخَذَه أخذ عزيز مقتدر.
الموضع الثالث: وفي نفس السورة الله جعل المتقين في مقعد صدق (في مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكِ مُقْتَدِر) [ سورة القمر : ١٥٥] ، لا تسرح بخيالك فيما أعد الله لعباده المتقين من نعيم؛ لأنه مليك و مقتدر، ومُقْتَدِرٍ: كامل القدرة، اقتدار عجيب، اقتدار فوق مستوى العقل البشري، هذا الاقتدار فوق مستوى العقل البشري.
الموضع الرابع : في سورة الزخرف (فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُم مُّنتَقِمُونَ * أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِم مُّقْتَدِرُونَ ﴾ [سورة الزخرف : ٤١-٤٢] يتكلم الله عن المشركين، وتأتي غزوة بدر والله يأخذهم أخذ عزيز مقتدر، ليؤكد قوله : (فَإِنَّا عَلَيْهِم مُّقْتَدِرُونَ) اقتدار عجيب، جعل هؤلاء برغم العدد والعدة وأعدادهم كانت أضعافًا أضعافا ، وقواته ومع ذلك أخذوا أخذ عزيز مقتدر. هُذَا (وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِرًا ).
بعد ذلك يريد الله أن يغرس اليقين، ويغرسه بأسلوب لطيف فيأتي بما يحبه المؤمن في هذه الدنيا والكل لا ينكر أنه يحب ذلك، فيبين الله ما تحبه أنت وفق رغباتك، (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)، الناس يستشهدون بهذه الآية الكريمة بأن المال وبأن البنين زينة الحياة الدنيا. الله يريد أن يقول : هذا المال وهؤلاء البنون الَّذِينَ هم زينة أنت تتزين بهم؟ نعم. تتزين بهم كم سنة الَّتِي ستعيشها في الدنيا ؟ اللهُ أَعْلَمُ ، نقول مثلا : ستون سنة . تزينت بها ستون سنة، الشيء الذي تتزين به زائل لا محالة، هل هناك من زينة باقية ؟ لا توجد زينة باقية أبدا، فالزينة فانية ومنتهية، ولذلك قَالَ الله : الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) والله لن يخبرنا بهذا لكي نتخذها زينةً فعلا ونتوقف عندها، أنت تزين بها كما تشاء، لكن انتبه لما ينفعك في حياتك الباقية، في الحياة التي ستعيشها بلا منغصات، بلا منغصات إطلاقًا؛ لا منغصات ذاتية، ولا منغصات خارجية؛ لأن الإنسان في الدنيا يعيش على المنغصات المنغصات:
- إما أن تأتيك من ذاتك، من أعماقك ؛ قلق توتر، خوف من المستقبل، خوف من القادم، خوف من أي أمر أنت تخافه، فهذا ناشئ من ذاتك.
- وهناك أيضًا منغص يأتيك من الخارج، من خارجك، الخارج : هو من يتعاملون معك، حَتَّى - خلي بالكم - الإنسان في توجهه إلى الله؛ إِمَّا أن يُعمق علاقته بالله من ذاته، وإما أن يترك نفسه لهوى الآخرين هم الذين يوجهونه. فإذا تركت نفسك لغيرك في علاقتك بربك، فاعلم أنك في خطر، لأنك ينبغي أن تعلم يقينا حقيقة وجودك في هذه الدنيا، وحقيقة علاقتك بالله ، ولذلك كن دائمًا عَلَى يقين من أنك خُلقت للعبادة.
طيب (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) خلي بالكم حَتَّى تعلموا أنَّ الله لا يخبرنا بهذه الجملة حَتَّى نتخذها دليلًا على أننا ينبغي أن نتزين بهما، مع أنه لا مانع .
