السبت، 18 أكتوبر 2025

اسم الله (الحسيب / الكافي) من كتاب [فقه الأسماء الحسنى للشيخ عبد الرزاق البدر]

 بسم الله الرحمن الرحيم 
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين:
قال الله تعالى: (وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا) [النساء : ٦] ، وقال الله تعالى: ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ، وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ﴾ [الزمر : ٣٦].
و«الحسيب»: هو الكافي الذي كفى عباده جميع ما أهمهم من أمور دينهم ودنياهم، الميسر لهم كل ما يحتاجونه، الدافع عنهم كل ما يكرهونه.
ومن معاني الحسيب أنه الحفيظ على عباده كل ما عملوه (أحصاه الله ونسوه) وعلم تعالى ذلك، وميز الله صالح العمل من فاسده، وحسنه من قبيحه، وعلم ما يستحقون من الجزاء ومقدار ما لهم من الثواب والعقاب.

و «الكافي»: الذي كفاية الخلق كل ما أهمهم بيده سبحانه، وكفايته لهم عامة وخاصة :
أما العامة: فقد كفى تعالى جميع المخلوقات وقام بإيجادها وإمدادها وإعدادها لكل ما خُلقت له، وهياً للعباد من جميع الأسباب ما يغنيهم ويُقنيهم ويُطعمهم ويسقيهم.
●وأما كفايته الخاصة فكفايته للمتوكلين، وقيامه بإصلاح أحوال عباده المتقين (وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) [الطلاق: ٣] 
 أي: كافيه كل أموره الدينية والدنيوية، وإذا توكل العبد على ربه حق التوكل بأن اعتمد بقلبه على ربه اعتمادًا قويا كاملا في تحصيل مصالحه ودفع مضاره، وقَوِيَتْ ثقتُه وحَسُنَ ظنه بربه؛ حصلت له الكفاية التامة، وأتم الله له أحواله وسدده في أقواله وأفعاله، وكفاه همه وكشف غمه.
وهذه منة عظيمة وفضل كبير ينبغي للمسلم أن يكون على ذكر له ليكون حامدًا لربه على كفايته، شاكرا له على فضله ونعمته.
وقد ثبت في صحيح مسلم (١) أن رسول الله الله كان إذا أوى إلى فراشه قال: (الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا، وكفانا وآوانا، فكم ممن لا كافي له ولا مؤوي). والعبد لا غنى له عن ربه طرفة عين، بأن يكون له حافظا وكافيًا ومسدّدًا وهاديا، ولذا شُرع للمسلم في كل مرة يخرج فيها من بيته أن يقول: (بسم الله، توكلت على الله، لا حول ولا قوة إلا بالله، ليكفى همه وحاجته، وليوقى من الشرور والآفات، وليحفظ من عدوان معتد أو ظلم ظالم.
روى أبو داود والترمذي وغيرهما عن أنس بن مالك رضي الله عنه  أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا خرج الرجل من بيته فقال: بسم الله توكلت على الله، لا حول ولا قوة إلا بالله، قال: يقال حينئذ هديت وكفيت ووقيت فيتنحى عنه الشيطان، فيقول شيطان آخر : كيف لك برجل قد هدي وكفي ووقي» (٢)، أي: هديت إلى طريق الحق والصواب، وكفيت من كل هم دنيوي أوأخروي، ووقيت من شر أعدائك من الشياطين وغيرهم.
وقد دل القرآن أن تحقيق العبودية لله وحسن التوكل عليه أمر لا بد منه لنيل كفاية الله الخاصة بأوليائه المؤمنين وعباده المتقين، قال تعالى: (أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ) وقال تعالى : ﴿وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) .
قال ابن القيم رحمه الله: "والتوكل من أقوى الأسباب التي يدفع بها العبد ما لا يطيق من أذى الخلق وظلمهم وعدوانهم، وهو من أقوى الأسباب في ذلك؛ فإن الله حسبه: أي: كافيه، ومن كان الله كافيه وواقِيَهُ فلا مَطمَع فيه لعدوه، ولا يضره إِلَّا أذى لا بد منه، كالحر والبرد والجوع والعطش، وأما أن يضره بما يبلغ منه مراده فلا يكون أبدًا، وفرق بين الأذى الذي هو في الظاهر إيذاء له ـ وهو في الحقيقة إحسان إليه وإضرار بنفسه - وبين الضرر الذي يتشفى به منه" .
قال بعض السلف: جَعَلَ الله تعالى لكل عمل جزاء من جنسه، وجَعَل جزاء التوكل عليه نفس كفايته لعبده، فقال: (وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) ، ولم يقل : نؤته كذا وكذا من الأجر كما قال في الأعمال، بل جعل نفسه سبحانه كافي عبده المتوكل عليه وحسبه وواقيه، فلو توكل العبد على الله تعالى حق توكله وكادته السموات والأرض ومن فيهنَّ لجعل له مخرجًا من ذلك وكفاه ونَصَرَه" (٣).
وربط الكفاية بالتوكل من ربط الأسباب بمسبباتها، فالله عزوجل كافي من يثق به ويحسن التوكل عليه ويحقق الالتجاء إليه في نوائبه ومهماته، وكلما كان العبد حسن الظن بالله عظيم الرجاء فيما عنده صادق التوكل عليه فإن الله لا يخيب أمله فيه البتة.
ولا يستبطئ العبد كفاية الله له إذا بذل أسبابها، فإنَّ الله بالغ أمره في الوقت الذي قدره له، ولذا قال تعالى: ﴿وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا ﴾ [الطلاق: ٣].
قال ابن القيم رحمه لله : «فلما ذكر كفايته للمتوكل عليه فربما أوهم ذلك تعجيل الكفاية وقت التوكل، فعقبه بقوله: ﴿قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا ﴾ [الطلاق: ٣]، أي: وقتا لا يتعداه فهو يسوقه إلى وقته الذي قدره له، فلا يستعجل المتوكل ويقول: قد توكلت ودعوت فلم أر شيئًا ولم تحصل لي الكفاية، فالله بالغ أمره في وقته الذي قدره له» (٤).
وفي مثل هذا المقام كثيرًا ما يتنازل بعض الناس عن مثل هذه المعاني الجليلة إلى استخذاء للمخلوقين وتذلل لهم وانكسار بين أيديهم لينال بعض مآربه ويحصل بعض مطامعه، غير مبال بكون ذلك على حساب دينه ونيل رضا ربه عز وجل، فيخسر كفاية الله لأوليائه. ومن اشتغل بالله عن نفسه كفاه الله مؤونة نفسه، ومن اشتغل بالله عن الناس كفاه الله مؤونة الناس، ومن اشتغل بنفسه عن الله وكله الله إلى نفسه، ومن اشتغل بالناس عن الله وكله الله إليهم» (٥) .
روى الترمذي في «جامعه»(٦) أن معاوية رضي الله عنه كتب إلى أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: أن اكتبي إلي كتابا توصيني فيه ولا تكثري علي، فكتبت عائشة رضي الله عنها إلى معاوية:
سلام عليك أما بعد: فإني سمعت رسول الله الله يقول: (مَنْ التمس رِضاءَ الله بسَخَطِ النَّاسِ كفاه اللهُ مُؤنة الناس، ومَنْ التمس رِضَاءَ النَّاسِ بِسَخَطِ اللَّهُ وَكَلَهُ الله إلى الناس، والسلام عليك).
ومما يحقق للعبد السلامة في هذا الباب أن لا يجعل الدنيا مبلغ علمه وأكبر همه، وفي الحديث: «من جعل الهموم هما واحدًا هم المعاد كفاه الله هم دنياه، ومن تشعبت به الهموم في أحوال الدنيا لم يبال الله في أي أوديته هلك». رواه ابن ماجه (٧).
وروى ابن أبي شيبة (٨) عن أبي عون (٩) قال : كان أهل الخير إذا التقوا يوصي بعضهم بعضا بثلاث، وإذا غابوا كتب بعضهم إلى بعض بثلاث: من عمل لآخرته كفاه الله دنياه، ومن أصلح ما بينه وبين الله كفاه الله الناس، ومن أصلح سريرته أصلح الله علانيته».
____________________________
(۱) (رقم: ٢٧١٥).
(۲) رواه أبو داود (رقم : ۵۰۹۵)، والترمذي (رقم : ٣٤٢٦) ، والنسائي في عمل اليوم والليلة» (رقم: (۸۹)، وابن حبان (رقم (۸۲۲)، وغيرهم من طريق ابن جريج، عن إسحاق ابن عبد الله بن أبي طلحة، عن أنس به. وحسنه الترمذي، ولكن في إسناده ابن جريج وهو مدلس وقد عنعن. غير أن له شواهد يتقوى بها؛ وقد صححه الألباني في صحيح الجامع) (٥١٣).
(٣) بدائع الفوائد» (٢/ ٧٦٦ - ٧٦٧).
(٤) أعلام الموقعين» (١٦١/٤).
(٥) «الفوائد لابن القيم (ص/ ۱۹۷).
(٦) (رقم: (٢٤١٤) ورواه عقبه موقوفاً بإسناد أصح. وله شواهد ولذلك صححه الألباني في صحيح الترمذي».
(٧) (رقم : ٤١٠٦) وغيره، وحسنه الألباني في صحيح ابن ماجه (۲۰۷).
(٨) في مصنفه» (۲۱۷/۷).
(٩) هو محمد بن عبيد الله بن سعيد الثقفي الكوفي أحد التابعين الثقات. له ترجمة في تهذيب الكمال (٢٦/ ٣٨)
اقرأ المزيد...

الخميس، 16 أكتوبر 2025

الوقف والابتداء في سورة المرسلات

 بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وحياكم الله في هذه الفقرة المتعلقة بالوقف والابتداء في سورة المرسلات.
عامة آيات سورة المرسلات آيات قصيرة، يُوقف على رؤوسها اقتداءً بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، لكن هناك مواضع في غير رؤوس الآيات سأتكلم عنها.

/ الآية الثالثة والعشرين: (فقدرنا) هل يصح الوقف هنا قبل قوله: (فنعم القادرون)؟
الجواب: نعم، نص عليه جماعة من علماء الوقف والابتداء ووجهه: أن الله سبحانه وتعالى قال في الآيات السابقة: (ألم نخلقكم من ماء مهين*فجعلناه في قرار مكين* إلى قدر معلوم* فقدرنا) فأخبر عن نفسه سبحانه وتعالى أنه خلق الإنسان من ماء مهين، وجعله في قرار مكين، إلى قدر معلوم، فقدر على ذلك سبحانه، ثم جاءت جملة معطوفة يثني بها الله سبحانه وتعالى على نفسه في قوله: (فنعم القادرون) بعد أن أخبر عن مراحل الخلق، فصح الفصل بين ذكر مراحل الخلق وقدرة الله على ذلك، وبين ثناء الله على نفسه. والله تعالى أعلم.

/ الآية السابعة والعشرون: (وجعلنا فيها رواسي شامخات) هل يصح الوقف هنا؟
لم ينص أحد من علماء الوقف والابتداء على وقف هنا، لكن إذا تأملنا فإن قوله سبحانه وتعالى بعدها : (وأسقيناكم ماء فراتا) جملة معطوفة على جملة: (وجعلنا فيها رواسي شامخات)، وهي جملة قائمة بنفسها، ظاهرة في المراد منها، فالوقف هنا له حظ من النظر، لكن لم يقل به أحد من علماء الوقف والابتداء. والله تعالى أعلم.

/ الآية الثامنة والثلاثون: (هذا يوم الفصل) هل يصح الوقف هنا؟نص السجاوندي رحمه الله على جواز الوقف هنا، ووضعت هنا علامة الوصل الأولى (صلى) في مصحف المدينة.
وإذا تأملنا: فإن قوله تعالى بعدها : (جمعناكم والأولين) جملة مستأنفة استئنافا بيانيا، فالله سبحانه وتعالى أخبر أن هذا هو يوم الفصل، ثم أخبر أننا جمعناكم فيه وجمعنا الأولين، فصح الفصل بينهما. والله تعالى أعلم.

/ الآية الثالثة والأربعون: (كلوا واشربوا) هل يصح الوقف هنا؟نص على الوقف هنا الهبطي رحمه الله وحده دون بقية علماء الوقف والابتداء، وإذا تأملنا فإنه قال بعدها : (هنيئا بما كنتم تعملون):
● فمن جعل قوله: (هنيئا) منصوبا على كونه حالا من الأكل والشرب، أي: كلوا واشربوا حال كون الأكل والشرب هنيئا لكم، فإنه لم يُصحح الوقف هنا. وهو الذي ذهب إليه عامة علماء الوقف والابتداء.
●ومن نظر إلى أن قوله: (هنيئا) منصوب بفعل محذوف تقديره اهنئوا هنيئا بما كنتم تعملون، واعتبر قوله : (كلوا واشربوا) أمرا مستقلا، فإنه صحح الوقف هنا
 والأقرب ما ذهب إليه عامة علماء الوقف والابتداء؛ وذلك أن (هنيئا) متعلق بالأكل والشرب ليهنؤوا بأكلهم وشربهم، فالأقرب عدم الوقف هنا. والله تعالى أعلم.
هذا خلاصة ما يتعلق بالوقف والابتداء في سورة المرسلات.
 أسأل الله سبحانه وتعالى أن يعلمنا ما ينفعنا وأن ينفعنا بما علمنا، وأن يزيدنا علما وعملا وهدى وتقى. والله تعالى أعلم.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
--------------------------------------
اقرأ المزيد...

