الأربعاء، 25 يونيو 2025

سورة الفاتحة

 ن

قال ابنُ جُزَيٍّ -رحمه الله- في كلامِهِ عن مقامِ الشُّكْر:
«والشُّكْرُ على ثلاثِ دَرَجاتٍ:
- فدرجةُ العوامِّ: الشكرُ على النِّعَم.
- ودرجةُ الخواصِّ: الشكرُ على النِّعَمِ والنِّقَم، وعلى كلِّ حال.
- ودرجةُ خواصِّ الخواصِّ: أن يَغِيبَ عن النِّعْمةِ بمشاهَدةِ المُنعِم.
قال رجلٌ لإبراهيمَ بنِ أَدْهَمَ: إنَّ الفقراءَ إذا أُعْطُوا شكَرُوا، وإذا مُنِعُوا صبَرُوا؟ فقال إبراهيمُ: هذه أخلاقُ الكِلَاب؛ ولكنَّ القومَ إذا مُنِعُوا شكَرُوا، وإذا أُعْطُوا آثَرُوا».
ت

قولُهُ: «الشُّكْرُ على ثلاثِ دَرَجاتٍ ...»، إلخ:
سلَكَ المؤلِّفُ -رحمه الله- في تقسيمِ مراتبِ الشُّكْرِ والتعبيرِ عنها طريقَ الصوفيَّة، وفي كلامِهِ هذا عِدَّةُ مآخِذَ:
الأوَّل: قولُهُ: «إنَّ الشكرَ على النعمِ درجةُ العوامِّ»:
بل الشكرُ على النعمِ مِن شأنِ العوامِّ والخواصِّ مِن المؤمنين، وقد أثنى الله على إبراهيم -عليه السلام-؛ فقال: ﴿شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ﴾ [النحل : 121]، ولما ذكَر الله ما أعطى سليمانَ -عليه السلام- مِن تسخير الجِنِّ والرِّيح، قال: ﴿اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا﴾ [سبأ : 13].
الثاني: زعمُهُ أنَّ درجةَ الخواصِّ الشكرُ على النِّقَم: 
هذا لا يصحُّ؛ فإنه لم يأتِ في الكتابِ ولا في السُّنَّةِ تعلُّقُ الشكرِ بالنقم، وإنما الذي ورَد الحمدُ؛ فيقالُ: له الحَمْدُ على كلِّ حال، وأمَّا الشكرُ، فمتعلَّقُهُ النِّعَم، وشواهدُ هذا في القرآنِ كثيرة.
الثالث: قولُهُ في الدرجةِ الثالثةِ: «إنَّها درجةُ خواصِّ الخواصِّ»، وفسَّرها بأن يَغِيبَ عن النِّعْمةِ بمشاهَدةِ المُنعِم:
هذا مِن جنسِ ما تقدَّم في درجاتِ الذِّكْرِ عند المؤلِّف؛ حيثُ جعَل أعلى درجاتِ الذِّكْرِ الفناءَ، وهي أنْ يَغِيبَ باللهِ عن كلِّ ما سوى الله؛ حتى عن نَفْسِه. وتقدَّم أنَّ مقامَ الفناءِ ليس بكمالٍ، بل هو نقصٌ. ولم يأتِ في الكتابِ ولا في السُّنَّةِ مدحُه، بل الرسولُ صلى الله عليه وسلم - وهو أكمَلُ الخلقِ ذِكْرًا وعبوديَّة - لا يغيبُ وهو يصلِّي، بل يَسمَعُ بكاءَ الصبيِّ فيتجوَّزُ في صلاتِه، وخيرُ الهَدْيِ هَدْيُ محمَّد صلى الله عليه وسلم.
الرابع: ذكرُهُ الحكايةَ عن إبراهيمَ بنِ أدهَمَ، وفيها التحقيرُ للشكرِ على النِّعَم، وأنَّه أخلاقُ الكلابِ؛ فهذا ـ على فرضِ ثبوتِهِ ـ قبيح.

ن

قال ابنُ جُزَيٍّ -رحمه الله-: «الخامسة: قولنا: «الحمد لله رب العالمين» أفضل عند المحققين من: «لا إله إلَّا الله»؛ لوجهين: 
أحدهما: ما خرَّجه النسائي عن رسول الله ﷺ: «من قال: لا إله إلَّا الله كتبت له عشرون حسنة، ومن قال: الحمد لله رب العالمين كتبت له ثلاثون حسنة». 
والثاني: أنَّ التوحيد الذي يقتضيه «لا إله إلَّا الله» حاصل في قولك: «رب العالمين»، وزادت بقولك: «الحمد لله»، وفيه من المعاني ما قدَّمنا. 
وأما قوله ﷺ: «أفضل ما قلته أنا والنبيون من قبلي لا إله إلَّا الله»؛ فإنما ذلك للتوحيد الذي تقتضيه، وقد شاركتها «الحمد لله رب العالمين» في ذلك، وزادت عليها. وهذا المؤمنُ يقولها لطلب الثواب، وأما لمن دخل في الإسلام فيتعيَّن عليه «لا إله إلَّا الله».