(الْمَالُ وَالْبَنُونَ) «البنون» هم الأولاد الذكور، طيب والأولاد البنات أليسوا من خلق الله؟ ألم يعب الله عَلَى مَن (إذا بُشِّر بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم)؟ فهل يعيب عَلَى الإنسان الذي إذا بُشِّر بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم، ثم يأتي هنا ويقول: «يا أَيُّهَا النَّاس تزينوا بالمال وبالبنين»؟ لو قَالَ: «المال والأولاد»، لقلنا: نعم؛ لأن البنات هم خلق من خلق الله، فلو كان الإخبار للزينة لكان الإخبار بالأولاد وليس بالبنين، إِنَّمَا ربُّ العِباد يذكر ذلك ليشير إِلَى أَنَّ هَذَا هو الَّذِي اتبعتموه، وهو الذي اتخذتموه أنتم، ولذلك يُقدِّم الله المال على البنين.
طيب، أيهما أعز على الإنسان؟ بالتأكيد الأعز في الواقع على الإنسان هم البنون.
طيب، لماذا قدم الله المال؟ لأن فعل الإنسان في الدنيا وحال الإنسان في الدنيا، أن المال ينشغل به أكثر، ويهتم به أكثر، ولذلك قدَّمه هاهنا مع أنه ذَكَرَ أَنَّ المال يشترك مع الولد في الفتنة أيضًا في آيات أخرى، لكني لا أريد أن أطيل هنا.
طيب، قابل الله هذه الجملة وهي (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) بقوله: (وَالْبَاقِيتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرُ أَمَلًا)
الباقيات الصَّالِحَات: هي كل عمل صالح، ولو قرأتم أقوال السلف في معنى (وَالْبَاقِيتُ الصَّالِحَتُ) لجمعتم أنها تُشير إلى كل عمل صالح، ولذلك قلت سابقا في هذه الجملة: «أن فيها حذفًا، وفيها تقديم وتأخير».
التقديم والتأخير : «الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ»، «الْبَاقِيَاتُ»: صفة لموصوف محذوف، «الصَّالِحَاتُ»: صفة الموصوف محذوف. 
طيب، قدَّم الله «الْبَاقِيَاتُ» مع أنَّ «الصَّالِحَاتُ» هي الَّتِي تُقدَّم نظرًا لأن الأعمال توصف بها، ولن تكون الأعمال باقيةً إِلَّا إذا كانت صالحة، أليس كذلك؟ هل الأعمال تكون باقيةً إذا كانت غير صالحة ؟ ولذلك يقولون: إن الصَّالِحَات أكثر تعريفا بالموصوف المحذوف، وكلمة الصَّالِحَاتُ هي التي تكون مقدمة حَتَّى تشير إلى الموصوف المحذوف؛ لأنه لا نحذف الموصوف إِلَّا إذا كان مشتهرا بالصفة تمام الشهرة، وكان الصفة فيه سجية وطبيعة وعددًا.
مثلا تقولون: «فلان الشيخ»، لو كان لكم شيخ واحد، وكلمة شيخ لا تُطلق إِلَّا عليه، لا نقول: «فلان»؛ نحذف فلان ونقول : الشيخ حضر الشيخ لم يحضر ، لماذا ؟ لأنه أصبح بالنسبة لكم طبيعة وسجية وعادة ولا تُطلق كلمة «شيخ» إِلَّا عليه، ولذ لك هنا الموصوف المحذوف كلمة «الأعمال»، و(الصَّالِحَتُ) تقدم لأنها لن تكون باقية إلا إذا كانت صالحة، ما في عمل يبقى وينفعك إلا إذا كان العمل صالحًا، هذه معنى (وَالْبَاقِيتُ الصَّالِحَاتُ) فتكون الجملة هكذا: «والأعمال الصَّالِحَاتُ الباقيات» هذا هو .