الأربعاء، 15 أكتوبر 2025

الدرس (٥١)/ تفسير سورة البقرة: من الآية (٥٨) (وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية..)

 الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللمسلمين والمسلمات أما بعد: فيقول الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله: 
ن/ "قوله (وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية فكلوا منها حيث شئتم رغدا وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم وسنزيد المحسنين* فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا من السماء بما كانوا يفسقون) وهذا أيضا من نعمته عليهم بعد معصيتهم إياه فأمرهم بدخول قرية تكون لهم عزا ووطنا ومسكنا ويحصل لهم فيها الرزق والرغد، وأن يكون دخولهم على وجه خاضعين لله تعالى فيه بالفعل وهو دخول الباب سجدا أي خاضعين ذليلين، وبالقول وهو أن يقولوا حطة أي أن يحط عنهم خطاياهم بسؤالهم إياه مغفرته، (نغفر لكم خطاياكم) بسؤالكم المغفرة (وسنزيد المحسنين) بأعمالهم أي جزاء عاجلا وأجلا، (فبدل الذين ظلموا منهم) ولم يقل فبدلوا لأنهم لم يكونوا كلهم بدلوا قولا غير الذي قيل لهم فقالوا بدل حطة حبة في حنطة استهانة بأمر الله تعالى واستهزاء، وإذا بدلوا القول مع خفته فتبديلهم للفعل من باب أولى وأحرى ولهذا دخلوا يزحفون على أدبارهم، ولما كان هذا الطغيان أكبر سبب لوقوع عقوبة الله تعالى بهم قال: (فأنزلنا على الذين ظلموا) أي منهم (رجزا رجزا) أي عذابا من السماء بسبب فسقهم وبغيهم".
ت/ بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علما وأصلح لنا الهنا شأننا كله ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين، اللهم فقهنا في الدين وعلمنا التأويل أما بعد: قول الله جل وعلا (وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية فكلوا منها حيث شئتم رغدا) العطف هنا في قوله (وإذ) هو على ما سبق بدءا من قوله (اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم) بعدها جاءت هذه المعطوفات مثل (وإذ نجيناكم)، (وإذ واعدنا)، (وإذ قال موسى)، (وإذ قلتم)، كلها تقدمت (وإذ قلنا) وسيأتي أيضا معطوفات كلها معطوفة على قوله (اذكروا نعمتي)، وعرفنا أن قوله (إذ) هذا ظرف بمعنى حين، وهو مفعول لفعل محذوف مقدر تقديره: "واذكروا إذ قلنا" "واذكروا حين قلنا"، وهذا كله في سياق تعداد النعم. لأنها معطوفة كلها على قول (اذكروا نعمتي).
 وقوله (قلنا) هذا القول الذي سمعوه من خوطبوا بهذا الخطاب من بني اسرائيل (ادخلوا هذه القرية) سمعوه من موسى عليه السلام، فقوله جل وعلا (وإذ قلنا) اي لبني إسرائيل على لسان موسى لأن موسى عليه السلام مبلغ عن الله فالذي يقوله لهم هو بلاغ عن الله، فالقائل هو الله وموسى عليه السلام المبلغ لكلام الله جل وعلا.
 قال: (وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية) القرية هذا الاسم يُطلق على المدينة المعمورة بالبيوت والمنازل والسكان يقال لها قرية، ويفرق بين إذا كانت كبيرة أو صغيرة في الغالب، فيقال للصغيرة قرية والكبيرة مدينة، بيوت البوادي التي تصنع من الشعر وفيها التنقل والترحل هذه لا تسمى منازلهم، لا تسمى قرى، القرية هي المدينة أو المحلة التي بنيت، بني فيها المساكن التي السكنى فيها مستمرة ليس فيها ارتحال، والمراد بالقرية هنا في قول جمهور المفسرين أنها بيت المقدس، هناك أقوال أخرى لكن جمهور المفسرين وبه قال ابن عباس والسدي والربيع بن أنس وقتادة وغير واحد، وقال الحافظ ابن كثير: "وهو الصحيح" أن المراد بالقرية بيت المقدس.
قال (وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية فكلوا منها حيث شئتم رغدا)
 (كلوا منها) أي من طيباتها وما جعل فيها سبحانه وتعالى من أنواع الأرزاق، (كلوا منها) أي من طيباتها، والأمر هنا (كلوا) للإباحة (فكلوا منها حيث شئتم) أي من حيث شئتم من أرزاقها وطيباتها، (رغدا) أي واسعا هنيئا موسعا عليكم، (فكلوا منها حيث شئتم رغدا وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة) الآن هم بصدد حصول نعمة عظيمة جدا لهم وهي سكنى بيت المقدس وأيضا التمتع بما فيه من الطيبات والأرزاق، فأمرهم جل وعلا أن يدخلوا على هذه الصفة (ادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة) يعني أمروا بقول وفعل،
القول: أن يقولوا حطة، والفعل: أن يكون الدخول سجدا، وقيل (سجدا) أن هذا فعل يُفعل أثناء الدخول مع الباب،  والمقصود بالباب باب القرية الذي يدخل منه إليها فأمروا بهذه الصفة في الدخول سجدا قائلين حطة، ولهذا جماعة المفسرين قالوا: المراد بالسجود (سجدا) أي راكعين، فأمروا أن يدخلوا على هذه الصفة يعني مطأطئين خاضعين، هيئة خضوع وذل لله سبحانه وتعالى، نبينا عليه الصلاة والسلام لما دخل مكة فاتحا طأطا رأسه خضوعا لله، وهذا فيها عدم رؤية النفس استشعار النعمة - نعمة الرب سبحانه وتعالى - وفي مثل هذا المقام طأطأت الرأس وخفضه فيه خضوع لله، وفيه انكسار، وفيه التواضع والذل لله سبحانه وتعالى، فأمروا أن يفعلوا ذلك، أن يدخلوا راكعين، خاضعين متذللين، مستشعرين نعمة الله سبحانه وتعالى عليهم، وأن يجمعوا مع هذا الفعل طلب المغفرة، أن يجمعوا مع هذا الفعل الذي هو تواضع وخضوع وذل يجمعوا معه طلب المغفرة في قولهم حطة، معنى حطة أي أُحطط عنا خطايانا، حُط عنا خطايانا. وقال (وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة) حطة هي خبر لمبتدأ محذوف وتقديره مسألتنا حطة، مطلوبنا حطة، دعوتنا حطة، مرادنا حطة، قولوا حطة يعني نسألك، نريد منك يا الله أن تحُط عنا خطايانا. وُعِدوا إذا فعلوا ذلك بماذا؟ إذا دخلوا سجدا وقالوا حطة وهم يدخلون، وُعدوا بغفران الذنوب وزيادة الحسنات قال (نغفر لكم) نغفر أي إذا فعلتم ما أُمرتم به، (ادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة نغفر لكم) نغفر هنا واقعة في جواب الشرط، فاذا انتفى الشرط انتفى المشروط، فـ (نغفر لكم خطاياكم) الخطايا: الذنوب، وغفرانها بسترها والتجاوز عنها (نغفر لكم خطاياكم) في قراءة عشرية (تُغفر لكم خطاياكم)، ويكتب أحيانا في تفسير هذه اللفظة يقولون تُغفر مبني للمجهول وهذا كلام باطل لا يجوز، لا يجوز أن يقال مبني للمجهول، وعموما يعني هذه الصيغة في البناء عموما في إطلاقات الناس بعيدا عن مثل هذا الموضع الذي يتعلق بمقام الرب عز وجل، هذا البناء الذي هو بناء لما لم يسمى فاعله هل أغراض الناس - من يبني هذا البناء - هل غرضه أنه يجهل الفاعل؟ الآن مثلا لما شخص يعني يضرب آخر ويريد إنسان أن يستر عليه يخبر بالضرب الذي حصل ولا يفصح عن المضروب ليس عن جهالة به ماذا يصنع؟ يقول ضُرب فلان، هو يعرف، ليس مجهولا عنده الضارب، أو مثلا كسر طفل كأسا ويسأل رب البيت من كسره حتى يشدد عليه ويعنف فيقولون كُسر، هم يعرفونه، فهناك أغراض ل البناء لما لم يسمى فاعله كثيرة جدا ليست كلها عن جهل، نعم قد يقول الإنسان فُعل كذا لجهله بمن فعله في حالات، لكن هناك حالات كثيرة لهذا البناء لا يكون عن جهل بالفاعل الذي لم يسمى، لكن المقام هنا مقام أيضا عظيم جدا  مقام أدب مع الله سبحانه وتعالى، فلما يأتي إلى (تُغفر لكم) يقول: فعل المضارع مبني للمجهول، أي كلام هذا؟! أيليق في باب الأدب، في أعظم المعارف وأجل المعلومات أن يقال مبني للمجهول؟! والمقصود المجهول الرب، هذا المقصود به، يقول قائل: لا، نحن نقصد الإعراب، نقول: حتى في الإعراب لابد من الأدب في اللفظ مع رب العالمين سبحانه وتعالى، فإذا قال إذا ماذا نقول؟ يقال قل كما كان يقول العلماء المتقدمين، كانوا يقولون: مبني لما لم يسمى فاعله، لم يُذكر فاعله، كلمة لطيفة وجميلة ومحققة للمقصود، وهذه مبني المجهول، هذه إنما جاءت عند المتأخرين من النحاة، عند المتقدمين ما كانت هذه اللفظة مستعملة، فهذا أمر يُنتبه له. مثلها أيضا في إعراب (خُلق الإنسان ضعيفا) يعربون (الإنسان) نائب فاعل، أيضا هذا نفس الخطأ في مقام مراعاة الأدب مع الله نائب فاعل، الفعل ما هو؟ الخلق، والإنسان ما هو نائب فاعل في ماذا؟ في الخلق، يقول لا نقصد ذلك، يقال لو كنت تقصد ذلك فالأمر من أشد العظائم، لكن الكلام الآن فيمن لا يقصد ذلك، يقال له لابد من مراعاة الألفاظ الصحيحة السليمة في مقام الأدب مع الله سبحانه وتعالى.
قال (وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم)، (تُغفر لكم خطاياكم/ يُغفر لكم خطاياكم)، أيضا (وسنزيد المحسنين) جمع لهم بين أمرين إن فعلوا ما أُمروا به غفران الذنوب وزيادة الحسنات. (نغفر لكم خطاياكم وسنزيد المحسنين)، أي شيء فعل هؤلاء؟ قال: (فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم) ماذا صنعوا؟ في الصحيحين من حديث أبي هريرة عن نبينا صلى الله عليه وسلم قال: (قيل لبني اسرائيل ادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة فبدلوا) وبيّن عليه الصلاة والسلام أي شيء صنعوا (فبدلوا فدخلوا يزحفون على استاههم) يعني معطين الباب ظهورهم وجلسوا على مقاعدهم (استاههم) أي مقاعدهم ودخلوا القهقرة على الوراء، المطلوب يدخل راكع متذلل خاضع لله، فدخلوا مع الباب على هذه الصفة يزحفون على استاههم وقالوا حبة في شعرة، قالوا حنطة حبة، فالقول بدلوه والفعل بدلوه، الفعل الذي هو التواضع، الخضوع، الركوع، التذلل، بدلوه، وهذا من السخرية والاستهزاء بما أُمروا به.
 قال (فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا من السماء) قال: (على الذين ظلموا) يعني العقوبة نزلت على الظالم الذي فعل هذا الظلم لأن هذا الذي فعلوه هذا ظلم، من أنواع الظلم العظيمة ومن الاستهزاء بأمر الله وشرعه فبدلوا ودخلوا يزحفون على الوراء ويقول حبة حنطة، حبة شعير، مستهزئين وهم في مقام نعمة عظيمه جدا أكرمهم الله سبحانه وتعالى بها وتفضل عليهم بها.
قال (فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا من السماء) (رجزا) أي عذابا، رجزا من السماء عذابا من السماء قال بعض المفسرين: "هو الطاعون" (رجزا من السماء) أي عذابا، قد أخرج ابن جرير الطبري وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "كل شيء في كتاب الله عن الرجز يُعنى به العذاب" - وبالمناسبة ابن عباس في المروي عنه في التفسير بعض الآثار عبارة عن قواعد ومر معنا وسيأتي عنه كلمات قواعد جامعة من فهمه لكلام الله سبحانه وتعالى، ولهذا هذه القواعد المأثورة عن ابن عباس أو حتى المأثورة عنه وعن الصحابة جمعها ودراستها نافع جدا.
قال: (فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا من السماء) أي عذابا من السماء، (بما كانوا يفسقون) الفسوق هو: الخروج عن طاعة الله عز وجل، وهؤلاء كان فعلهم وقولهم استهزاء بالدين، استهزاء وسخرية، وقولهم حطة ودخولهم على استاههم هذا كله من الاستهزاء وغاية المخالفة للشرع والمعاندة له، وهذا من أشد الفسق وأعظمه قال (بما كانوا يفسقون) قال الشيخ رحمه الله: "وهذا أيضا من نعمته عليهم بعد معصيتهم إياه فأمرهم بدخول قرية تكون لهم عزا ووطنا ومسكنا" وقد قيل أن هذا كان بعد التيه الذي ضُرب عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض بعده أكرموا بهذه النعمة فتعاملوا معها هذا التعامل، وقال: "فأمرهم بدخول قرية تكون لهم عزا ووطنا ومسكنا ويحصل فيها الرزق الرغد - يعني الواسع- وأن يكون دخولهم على وجه خاضعين لله فيه بالفعل وهو دخول الباب سجدا أي خاضعين ذليلين، وبالقول وهو أن يقولوا حطة أي أن يحط عنهم خطاياهم بسؤالهم إياه مغفرته" هذا الذي طُلب منهم هو نوعان من الخضوع، خضوع بالقول وخضوع بالفعل، الخضوع بالقول الدخول سجدا، والخضوع بالقول دخول مع طلب المغفرة، يدخل وهو يستشعر أنه مُقصر في حق الله مذنب ويطلب من الله أن يغفر له فهذا خضوع بالقول، حطة أي: أن يحط عنهم خطاياهم بسؤالهم إياه مغفرته، (نغفر لكم خطاياكم) بسؤالكم المغفرة، سؤالكم المغفرة في ماذا؟ في قولهم (حطة) وهذا مُفسر لما قبله (نغفر لكم) هذا مُفسر أن حطة يعني: حط عنا الخطايا، قولوا حطة نغفر، استغفروا نغفر، هي بمعناها بسؤالكم المغفرة (وسنزيد المحسنين) بأعمالهم أي جزاء عاجلا وآجلا، ماذا صنعوا؟ قال (فبدل الذين ظلموا منهم) ولم يقل فبدلوا لأنه ليس هذا فعل الجميع، هذا يفيد أن هذا ليس فعل الجميع، ولهذا تأتي العقوبة على من؟ ليست على الجميع قال: (فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا)، (فبدل الذين ظلموا) أي منهم ولم يقل فبدلوا لأنهم لم يكونوا كلهم بدلوا، فيهم من بدل وفيهم من التزم بما أٌمر به بدلوا قولا غير الذي قيل لهم فقالوا بدل حطة حبة في حنطة استهانه بأمر الله واستهزاء، وإذا بدلوا القول مع خفته ويسره فتبديلهم للفعل من باب أولى وأحرى ولهذا دخلوا يزحفون على أدبارهم، ولما كان هذا الطغيان أكبر سبب لوقوع عقوبة الله بهم قال (فأنزلنا على الذين ظلموا) أي منهم (رجزا) أي عذابا من السماء، (بما كانوا يفسقون) أي بسبب فسقهم وبغيهم والفسوق: هو الخروج عن الطاعة. تارة يذكر في النصوص يراد به الأكبر، وتارة يراد به ما دون ذلك.
من استعماله في الأكبر (فمن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون) هذا من استعماله في الأكبر، وفي الحجرات (وكره اليكم الكفر والفسوق والعصيان)، مثل أيضا قوله قبلها (إن جاءكم فاسق بنبأ) فالفسق تارة يُراد به الأكبر وهو ناقل من الملة، وتارة يراد به ما دون ذلك، وفسق هؤلاء كفر، هذا فيه استهزاء وسخرية بدين الله ومعاندة لشرع الله وإمعان في المخالفة لأمر الله سبحانه وتعالى نعم.
ن/ قال رحمه الله: "قوله (وإذ استسقى موسى لقومه فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا قد علم كل أناس مشربهم كلوا واشربوا من رزق الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين) استسقى أي طلب لهم ماء يشربون منه، (فقلنا اضرب بعصاك الحجر) إما حجر مخصوص معلوم عنده، وإما اسم جنس، (فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا) وقبائل بني إسرائيل اثنتا عشرة قبيلة، (قد علم كل أناس) أي منهم، (مشربهم) أي محلهم الذي يشربون عليه من هذه الأعين فلا يزاحم بعضهم بعضا، بل يشربون متهنئين لا متكدرين ولهذا قال (كلوا واشربوا من رزق الله) أي الذي أتاكم من غير سعي ولا تعب، (ولا تعثوا في الأرض) أي تخربوا على وجه الإفساد". 
ت/ قال سبحانه وتعالى (وإذا استسقى موسى لقومه) المعنى في قوله (وإذ) كما تقدم أي: واذكروا يا بني إسرائيل (إذ) أي حين استسقى موسى لقومه، اذكروا هذه النعمة، هذا كله في سياق وصايا لبني إسرائيل وتذكير لهم بالنعم، ذُكروا بها أولا إجمالا ثم ذُكروا بتفاصيل لنعم حصلت لأسلافهم لآبائهم لأوليهم قال (وإذ استسقى) أي واذكروا يا بني إسرائيل (إذ) أي حين (استسقى موسى لقومه) (استسقى) أي طلب من الله السقيا السين هنا للطلب استسقى أي طلب السقيا لقومه، كانوا في أشد ما يكونون من العطش ويقال أن هذا كان في الفترة التي كانوا فيها في التيه فاشتد بهما العطش والحاجة إلى الماء فاستسقى موسى ربه، طلب من الله أن يسقيهم الماء، (إذ استسقى موسى لقومه فقلنا اضرب بعصاك الحجر) ومن يتتبع قصه موسى في القرآن يجد أن العصا آيه في مواطن عديدة مر معنا أمره أن يضرب بها البحر (فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم)، (وإذ فرقنا بكم البحر) مر الكلام هناك فرق البحر كان بآية يسرها الله على يد موسى ضرب بعصاه البحر فوقف الماء وقوف الجبال وصارت بين الجبال -جبال الماء- أرض يابسة في لحظة واحدة حين ضرب حصل ذلك، وهذه آية أخرى في العصا قال (قلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا) وفي سورة الأعراف قال (فانبجست منه)، قال (فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا) قيل بعدد قبائلهم وكانوا اثنا عشر الذين هم أبناء الأسباط، أبناء يعقوب ذرياتهم، (فانفجرت منه اثنتا عشرة) يعني انفجرت من الحجر اثنتا عشرة عينا على عدد قبائل هؤلاء. (قد علم كل أناس مشربهم) يعني أُعلمت كل قبيلة بالمشرب الخاص بها، هذا لكم يا قبيلة كذا، وهذا لكم يا قبيلة كذا، كل قبيلة عرفت المشرب الذي لها، ما معنى المشرب؟ المكان الذي تشرب منه، المكان الخاص بها، العين الخاصة بها، النبع الخاص بها من الحجر، من أجل ماذا؟ ألا يكون بينهم تنازع، لا يكون بين القبائل تنازع، كلٌ له مشرب خاص.
قال (قد علم كل أناس مشربهم كلوا واشربوا من رزق الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين) هذا ذُكّروا به، ذُكّروا بالنعمة العظيمة وقيل لهم (كلوا واشربوا) والأمر هنا للإباحة (كلوا واشربوا من رزق الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين) لا تعيشوا في الأرض عثاه مفسدين في الأرض. قال:" استسقى أي طلب لهم ماء يشربون منه" هذا معنى الاستسقاء طلب السقياء.
(فقلنا اضرب بعصاك الحجر) قال الشيخ: "إما حجر مخصوص معلوم عنده -يعني عند موسى- وإما اسم جنس" يعني (ال) في قوله (الحجر) إما أن تكون للعهد أو تكون للجنس، إن كانت للعهد فهو حجر معهود مخصوص معين عند موسى يعرفه موسى عليه السلام أُمر بضرب ذلك الحجر المعين، وإذا كانت للجنس ما المراد؟ أي حجر ليس حجرا معين، أي حجر، (فقلنا اضرب بعصاك الحجر) قال: "إما حجر مخصوص معلوم عنده وإما اسم جنس".
(فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا) قال: "وقبائل بني إسرائيل اثنا عشرة قبيلة على عدد قبائلهم" حتى لا يكون بينهم خصومات وتنازع، (قد علم كل أناس منهم) "أي منهم (مشربهم) أي محلهم الذي يشربون عليه من هذه الأعين فلا يزاحم بعضهم بعضا بل يشربون متهنئين لا متكدرين" ما يكون بينهم خصومات وتنازع الى آخره ولهذا قال: "(كلوا واشربوا من رزق الله) أي الذي أتاكم من غير سعي ولا تعب، (ولا تعثوا في الأرض مفسدين) أي تخربوا فيها على وجه الإفساد" نعم