ت
قوله: "قولنا: «الحمد لله رب العالمين» أفضل عند المحققين من: «لا إله إلَّا الله» " صريحٌ في تفضيل «الحمد لله رب العالمين» على «لا إله إلا الله»، وعزا ابن جزيٍّ هذا التفضيل إلى المحققين، ولم يذكر بعض أعيانهم، ومن أيِّ طائفة هم، فمجرد قوله: (عند المحققين) لا تكفي، وفي دعوى هذا التفضيل نظر، وأما الاستدلال عليها بالحديث الذي رواه النسائي: «ومن قال: الحمد لله رب العالمين كتبت له ثلاثون حسنة»(1)، فهو معارض بالحديث الذي ذكره، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: «خير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير»( 2)، فلا إله إلا الله كلمة التقوى، وهي كلمة التوحيد التي هي أصل دين الرسل، كما قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) [الأنبياء (25]، وهي مفتاح دعوتهم، ونبيُّنا صلى الله عليه وسلم منذ بعثه الله مكث عشر سنين بمكة لا يقول للناس: إلا قولوا: لا إله إلا الله، لم يأمرهم بشيء من الكلام غيرها، وهي الكلمة التي شهد الله بها لنفسه، وشهدت بها ملائكته وأولو العلم. 
وجواب المؤلف عن الحديث الذي ذكره بأن «الحمد لله رب العالمين» تدل على التوحيد وزيادة، فلا يسلَّم له؛ فإن غاية ما تدل عليه توحيد الربوبية الذي أقر به المشركون، لا على توحيد الإلهية الذي دعت إليه الرسل وأنكره المشركون، ولقد فرق الله بين الرب والإله بقوله: (بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلَهِ النَّاسِ (3)) [الناس:1-3]،  والربُّ هو الخالق المالك المدبِّر، والإله هو المعبود.
وكلمة توحيد الإلهية لا يحصَى ذكرها في القرآن؛ تارة بالاسم الظاهر: لا إله إلا الله، وتارة بضمير الغائب: لا إله إلا هو، وتارة بضمير المتكلم: لا إله إلا أنا، وتارة بضمير الخطاب كما في دعاء يونس عليه السلام: لا إله أنت(3)، وبكلمة التوحيد لا إله إلا الله كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو في الكرب: «لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب السموات والأرض، ورب العرش العظيم»(4)، وجاء في فضل كلمة التوحيد أحاديث كثيرة، كقوله صلى الله عليه وسلم: «من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير في يوم مئة مرة، كانت له عدل عشر رقاب، وكتب له مئة حسنة، ومحيت عنه مئة سيئة، وكانت له حرزا من الشيطان، يومه ذلك حتى يمسي، ولم يأت أحد بأفضل مما جاء إلا رجل عمل أكثر منه»(5).
فهذه الفضائل لا يقاومها حديث: «من قال: الحمد لله رب العالمين كتبت له ثلاثون حسنة»؛ فلا بد من تأويله، ولعل هذا التفضيل لأمر قام بقلب الذاكر لقوله: «من قبل نفسه».
ويقال أيضا: إن هذا الحديث قد روي عن كعب من قوله، ونقل ابن رجب في شرح الأربعين عن بعض أهل العلم أن الموقوف أصح من المرفوع(6). ثم وقفت ـ أخيرًا ـ على كلام للحافظ أبي بكر ابن العربي في كتابه المسالك في شرح موطأ مالك أفاض فيه في الكلام على المسألة، وذكر أن أكثر العلماء على أن كلمة التوحيد أفضل من الحمد لله، فيحسن مراجعة كلامه(7).
وبعد: فالذي ظهر لي أن الصحيح ما دلَّت عليه الأحاديث المستفيضة في فضل لا إله إلا الله، مع ما تقدم من الوجوه، فكلمة التوحيد هي أول الأمر وآخره، وعليها مدار الخلق والأمر، فلا يعدلها شيء من كلمات الذكر، فضلا عن أن يكون أفضل منها. والله أعلم.

ن 
قال ابنُ جُزَيٍّ -رحمه الله-: «الحاديةُ عشرة: (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)؛ أي: نطلب العون منك على العبادة وعلى جميع أمورنا. 
وفي هذا دليلٌ على بطلان قول القدرية والجبرية، وأنَّ الحق بين ذلك»(8).

ت
قول المفسِّر صحيح؛ فإن قوله تعالى: (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِين) فيه الردُّ على القدرية لأنهم ينفون قدرة الله على فعل العبد ومشيئته له، وعلى قولهم فلا معنى للاستعانة به؛ لأن الاستعانة إنما تكون بالقادر لا بالعاجز، وفي قوله تعالى: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) ردٌّ على الجبرية الذين ينفون فعل العبد، بل ينفون قدرته على أفعاله، وفي الآية إسناد فعل العبادة إلى العبد، وهي أجلُّ ما يفعله، فدلَّت الجملتان في الآية على توحيد الربوبية والإلهية، فتوحيد الربوبية يقتضي التوحيد في الاستعانة، وتوحيد الإلهية يقتضي توحيد العبادة، فهو سبحانه المعبود، وهو المستعان، وبهذا جمعت هذه الآية حظَّ العبد وحقَّ الرب. والله أعلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1-  - أخرجه أحمد (8012)، والنسائي في الكبرى (10608) من طريق عبد الرحمن بن مهدي، عن إسرائيل، عن ضرار بن مرة، عن أبي صالح الحنفي، عن أبي هريرة، وأبي سعيد الخدري، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله اصطفى من الكلام أربعًا: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، فمن قال: سبحان الله، كتب له عشرون حسنة، وحطت عنه عشرون سيئة، ومن قال: الله أكبر فمثل ذلك، ومن قال: لا إله إلا الله فمثل ذلك، ومن قال: الحمد لله رب العالمين من قبل نفسه كتب له ثلاثون حسنة وحطت عنه ثلاثون سيئة ". وأخرجه ابن أبي شيبة (29827) عن مصعب بن المقدام، والحاكم (1886) من طريق مالك بن إسماعيل، كلاهما عن إسرائيل، به. وقال الحاكم «هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه». وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (1554).
2- أخرجه أحمد (6961)، والترمذي (3585) من طريق حماد بن أبي حُميد، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، به. قال الترمذي:  "هذا حديث غريب من هذا الوجه، وحماد بن أبي حُميد هو محمد بن أبي حُميد، وهو أبو إبراهيم الأنصاري المديني، وليس هو بالقوي عند أهل الحديث".  وينظر الميزان (2244). وله شاهد مرسل من حديث طلحة بين عبيد الله بن كريز: أخرجه مالك في الموطأ (2/ 300، برقم 726/ 239) -ومن طريقه البيهقي في سننه الكبير (4/ 470، برقم 8391)، وعبد الرزاق في المصنف (4 / 378، برقم 8125)، من طريق زياد بن أبي زياد ميسرة المخزومي المدني، عن طلحة بن عبيد الله بن كريز مرسلًا. وهذا إسناد مرسل صحيح. وللحديث شاهد آخر من حديث علي: أخرجه الطبراني في الدعاء (874) من طريق قيس بن الربيع، عن الأغر بن الصباح، عن خليفة بن حصين، عن علي مرفوعًا. وفي إسناده قيس بن الربيع، قال الذهبي: "أحد أوعية العلم،صدوق في نفسه، سيئ الحفظ". الميزان (6911)، فحديثه يصلح للمتابعات والشواهد. وجملة القول: أن الحديث حسن بمجموع هذه الشواهد، والله أعلم. وينظر: الصحيحة برقم (1503).
3- ينظر: شرح كلمة الإخلاص لشيخنا (ص129).
4- أخرجه البخاري (6345)، ومسلم (2730) عن ابن عباس -رضي الله عنهما- واللفظ للبخاري.
5- أخرجه البخاري (6403)، ومسلم (2691) عن أبي هريرة -رضي الله عنه- واللفظ للبخاري.
6- جامع العلوم والحكم (2/21).
7- المسالك في شرح موطأ مالك (3/469-471).
8- "التسهيل" (1/256).
اقرأ المزيد...

الثلاثاء، 24 يونيو 2025

فوائد سورة المرسلات (١-١٥)



 
🔹فوائد عامة في سورة المرسلات
● عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إن أم الفضل بنت الحارث سمعته وهو يقرأ: (والمرسلات عرفا)، فقالت: يا بني لقد ذكرتني بقراءتك هذه السورة. إنها لآخر ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بها في المغرب». صحيح البخاري (١) (١٥٢) ، صحیح مسلم (۱) ۳۳۸).

● عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غار، وقد أُنزلت عليه: (والمرسلات عرفا)، فنحن نأخذها من فِيه رطبة، إذ خرجت علينا حية، فقال: "اقتلوها" فابتدرناها لنقتلها فسبقتنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وقاها الله شركم كما وقاكم شرها.) صحيح البخاري (۳) ١٤)، «صحیح مسلم (٤ / ١٧٥٥).

● عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من قرأ منكم بـ (والتين والزيتون) فانتهى إلى آخرها (أليس الله بأحكم الحاكمين) فليقل: بلى، وأنا على ذلك من الشاهدين.
ومن قرأ: (لا أقسم بيوم القيامة) فانتهى إلى (أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى) فليقل: بلى،
ومن قرأ: (والمرسلات) فبلغ (فبأي حديث بعده يؤمنون) فليقل : آمنا بالله". سنن أبي داود (٢ / ١٦٣)، (مسند أحمد» (١٢) .(٣٥٣

(والمرسلات عرفًا * فالعاصفات عصفًا * والناشرات نشرا * فالفارقات فرقا * فالملقيات ذكرا)
🔘 قال ابن تيمية : اسم الملائكة والمَلك يتضمن أنهم رسل الله، كما قال تعالى: (جاعل الملائكة رسلا)، وكما قال: (والمرسلات عرفا) فالملائكة رسل الله في تنفيذ أمره الكوني الذي يدبر به السموات والأرض كما قال تعالى: (حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون)، وكما قال: (بلى ورسلنا لديهم يكتبون)، وأمره الديني الذي تنزل به الملائكة فإنه قال: (ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده)، وقال تعالى: (وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء إنه علي حكيم)، وقال تعالى: (الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس)" مجموع الفتاوى (٤ / ١١٩)

🔘وقال ابن تيمية: «الملائكة يُقرّ بها عامة الأمم، كما ذكر الله عن قوم نوح وعاد وثمود وفرعون مع شركهم وتكذيبهم بالرسل أنهم كانوا يعرفون الملائكة. قال قوم نوح: (ما هذا إلا بشر مثلكم يريد أن يتفضل عليكم ولو شاء الله لأنزل ملائكة)، وقال تعالى: (أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود إذ جاءتهم الرسل من بين أيديهم ومن خلفهم ألا تعبدوا إلا الله قالوا لو شاء ربنا لأنزل ملائكة)
وقال فرعون: (أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين* فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب أو جاء معه الملائكة مقترنين) وكذلك مشركو العرب، قال تعالى: (وقالوا لولا أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر ثم لا ينظرون)، وقال تعالى: (وقالوا مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا) ، وقال تعالى عن الأمم مطلقا : (وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا* قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا) فكانت هذه الأمم المكذبة للرسل المشركة بالرب مُقرة بالله وبملائكته فكيف بمن سواهم!! فعلم أن الإقرار بالرب وملائكته معروف عند عامة الأمم؛ فلهذا لم يقسم عليه، وإنما أقسم على التوحيد لأن أكثرهم مشركون».ا.هـ مجموع الفتاوی (۱۳/ ۳۱۹).
✔️والمراد : أن الله لم يُقسم لإثبات وجود الملائكة وإنما أقسم بهم سبحانه على أمور أخرى مما أراد سبحانه أن يؤكدها.

 وقال ابن القيم: "الملائكة موكلة بالعالم العلوي والسفلي، تدبره بأمر الله عز وجل كما قال تعالى: (فالمدبرات أمرا)، وقال (فالمقسمات أمرا)، وقال تعالى: (والمرسلات عرفا* فالعاصفات عصفا* والناشرات نشرا* فالفارقات فرقا* فالملقيات ذكرا)
وقال: (والنازعات غرقا * والناشطات نشطا* والسابحات سبحا * فالسابقات سبقا* فالمدبرات أمرا) ». روضة المحبين ونزهة المشتاقين» (ص ۸۹).

وقال الألوسي: «قيل: أقسم سبحانه بمن اختاره من الملائكة عليهم السلام على ما أخرجه عبد بن حميد عن مجاهد، فقيل: المرسلات والعاصفات طوائف، والناشرات والفارقات والملقيات طوائف أخرى.
فالأولى: طوائف أرسلن بأمره تعالى وأمرن بإنفاذه، فعصفن في المُضي وأسر عن كما تعصف الريح تخففا في امتثال الأمر وإيقاع العذاب بالكفرة إنقاذا للأنبياء عليهم السلام ونصرة لهم.
والثانية: طوائف نشرن أجنحتهن في الجو عند انحطاطهن بالوحي، ففرقن بين الحق والباطل، فألقين ذكرا إلى الأنبياء عليهم السلام » تفسير الألوسي (١٥ / ١٨٨).
✔️والمراد: أن النوع الأول من الملائكة موكلون بأمر الله الكوني القدري ، والنوع الثاني موكلين بأمره الشرعي. والله تعالى أعلم.

💬 وقال ابن عاشور بعد أن ذكر خلاف العلماء في المُقسم بهم في هذه الآيات قال: "ويتحصل من هذا أن الله أقسم بجنسين من مخلوقاته العظيمة، مثل قوله: {والسماء ذات البروج* واليوم الموعود) ومثله تكرر في القرآن. ويتجه في توزيعها أن الصفات التي عطفت بالفاء تابعة لجنس ما عطفت هي عليه، والتي عطفت بالواو يترجح أنها صفات لجنس آخر. فالأرجح أن المرسلات والعاصفات صفتان للرياح، وأن ما بعدها صفات للملائكة، والواو الثانية للعطف، وليست حرف قسم. ومناسبة الجمع بين هذين الجنسين في القسم: أن كليهما من الموجودات العلوية؛ لأن الأصل في العطف بالواو أن يكون المعطوف بها ذاتا غير المعطوف عليه. وما جاء بخلاف ذلك فهو خلاف الأصل. التحرير والتنوير» (٢٩ / ٤٢٠).
✔️يعني رحمه الله: أن العطف بالواو يقتضي المغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه. وهذا هو الأصل، وما جاء بخلاف الأصل فهو قليل ونادر.

▪️(عذرا أو نذرا):
قال ابن القيم: «قال تعالى: (فالملقيات ذكرا* عذرا أو نذرا) فإنه من تمام عدله وإحسانه أن أعذر إلى عبيده، ولم يأخذ ظالمهم إلا بعد كمال الإعذار وإقامة الحجة». مدارج السالكين» (۱) ۲۸۲).

▪️(إنما توعدون لواقع)
قال القرطبي: (إنما توعدون لواقع) هذا جواب ما تقدم من القسم، أي ما توعدون من أمر القيامة لواقع بكم ونازل عليكم». الجامع لأحكام القرآن» (١٩/ ١٥٦).