(خَيْرُ عِندَ رَبِّكَ) قوله : (عِندَ رَبِّكَ) يدل عَلَى أَنَّ (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) عند من؟ عندك أنت أَيُّهَا الإنسان، إِنَّمَا (وَالْبَاقِيتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ) يعني (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) في فهمكم وفي حبكم، وطالما أنَّ الله ذكرها، لا يمنع أن تتزين بها، لكن لا تجعلها هي الأهم، لا تجعلها هي الأولى، اجعل الأولى دائمًا الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ لأنها (خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا).
لماذا (خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا)؟ هل المال والبنون الذي تتخذه زينة له ثواب عند الله؟ نعم ممكن، لكنه ثواب مظنون.
تعرفون الثواب المظنون؟ المال إذا تصدقت به وقدَّمته بيديك في حياتك، لك أجره عند الله ، لكن تعالوا الصَّدَقَة بالمال تحتاج منك أن تثبت نفسك، اقرؤوا قول الله تَعَالَى: (وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أنفسهم) يعني : لن تحقق ابتغاء مرضات الله إلَّا إذا كبحت جماح نفسك، ثبتها، تقول لها يا نفسي لا تمني ولا تؤذي من تصدقت عليه، يا نفسي لا تتصدقي لعلة ولا لسبب إِلَّا ابتغاء مرضات الله. فَالَّذِي ينجح في ذلك سيكون نجاحًا نسبيا. أما الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ الَّتِي هي عند ربك، فهي خيرٌ ثوابًا (وَخَيْرُ أَمَلًا ) يعني : خير أملًا في المستقبل، في الحياة الباقية.
الولد طبعًا إذا كان صالحًا ويدعو لك، فلك الأجر، لكن هل تضمن أن يدعو أولادك لك بعد وفاتك ؟ أنت لا تضمن ذلك. فإذا ما انشغلوا بدعائهم لك أياما أو شهورًا فقد تشغلهم الدنيا، ثُمَّ إنك أنت نفسك فتش فيها، هل أنت تدعو لوالديك دائما أم أن الأمر قد يكون بعض الوقت وبعض الوقت؟ إذا الخير الأمل المضمون، ولذلك خلي بالكم (وَخَيْرٌ أَمَلًا ﴾ و لما لم يقل الله : «خير أمل»، يُضيف خير إلى كلمة «أمل»؟ تعرفون لماذا؟ لأنه لو كان «خير أمل» يكون بالضبط اشترك في خير الأمل مع المال والبنين، إِنَّما يريد الله أن يقول لك : هذا الباقيات الصَّالِحَات خير خيرًا مطلقًا، لا تقارن بينها وبين أموالك التي أنفقتها، ولا بين أولادك الَّذِينَ أنجبتهم وربيتهم. صحيح أنت نجحت، لكن الخيرية التي عند الله لا يمكن أن تقارن، يعني هذا نهاية المعنى. (وَالْبَقِيتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرُ أَمَلًا) 
طيب هذه الآية تكررت في سورة مريم قَالَ الله تَعَالَى: ﴿وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدَى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَّرَدًّا) [ سورة مريم : ٧٦]، لماذا قَالَ الله هناك (وَخَيْرٌ مَّرَدًّا)؟ لأن الآيات قبلها : ﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ ءَايَتُنَا بَيِّنَاتِ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ ءَامَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَّقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيَّا* وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثا وَرِئيا* قُلْ مَن كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَّكَانًا وَأَضْعَفُ جُندًا) [سورة مريم: ٧٣-٧٥]. هذا فريق، والفريق الذي تحدى وقالوا: (أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَّقَامًا ) فَقَالَ الله: (وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدَى) [سورة مريم : ٧٦]. معنى (وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا) أي: يوفق الَّذِينَ اهتدوا هدى، ويحثهم عَلَى أَنَّ اتباع الهدى ينشئ الأعمال الصَّالِحَاتِ، وَهُذِهِ الأعمال الصَّالِحَاتِ هي التي ستكون لك خير ثوابًا وخير مردا يعني: خيرٌ مرجعًا، فلا تنظروا إِلَى الَّذِينَ هم (أَحْسَنُ أَثَنَا وَرِدْيَا ﴾  ولا تنظروا إِلَى الَّذِينَ قَالُوا: ﴿ أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا ﴾ فأنتم وفقتم للهداية فزادكم الله هدى، وَهذَا الهدى يترتب عليه الأعمال الصَّالِحَات (الباقيات الصَّالِحَات) فلا يصلح هنا «خير أملًا»، إِنَّمَا «خير» مرجعا ومردا لكم عندما ترجعون إلى ربكم وعندما تمرُّون على الصراط كالبرق الخاطف وترون غيركم يسقط في النار سقوطا كالذي يتردى من أعلى إِلَى أسفل. إذا الله يقول هنا : ﴿وَالْبَقِيتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرُ أَمَلًا)