ن/ قال رحمه الله: "قوله (وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها قال أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباؤوا بغضب من الله ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون)

نفعنا الله أجمعين بما علمنا وزادنا علما وتوفيقا وأصلح لنا شأننا كله وهدانا إليه صراطا مستقيما.. 
سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك اللهم صلِ وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين. جزاكم الله خيرا
_______________________________________
اقرأ المزيد...

الاثنين، 13 أكتوبر 2025

فوائد سورة المرسلات (٤١-٥٠)

 بسم الله الرحمن الرحيم

/ (إن المتقين فى ظلال وعيون * وفواكه مما يشتهون)
قال الطبري: "إن الذين اتقوا عقاب الله بأداء فرائضه في الدنيا، واجتناب معاصيه (في ظلال) ظليلة، وكن كنين، لا يصيبهم أذى حر ولا قر، إذ كان الكافرون بالله في ظل ذي ثلاث شعب، لا ظليل ولا يغني من اللهب، (وعيون) أنهار تجري خلال أشجار جناتهم، وفواكه مما يشتهون يأكلون منها كلما اشتهوا، لا يخافون ضررها، ولا عاقبة مكروهها». [تفسير الطبري] (٢٤ / ١٤٣).
وقال ابن القيم: "قد أخبر سبحانه أن في الجنة ظلالا، والظلال لابد أن تفيء مما يقابلها فقال: (هم وأزواجهم في ظلال على الأرائك متكئون)، وقال تعالى: (إن المتقين في ظلال وعيون)، وقال تعالى: (وندخلهم ظلا ظليلا) [حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح] (١/ ٤٠٨).