▪️(فإذا النجوم طمست)
قال القرطبي: (فإذا النجوم طمست) أي ذهب ضوؤها ومحي نورها كطمس الكتاب، يقال: طمس الشيء إذا دُرس وطُمس فهو مطموس، والريح تطمس الآثار، فتكون الريح طامسة، والأثر طامسا بمعنى مطموس». «الجامع لأحكام القرآن» (١٩/ ١٥٧).

▪️(وإذا الرسل أقتت)
قال البغوي: (وإذا الرسل أقتت)
● قرأ أهل البصرة (وقتت) بالواو
● وقرأ أبو جعفر بالواو وتخفيف القاف
● وقرأ الآخرون بالألف وتشديد القاف (أُقّتت)
وهما لغتان والعرب تعاقب بين الواو والهمزة
-أي تستخدم هذا مكان هذا، وهذا مكان هذا- كقولهم: وكدتُ وأكدت، و ورَّخت وأَرخت ومعناهما أي (وقتت) و (أُقّتت) جُمعت لميقات يوم معلوم وهو يوم القيامة ليشهدوا على الأمم». «تفسير البغوي (٣٠٥/٨).

▪️( ويل يومئذ للمكذبين)
قال القرطبي: "وكرره في هذه السورة عند كل آية لمن كذب لأنه قسمه بينهم على قدر تكذيبهم، فإن لكل مكذب بشيء عذابا سوى تكذيبه بشيء آخر، ورب شيء كذب به هو أعظم جرما من تكذيبه بغيره، لأنه أقبح في تكذيبه، وأعظم في الرد على الله، فإنما يُقسم له من الويل على قدر ذلك". الجامع لأحكام القرآن» (١٩/ ١٥٨).
✔️ومراده: أن تكرار هذه الآية في هذه السورة يراد بها أن أنواع العذاب التي يُعذب بها المكذبون مختلفة متنوعة باختلاف تكذيبهم وما كذبوا به.
اقرأ المزيد...

التعليق على تفسير سورة المرسلات (١-١٥)


 بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد: فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته وحياكم الله في هذه الفقرة المتعلقة بالتعليق على تفسير الآيات من سورة المرسلات من الآية الأولى وحتى الآية الخامسة عشرة من المختصر في تفسير القرآن الكريم، نعم.

ن/ سورة المرسلات مكية
 من مقاصد السورة الوعيد للمكذبين بالويل يوم القيامة. 
ت/ نعم، من مقاصد سورة المرسلات الوعيد للمكذبين بالويل يوم القيامة وذلك أنه تكرر في هذه السورة قوله تعالى (ويل يومئذ للمكذبين) وتضمنت السورة في طياتها بيان أصناف العذاب الذي يحصل للمكذبين يوم القيامة. نعم

ن/ قال الله تعالى (والمرسلات عرفا) أي أقسم الله بالرياح المتتابعة مثل عرف الفرس. 
ت / قال تعالى (والمرسلات عرفا) هذا قسم بالرياح المتتابعة التي تأتي إثر بعضها. عرفا: يعني مثل عرف الفرس. وقيل في معنى هذه الآية: أن المراد القسم بالملائكة التي تنزل بالوحي الذي هو من الأمر المعروف غير المنكر، والله أعلم. نعم

ن/ ثم قال تعالى (فالعاصفات عصفا) أي وأقسم بالرياح الشديدة الهبوب. 
ت/  نعم، (فالعاصفات عصفا) هذا عطف على القسم الأول، والمراد بالعاصفات الرياح شديدة الهبوب. وعلى تفسير القسم الأول بالملائكة يكون المراد بالعاصفات هنا الملائكة الذين يبادرون لتنفيذ أوامر الله، كالريح العاصفة، نعم.

ن/ ثم قال تعالى (والناشرات نشرا) أي: وأقسم بالرياح التي تنشر المطر. 
ت/ نعم، قال (والناشرات نشرا) هنا اختلف العلماء هل هو قسم بالرياح أو بالملائكة؟ كما اختلفوا في الآيات الأولى والأظهر أن المراد بالناشرات هنا الملائكة فيكون معنى (والناشرات نشرا) والملائكة الموكلين بنشر السحب وسوقها، ويدل لذلك أن ما بعده في قوله تعالى (فالفارقات فرقا) عطف على هذا القسم، ثم قال (فالملقيات ذكرا) والذين يلقون الذكر هم الملائكة، فما عطف عليه يراد به الملائكة أيضا، والله تعالى أعلم

ن/ ثم قال تعالى (فالفارقات فرقا) أي: وأقسم بالملائكة التي تنزل بما يفرق بين الحق والباطل. 
ت / نعم، قال (فالفارقات فرقا) قالوا في التفسير: "وأقسم بالملائكة" وهنا ينبغي التنبه إلى أن الفاء ليست من حروف القسم، فحروف القسم هي الواو، والباء، والتاء وأضاف بعضهم اللام، فالفاء ليست من حروف القسم، وإنما يعطف بها، فقوله تعالى (فالفارقات فرقا) معطوف على القسم الذي قبله فلا يمكن التفريق بينه وبين قوله (والناشرات نشرا) بأن الناشرات الرياح والفارقات الملائكة، بل المراد بهما الملائكة. والله تعالى أعلم. نعم

ن/ ثم قال تعالى (فالملقيات ذكرا) أي وأقسم بالملائكة التي تنزل بالوحي. 
ت / (فالملقيات ذكرا) عطف على القسم السابق، وهو إقسام بالملائكة التي تلقي وحي الله وذكره إلى الرسل عليهم السلام، نعم.

ن/ ثم قال تعالى (عذرا أو نذرا) أي: تنزل بالوحي إعذارا من الله إلى الناس، وإنذارا للناس من عذاب الله. 
ت/ نعم، قال (عذرا أو نذرا) يعني أن الملائكة تلقي الوحي إلى الرسل ليكون هذا الوحي إعذارا من الله إلى الناس، وإقامة للحجة عليهم. وإنذارا لهم من عذاب الله. نعم

ن/ ثم قال تعالى (إنما توعدون لواقع) أي: إن الذي توعدون به من البعث والحساب والجزاء لواقع لا محالة. 
ت / ثم قال (إنما توعدون لواقع) هذا جواب القسم السابق في الآية سواء قلنا إنه قسم واحد بالملائكة فقط، أو قسم بالرياح في الآيتين الأولتين ثم قسم بالملائكة في باقي الآيات، فهذا جواب القسمين، قال (إنما توعدون لواقع) الذي يوعدون به من البعث والحساب والجزاء واقع لا محالة، نعم.