أسأل الله أن يرزقني وَإِيَّاكُمْ الفهم والسداد في القول والفعل والعمل، وأن يبارك لي ولكم في وقتنا ووقتكم، وأن يبارك الله في أولادنا وأولادكم، وأن يهديهم جميعًا صراطه المستقيم، وأن يغفر الله لوالدينا، وأن يرحمهم، وأن يجعلنا أثرًا صالحًا لهم، وأسأل الله أن يشفي مرضانا ومرضى المسلمين، وَبَارَكَ اللهُ فِيكُمْ جميعًا، وجزاكم الله خيرًا .....
وَصَلَّ اللَّهُمَّ وَسَلَّمَ وَبَارِكَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ وَالحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَالسَّلامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ
اقرأ المزيد...

العمل بسورة المرسلات (١٦-٢٨)

 بسم الله الرحمن الرحيم

1- اعلم أن عقوبات الله للمجرمين شديدة، وأن أخذه أليم، فقد أهلك أمما سابقة كانوا أشد منا قوة، فلنحذر من المجاهرة بالفسق والعصيان، وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلينا أن لا نغتر بحلم الله وإمهاله واستدراجه (ألم نهلك الأولين * ثم نتبعهم الآخرين * كذلك نفعل بالمجرمين *ويل يومئذ للمكذبين).

2- تعرف على نِعم الله عليك منذ أن خلقك من ماء مهين، فجعلك في رحم أمك في قرار مكين، إلى مدة معلومة تنتقل فيها من نطفة إلى علقة إلى مضغة، حتى صرت إنسانا سويا تام الخلقة بلا حول منك ولا قوة، واعلم أن من قدر على ذلك قادر على بعثك بعد موتك للحساب والجزاء، فاعمل لتكون في ذلك اليوم من الفائزين (ألم نخلقكم من ماء مهين* فجعلناه في قرار مكين* إلى قدر معلوم* فقدرنا فنعم القادرون* ويل يومئذ للمكذبين).

3- اقرأ في العجائب التي أودعها الله في هذه الأرض التي نسكن فيها، ففيها من عجيب تقدير الله ما يبهر الألباب، وقد أكرمنا الله بسكناها، فجعلها جامعة لأحيائنا على ظهرها، ولأمواتنا وفضلاتنا في بطنها، وجعل فيها جبالا ترسيها حتى لا تميد وتضطرب فتنعدم الحياة عليها، وأسقانا ماء عذبا زلالا من الأمطار والأنهار والعيون والآبار، فالحمد الله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه (ألم نجعل الأرض كفاتا* أحياء وأمواتا* وجعلنا فيها رواسي شامخات وأسقيناكم ماءً فراتا * ويل يومئذ للمكذبين).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
د. إبصار الإسلام
اقرأ المزيد...

فوائد سورة المرسلات (١٦-٢٨)



/ ( ألم نهلك الأولين * ثم نتبعهم الآخرين * كذلك نفعل بالمجرمين): 
قال ابن عطية رحمه الله : «قرأ جمهور القراء ( ثم نتبعُهم ) بضم العين على استئناف الخبر، وقرأ أبو عمرو فيما روي عنه (ثم نتبعْهم) بجزم العين عطفا على (نُهْلِكِ)، وهي قراءة الأعرج. وبحسب هاتين القراءتين يجيء التأويل في (الْأَوَّلِينَ):
ـ فمن قرأ الأولى - ضم العين- جعل (الأَوَّلِينَ) الأمم التي تقدمت قريشا بأجمعها، ثم أخبر أنه يتبع (الْآخِرِينَ) من قریش وغيرهم سنن أولئك إذا كفروا وسلكوا سبيلهم.
ـ ومن قرأ الثانية - بجزم العين- جعل (الْأَوَّلِينَ) قوم نوح وإبراهيم ومن كان معهم، و (الْآخِرِينَ) قوم فرعون، وكل من تأخر وقرب من مدة محمد صلى الله عليه وسلم. المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (٥\ ٤١٨)

/ (ويل يومئذ للمكذبين):
قال ابن الجوزي: فإن قيل: ما الفائدة في تكرار قوله عز وجل : (ويل يومئذ للمكذبين)؟ فالجواب: أنه أراد بكل آية منها غير ما أراد بالأخرى، لأنه كلما ذكر شيئا قال: «ويل يومئذ للمكذبين بهذا». زاد المسير في علم التفسير» (٤ / ٣٨٤).