/ (كلوا واشربوا هنيئا بما كنتم تعملون)
 قال الطبري: "أي يقال لهم: كلوا أيها القوم من هذه الفواكه، واشربوا من هذه العيون كلما اشتهيتم، (هنيئا): يقول: لا تكدير عليكم ولا تنغيص فيما تأكلونه وتشربون منه، ولكنه لكم دائم لا يزول، ومريء لا يورثكم أذى في أبدانكم" [تفسير الطبري] (٢٤/ ١٤٣).
وقال ابن القيم: «في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الجنة مئة درجة، بين كل درجتين كما بين السماء والأرض) وحكمة الرب سبحانه مقتضية لعمارة هذه الدرجات كلها، وإنما تُعمر ويقع التفاوت فيها بحسب الأعمال، كما قال غير واحد من السلف: "ينجون من النار بعفو الله ومغفرته، ويدخلون الجنة بفضله ونعمته، ويتقاسمون المنازل بأعمالهم" وعلى هذا حمل غير واحد ما جاء من إثبات دخول الجنة بالأعمال، كقوله تعالى : (وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون)، وقوله تعالى: {ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون}.
قالوا: وأما نفي دخولها بالأعمال كما في قوله صلى الله عليه وسلم: (لن يدخل الجنة أحد بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا) فالمراد به نفي أصل الدخول.
وأحسن من هذا أن يقال: الباء المقتضية للدخول غير الباء التي نُفي معها الدخول؛ فالمقتضية هي باء السببية الدالة على أن الأعمال سبب للدخول مقتضية له كاقتضاء سائر الأسباب لمسبباتها، - ويعني بالباء المقتضية لدخول الجنة ما جاء في قوله تعالى: (ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون) ونحوها من الآيات -
قال رحمه الله: "والباء التي نُفي بها الدخول هي باء المعاوضة والمقابلة التي في نحو قولهم: اشتريت هذا بهذا.
فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن دخول الجنة ليس في مقابل عمل أحد، وأنه لولا تغمد الله سبحانه لعبده برحمته لما أدخله الجنة، فليس عمل العبد - وإن تناهى - موجبا بمجرده لدخول الجنة ولا عوضا لها، فإن أعماله وإن وقعت منه على الوجه الذي يحبه الله ويرضاه فهي لا تقاوم نعمة الله التي أنعم بها عليه في دار الدنيا، ولا تعادلها، بل لو حاسبه لوقعت أعماله كلها في مقابلة اليسير من نعمه، وتبقى بقية النعم مقتضية لشكرها، فلو عذبه في هذه الحالة لعذبه وهو غير ظالم له ، ولو رحمه لكانت رحمته خيرا له من عمله؛ كما في "السنن" من حديث زيد بن ثابت وحذيفة بن اليمان وغيرهما مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله لو عذب أهل سماواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو لكانت رحمته خيرا لهم من أعمالهم». [مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة] 
وقال السعدي رحمه الله : " (هنيئا) أي: من غير مُنغِّص ولا مُكدٍّر، ولا يتم هناؤه حتى يسلم الطعام والشراب من كل آفة ونقص، وحتى يجزموا أنه غير منقطع ولا زائل" [تفسير السعدي (ص ٩٠٥)]

/ (كلوا وتمتعوا قليلا إنكم مجرمون)
قال الطبري: "يقول تعالى ذكره تهديدا ووعيدا منه للمكذبين بالبعث كلوا في بقية أجالكم، وتمتعوا ببقية أعماركم (إنكم مجرمون) مسنون بكم سنة من قبلكم من مجرمي الأمم الخالية التي متعت بأعمارها إلى بلوغ كتبها آجالها ، ثم انتقم الله منها بكفرها، وتكذيبها رسلها». [تفسير الطبري/ (٢٤ / ١٤٤)].
وقال ابن كثير: (كلوا وتمتعوا قليلا إنكم مجرمون) خطاب للمكذبين بيوم الدين، وأمرهم أمر تهديد ووعيد فقال تعالى: (كلوا وتمتعوا قليلا) أي مدة قليلة قريبة قصيرة، (إنكم مجرمون) أي: ثم تُساقون إلى نار جهنم التي تقدم ذكرها، (ويل يومئذ للمكذبين) كما قال تعالى: (نمتعهم قليلا ثم نضطرهم إلى عذاب غليظ)، وقال تعالى: (إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون*متاع في الدنيا ثم إلينا مرجعهم ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون)". [تفسير ابن كثير/ (۳۰۱/۸)].

/ (وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون)
قال القرطبي رحمه الله: (وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون) أي إذا قيل لهؤلاء المشركين: (اركعوا) أي صلوا (لا يركعون) أي لا يصلون، قاله مجاهد.
وقال مقاتل: نزلت في ثقيف امتنعوا من الصلاة، فنزل ذلك فيهم. قال مقاتل: قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: (أسلموا) وأمرهم بالصلاة، فقالوا: لا ننحني فإنها مسبة علينا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا خير في دين ليس فيه ركوع ولا سجود).
ويُذكر أن مالكا رحمه الله دخل المسجد بعد صلاة العصر، وهو ممن لا يرى الركوع بعد العصر - أي لا يرى أن تُصلى تحية المسجد بعد صلاة العصر لأنه وقت نهي - فجلس ولم يركع، فقال له صبي يا شيخ قم فاركع، فقام فركع ولم يُحاجّه بما يراه مذهبا، فقيل له في ذلك، فقال: خشيت أن أكون من الذين إذا قيل لهم اركعوا لا يركعون.
وقال ابن عباس : "إنما يقال لهم هذا في الآخرة حين يدعون إلى السجود فلا يستطيعون"
قال ابن العربي: "هذه الآية حجة على وجوب الركوع، وإنزاله ركنا في الصلاة، وقد انعقد الإجماع عليه، وظن قوم أن هذا إنما يكون في القيامة وليست بدار تكليف، فيتوجه فيها أمر يكون عليه ويل وعقاب وإنما يدعون إلى السجود كشفا لحال الناس في الدنيا، فمن كان الله يسجد يمكن من السجود - أي يوم القيامة - ومن كان يسجد رياء لغيره صار ظهره طبقا واحدا.
وقيل في معنى الآية : "أي إذا قيل لهم اخضعوا للحق لا يخضعون، فهو عام في الصلاة وغيرها، وإنما ذكر الصلاة، لأنها أصل الشرائع بعد التوحيد". [الجامع لأحكام القرآن/ (١٩/ ١٦٨)].
وقال ابن تيمية: إنما يصف سبحانه بالامتناع من السجود الكفار كقوله: (يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون. خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة وقد كانوا يدعون إلى السجود وهم سالمون)، وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة وأبي سعيد وغيرهما في الحديث الطويل حديث التجلي: أنه إذا تجلى تعالى لعباده يوم القيامة سجد له المؤمنون، وبقي ظهر من كان يسجد في الدنيا رياء وسمعة مثل الطبق لا يستطيع السجود، فإذا كان هذا حال من سجد رياء فكيف حال من لم يسجد قط ؟!
وثبت أيضا في الصحيح: (أن النار تأكل من ابن آدم كل شيء إلا موضع السجود فإن الله حرم على النار أن تأكله) فعُلم أن من لم يكن يسجد لله تأكله النار كله.
وكذلك ثبت في الصحيح: (أن النبي صلى الله عليه وسلم يعرف أمته يوم القيامة غرا محجلين من آثار الوضوء)، فدل ذلك على أن من لم يكن غُرا محجلا لم يعرفه النبي صلى الله عليه وسلم فلا يكون من أمته.
●وقوله تعالى: (كلوا وتمتعوا قليلا إنكم مجرمون* ويل يومئذ للمكذبين* وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون* ويل يومئذ للمكذبين). ●وقوله تعالى: (فما لهم لا يؤمنون*وإذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون* بل الذين كفروا يكذبون* والله أعلم بما يوعون)
●وكذلك قوله تعالى: (فلا صدق ولا صلى* ولكن كذب وتولى) ●وكذلك قوله تعالى: (ما سلككم في سقر * قالوا لم نك من المصلين*ولم نك نطعم المسكين* وكنا نخوض مع الخائضين* وكنا نكذب بيوم الدين* حتى أتانا اليقين) ...."
إلى أن قال رحمه الله: "وأيضا في القرآن علق الأخوة في الدين على نفس إقام الصلاة وإيتاء الزكاة، كما علق ذلك على التوبة من الكفر، فإذا انتفى ذلك انتفت الأخوة. وأيضا فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر). وفي المسند: (من ترك الصلاة متعمدا فقد برئت منه الذمة)، وأيضا فإن شعار المسلمين (الصلاة) ولهذا يُعبر عنهم بها فيقال: اختلف أهل الصلاة، واختلف أهل القبلة، والمصنفون لمقالات المسلمين يقولون: مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين.
وفي الصحيح: (من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا؛ وأكل ذبيحتنا؛ فذلك المسلم له ما لنا وعليه ما علينا). وأمثال هذه النصوص كثيرة في الكتاب والسنة". [مجموع الفتاوى/ (٧/ ٦١١-٦١٣)].
وقال السعدي رحمه الله : "ومن إجرامهم أنهم إذا أمروا بالصلاة التي هي أشرف العبادات، وقيل لهم: {اركعوا} امتنعوا من ذلك. فأي إجرام فوق هذا؟ وأي تكذيب يزيد على هذا ؟" [تفسير السعدي/ (ص ٩٠٥)].

/ (ويل يومئذ للمكذبين)
قال القرطبي رحمه الله: كرر: (ويل يومئذ للمكذبين لمعنى تكرير التخويف والوعيد. وقيل: ليس بتكرار، لأنه أراد بكل قول منه غير الذي أراد بالآخر، كأنه ذكر شيئا فقال: ويل لمن يكذب بهذا، ثم ذكر شيئا آخر فقال: ويل لمن يكذب بهذا، ثم ذكر شيئا آخر فقال: ويل لمن يكذب بهذا، ثم كذلك إلى آخرها.. والله أعلم». [الجامع لأحكام القرآن/ (١٩/ ١٦٩)].

/ (فبأي حديث بعده يؤمنون)
أخرج الإمان أحمد وأبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من قرأ منكم بـ (والتين والزيتون) فانتهى إلى آخرها (أليس الله بأحكم الحاكمين) فليقل: بلى، وأنا على ذلك من الشاهدين، ومن قرأ (لا أقسم بيوم القيامة) فانتهى إلى (أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى) فليقل: بلى، ومن قرأ (والمرسلات) فبلغ (فبأي حديث بعده يؤمنون) فليقل: آمنا بالله". [مسند أحمد/ (١٢/ ٣٥٣)، سنن أبي داود/ (٢/ ١٦٣)].

قال الطبري رحمه الله : «إنما أعلمهم -تعالى ذكره- أنهم إن لم يصدقوا بهذه الأخبار التي أخبرهم بها في هذا القرآن مع صحة حُججه على حقيقته لم يمكنهم الإقرار بحقيقة شيء من الأخبار التي لم يشاهدوا المُخبر عنه ولم يُعاينوه، وأنهم إن صدقوا بشيء مما غاب عنهم لدليل قام عليه لزمهم مثل ذلك في أخبار هذا القرآن، والله أعلم». [تفسير الطبري/ (٢٤/ ١٤٥)].
وقال السعدي رحمه الله: "(ويل يومئذ للمكذبين) ومن الويل عليهم أنهم تنسد عليهم أبواب التوفيق، ويُحرمون كل خير، فإنهم إذا كذبوا هذا القرآن الكريم الذي هو أعلى مراتب الصدق واليقين على الإطلاق (فبأي حديث بعده يؤمنون) أبالباطل الذي هو كاسمه لا يقوم عليه شبهة فضلا عن الدليل؟! أم بكلام كل مشرك كذاب أفاك مبين؟! فليس بعد النور المبين إلا دياجي الظلمات، ولا بعد الصدق الذي قامت الأدلة والبراهين على صدقه إلا الكذب الصراح والإفك المبين، الذي لا يليق إلا بمن يناسبه. فتبا لهم ما أعماهم وويحا لهم ما أخسرهم وأشقاهم" [تفسير السعدي/ (ص ٩٠٥)].
_________________


اقرأ المزيد...

الأربعاء، 8 أكتوبر 2025

العمل بسورة المرسلات (٢٩-٤٠)

 بسم الله الرحمن الرحيم

 ● اعلم أن جهنم قعرها بعيد، وحرّها شديد، وشررها عظيم، وظلها سموم، ولهبها محرق، فاطلب لنفسك النجاة منها ما دمت في دار الإمهال، واعلم أن أعظم ما ترجو به النجاة يومئذ أن تكون بجميع أحكام الله وأخباره لا مكذبا بها، وأن تستعيذ بالله من عذاب جهنم دائما: (انطلقوا إلى ما كنتم به تكذبون * انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب * لا ظليل ولا يغني من اللهب * إنها ترمي بشرر كالقصر * كأنه جمالت صفر * ويل يومئذ للمكذبين).

اعلم أنك يوم القيامة مرتهن بعملك، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، ولا يغني عنك الاعتذار، ولا ينفعك الندم، ولا تنجيك الحسرات، ولا تخفى منك يومئذ خافية، فإن أنكرت شيئا بلسانك شهدت عليك جوارحك، فاللهم سلّم سلّم :
(هذا يوم لا ينطقون * ولا يؤذن لهم فيعتذرون * ويل يومئذ للمكذبين).
في يوم القيامة يتميز الحق وأهله من الباطل وأهله، ويقضى بين الناس في الحقوق التي كانت بينهم، ويذهب كيد الكائدين، ويضيع مكر الماكرين، ويختفي خداع المخادعين، ويبقون جميعا خائفين وجلين مشفقين، قد تبين لهم أن ما كانوا يوعدون به حق فيندمون ولات ساعة مندم، ويهربون، ولات حين مناص (هذا يوم الفصل جمعناكم والأولين * فإن كان لكم كيد فكيدون * ويل يومئذ للمكذبين).
---------------------
د. أبصار الإسلام 
اقرأ المزيد...

الاثنين، 6 أكتوبر 2025

فوائد سورة المرسلات (٢٩-٤٠)

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد؛

/ قوله تعالى: (انطلقوا إلى ما كنتم به تكذبون * انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب * لا ظليل ولا يغني من اللهب) :

عن قتادة "(ظل ذي ثلاث شعب) قال: هو كقوله: (نارا أحاط بهم سرادقها) قال: والسُرادق: دخان النار، فأحاط بهم سرادقها ثم تفرق، فكان ثلاث شعب، فقال: (انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب) شعبة هاهنا، وشعبة هاهنا، وشعبة هاهنا".