ن / ثم قال تعالى (فإذا النجوم طمست) أي: فإذا النجوم مُحي نورها، وذهب ضوؤها.
ت / بدأ هنا بذكر أهوال يوم القيامة قال: (فإذا النجوم طمست) أي: ذهب ضوؤها ونورها، كما قال تعالى (وإذا نجوم انكدرت) نعم

ن / ثم قال تعالى (وإذا السماء فرجت) أي: وإذا السماء شُقت لتنزل الملائكة منها.
ت / نعم، قال (وإذا السماء فرجت) أي شقت وتصدعت كما قال تعالى (إذا السماء انفطرت) وقال (إذا السماء انشقت) نعم

ن / ثم قال تعالى (وإذا الجبال نسفت) أي: وإذا الجبال اقتلعت من مكانها ففتت حتى تصير هباء.
ت / نعم، قال (وإذا الجبال نسفت) أي: سُيرت وكانت سرابا وهباء وكالعهن أي الصوف المنفوش، كما قال تعالى (ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفا * فيذرها قاعا صفصفا* لا ترى فيها عوجا ولا أمتا) ، وقال (وتكون الجبال كالعهن المنفوش) ، وقال (وسيرت الجبال فكانت سرابا)

ن/ ثم قال تعالى (وإذا الرسل أقتت) أي: وإذا الرسل جمعت لوقت محدد.
ت / نعم، قال (وإذا الرسل أقتت) أي: جعل لها وقت محدد تُجمع فيه لفصل القضاء بينهم وبين من كذبهم من أممهم.

ن / ثم قال تعالى (لأي يوم أجلت) أي: ليوم عظيم أجلت للشهادة على أممها.
ت / نعم، هنا سؤال لأي يوم أجلت؟ يعني الرسل، والمعنى: أنها أُخرت ليوم عظيم تشهد فيه على أممها.

ن / ثم قال تعالى (ليوم الفصل) أي: ليوم الفصل بين العباد، فيتبين المحق من المبطل، والسعيد من الشقي. نسأل الله من فضله.
ت / نعم، قال (ليوم الفصل) يعني أنها أُجلت وأُخرت ليوم الفصل وهو يوم القيامة الذي يقضي الله فيه بين الخلائق، ويفصل فيه بين الحق والباطل، فيتبين المحق من المبطل، والسعيد من الشقي. نسأل الله من فضله، نعم

ن / ثم قال تعالى (وما أدراك ما يوم الفصل) أي: وما أعلمك أيها الرسول ما يوم الفصل؟ 
ت / نعم، قال (وما أدراك ما يوم الفصل) أي وما أعلمك أيها الرسول أو أيها الإنسان ما يوم الفصل. وهذا أسلوب تعظيم لذلك اليوم

ن / ثم قال تعالى (ويل يومئذ للمكذبين) أي هلاك وعذاب وخسران في ذلك اليوم للمكذبين الذين يكذبون بما جاءت به الرسل من عند الله.
ت / نعم، قال (ويل يومئذ للمكذبين) يعني هلاك شديد وعذاب أليم في يوم الفصل لمن يكذبون بما جاءت به الرسل من عند الله سبحانه وتعالى، نسأل الله السلامة والعافية.




من فوائد الآيات:
ن / خطر التعلق بالدنيا ونسيان الآخرة.

ت / نعم، من فوائد الآيات خطر التعلق بالدنيا ونسيان الآخرة وذلك أن ما يوعد الناس له يوم القيامة واقع لا محالة كما أقسم الله على ذلك ثم قال (إنما توعدون لواقع) أي فيجب أن تستعدوا لذلك اليوم بالأعمال الصالحات. ثم بين أهوال ذلك اليوم العظيم وأن الله سيفصل فيه بين أهل الحق وأهل الباطل فلا بد من التعلق بالآخرة وعدم التعلق بالدنيا. والله المستعان. 

هذا آخر ما في هذا المقطع، أسأل الله سبحانه وتعالى أن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا وأن يزيدنا علما وعملا وهدى وتقاى، والله تعالى أعلم صلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

د. أبصار الإسلام


اقرأ المزيد...

الجمعة، 20 يونيو 2025

البسملة/ قوله "الثامنة: الرحمن الرحيم صفتان من الرحمة...

 ن

قال ابن جُزيٍّ:  "الثامنة: الرحمن الرحيم صفتان من الرحم ومعناهما الإحسان فهي صفة فعل وقيل: إرادة الإحسان، فهي صفة ذات"

ت 
قولُه: «ومعناهما: الإحسانُ ...» إلخ: هذا يتضمَّنُ تفسيرَ الرحمةِ: إمَّا بالإحسان، أو بإرادةِ الإحسان.
قال: «والإحسانُ صفةُ فعلٍ»، والذين يقولون هذا يريدونَ: ما يخلُقُهُ اللهُ مِن النِّعَم؛ فالرحمةُ -إِذَنْ- عبارةٌ عن مخلوقاتِهِ سبحانه، وإن سمَّوْهَا: «صفةَ فعلٍ»، فهو غلَطٌ في العقل؛ فإنَّ المفعولَ لا يكونُ صفةً للفاعلِ، بل أثَرُ فِعْلِه، وهم لا يُثبِتُونَ فعلًا يقومُ بالفاعلِ بمشيئتِه؛ فليس عندهم إلا فاعلٌ ومفعول. وقد يفسِّرون «الرحمةَ»: بإرادةِ الإحسانِ؛ وعليه فهي صفةٌ ذاتيَّةٌ؛ كما قال المؤلِّف؛ أي: أنَّها قائمةٌ بذاتِهِ تعالى. وكلٌّ من التفسيرَيْنِ فيه صرفٌ للَّفْظِ عن ظاهرِه؛ فإنَّ الرحمةَ لها معنى يقابِلُ الغضَبَ كما جاء في الحديثِ القُدْسيِّ: «إِنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي». قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة في "العقيدة التدمريَّة" في الذين ينفُون صفةَ الرحمةِ والمحبَّةِ، والغضَبِ والرضا: «إنَّهم يفسِّرونَ ذلك: إمَّا بالإرادةِ، وإمَّا ببعضِ المفعولاتِ مِن النِّعَمِ والعُقُوبات». اهـ.
وعليه: فالواجبُ إثباتُ الرحمةِ صفةً للهِ حقيقةً، وتفسيرُها بالإحسانِ تفسيرٌ لها بأَثَرِها.
والرحمةُ في صفاتِ اللهِ نوعانِ:
-صفةٌ ذاتيَّةٌ.
-وصفةٌ فعليَّةٌ.
وذهَبَ ابن القيِّم: إلى أنَّ الصفةَ الذاتيَّةَ مدلولُ اسمِهِ الرحمنِ، والفعليَّةَ مدلولُ اسمِهِ الرحيمِ.
وينبغي أنْ يُعلَمَ أنَّ الرحمةَ المضافةَ إلى الله نوعان:
- نوعٌ هو صفةٌ له سبحانه ذاتيَّةً أو فعليَّةً، كما تقدَّم، وإضافتُها إليه مِن إضافةِ الصفةِ إلى الموصوفِ، وهي مدلولُ الاسمَيْنِ الشريفَيْن الرَّحمنِ الرحيمِ؛ ومِن هذا النوعِ: قولُ سليمانَ عليه السلامُ متوسِّلًا: ﴿وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ﴾ [النمل: 19].
- والنوعُ الثاني: رحمةٌ مخلوقةٌ، وإضافَتُها إلى الله مِن إضافةِ المخلوقِ إلى خالقِهِ؛ ومِن ذلك قولُه تعالى: ﴿فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللهِ﴾ [الروم: 50]، فالرحمةُ هنا المَطَرُ، وقولُه تعالى: ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [آل عمران: 107]، والرحمةُ هنا الجَنَّةُ، وفي الحديثِ القدسيِّ: أنَّ اللهَ قال للجَنَّةِ: «أَنْتِ رَحْمَتِي؛ أَرْحَمُ بِكِ مَنْ أَشَاءَ»، والله أعلم.