/ (ألم نخلقكم من ماء مهين):
عن بسر بن جحاش القرشي أن النبي صلى الله عليه وسلم بزق يوما في كفه فوضع عليها أصبعه ثم قال: (قال الله: ابن آدم أنى تُعجزني وقد خلقتك من مثل هذه، حتى إذا سويتك وعدلتك، مشيت بين بردین وللأرض منك وئيد، فجمعت ومنعت حتى إذا بلغت التراقي قلت: أتصدق، وأنى أوان الصدقة). مسند أحمد (۲۹) (۳۸۵)، سنن ابن ماجه (١٣/٤).
قال ابن القيم: «قال تعالى: (ألم نخلقكم من ماء مهين* فجعلناه في قرار مكين* إلى قدر معلوم* فقدرنا فنعم القادرون) وقال تعالى: (أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين)، وقال: (ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين* ثم جعلناه نطفة في قرار مكين* ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين) وهذا كثير في القرآن؛ يدعو العبد إلى النظر والفكر في مبدأ خلقه ووسطه وآخره؛ إذ نفسُه وخلقُه من أعظم الدلائل على خالقه وفاطره، وأقرب شيء إلى الإنسان نفسه، وفيه من العجائب الدالة على عظمة الله ما تنقضي الأعمار في الوقوف على بعضه؛ وهو غافل عنه، معرض عن التفكر فيه، ولو فكر في نفسه لزجره ما يعلم من عجائب خلقها عن كفره.
مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة (٢/ ٥٣٩).
وقال ابن القيم: «الله تعالى أخبر عن هذا الماء - أي المني - وكرر الخبر عنه في القرآن، ووصفه مرة بعد مرة، وأخبر أنه دافق، وأنه يخرج من بين الصلب والترائب، وأنه استودعه في قرار مكين، ولم يصفه بالمهانة إلا لإظهار قدرته البالغة أن خلق من هذا الماء الضعيف هذا البشر القوي السوي، فالمهين هاهنا: الضعيف، ليس هو النجس الخبيث. بدائع الفوائد (٣/ ١٠٤٣).
وقال ابن القيم أيضا: «فأول مراتب خلقه أنه سلالة من طين، ثم بعد ذلك سلالة من ماء مهين، وهي النطفة التي استلت من جميع البدن، فتمكث كذلك أربعين يوما، ثم يقلب الله سبحانه تلك النطفة التي انسلت علقة وهي قطعة سوداء من دم فتمكث كذلك أربعين يوما أخرى، ثم يصيّرها - سبحانه - مضغة وهي قطعة لحم أربعين يوما، وفي هذا الطور تقدّر أعضاؤه وصورته وشكله وهيئته، ثم تُقدر مفاصل أعضائه وعظامه وعروقه وعصبه، ويُشق له السمع والبصر والفم، ويفتق حلقه بعد أن كان رتقا، فيركب فيه اللسان، ويُخطط شكله وصورته، وتُكسى عظامه لحما، ويُربط بعضها إلى بعض أحكم ربط وأقواه، وهو الأسر الذي قال فيه: (نحن خلقناهم وشددنا أسرهم). «تحفة المودود بأحكام المولود» (ص ٣٥٥).

/ (فقدرنا فنعم القادرون): 
قال السعدي: «(فقدرنا) أي: قدرنا ودبرنا ذلك الجنين في تلك الظلمات، ونقلناه من النطفة إلى العلقة إلى المضغة، إلى أن جعله الله جسدا، ثم نفخ فيه الروح، ومنهم من يموت قبل ذلك (فنعم القادرون) يعني بذلك نفسه المقدسة حيث كان قدرا تابعا للحكمة موافقا للحمد». «تفسير السعدي ص (٩٠٤)»