 «تفسير الطبري» (١٣٦ /٢٤).

/وقال ابن الجوزي رحمه الله: «قال ابن قتيبة: " والظل هاهنا: ظل من دخان نار جهنم سطع، ثم افترق ثلاث فرق، وكذلك شأن الدخان العظيم إذا ارتفع أن يتشعب، فيقال لهم: كونوا فيه إلى أن يُفرغ من الحساب، كما يكون أولياء اللّٰه في ظل عرشه، أو حيث شاء من الظل، ثم يؤمر بكل فريق إلى مستقره من الجنة والنار). «زاد المسير في علم التفسير" (٣٨٥ /٤).


/ قوله تعالى (إنها ترمي بشرر كالقصر):

قال الطبري: "قيل: (بشرر كالقصر) ولم يقل كالقصور والشرر جمع، كما قيل: (سيهزم الجمع ويولون الدبر) ولم يقل الأدبار، لأن الدبر بمعنى الأدبار، وفَعل ذلك توفيقا بين رؤوس الآيات ومقاطع الكلام، لأن العرب تفعل ذلك كذلك، وبلسانها نزل القرآن.

وقيل: (كالقصر) ومعنى الكلام: كعِظَم القصر، كما قيل: (تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت) ولم يقل: كعيون الذي يغشى عليه، لأن المراد في التشبيه الفعل لا العين». (تفسير الطبري) (٢٤/١٣٩).

وقال البغوي رحمه الله: "{إنها} يعني جهنم [ترمي بشرر} وهو ما تطاير من النار، واحدها شررة، (كالقصر} وهو البناء العظيم، قال ابن مسعود: يعني الحصون.

وقال عبد الرحمن بن عياش: سألت ابن عباس رضي الله عنهما عن قوله تعالى: (إنها ترمي بشرر كالقصر) قال: هي الخُشب العظام المقطّعة، كنا نعمد إلى الخشب فنقطعها ثلاثة أذرع وفوق ذلك ودونه، ندخرها للشتاء، فكنا نسميها القصر.

وقال سعيد بن جبير، والضحاك: هي أصول النخل والشجر العظام، واحدتها قصرة، مثل تمرة وتمر، وجمرة وجمر". (تفسير البغوي» (٣٠٦ /٨).


قوله تعالى (كأنه جِمالتٌ صُفر * ويل يومئذ للمكذبين):

قال الطبري رحمه الله : "وأولى الأقوال عندي بالصواب قول من قال: عُني بالجمالات الصفر: الإبل السود، لأن ذلك هو المعروف من كلام العرب، وأن الجمالات جمع جمال، نظير رجال ورجالات، وبيوت وبيوتات». «تفسير الطبري» (١٤١ /٢٤).

وقال البغوي: "(جمالة) قرأ حمزة والكسائي وحفص: (جِمالة) على جمع الجمل، مثل حجر وحجارة، وقرأ يعقوب بضم الجيم بلا ألف أي (جُمَلَة) أراد: الأشياء العظام المجموعة، 

وقرأ الآخرون: (جِمالات) بالألف وكسر الجيم على جمع الجمال، 

وقال ابن عباس رضي اللّٰه عنهما وسعيد بن جبير: هي حبال السفن يجمع بعضها إلى بعض، حتى تكون كأوساط الرجال.

{صُفر} جمع الأصفر، يعني لون النار، وقيل: "الصفر" معناه: السود، لأنه جاء في الحديث: (إن شرر نار جهنم أسود كالقير) يعني الزفت، والعرب تُسمي سود الإبل صُفرا؛ لأنه يشوب سوادَها شيء من صفرة، كما يقال لبيض الظباء: أُُدم، لأن بياضها يعلوه كدرة"

 ((تفسير البغوي) (٣٠٧ /٨).


/ قوله تعالى: (هذا يوم لا ينطقون * ولا يؤذن لهم فيعتذرون * ويل يومئذ للمكذبين):

قال الطبري رحمه الله: "فإن قال قائل: وكيف قيل: (هذا يوم لا ينطقون) وقد علمت بخبر اللّٰه عنهم أنهم يقولون: (ربنا أخرجنا منها)، وأنهم يقولون: (ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين) في نظائر ذلك مما أخبر اللّٰه ورسوله صلى الله عليه وسلم عنهم أنهم يقولونه؟  قيل: إن ذلك في بعض الأحوال دون بعض. 

وقوله: (هذا يوم لا ينطقون) يخبر عنهم أنهم لا ينطقون في بعض أحوال ذلك اليوم، لا أنهم لا ينطقون ذلك اليوم كله.

فإن قال: فهل من برهان يُعلم به حقيقة ذلك؟ قيل: نعم، وذلك إضافة (يوم) إلى قوله: (لا ينطقون)، والعرب لا تضيف اليوم إلى فعل (يفعل) إلا إذا أرادت الساعة من اليوم والوقت منه، وذلك كقولهم: آتيك يوم يقدم فلان، وأتيتك يوم زارك أخوك، فمعلوم أن معنى ذلك: أتيتك ساعة زارك، أو آتيك ساعة يقدم، وأنه لم يكن إتيانه إياه اليوم كله». (تفسير الطبري) (١٤٢/٢٤).


/ وقال الطبري: ((فيعتذرون) رفعا عطفا على قوله: (ولا يؤذن لهم) وإنما اختير ذلك على النصب وقبله جحد - يعني نفي- لأنه رأس آية قُرن بينه وبين سائر رؤوس التي قبلها - يعني نهايات الآيات التي قبلها - ولو كان جاء نصبا كان جائزا، كما قال: (لا بقضى عليهم فيموتوا) - على النصب- وكل ذلك جائز فيه ' أعني الرفع والنصب - كما قيل: (من ذا الذي يقرض اللّٰه قرضا حسنا فيضاعفه له) رفعا ونصبا". ((تفسير الطبري)) (١٤٢ /٢٤).

وقال ابن الجوزي رحمه الله: "(هذا يوم لا ينطقون) قال المفسرون: هذا في بعض مواقف القيامة. قال عكرمة: تكلموا واختصموا، ثم خُتم على أفواههم فتكلمت أيديهم وأرجلهم، فحينئذ لا ينطقون ولا يؤذون لهم فيعتذرون. وقال ابن الأنباري رحمه الله: "لا ينطقون بحجة تنفعهم». «زاد المسير في علم التفسير» (٣٨٦ /٤).

وقال القرطبي رحمه الله: "عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سأله ابن الأزرق عن قوله تعالى: (هذا يوم لا ينطقون)، وقوله (فلا تسمع إلا همسا) وقد قال تعالى: (وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون)؟ 

فقال له: إن اللّٰه عز وجل يقول: (وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون) فإن لكل مقدار من هذه الأيام لونا من هذه الألوان.

وقيل: لا ينطقون بحجة نافعة، ومن نطق بما لا ينفع ولا يفيد فكأنه ما نطق. 

قال الحسن: لا ينطقون لحجة وإن كانوا ينطقون.

وقيل: إن هذا وقت جوابهم (اخسؤوا فيها ولا تكلمون).

 وقال أبو عثمان رحمه الله: "أسكتتهم رؤية الهيبة وحياء الذنوب". 

وقال الجنيد رحمهالله : "أي عذر لمن أعرض عن مُنعمه وجحده وكفر أياديه ونعمه؟". (الجامع لأحكام القرآن) (١٦٦ /١٩).


/ قوله تعالى: (هذا يوم الفصل جمعناكم والأوّلين * فإن كان لكم كيد فكيدون * ويل يومئذ للمكذبين):

قال القرطبي: " (فإن كان لكم كيد) أي: حيلة في الخلاص من الهلاك، (فكيدون) أي: فاحتالوا لأنفسكم وقاووني ولن تجدوا ذلك.

وقيل: أي (فإن كان لكم كيد) أي قدرتم على حرب (فكيدون) أي حاربوني.

 كذا روى الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: يريد: كنتم في الدنيا تحاربون محمدا صلى اللّٰه عليه وسلم وتحاربونني فاليوم حاربوني.

وقيل: أي إنكم كنتم في الدنيا تعملون بالمعاصي وقد عجزتم الآن عنها وعن الدفع عن أنفسكم. وقيل: إنه من قول النبي صلى اللّٰه عليه وسلم، فيكون كقول هود: (فكيدوني جميعا ثم لا تُنظرون)"  (الجامع لأحكام القرآن) (١٦٧ /١٩).

وقال ابن كثير رحمه الله: "(فإن كان لكم كيد فكيدون} تهديد شديد ووعيد أكيد، أي: إن قدرتم على أن تتخلّصوا من قبضتي، وتنجوا من حكمي فافعلوا، فإنكم لا تقدرون على ذلك، كما قال تعالى {يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان}، وقال تعالى: {ولا تضرونه شيئا}، وفي الحديث: (يا عبادي، إنكم لن تبلغوا نفعي فتنفعوني، ولن تبلغوا ضري فتضروني». 

(تفسير ابن كثير» (٣٠٠ /٨).

وقال السعدي: "ففي ذلك اليوم تبطل حيل الظالمين، ويضمحل مكرهم وكيدهم، ويستسلمون لعذاب الله، ويبين لهم كذبهم في تكذيبهم (ويل يومئذ للمكذبين)».

 ((تفسير السعدي)) (ص ٩٠٥).

-------------------------------------

د. أبصار الإسلام 

https://youtu.be/LreRn2HfVno


اقرأ المزيد...

الخميس، 2 أكتوبر 2025

| الدرس الخمسون | تفسير سورة البقرة: من الآية (٥٤) (وإذ قال موسى لقومه يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم…)

 