ن
قال ابنُ جُزَيٍّ -رحمه الله-: "العاشرة إنما قدّم الرحمن لوجهين: اختصاصه بالله، وجريانه مجرى الأسماء التي ليست بصفات"
ت
تقديم اسم الرحمن على الرحيم في الآيات يرجع إلى الفرق بين الاسمين، وكلُّ ما قيل في الفرق بينهما يقتضي تقديم الرحمن، وقول المفسِّر: "وجريانه مجرى الأسماء التي ليست بصفات" معناه: أن مِن أسماء الله ما هو علم محضٌ، لا يدل على صفة، والصواب أن كلَّ اسم من أسماء الله يدل على صفة، فهو علم وصفة؛ علم يدل على ذات الرب وصفة من صفاته، فهو علم وصفة، وليس من أسماء الله ما هو علم محض، فتدبَّر.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
التعليقات على المسائل العَقَديَّة في كتاب التسهيل لعلوم التنزيل لابن جزي
 عبد الرحمن بن ناصر البرَّاك




اقرأ المزيد...

الثلاثاء، 17 يونيو 2025

الدرس الأربعون |    تفسير سورة البقرة: من الآية (٢٨) (كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا..  

 تفسير سورة البقرة: من الآية (٢٨) (كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا…) 



الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللمسلمين والمسلمات، أما بعد:
📖 فيقول الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله: "ثم قال تعالى (كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون) هذا استفهام بمعنى التعجب والتوبيخ والإنكار، أي كيف يحصل منكم الكفر بالله الذي خلقكم من العدم وأنعم عليكم بأصناف النعم، ثم يميتكم عند استكمال آجالكم ويجازيكم في القبور، ثم يحييكم بعد البعث والنشور، ثم إليه ترجعون فيجازيكم الجزاء الأوفى، فإذا كنتم في تصرفه وتدبيره وبِره وتحت أوامره الدينية، ومن بعد ذلك تحت دينه الجزائي، أفيليق بكم أن تكفروا به؟ وهل هذا إلا جهل عظيم، وسفه كبير، بل الذي يليق بكم أن تتقوه وتشكروه، وتؤمنوا به، وتخافوا عذابه، وترجوا ثوابه.
🎙بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علما، وأصلح لنا، إلهنا شأننا كله ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين أما بعد:
 قول الله جل وعلا (كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون)
 هذه الآية فيها ذكر البراهين البينات والدلائل الواضحات على وجوب الإيمان بالله سبحانه وتعالى وأداء حقوقه على عباده جل وعلا. وعدم الكفر به، فهي آيات بينات ظاهرات لمن تأملها، وهي مذكورة في هذه الآية قال (كيف تكفرون بالله) أي لا عذر لأحدكم في الكفر والحجج أمامكم ظاهرة وبينة، وذكر أربعة براهين في هذه الآية مثل ما تقدم معنا في قوله جل وعلا (يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون * الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم) هذه كم؟ أربعة، ذكر أربع براهين، وهنا كذلك  ذكر أربعة براهين قال: (كيف تكفرون بالله) أي لا عذر لأحدكم في الكفر بالله سبحانه وتعالى وأنتم تعاينون البراهين الواضحة، والدلائل الساطعة على وجوب الإيمان به وعدم الكفر به سبحانه وتعالى، (وكنتم أمواتا) هذا الأول، (فأحياكم) هذا الثاني، (ثم يميتكم) هذا الثالث، (ثم يحييكم ثم إليه ترجعون) فذكر سبحانه وتعالى برهانا على وجوب الإيمان به والتحذير من الكفر به ذكر موتتين وحياتين، موتتين لهذا العبد وحياتين، وهما دالتان على عظمة الله عز وجل وكمال تدبيره، وأن الخلق طوع تدبيره سبحانه وتعالى. وأن الخلق خلقه جل وعلا أوجدهم من العدم، أحياهم بعد الإماتة وبعد هذه الحياة التي يعيشونها يميتهم ثم يحييهم، وهذه البراهين الأربعة المذكورة ثلاثة منها مشاهدة وواحد منتظر.
مشاهدة للعالمين قال (كنتم أمواتا) أي لم تكونوا شيئا مذكورا قبل وجودكم في هذه الحياة الدنيا لم تكونوا شيئا مذكورا، وكنتم في أصلاب آبائكم، ثم كنتم نطفة ثم علقة، ثم بعد ذلك أحياكم، وبدأت الحياة في رحم الأم عندما ينفخ فيه الروح يُرسل الله جل وعلا ملك فينفخ فيه الروح، يخرج إلى هذه الدنيا حيا، كان حيا في بطن أمه، هذه كلها يتناولها قوله (فأحياكم)، ثم يعيش في هذه الحياة الدنيا ما كتب الله له، منهم من يعيش في هذه الدنيا ثواني بعد خروجه بطن أمه، أو ساعات أو أيام، ومنهم من يُعمّر (ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكي لا يعلم من بعد علم شيئا)، ثم يميتكم بعد هذه الحياة، والناس يرون في أيامهم ولياليهم فلان مات والده، فلان ماتت والدته، فلان مات أخوه، فلان مات جاره، ويُصلون على الأموات، ويشاهدون الأموات (ثم يميتكم) هذه كلها ثلاث مشاهدة في هذا العالم، (ثم يحييكم) الذي هو البعث بعد الموت، ولهذا فإن هذه الآية كما أنها دليل على وجوب توحيد الله والإيمان به وعدم الكفر به سبحانه وتعالى، فهي أيضا دليل على البعث لأن الذي أوجدهم من العدم، لم يكونوا شيئا مذكورا قادر على إحيائهم بعد الموت، وبعثهم بعد الموت.. 
قال (كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه تُرجعون) وفي قراءة (تَرجِعون)
ذكر الله سبحانه وتعالى ثلاثة أمور مشهودة في هذا العالم، والرابع منتظر موعود به وهو في قوله (ثم يحييكم)، قال الإمام ابن القيم -رحمه الله تعالى-: "فما بال العاقل يشاهد الثلاثة الأطوار الأُول ويكذب بالرابع؟ وهل الرابع إلا طور من أطوار التخليق" يعني التي يشاهدونها ويعاينونها هذا من أكبر البراهين وإقامة الحجة على من ينكر البعث ويكفر بالله سبحانه وتعالى ولهذا صُدرت الآية بهذا الاستفهام (كيف تكفرون) وهواستفهام توبيخ وإنكار، كيف تكفرون والحال أن الحجة ظاهرة بيّنة ساطعة أمامكم؟! فكما تقدم ذكر الله جل وعلا في الآية موتتين وحياتين، فتكون مثل الآية التي في سورة غافر (قالوا أمتنا اثنتين واحييتنا اثنتين فاعترفنا بذنوبنا) موتتين المقصود بالأولى ما قبل الوجود في هذه الحياة الدنيا، والموتة الثانية عند انقضاء الأجل في هذه الحياة الدنيا، والحياتين الحياة التي في الدنيا، والحياة التي بعد الموت بعد البعث.
 قال الشيخ رحمه الله تعالى: "هذا استفهام - أي قوله (كيف تكفرون) - هذا استفهام بمعنى التعجب والتوبيخ والإنكار، أي كيف يحصل منكم الكفر بالله الذي خلقكم من العدم وأنعم عليكم بأصناف النعم"، خلقكم من العدم هذا البرهان الأول، وأنعم عليكم بأصناف النعم لو قيل قبلها فأحياكم وأنعم عليكم بأصناف النعم، هذا البرهان الثاني، "ثم يميتكم عند استكمال آجالكم" ثم يميتكم هذا الثالث، "ويجازيكم في القبور"، الرابع قال "ثم يحييكم بعد البعث والنشور ثم إليه ترجعون فيجازيكم الجزاء الأوفى" أي التام على الأعمال كلها حسنها، وسيئها (ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى)، (لتجزى كل نفس بما تسعى) قال: "فيجازيكم الجزاء الأوفى فإذا كنتم في تصرفه وتدبيره وبره، وتحت أوامره الدينية - يعني في هذه الحياة الدنيا - وبعد ذلك - يعني بعد البعث تحت دينه الجزائي - ثم إليه ترجعون فيجازيكم ثم بعد ذلك تحت دينه الجزائي أفيليق بكم أن تكفروا به والحجة ظاهرة أمامكم بيّنة، أفيليق بكم أن تكفروا به، وهل هذا إلا جهل عظيم وسفه كبير، بل الذي يليق بكم أن تتقوه وتشكروه وتؤمنوا به، وتخافوا عذابه، وترجو ثوابه" في الأثر عن ابن عباس رضي الله عنهما أشرت إلى أن الآية ذكر فيها موتتان وحياتان، وأنها نظير قوله تعالى في سورة غافر (قالوا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين) جاء في الأثر عن ابن عباس رضي الله عنهما في قول الله تعالى (ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين) في سورة غافر، قال المعنى: كنتم ترابا قبل أن يخلقكم فهذه ميتة، ثم أحياكم فخلقكم فهذه حياة، ثم يميتكم فترجعون إلى القبور فهذه ميتة أخرى، ثم يبعثكم يوم القيامة فهذه حياة، فهما ميتتان وحياتان، فهو قوله سبحانه وتعالى (كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون) فجعل الآيتين متماثلتين في تقرير الموتتين والحياتين. نعم.