/ (ألم نجعل الأرض كفاتا * أحياء وأمواتا):
نقل ابن القيم من تفسير الإمام أحمد قوله: (ألم نجعل الأرض كفاتا) يكفتون فيها الأحياء الشعر والدم، وتدفنون فيها موتاكم.
 قال المروذي وسمعته يقول: "يدفن فيها ثلاثة أشياء: الأظافر والشعر والدم". «بدائع الفوائد» (۳/ ۱۰۱۹).
وقال القرطبي: (ألم نجعل الأرض كفاتا) أي ضامة تضم الأحياء على ظهورها، والأموات في بطنها. وهذا يدل على وجوب مواراة الميت و دفنه و دفن شعره وسائر ما يزيله عنه، يقال: كفت الشيء أكفته: إذا جمعته وضممته، والكفت الضم والجمع، وأنشد سيبويه: کرام حين تنكفت الأفاعي ** إلى أحجارهن من الصقيع
روي عن ربيعة في النباش - الذي ينبش القبور ويسرق ما فيها - قال : تقطع يده، فقيل له: لم قلت ذلك؟ قال: إن الله عز وجل يقول: (ألم نجعل الأرض كفاتا* أحياء وأمواتا) فالأرض حرز" والسارق لا يُقطع إلا إذا سرق من حِرز.
قال: "وكانوا يسمون بقيع الغرقد كَفتة، لأنه مقبرة تضم الموتى، فالأرض تضم الأحياء إلى منازلهم، والأموات في قبورهم. وأيضا استقرار الناس على وجه الأرض، ثم اضطجاعهم عليها، انضمام منهم إليها"
وقال الأخفش وأبو عبيدة ومجاهد في أحد قوليه الأحياء والأموات ترجع إلى الأرض، أي الأرض منقسمة إلى حي وهو الذي ينبت، وإلى ميت وهو الذي لا ينبت». "الجامع لأحكام القرآن" (۱۹/ ١٦١).
وقال ابن القيم: اختلف الناس: هل السماء أشرف من الأرض، أم الأرض أشرف؟
فالأكثرون على الأول، واحتج من فضّل الأرض بـ 
ـ أن الله أنشأ منها أنبياءه ورسله وعباده المؤمنين، وبأنها مساكنهم ومحلهم أحياء وأمواتا
ـ وبأن الله سبحانه وتعالى لما أراد إظهار فضل آدم للملائكة قال: (إني جاعل في الأرض خليفة) فأظهر فضله عليهم بعلمه واستخلافه في الأرض
ـ وبأن الله سبحانه وصفها بأن جعلها محل بركاته عموما وخصوصا، فقال: (وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها) ووصف الشام بالبركة في ست آيات، ووصف بعضها بأنها مقدسة، ففيها الأرض المباركة والمقدسة والوادي المقدس وفيها بيته الحرام ومشاعر الحج والمساجد التي هي بيوته سبحانه، والطُّور الذي كلم عليه كليمه ونجيه. 
ـ وإقسامه سبحانه بالأرض عموما وخصوصا أكثر من إقسامه بالسماء، فإنه أقسم بالطور والبلد الأمين والتين والزيتون، ولما أقسم بالسماء أقسم بالأرض معها
ـ وبأنه سبحانه خلقها قبل خلق السماء كما دلت عليه سورة (حم السجدة). 
ـ وبأنها مهبط وحيه ومستقر كتبه ورسله، ومحل أحب الأعمال إليه وهو الجهاد والصدقة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومغايظة أعدائه ونصر أوليائه، وليس في السماء من ذلك شيء
ـ وبأن ساكنيها من الرسل والأنبياء والمتقين أفضل من سكان السماء من الملائكة، كما هو مذهب أهل السنة، فمسكنهم أشرف من مسكن الملائكة
ـ وبأن ما أُودع فيها من المنافع والأنهار والثمار والمعادن والأقوات والحيوان والنبات مما هو من بركاتها لم يودع في السماء مثله 
ـ وبأن الله سبحانه قال: (وفي الأرض آيات للموقنين) ثم قال: (وفي السماء رزقكم وما توعدون) فجعل الأرض محل آياته والسماء محل رزقه، فلو لم يكن فيها إلا بيته وبيت خاتم أنبيائه ورسله حيا وميتا
ـ وبأن الأرض جعلها الله قرارا وبساطا ومهادا وفراشا وكفاتا، ومادة للساكن لملابسه وطعامه وشرابه ومراكبه وجميع آلائه، ولا سيما إذا أخرجت بركتها وازيّنت وأنبتت من كل زوج بهيج.
قال المفضلون للسماء: 
ـ يكفي في فضلها أن رب العالمين سبحانه فيها، وأن عرشه وكرسيه فيها، وأن الرفيق الأعلى الذين أنعم عليهم فيها
ـ وأن دار كرامته فيها، وأنها مستقر أنبيائه ورسله وعباده المؤمنين يوم الحشر
ـ وأنها مطهرة مبرأة من كل شر وخبث ودنس يكون في الأرض، ولهذا لا تفتح أبوابها للأرواح الخبيثة، ولا تلج ملكوتها
ـ وبأنها مسكن من لا يعصون الله طرفة عين، فليس فيها موضع أربع أصابع إلا وملك ساجد أو قائم
ـ وبأنها أشرف مادةً من الأرض، وأوسع وأنور وأصفى وأحسن خلقة وأعظم آيات
ـ وبأن الأرض محتاجة في كمالها إليها، ولا تحتاج هي إلى الأرض، ولهذا جاءت في كتاب الله في غالب المواضع مقدمة على الأرض، وجمعت وأفردت الأرض، فلشرفها وفضلها أتي بها مجموعة، وأما الأرض فلم تأت إلا مفردة، وحيث أريد تعدادها قال: (ومن الأرض مثلهن) وهذا القول هو الصواب والله أعلم». «بدائع الفوائد» (٤ / ١٣٣٤ - ١٣٣٦).