الحمد لله رب العالمين وصلى الله  وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللمسلمين والمسلمات أما بعد:
 ن/ فيقول الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله في قوله تعالى: (وإذ قال موسى لقومه يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم فتاب عليكم إنه هو التواب الرحيم*وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون* ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون*وظللنا عليكم الغمام وأنزلنا عليكم المنّ والسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون) ثم إنه أمركم بالتوبة على لسان نبيه موسى بأن يقتل بعضكم بعضا فعفى الله عنكم بسبب ذلك لعلكم تشكرون الله.
(وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة) وهذا غاية الجرأة على الله وعلى رسوله، (فأخذتكم الصاعقة) إما الموت أو الغشية العظيمة، (وأنتم تنظرون) أي وقوع ذلك كل ينظر إلى صاحبه، (ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون) ثم ذكر نعمته عليهم في التيه والبرية الخالية من الظلال وسعة الأرزاق فقال (وظللنا عليكم الغمام وأنزلنا عليكم المنّ) وهو اسم جامع لكل رزق يحصل بلا تعب ومنه الزنجبيل والكمأة والخبز وغير ذلك، والسلوى طائر صغير يقال له السماني طيب اللحم، فكان ينزل عليهم من المن والسلوى ما يكفيهم ويقيتهم، (كلوا من طيبات ما رزقناكم) أي رزقا لا يحصل نظيره لأهل المدن المترفهين فلم يشكروا هذه النعمة واستمروا على قساوة القلوب، وكثرة الذنوب، (وما ظلمونا) يعني بتلك الأفعال المخالفة لأوامرنا لأن الله تعالى لا تضره معصية العاصين، كما لا تنفعه طاعات الطائعين، (ولكن كانوا أنفسهم يظلمون) فيعود ضرره عليهم"
ت/ بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. اللهم علمنا ما ينفعنا وأنفعنا بما علمتنا وزدنا علما، وأصلح لنا إلهنا شأننا كله ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين، اللهم فقهنا في الدين وعلمنا التأويل يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام. أما بعد: قول الله عز وجل (وإذ قال موسى لقومه يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل)، (وإذ قال موسى لقومه) أي: واذكروا يا بني اسرائيل لأن السياق كله في خطاب بني إسرائيل، واذكروا يا بني إسرائيل حين قال موسى لقومه يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم، والآية فيها الصفة التي بها تاب الله عليهم من عبادتهم للعجل واتخاذهم للعجل معبودا من دون الله بعد أن أظلهم في ذلك السامري كما ستأتي قصته في سورة طه، فذُكر في هذه الآية صفة التوبة التي أُمروا، أو الأمر الذي أُمروا بفعله ليتوب الله عليهم من هذا الجرم العظيم، والذنب الكبير الذي هو أعظم الذنوب وأكبرها وهو اتخاذ معبود من دون الله سبحانه وتعالى. وقوله (لقومه) (إذ قال موسى لقومه) اللام هنا لام التبليغ، أي قال لهم مبلغا عن الله سبحانه وتعالى، وفائدة قوله (لقومه) لأنه إذا قيل: وإذ قال موسى يا قوم، عُرف أن الخطاب للقوم لكن فائدة هذه اللفظة (لقومه) أنها تفيد أن خطاب موسى لهم كان مشافهة مباشرة، خاطبهم بنفسه بذلك عليه السلام، (وإذ قال موسى لقومه يا قوم) وهذا فيه من التلطف في الخطاب، الآن هو يخاطب من ارتدوا عن الدين وعبدوا الأوثان، عبدوا عجلا، ارتكبوا جرما، فيخاطب ناس هذي حالهم فيقول (يا قوم) هذا في تلطف في الخطاب، يعني ما قال يا مجرمين، يا كذا، قال (يا قوم) تلطف في الخطاب وهذا فيه إعانة للمتلقي والسامع على قبول ما يُلقى إليه، ويبين له.
(وإذ قال موسى لقومه يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل) أي اتخاذكم العجل معبودا من دون الله، لأن السامري لما صنع ذلك العجل قال هذا إلهكم وإله موسى. واحتال عليهم حتى عبدوا هذا العجل من دون الله عز وجل. وقصة عبادتهم للعجل جاءت بعد نجاتهم من فرعون وهلاك فرعون ورؤيتهم لآية الله العظيمة الدالة على كمال اقتداره، وعظيم تدبيره سبحانه وتعالى، مع هذه الآية العظيمة بعدها بوقت ليس بطويل اتخذوا هذا العجل معبودا من دون الله عز وجل. وهذا فيه تنبيه أن الأصنام والأوثان فتنة عظيمة جدا ولا ينجو منها ومن التعلق بها إلا من نجاه الله وهداه، وسلّمه ووقاه، ولهذا تعجب تجد في الناس أذكياء وعلى مستوى من الذكاء وتجد عنده مثل هذه التعلقات بأشياء متخذة يعلق قلبه بها من دون الله سبحانه وتعالى، وكان من دعاء إبراهيم الخليل عليه السلام، (واجنبني وبني أن نعبد الأصنام) قال بعض السلف: "ومن يأمن البلاء - يعني الافتتان بها- بعد إبراهيم عليه السلام".
 (وإذ قال موسى لقومه يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم) وهذا فيه أن اتخاذ المعبودات، اتخاذ الأوثان أيا كانت هو من الظلم للنفس بل هو أعظم الظلم للنفس، لأن الظلم للنفس مراتب أشدها وأنكاها وأعظمها عبادة غير الله سبحانه وتعالى، وفي وصايا لقمان الحكيم لابنه وهو يعظه قال (لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم) وقال جل وعلا (والكافرون هم الظالمون) فالشرك هو أشد الظلم، هو أكبر الكبائر وأعظم الموبقات.
قال (ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل) يعني ارتكبتم ظلما عظيما وجرما كبيرا باتخاذكم العجل أي اتخاذه إلها لأن السامري قال هذا إلهكم وأضلهم، وقبلوا ما دعاهم إليه فعبدوا العجل
متى كانت هذه  العبادة؟
في فترة ذهاب موسى -كما مر معنا قبل آيتين أو ثلاث- قال (وإذ وعدنا موسى أربعين ليلة ثم اتخذتم العجل من بعده) أي ذهاب موسى إلى الوعد الذي وعده الله سبحانه وتعالى، فاتخذوا العجل في تلك الفترة، اتخذوا العجل معبودا من دون الله عز وجل في تلك الفترة قال (إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل) ثم دعاهم إلى التوبة وبيّن لهم الصفة التي يفعلونها حتى يتوب الله عليهم من هذا الجرم العظيم قال (فتوبوا إلى بارئكم) انظر ذكره لهذا الاسم من أسماء الله الحسنى (البارئ) أي الذي أوجدكم من العدم، لم تكونوا شيئا مذكورا، توبوا إلى بارئكم، توبوا إلى من خلقكم، إلى من أوجدكم، حيث اتخذتم عجلا معبودا من دونه، من دون البارئ، الخالق سبحانه وتعالى. وهذا فيه التنبيه لعظم الجرم بقوله بارئكم، هذا فيه تنبيه على عظم الجرم الذي ارتكبوه، كأنه يقول لهم كيف تتخذون عجلا معبودا من دون البارئ الخالق لكم ولها ولهذا الخلق العظيم؟! كيف تتخذون عجل معبود مثل قول إلياس لقومه (تدعون بعلا وتذرون أحسن الخالقين* الله ربكم ورب آبائكم الأولين) أين عقولكم؟ فتوبوا إلى بارئكم، توبوا إلى الله. توبوا إلى بارئكم أي توبوا إلى الله عز وجل الذي أوجدكم الذي خلقكم الذي أمدكم بالصحة والعافية والمال، والمسكن وغير ذلك، توبوا إلى الله من هذا الوثن المتخذ والمعبود المتخذ من دون الله؟ فتوبوا إلى بارئكم. ما صفة التوبة؟
قال (فاقتلوا أنفسكم) هكذا كان مطلوبا منهم في التوبة من عبادة العجل، هذا الذي طُلب منهم أن يقتلوا أنفسهم، ومعنى (اقتلوا أنفسكم) أي ليقتل بعضكم بعضا، أُمروا بهذا العمل ليكون كفارة لهذا الجرم العظيم عبادة العجل من دون الله.
كم كانت العبادة للعجل؟ هل هي سنوات طوال؟ 
فترة ذهب موسى الموعد الذي وعده ربه في تلك الفترة، كانت التوبة المطلوبة من هذه العبادة في تلك الفترة أن يقتلوا أنفسهم، ولا تكون توبتهم إلا بهذا. ولهذا جاء في الآثار عن غير واحد من السلف عن علي بن أبي طالب، وابن عباس، وجماعة من المفسرين، لما قال لهم موسى عليه السلام توبوا إلى بارئكم سألوه قالوا وما توبتنا؟ يعني ما الشيء الذي نفعله ليتوب الله علينا؟ وبيّن لهم وفهموا الجرم الذي ارتكبوه ودعاهم إلى التوبة، فتهيئوا للتوبة وسألوه قالوا كيف ما توبتنا؟ ما الذي نفعله حتى يتوب الله علينا؟ يقتل بعضكم بعضا، فجعل بعضهم يقتل بعضا، حتى جاء في عدد من الآثار أنه قتل منهم سبعون ألف في هذه التوبة، فأوحى الله عز وجل لموسى أن يرفعوا أيديهم عن قتل بعضهم لبعض، وكان هذا توبة عليهم، تاب الله عليهم، تاب بهذا عليهم.
(فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم)
(ذلكم) الإشارة هنا (ذا) إما إلى القتل أو التوبة، كلاهما مر ذكره، (ذلكم خير لكم عند بارئكم) ذلكم: أي التوبة خير لكم عند بارئكم، لأنكم بهذه التوبة تنجون من النار والخلود فيها لأن هذا شرك موجب للخلود في النار، تنجون من النار خير لكم عند بارئكم خير لكم عند الله عز وجل، (ذلكم خير لكم عند بارئكم)، أو (ذلك) أي القتل الذي أمروا به ليكون مكفرا وتوبة.
(ذلكم خير لكم عند بارئكم فتاب عليكم) (فتاب عليكم) المعنى واضح من السياق أي ففعلوا ما أُمروا به، وما أمروا به من القتل فتاب الله سبحانه وتعالى عليهم، فسيقت هذه الآية فيها التذكير لبني إسرائيل بتوبة الله على أسلافهم وأوليهم من هذا الذي الجرم الذي وقعوا فيه، فنصحهم وعلمهم موسى فقالوا كيف نتوب إلى الله من هذا العمل؟ فأرشدهم بوحي من الله أن يقتل بعضهم بعضا.
ثم قوله (تاب عليكم) هذا يتناول من؟ الآن بعد هذه الاستجابة منهم بقتل بعضهم بعضا أصبحوا قسم أموات قتلوا وقسم أحياء، فالتوبة شاملة للقسمين لأنهم كلهم استجابوا بفعل هذا الذي أُمروا به طالبين بذلك توبة الله عليهم، وأن يتوب الله عليهم، فغُفر لمن قتل منهم، وتيب على من بقي، غفر الله لمن مات منهم وتاب سبحانه وتعالى على من بقي. وجاء في بعض الآثار أن من مات عُدّوا شهداء، فهذا معنى قوله (فتاب) أي الله سبحانه وتعالى (عليكم) تاب عليكم.
(إنه هو التواب الرحيم) يعني انظر الفرق بين ما جاء في شريعتهم التوبة من الشرك أن يقتل بعضهم بعضا حتى يُتاب عليهم وفي شريعة نبينا عليه الصلاة والسلام من وقع في الشرك ماذا عليه وتقبل توبته؟ أن يتوب صادقا إلى الله عز وجل من الشرك الذي فعله فيتوب الله عليه، كما قال الله في سورة الزمر (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا) يعني حتى الشرك، لا تقنطوا، لا تيأسوا، توبوا إلى الله من أي ذنب، واصدقوا مع الله في توبتكم فإنه سبحانه وتعالى يتوب عليكم. (إنه هو التواب الرحيم) وهذان إسمان لهما تعلق بالسياق الذي جاء في الآية لأن الله عز وجل تاب عليهم وتوبته عليهم تتناول المعنيين في دلالة اسمه التواب توفيق للتوبة وقبول التوبة، وتوفيقهم للتوبة وهدايتهم لها هذا من رحمة الله سبحانه وتعالى بهم ولهذا قال (إنه هو التواب الرحيم) (وإذ قلتم) أي: اذكروا يا بني إسرائيل حين قلتم لموسى أي حين قال بعض أسلافكم لموسى يا موسى (لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة) وهؤلاء الذين قالوا هذا الكلام هم جماعة من بني إسرائيل، من خيارهم، اختارهم موسى عليه السلام وكان عددهم سبعين كما في قوله عز وجل (واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا فلما أخذتهم الرجفة قال رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي) اختار سبعين من خيار قومه لميقات ربه حتى يطلبوا من الله سبحانه وتعالى العفو عنهم وعن قومهم في هذا الذي حصل منهم، فاختار منهم سبعين وذهب بهم موسى عليها السلام إلى الميقات، إلى المكان الذي حُدد، والوقت الذي عُين وخاطبه الله عز وجل، وأخبرهم بما خاطبه الله سبحانه وتعالى به فقالوا (لن نؤمن لك) لن نصدقك في هذا الذي تخبرنا به عن الله حتى نرى الله جهرة، فأخذتهم الصاعقة فماتوا هؤلاء السبعين أجمعين بتلك الصاعقة، قيل الصاعقة نار من السماء نزلت، قالوا (لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون) فماتوا هؤلاء الأجمعين. فأخذ موسى عليه السلام يلجأ إلى الله سبحانه وتعالى يقول في لجوئه إلى الله ماذا أقول لقومي وقد هلك خيارهم؟ هؤلاء خيارهم انتقيتهم انتقاء، خيار بني إسرائيل انتقيتهم لينوبوا عن قومهم في طلب التوبة، ومعرفة صفة التوبة، فماذا أقول لقومي؟ يسأل الله سبحانه وتعالى، فلم يزل يدعو ويلح على الله سبحانه وتعالى حتى أحيا الله هؤلاء السبعين من بعد موتهم،  احياهم واحد تلو الآخر فقاموا أحياء بعد أن أماتهم سبحانه وتعالى قال: (ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون) هذه نِعم، نِعم عظيمة أنعم الله بها على أسلافكم، تذكروها الخطاب لبني إسرائيل، تذكروها يا بني إسرائيل اذكروا نعمة الله ونِعم الله المتنوعة عليكم مع عظم ما كان يحصل منكم من جرم، من مخالفة، من عصيان لموسى عليه السلام.
(ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون وظللنا عليكم الغمام) وظللنا عليكم الغمام) الغمام: السحاب، وهذا كان في مدة التيه التي كتب عليهم في منطقة بقوا تائهين فيها أربعين سنة،. أربعين سنة وهم يحورون ويكورون في مكان واحد، ما يهتدون إلى طريق ولا يجدون سبيلا.
قال (وظللنا عليكم الغمام وأنزلنا عليكم المن والسلوى) المن والسلوى نوعان من الطعام، بعضهم قال الكمأة الذي هو المنّ، وجاء في الحديث إن الكمأة من من المن، والمنّ مِنّة، يعني منة الله عليكم، والسلوى قالوا نوع من الطير.
 (وأنزلنا عليكم المن والسلوى كلوا) أي قلنا لهم كلوا (وأنزلنا عليكم المن والسلوى كلوا) أي قلنا لهم (كلوا من طيبات ما رزقناكم)  واحمدوا الله عز وجل على هذا الإِنعام، على هذا الفضل (واذكروا نعمة الله عليكم).  قال في ختم هذا السياق (وما ظلمونا) بمخالفاتهم، بعصيانهم، بما ارتكبوه من جنايات هذه الفعلات التي فعلوها، والأمور التي حصلت منهم، هذه كما قال الله عز وجل (وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون) لأن الله سبحانه وتعالى لا يضره معصية من عصى كما لا تنفعه طاعة من أطاع بل الأمر كما قال الله سبحانه وتعالى (من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها)، وفي الحديث القدسي يقول الله عز و جل: (يا عبادي لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم  كانوا على أتقى قلب رجل منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا، ولو أنه أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا) فهو جل وعلا لا تنفعه طاعة الطائعين، ولا عصيان العاصين، ولا ظلم الظالمين، ولا إجرام المجرمين، ولا شرك المشركين، ولا كفر الكافرين (وما ظلمونا) وإنما ظلموا أنفسهم (ولكن كانوا أنفسهم يظلمون) أي كانوا ظَلَمة لأنفسهم، ظلموا أنفسهم وهذا الذي فعلوه هو من الظلم للنفس الذي لا تعود مضرته إلا عليهم هم (ومن ضل فإنما يضل عليها).
قال الشيخ رحمه الله: "ثم إنه أمركم أي يا بني إسرائيل بالتوبة على لسان نبيه موسى بأن يقتل بعضكم بعضا" كما تقدم (فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم) "فعفى الله عنكم -أي فعلتم هذا الذي أُمرتم به أي فعله أسلافكم حين طُلب منهم ذلك- فعفا الله عنكم بسبب ذلك لعلكم تشكرون الله" (وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة) قال: "وهذا غاية الجرأة على الله وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم" يقولون ما نقبل ما تقول وتدعونا إليه وقد عرفوا أنه نبي، ورأوا الآيات، ورأوا البراهين، ورأوا الدلائل البينات، ومع ذلك كانوا بهذه الجرأة، وعرفنا أن القائلين لهذا كانوا خيارا من هؤلاء. سبعين رجلا اختارهم اختيارا موسى عليه السلام. فقال: (فأخذتكم الصاعقة إما الموت أو الغشية العظيمة (وأنتم تنظرون) وقوع ذلك، كل ينظر إلى صاحبه، (ثم بعثناكم) أي من بعد موتكم (لعلكم تشكرون) هذا كله تعداد لنِعم، تفصيل لنِعم حصلت لأسلافهم. ثم ذكر نعمته عليهم في التيه، أي لما كانوا في التيه. يفسره بقوله "فالتيه والبرية الخالية" في الصحراء الخالية البرية: الصحراء الخالية، أي في الصحراء الخالية الذي لا طعام فيه ولا ظل، يعني هم في مشكلتين في هذه هذا الصحراء، في هذه البرية صحراء يقال أنها صحراء سيناء. منطقة محدودة. وتاهوا فيها أربعين سنة، أربعين سنة ما يعرفون أين الطريق، أربعين سنة ليست أربعين يوما، أربعين سنة وهم تائهون لا يعرفون أين الطريق، في صحراء يحورون ويكورون في مكان واحد تائهين. هذه آية من آيات الله. الآن يعني لو قُدر أن شخصا يمشي إلى اتجاه واحد، قل يمشي في هذا الاتجاه الواحد شهرا ثم إذا ما كان الطريق يمسك اتجاه آخر شهرا مثلا، لكن كانوا في مكان واحد يحورون ويكورون ضرب عليهم الله عز وجل التيه؟ يعني ضياع ما يعرفون الطريق ولا يهتدون إليه. قال (وظللنا عليكم الغمام) ثم ذكر نعمته عليهم في التيه والبرية الخالية من الظلال، (ظللنا عليكم الغمام) السحاب وسعت في الأرزاق الطعام الذي ينزل عليهم كل يوم المنّ والسلوى. وسيأتي معنا أنهم أيضا ما رضوا بذلك قالوا لن نصبر على طعام واحد، يعني المن والسلوى هذا ما نصبر عليه، وسيأتي معنا.
 (وظللنا عليكم الغمام وأنزلنا عليكم المن والسلوى) وهو اسم جامع لكل رزق حسن يحصل بلا تعب ومنه الزنجبيل والكمأة والخبز وغير ذلك، يعني هذه أسماء لأطعمة سماها بعض المفسرين، والسلوى قال: طائر صغير يقال له السماني طيب اللحم، فكان ينزل عليهم من المن والسلوى ما يكفيهم، ويقيتهم، كل يوم يجدون حاجتهم وكفاياتهم من المن والسلوى.
(كلوا من طيبات ما رزقناكم) أي رزقا لا يحصل نظيره لأهل المدن المترفهين فلم يشكروا هذه النعمة واستمروا على قساوة القلوب، وكثرة الذنوب.
قال: "(وما ظلمونا) - يعني بتلك الأفعال المخالفة لأوامرنا -لأن الله عز وجل لا تضره معصية العاصين، كما لا تنفعه طاعة الطايعين كما قال سبحانه (من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها)- قال: "(ولكن كانوا أنفسهم يظلمون) أي فيعود ضرره عليهم" ضرر ظلمهم عائد عليهم، مضرة ظلمهم عائدة عليهم.