📖 قال رحمه الله: " (هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا) أي خلق لكم برا بكم ورحمة جميع ما على الأرض للانتفاع والاستمتاع والاعتبار، وفي هذه الآية الكريمة دليل على أن الأصل في الأشياء الإباحة والطهارة، لأنها سيقت في معرض الامتنان، يخرج بذلك الخبائث فإن تحريمها أيضا يؤخذ من فحوى الآية وبيان المقصود منها وأنه خلقها لنفعنا فما فيه ضرر فهو خارج من ذلك، ومن تمام نعمته منعنا من الخبائث تنزيها لنا. وقوله (ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات وهو بكل شيء عليم) (استوى) ترِد في القرآن على ثلاثة معان:
/ فتارة لا تُعدَ بالحرف فيكون معناها الكمال والتمام، كما في قوله تعالى عن موسى (ولما بلغ أشده واستوى)
/ وتارة تكون بمعنى علا وارتفع، وذلك إذا عُديت بـ على كقوله تعالى (الرحمن على العرش استوى)، وقوله (لتستوا على ظهوره)
/ وتارة تكون بمعنى قصد، كما إذا عُديت بـ إلى كما في هذه الآية، أي لما خلق تعالى الأرض قصد إلى خلق السماوات، فسواهن سبع سماوات فخلقها وأحكمها وأتقنها، (وهو بكل شيء عليم) فيعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها، وما ينزل من السماء وما يعرج فيها، ويعلم ما تسرون وما تعلنون، ويعلم السر وأخفى، وكثيرا ما يقرن بين خلقه للخلق وإثبات علمه كما في هذه الآية، وكما في قوله تعالى (ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير) لأن خلقه للمخلوقات أدل دليل على علمه وحكمته وقدرته"..
🎙ثم أورد رحمه الله تعالى قول الله عز وجل (هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا)، (خلق لكم) هذا امتنان من الله عز وجل وبيان لهذه المنة والفضل العظيم الذي تفضل به على العباد (هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا) مثلها قوله (وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه) (منه) أي تفضلا ومنا عليكم سخر للعباد ما في الأرض جميعا، أي من صنوف النعم، وألوان المنن، أي خلق لكم بِرا بكم ورحمة جميع ما على الأرض للانتفاع والاستماع والاعتبار، انتبه إلى أمرين أشار إليهما ونبّه أيضا عليهما أئمة أهل العلم في كتب التفسير: خلق لكم ما في الأرض جميعا لتعتبروا آيات فيها عبرة وعظة وإيقاظ للقلوب، وخلق لكم ما في الأرض جميعا لتنتفعوا به وتستفيدوا منه في عموم مصالحكم وحاجاتكم، وتفصيل هذا الإنعام تجده في سورة النحل سورة النِعم، فخلق لكم ما في الأرض جميعا منه آية وعبرة وعظة، خلق لكم ما في الأرض جميعا أيضا لتنتفعوا وتستفيدوا بما جعل لكم في الأرض من أنواع المنافع والمصالح. قال: " جميع ما على الأرض للانتفاع والاستماع والاعتبار".
ثم ذكر الشيخ رحمه الله في الآية فائدة وهي: أن الآية فيها دليل على أن الأصل في الأشياء الإباحة، لأن الله خلق لنا ما في الأرض جميعا، فالأصل أن كل ما على الأرض مباح للعبد، خلقه الله للعبد لينتفع به، ما الذي يستثنى منه؟ ما جاء الشرع بمنعه والنهي عنه، وإلا الأصل في كل الانتفاع ووجوه الانتفاع أنه مباح، كل استفادة من ما على وجه الأرض. الأصل أنه مباح، ولهذا إذا اختلف اثنان في شيء من هذه الأمور المنافع التي على الأرض، أحدهما يقول هذا مباح. والآخر يقول هذا حرام، أيهما الذي يُطالب بالدليل؟ الأول أو الثاني؟ الثاني، لأن الأول على الأصل مباح، فمن يقول إن هذا حرام هو الذي يُطالب بالدليل، ولهذا إذا قال شخص هذا مباح، وقال الآخر هذا حرام في منافع الأرض، الذي يُطالب بالدليل هو الذي يقول هذا حرام، الذي يقول هذا حرام يطالب بالدليل لأن الأصل في كل ما على الأرض أنه مباح (هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا) دليل على أن الأصل في الأشياء الإباحة والطهارة لأنها سيقت في معرض الامتنان (هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا) هذا امتنان من الله سبحانه وتعالى على عباده.
 قال: "يخرج بذلك الخبائث فإن تحريمها أيضا يؤخذ من فحوى الآية، وجاءت النصوص مصرحه بتحريم الخبائث (ليحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث) وبيان المقصود منها وأنه خلقها لنفعنا أي الأرض، فما فيه ضرر فهو خارج من ذلك، ومن تمام نعمته على العباد أن منعهم من الخبائث تنزيها لهم منها ومن مضرتها، والله سبحانه وتعالى لما ينهى عباده عن شيء إلا لمضرة فيه عليهم في دنياهم وأخراهم.
● قال الله جل وعلا (ثم استوى إلى السماء) أي الله جل وعلا  استوى إلى السماء بعد خلق الأرض، وهذا جاء في آيات كثيرة، جاء في آيات كثيرة استواء الله على العرش بعد خلقه للسماوات والأرض مثل:
في سورة الفرقان قال (الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استواء على العرش)
مثل في سورة الحديد (هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض، وما يخرج منها)
مثل أول سورة طه، أول سورة الرعد، وفي أول سورة يونس، وفي سورة الأعراف
 في سبع مواطن، هي سبع مواطن من كتاب الله سبحانه وتعالى والسبعة المواطن كلها عُدي الاستواء بـ على (ثم استوى على العرش)، (الرحمن على العرش استوى) وهنا في هذا الموطن، كذلك في موطن آخر في سورة فصلت (ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالت أتينا طائعين) عُدي بـ إلى.
والاستواء هذا اللفظ يدل على العلو الارتفاع، استوى أي علا وارتفع، استوى على العرش: أي علا وارتفع على العرش، العرش المجيد هذا مخلوق لله، وأكبر المخلوقات وأعظمها وهو سقفها وأعلاها، استوى هذا لفظ يدل على العلو والارتفاع، إذا عُدي بـ إلى يبقى على أصل دلالته ما تتغير، يبقى على أصل دلالته التي هي العلو والارتفاع؟ والأصل أنه يُعدَّى بماذا؟ بـ على، فإذا عُدي بـ إلى مع دلالته على العلو والارتفاع ضُمن معنى آخر مع بقاء المعنى الأول الذي هو العلو والارتفاع، وهو القصد قَصَدَ أو عَمِدَ، أو نحو ذلك. ولهذا ابن كثير رحمه الله عند تفسير الآية قال: "أي قصد إلى السماء" والاستواء هاهنا تضمن معنى القصد والإقبال، لأنه عدي بـ إلى، تضمن معنى القصد والإقبال أي ماذا؟ مع دلالته على العلو, ولهذا حكى الإجماع، يعني بعض أهل العلم ذكر البغوي أنه قول أكثر السلف وأكثر المفسرين أن استوى إلى السماء، واستوى على السماء سواء.، سواء في ماذا؟ أي في علو الله، إثبات العلو لله سبحانه وتعالى. قد جاء في تفسير الآية كما في الصحيح البخاري عن مجاهد وعن أبي العالية (وأن استوى إلى السماء علا وارتفع) وهو القول الموافق لتفسير الاستواء في مواطنه وموارده من القرآن وعرفنا أنه في سبعة مواطن يقول الله سبحانه وتعالى (ثم استوى على العرش)  أي علا وارتفع عليه سبحانه وتعالى علوا يليق بجلاله وكماله. قال الشيخ رحمه الله: "استوى ترد في القرآن على ثلاثة معان:
● فتارة لا تُعدى بالحرف فيكون معناها الكمال والتمام كما في قوله عن موسى (ولما بلغ أشده واستوى).
وتارة تكون بمعنى علا وارتفع وذلك إذا عديت بـ على كقوله (الرحمن على العرش استوى) وأيضا في ستة مواضع أخرى (ثم استوى على العرش)، وقوله (لتستووا على ظهوره) أي الفلك والأنعام، تستووا على ظهوره أي تعلوا وترتفعوا على ظهوره.
● وتارة تكون بمعنى قصد كما إذا عديت بـ إلى، كما في هذه الآية (ثم استوى إلى السماء) أي لما خلق تعالى الأرض قصد إلى خلق السماوات أو عمد إلى خلق السماوات، هذا المعنى هو مع إثبات العلو الذي يدل عليه لفظ الاستواء، ولهذا تجد الشيخ فيما يأتي من الآيات في قوله (ثم استوى على العرش)، وهنا أيضا في السياق الذي ذكره (استوى على العرش) أي علا وارتفع عليه، لكن لما عدي الاستواء بـ إلى تضمن معنى زائدا على العلو والارتفاع، وهو القصد، لما خلق تعالى الأرض قصد إلى خلق السماوات فسواهن سبع سماوات فخلقها وأحكمها وأتقنها.