/ (وجعلنا فيها رواسي شامخات وأسقيناكم ماء فراتا):
قال ابن عطية: « و(الشامخ): المرتفع، ومنه شمخ بأنفه، أي ارتفع واستعلى، شبه المعنى بالشخص
و (الفرات): الصافي العذب، ولا يقال للملح فراتا، وهي لفظة تجمع ماء المطر ومياه الأنهار، وخص النهر المشهور بهذا تشريفا له، وهو نهر الكوفة - يعني نهر الفرات -». المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (٥ / ٤١٩).
وقال السعدي: "(وجعلنا فيها رواسي) أي: جبالا ترسي الأرض لئلا تميد بأهلها، فثبتها الله بالجبال الراسيات الشامخات ، أي : الطوال العراض، قال: (وأسقيناكم ماء فراتا) أي عذبا زلالا، قال تعالى: (أفرأيتم الماء الذي تشربون أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون لو نشاء جعلناه أجاجا فلولا تشكرون". تفسير السعدي) (ص ٩٠٤).
اقرأ المزيد...

التعليق على تفسير سورة المرسلات (١٦ - ٢٨)

موضوع الآيات: بيان قدرة الله تعالى ونعمته. 

التعليق على تفسير الآيات من سورة المرسلات. من الآية السادسة عشر، وحتى الآية الثامنة والعشرون من المختصر في تفسير القرآن الكريم.

تفسير سورة المرسلات ۱٦-۲۸ من المختصر في تفسير القرآن الكريم


(أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ) ألم نهلك الأمم السابقة لما كفرت بالله وكذبت رسلها ؟!

الله سبحانه وتعالى يبين هنا أنه أهلك المكذبين من الأمم السابقة كقوم نوح وعاد وثمود، وغيرهم،


(ثُمَّ نُتَّبِعُهُمُ الْآخِرِينَ) ثم نتبعهم المكذبين من المتأخرين، فنهلكهم كما أهلكناهم.

قال ثم نتبعهم يعني في الإهلاك , الآخرين المتأخرين. كقوم فرعون وغيرهم


(كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ ) أي مثل الإهلاك لتلك الأمم نهلك المجرمين المكذبين بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم.

بين الله سبحانه وتعالى هنا أن كل مكذب يكون مصيره مصير أولئك السابقين من الأولين والآخرين. 


(وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ) هلاك وعذاب وخسران في ذلك اليوم للمكذبين بوعيد الله بالعقاب للمجرمين.

قال الله تعالى (ويل يومئذ للمكذبين) هذه الآية تكررت في هذه السورة مرارا وفي كل مرة يقصد بها المكذبون بما سبق ذكره في الآيات التي قبلها، فهنا مثلا سبق ذكر ما يتعلق بعقاب الله للمجرمين والمكذبين فمن كذب بهذا العقاب، فويل له.


(أَلَمْ تَخْلُقَكُم مِّن مَّاءٍ مَّهِينٍ) ألم نخلقكم - أيها الناس - من ماء حقير قليل وهو النطفة.

الله سبحانه وتعالى يبين هنا أنه خلق الإنسان من مني يمنى، من مني يخرج من بين الصلب والترائب، وهو ماء مهين بمعنى أنه حقير قليل.


(فَجَعَلْناهُ فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ) أي فجعلنا ذلك الماء المهين في مكان محروز وهو رحم المرأة.