ن/ قال رحمه الله: "قوله (وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية فكلوا منها حيث شئتم رغدا وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم وسنزيد المحسنين* فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا من السماء بما كانوا يفسقون).
نفعنا الله أجمعين بما علمنا وزادنا علما وتوفيقا، وأصلح لنا شأننا كله، وهدانا إليه صراطا مستقيما.. سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك، اللهم صلِ وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
جزاكم الله خيرا

اقرأ المزيد...

الأحد، 28 سبتمبر 2025

تدبر سورة الكهف م.(٢٧) / د. محمود شمس



بسم الله الرحمن الرحيم
الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهَ ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَجْمَعِينَ. سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ. اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا يا رب العالمين؛ وَبَعْدُ:
 فإني أحييكم بتحية الإسلام السَّلامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ. وإني لأسأل الله أن يشرح صدورنا، وأن يجعلني وَإِيَّاكُمْ من أهل القرآن الكريم الَّذِينَ هم أهل الله وخاصته. وها نحن نلتقي في لقائنا هذا وتدبر سورة الكهف.
 توقفت في اللقاء السابق عند قول الله تبارك وتعالى: (وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرُ مِنْهُمْ أَحَدًا) وبينت كيف أنَّ الله تبارك وتعالى سيسير الجبال بحيث تنتقل من مكانها، وما سيفعله الله في الجبال، نظرًا لأن المشركين كانوا يعتقدون أن الجبال هي أعظم المخلوقات، وكانوا يقولون: إذا قامت الساعة فأين تذهب هذه الجبال؟ وماذا سيفعل الله بهذه الجبال؟ فبين الله أنَّ هذه الجبال تُنسف نسفًا : (وَيَسْألونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا) [سورة طه: ١٠٥]، وبين أنَّ الأرض تُرى بَارِزَةً، ومعنى بَارِزَةً  يعني: لا يوجد عليها شيء يسترها، الأرض كان عليها جبال ومباني وعمارات ومصانع وشركات ...الخ فأصبحت الأرض الآن كلها بارزة بقدرة الله .
ثُمَّ يقول الله بعد ذلك : (وَحَشَرْنَهُمْ) يعني: جمعناهم، جمعناهم للحشر، لماذا الجمع؟ لأنَّ النَّاس فارقوا الدنيا وماتوا في أزمنة مختلفة وأزمنة طويلة ما بين آدم عليه السلام إلى ما شاء الله، فالله يجمع هؤلاء جميعا في مكان واحد سماه: «أرض السَّاهِرَةِ» (فَإِذَا هُم بِالسَّاهِرَةِ) وجعل الله أمر إحياء الناس من قبورهم، وسوقهم إلى أرض الساهرة عملية سهلة لا تستغرق دقيقة بمفهوم البشر؛ لأنها عبارة عن (زَجَرَةٌ وَاحِدَةٌ ﴾ زَجَرَةٌ من الزجرات التي قد يزجرها الإنسان للحيوان، الأرض الساهرة هي الأرض البيضاء، الأرض التي لا شيء عليها، أرض بيضاء، أرض فضاء، لا شيء عليها يجمع الله عليها الخلائق.
(وَحَشَرْنَاهُمْ) معطوفة عَلَى : (نُسَيرُ الْجِبَالَ) (نسير) فعل مضارع، (وحَشَرْنَاهُمْ) فعل ماض، فلِمَ عبر في الحشر بالذات بالفعل الماضي؟ دلالةً عَلَى أَنَّ الحشر قد وقع وانتهى، تأكيدا لوقوعه، كأنه لا مشكلة فيه فهو محقق الوقوع، هذا (وَحَشَرْنَهُمْ) 
 هل سرعة الحشر هذه تترك الفرصة لأحد لكي يفرّ أو لكي يهرب من الحشر قَالَ الله : لا (فَلَمْ نُغَادِرُ مِنْهُمْ أَحَدًا) (فَلَمْ نُغَادِرُ) يعني: فلم نترك، مادة «غَدَرَ» و «غَادَرَ» كلها تعطي معنى الترك، حَتَّى كلمة «الغدر» معناها: ترك الوفاء وخيانة الأمانة، الغدر يعني: الإنسان الذي يغدر بأحد، فَهذا معناه: أنه لا وفاء عنده وخائن للأمانة، فالمغادرة المنفية هنا هي الترك، فلم تغادر يعني: فلم نترك مِنْهُمْ أَحَدًا، فلا يستطيع أحد أن يفر، ولا يستطيع أحد أن يبتعد.
ثُمَّ بعد ذلك يقول الله تَعَالَى: (وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفَا) العرض: إحضارهم ليعلموا أنهم سيتلقون ما يأمرهم الله به في شأنه، يعني: يُعرضون عَلَى رب العباد، كما قَالَ الله تَعَالَى: ﴿يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ ﴾ [سورة الحاقة : ١٨] لا يخفى منكم أي شيء. فالعرض عملية منظمة بحيث لا يخفى فيها صفٌ للَّذي يليه، يعني: نعلم أنَّ الصفوف في مفهوم البشر من الناس من يكون طويلا، فقد يختفي من خلفه، لكنهم سينظمون صفوفًا، بحيث يكون كل صفٌ في الخلف أَعْلَى قليلا من الصف الَّذِي أمامه، حَتَّى يظهر، حَتَّى لا يختفي أحد، فلن يكون هناك فرصة للتخفي، لأنَّ الصفوف ستكون متداخلة، بحيث لا يُخفي صف صفًّا، هذه: (وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا).

(لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَكُمْ أَوَّلَ مَرَّة) يعني: قائلين لهم: ﴿لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةً﴾ (أَوَّلَ مَرَّة) يوم أن خلقكم الله ونزلتم من بطون أمهاتكم عرايا، فأنتم اليوم جئتم (كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةً) ، والله وضّح ذلك في قوله تَعَالَى: ﴿وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَلْناكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ ﴾ هذه الآية في سورة الأنعام. (وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فَرَادَى كَمَا خَلَقْنَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةً) هذه الجملة عطفت على ماذا قبلها؟ إحنا عندنا جملتان قبل هذه الجملة، كل منهما تصلح للعطف، وكل منهما إذا عطف عليها يكون لها دلالة في المعنى الجملة الأولى التي تصلح للعطف،نحن تركنا (وَيَوْمَ نُسَيِّرُ)، نحن الآن في : (وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فَرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) [ سورة الأنعام : ٩٤] ، الجملة المعطوف عليها أولا جملة (أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمْ) لأنَّ جملة (أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمْ) في قول الله تَعَالَى: (وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمْ) جملة: (أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمْ) مقول لقول محذوف، فإذا كان القول المحذوف من الله تبارك وتعالى أي: أنَّ الملائكة وهم يقودونهم إلى العذاب قَالَ الله لهم: (أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمْ)، فإذا كانت جملة (أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمْ) مقول القول هو قول الله فيجوز أن نعطف عليها : (وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فَرَادَى)، كأنهم قيل لهم قولان، يقال لهم : (أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمْ)، ويقال لهم: (لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةً) يعني: (وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا) لا تُعطف عَلَى (أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمْ) إِلَّا إذا كانت (أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمْ) مقولا لقول الله لأنَّ (جئْتُمُونَا فَرَادَى) هذه لا تُقال من الملائكة إِنَّمَا تُقال من الله. وصلت هذه النقطة ولا لا؟
 يعني : (وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا) تكون معطوفةً عَلَى: (أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمْ)  بشرط أن تكون (أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمْ) مقولا لقول الله تَعَالَى، الله قَالَ لهم : (أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمْ)، وَقَالَ لهم : (وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فَرَادَى)، وإذا كانت جملة: (أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمْ) مقولا لقول الملائكة، يعني: (وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ)  يقولون لهم : (أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمْ) فتكون جملة: (أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمْ) مقولا لقول الملائكة، تكون جملة : (وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا) معطوفة عَلَى ﴿وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ﴾ واضح هكذا؟
طبعًا ﴿ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ ﴾ من المخاطب هنا في ﴿وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ﴾؟ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكل مؤمن صالح للخطاب، يعني: الخطاب للنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو خطاب للأُمَّةِ، فتكون معطوفةً عَلَى هُذَا القول: ﴿وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ﴾ ، ويكون هنا انتقل القرآن من خطاب الاعتبار بحال الظالمين إلى خطاب الظالمين أنفسهم بوعيدهم بجهنم، يعني: ﴿وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ ﴾ كان الخطاب موجها على المعتبرين بأحوال الظالمين، وهم أمة مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. أما (وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا) الخطاب هنا انتقل القرآن من خطاب المعتبرين بأحوال الظالمين إلى خطاب الظالمين أنفسهم، يخاطب الله هنا الظالمين أنفسهم بالوعد الحق والوعيد الحق الذي كان قد وعدهم به: ها أنتم (جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) فهمنا هكذا؟ هذه (وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فَرَادَى).
 ما معنى فرادى؟
الإنسان في الدنيا عنده أولاده، وعنده أنصاره وعنده زوجه، وعنده ماله، وعنده سلطانه، وعنده جاهه، وعنده حسبه، وعنده نسبه ...الخ  ما لدى الإنسان في الدنيا، الله يقول (جِئْتُمُونَا) منعزلين عن كل ما تعتزون به في الدنيا، خلاص أنتم الآن جئتمونا وأنتم منعزلون عن كل شيء كنتم تعتزون به وتعتبرونه عزا لكم في الدنيا، ها أنتم الآن، هذا معنى: (وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فَرَادَى): لا مال، ولا ولد، ولا جاه ...الخ. والفرادى جمع باعتبار أن كل واحد جاء منعزلا عما يعتز به في دنياه، هذا معنى : (وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) كما خُلقتم أول مرة، الإنسان خُلق في أول مرة ولد من بطن أمه منعزلا، لا جاه ولا سلطان، ولا مال، ولا ملبس يستر به عورته، كذلك في الآخرة سيكون بلا ملبس يستر به عورته، كما خلقنا الله في أوَّلِ خلقنا، هذا معنى : (كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ).
 (وَتَرَكْتُم مَّا خَوَلْنَكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ) التخويل هو التفضل بالعطاء ، يعني : العطاء بلا مقابل التخويل هو التفضل بالإنعام، يتفضل الله عليك بأن يُنعم عليك بنعمة ما ، فكل ما ينفعك تفضل الله عليك به، ولذلك قَالَ اللهُ: (وَإِذَا مَسَّ الْإِنسَانَ ضُرِّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ ) [سورة الزمر : ۸] ليبين الله أنك لا تملك أن تحضر لنفسك نعمة من النعم، ولا تملك أن تفعل شيئًا لم يقدره الله لك أن تفعل، فكل ما أنت فيه إِنَّما هو نعيم من الله تبارك وتعالى، يعني: الإنسان كل ما يتمتع به في الدنيا من جاه، من مال، من سلطان، من .. من ...الخ فإنَّ هذا كله من فضل الله تبارك وتعالى عليك.
الفرق بين «التخويل» و«الهبة»:
«الهبة»: قد توهب للإنسان وقد تكون بين البشر، يعني: البشر كل منهم يهب الآخر، والله جل وعلا يهب الإنسان ما يهبه من نعم، والله جل وعلا قصر الهبة في القرآن الكريم على الولد، وذكرها في ملك سليمان: (وَهَبْ لِي مُلْكًا لَّا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي) [سورة ص : ٣٥].
إذا «التخويل»: تخويل في كل النعم التي تتنعم بها، والهبة قد يهبك الله نعما زائدة على التخويل ، يعني : هما متداخلتان و مفترقتان. التخويل يتفضل الله عليك بالعطاء، الهبة يهبك الله الشيء دون مقابل منك، وكذلك التخويل دون مقابل، إلا أنك تأخذ بالأسباب في كلا الأمرين، يعني: أنت تأخذ بالأسباب في الهبة، وتأخذ بالأسباب في التخويل. هذه (وَتَرَكْتُم مَّا خَوَلْناكُمْ)، يعني : يبين الله تبارك وتعالى أنَّ كلَّ النعم التي أنعم الله بها علينا في هذه الدنيا هو المُنعم، وليس هناك من مُنعم غير الله ، فهو الَّذِي خولكم هذه النعم، وها أنتم تركتموها وراءكم. هذه: ﴿وَتَرَكْتُم مَّا خَوَلْنَكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ ﴾ .
 هناك فرق دقيق يُعد كالشعرة، يعني: التخويل والهبة:
«التخويل»: عطاء عام في كل شيء ، الله خولك إيَّاه وملكك إيَّاه عَلَى سبيل التملك.
«الهبة»: أصلا ليست عَلَى سبيل التملك، وَإِنَّمَا هو يهبك الشَّيْء دون جهد منك، ودون مقابل منك، ما أنت إِلَّا آخذ بالأسباب.
فيكون التخويل في التملك، والهبة في غير تملك؛ ولذلك الهبة إذا وقعت بين البشر، فيجوز للواهب الرجوع في هبته الهبة يجوز له الرجوع فيها لأنها ليست على سبيل التملك، كذلك ما يهبك الله إياه وخاصة الولد، وهو الذي ورد في شأنه الهبة في القرآن، هل الولد أنت تتملكه؟ أو هو أصبح كالشَّيْء الملك لك؟ لا، هو ابنك نعم، لكن ليس على سبيل التملك، إِنَّمَا هو عَلَى سبيل الهبة، إِنَّمَا التخويل: نعم، فأنا قلت: الولد، الولد هبة، الهبة بين البشر عندما تهبين ابنتك مثلا كردانا من الذهب وتقولين: هذا هبة، أو هذا خولتك إياه، لو تخويل ليس لك أن ترجعي فيه، لو هبة لك الحق في الرجوع فيه.
(وَتَرَكْتُم مَّا خَوَلْتَكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ ) خل بالكم من التعبير الدقيق : (وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ) معناها: أنَّ الَّذِي خولناه لكم لو قيل لكم: خذوه معكم لن تأخذوه، يعني: لو عُرِض عَلَى إنسان أن يأخذ أمواله كلها معه وهو يحتضر، لو عُرض عليه لا يمكن أن يأخذها معه، كأنهم تركوها معرضين عنها بعد أن كنتم تتمسكوا بها؛ هذا معنى : (وَتَرَكْتُم مَّا خَوَلْناكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ) .
حضرت موقفا ذات مرة - وكنت صغيرًا صحيح - لكن حضرته: أحد الناس يحتضر وزوجه يرحمها الله هي الأخرى تحاول أن تعطيه السيجارة في فمه ليشربها وهو يصرخ بأعلى صوته ويقول لها : ابعدي أنتِ وَهذه السيجارة، فهي متعجبة كيف هو كان يحب هذا ؟! يعني هي تقول: هو كان يحب هذا والآن لماذا يقول هذا؟! يعني أنا أوضح لكم فَقَطْ : ﴿وَتَرَكْتُم مَّا خَوَلْتَكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ ﴾ خلاص الإنسان في هذا الوقت يُعرض عن كل شيء في الدنيا؛ ولذلك من وفقه الله هو الذي يتذكر في هذا الوقت أن يوصي بتسديد الديون، ويوصي برد المظالم، ويوصي .. ويوصي، حَتَّى يُنقح نفسه قدر الإمكان والطاقة.
فهؤلاء الله تبارك وتعالى بيّن انظر : (وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاء) أين هم الآن؟ والزعم لا يُستعمل إلا في القول الباطل؛ إِمَّا عن تعمدٍ للباطل، وَإِمَّا عن سوء اعتقاد بالنسبة للإنسان في زعمه، يعني: الزعم إما أن يكون عن تعمد للباطل، يزعم شيئًا وهو متعمد أنه باطل، أو يزعم شيئًا بسبب سوء اعتقاده، يعني هنا سوء اعتقاد وهو : ﴿ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ ﴾  كنتم تزعمون (أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاء لَقَد تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ)
« لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ »، هنا قراءتان: - (لَقَد تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ) بالنصب، فتكون «بَيْنَ» الظرفية، وهي كلمة «بين» المسافة التي تكون بين الإنسان وبين شيء آخر، هذا يُسمى: «ظرف مكان»، فقد تقطع هذا البين بينكم.
وفي قراء الرفع : ﴿لَقَد تَقَطَّعَ بَيْنُكُمْ) البين هنا أصبح اسما، يعني: كلمة (بَيْنُكُمْ) عَلَى قراءة الرفع أصبحت (بَيْنُكُمْ) اسما بعد أن كانت ظرفية، أي (بين) أصبحت الآن اسما يعني علمًا، أصبح (البين) علما ووقع فاعلا  لـ (تَقَطَّع) (لَقَد تَقَطَّعَ بَيْنُكُمْ) ؛ يعني: أصبح علمًا وتقطع هذا العلم، إِنَّمَا (بَيْنَكُمْ» الظرفية البينية التي بين الإنسان وبين أي شيء.
طيب، أين فاعل: (تَقَطَّعَ) عَلَى قراءة النصب في (بَيْنَكُمْ)؟ الفاعل غير موجود، لكنه يفهم من البينية اللي هي وقعت ظرفًا: (لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ) ، هَذَا معنى: (وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةً) .
(بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّن تَجْعَلَ لَكُم مَّوْعِدًا) : بل أنكرتم الرفع، معناها بالرفع إنَّ «بين» هي الفاعل، كأنَّ البين أصبح اسما، أصبح علما، هذا العلم نظرًا لزعمكم، يعني: البين الذي بيني وبينك، البين هذا هو الظرف أو المكان اللي بيني وبينك جعله الله علما وأصبح فاعلا ، وطالما علماً وأصبح فاعلا ذَكَرَ اللَّهُ أَنَّ هَذَا العلم تقطع، هذا الاسم تقطع، يعني: كلمة «بينكُمْ» أصبحت بالضبط كأنها مثلا: لقد تقطع بيتكم مثلا، لقد تقطع فلان ، لو افترضنا أنه فلان، ففلان هذا تقطع، هذا بنقل الظرفية إلى الاسم المحسوس، لكي يتناسب مع التقطع، ما أخذتم بالكم ! الآن لو أنا قلت : لقد تقطع ما بيني وبين فلان، البينية هنا ظرف، هل البينية التي بيني وبينك والتي تقطعت؟ هو الظرف يتقطع ؟ سيتقطع كيف؟ فنقل الله الظرف إِلَى شيء محسوس ووقع فاعلا، يعني عَلَى قراءة الرفع (بَيْنُكُمْ) فاعل، وطالما أنه فاعل يعني أصبح اسما وأصبح علمًا، فهو الذي تقطع، فقراءة الرفع نقلت الظرف المعنوي إلى المحسوس، وهو البين.
يعني: كان في الظرف بينية، البينية التي بينهم وبين شركائهم على قراءة الرفع أصبح البين اسما وَهُذَا الاسم تقطع.
وَقَالَ الله في سورة الكهف: (بَلْ زَعَمْتُمْ) أَيْضًا زعم قول باطل، وَهذَا أَيْضًا زعما اعتقاد (أَلَّن نَجْعَلَ لَكُم مَّوْعِدًا) [سورة الكهف : ٤٨] يُقال لهم في هذا الوقت وهم يرون الموعد أمام أعينهم : أنتم كنتم في الدنيا تزعمون أننا لن نجعل لكم موعدا.
 «بَيْنَ» ظرف مكان، عندما أقول - لكن ركزوا قليلا- بيني وبين فلان علاقة، ما البينية لهذه؟ البينية هذه هي ظرف المكان أو الجزء من المكان الذي بيني وبين فلان، توجد فيه علاقة في النصف، إذا الظرف ظرف مكان، الله تبارك وتعالى نقل ظرف المكان من المعنوي إلى المحسوس لندركه ونفهمه، وهذا هو الأهم، كما قَالَ الله تَعَالَى: (بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّن نَجْعَلَ لَكُم مَّوْعِدًا).

ونتوقف هاهنا الليلة، ونسأل الله الله أن يرزقني وَإِيَّاكُمُ الإخلاص في القول والفعل والعمل، وأن يجعلني الله وَإِيَّاكُمْ من أهل القرآن الكريم الَّذِينَ هم أهل الله وخاصته، وأسأله أن يبارك في أولادنا، وأن يهديهم طريقه المستقيم، وأن يجعلهم جميعا أثرًا صالحًا لنا، وأن يغفر الله لوالدينا وأن يرحمهم، وأن يجعلنا أثرًا صالحًا لهم، وأن يجعلنا الولد الصالح الذي يدعو لهم، اللهم آمين، اللهم آمين، وأن يغفر الله لمشايخنا ولعلمائنا ولأساتذتنا، ولكل من له فضل علينا، اللهم آمين.
وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَجْمَعِيْنَ وَالحَمْدُ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَالسَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ
اقرأ المزيد...