قال (فجعلناه في قرار مكين) أي في مكان حصين لا يتعرض للأذى فيه عادة.


(إِلَى قَدَرٍ مَّعْلُومٍ) إلى مدة معلومة هي مدة الحمل.

قال (إلى قدر معلوم) الله سبحانه وتعالى جعل للحمل مدة غالبة وهي تسعة أشهر لكنها قد تزيد أو تنقص بما قدره الله سبحانه وتعالى. فهي مدة معلومة عند الله سبحانه وتعالى.


(فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ) فقدرنا صفة المولود وقَدْرَه ولونه وغير ذلك، فنعم القادرون لذلك كله نحن.

قال (فقدرنا فنعم القادرون) أي قدرنا على خلقه، وقدرنا على تصويره، وقدرنا بعد ذلك على إخراجه للحياة، (فنعم القادرون) أي فنعم القادر ربنا سبحانه وتعالى. 


(وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) هلاك وعذاب وخسران في ذلك اليوم للمكذبين بقدرة الله.

جاءت هذه الآية هنا لتهديد من يكذب بقدرة الله سبحانه وتعالى على البعث بعد الموت، فكما أنه سبحانه كان قادرا على خلق الإنسان من العدم، فهو قادر على بعثه بعد الموت، بل هو أهون عليه كما قال سبحانه وتعالى (وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه) 


(أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَانًا ) ألم نجعل الأرض تضم الناس جميعًا.

معنى قوله (كفاتا) أي أنها وعاء يضم الناس ويجمعهم.


(أَحْيَاءَ وَأَمْوَاتًا) تضم أحياءهم بالسكن عليها وعمارتها، وأمواتهم بالدفن فيها.

هذه الأرض تضم الناس أحياء وأمواتا، فتضمهم أحياء على ظهرها، وتضمهم أمواتا بالدفن في بطنها، والله سبحانه وتعالى أكرم الإنسان، بدفنه كما قال تعالى (ثم أماته فأقبره).


(وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَمِخَتِ وَأَسْقَيْنَكُم مَّاءَ فُرَاتًا) وجعلنا فيها جبالا ثوابت تمنعها من الاضطراب.

قال (وجعلنا فيها رواسي) الرواسي أي: التي ترسو على الأرض وترسيها بمعنى أنها تمنعها من الاضطراب كما قال تعالى (وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم) يعني لئلا تميد بكم.

عاليات وأسقيناكم أيها الناس ماء عذبا فمن خلق ذلك ليس عاجزا عن بعثكم.

قال (رواسي شامخات) شامخات أي: عاليات، (وأسقيناكم ماء فراتا) أي ماء عذبا زلالا مستساغا، فمن خلق هذا الخلق العظيم فليس بعاجز أن يخلق الناس ويعيدهم بعد موتهم. وهنا امتن الله سبحانه وتعالى بأنه أسقى الناس ماءا عذبا كما قال سبحانه وتعالى في الآية الأخرى (أفرأيتم الماء الذي تشربون* أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون* لو نشاء جعلناه أجاجا فلولا تشكرون) وقال في سورة الملك (قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غورا فمن يأتيكم بماء معين) سبحانه وتعالى.


(وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) هلاك وعذاب وخسران في ذلك اليوم للمكذبين بنعم الله عليهم.

جاء قوله (ويل يومئذ للمكذبين) هنا لتهديد من كذب بنعم الله عليه كما سبق في النعم المذكورة في الآيات التي قبلها.

 

من فوائد الآيات:

/ رعاية الله للإنسان في بطن أمه. 

كما جاء في قوله تعالى (ألم نخلقكم من ماء مهين* فجعلناه في قرار مكين *إلى قدر معلوم* فقدرنا فنعم القادرون).


/ اتساع الأرض لمن عليها من الأحياء، ولمن فيها من الأموات.

جعل الله الأرض واسعة وجامعة للناس أحياء وأمواتا كما قال تعالى (ألم نجعل الأرض كفاتا أحياء وأمواتا).


/ خطورة التكذيب بآيات الله والوعيد الشديد لمن فعل ذلك.

وهذا ظاهر في تكرار قوله تعالى (ويل يومئذ للمكذبين) في هذه السورة.





ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* د. إبصار الإسلام

اقرأ المزيد...