 قال (وهو بكل شيء عليم)
 "استوى على العرش بذاته وهو مع خلقه بعلمه" هذه كلمة الإمام مالك رحمه الله، فهو مستوي على عرشه بذاته علوا يليق بجلاله وكماله، لكنه مُطّلع على خلقه لا تخفى عليه خافية، قال: "فيعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها، وما ينزل من السماء وما يعرج فيها، ويعلم ما تسرون وما تعلنون، يعلم السر وأخفى، يعلم السر وأخفى، وكثيرا ما يقرن بين خلقه وإثبات علمه كما في هذه الآية، وكما في قوله: (ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير)، وكما في قوله في آخر آية من سورة الطلاق (الله الذي خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علما)" فكثيرا ما يقرن بين الخلق والعلم، وأيضا الاستواء والعلم. تتبع الآيات في في القرآن (ثم استوى على العرش) (الرحمن على العرش استوى) تتبع الآيات غالبها أو جلها قرن فيها بين الاستواء والعلم مثل ما سمعنا في:
● سورة الحديد قال (هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى العرش يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أينما كنتم والله بما تعملون بصير) (وهو معكم) أي بعلمه، (والله ما تعملون بصير).
● أيضا في أول الرعد (الله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها ثم استوى على العرش)
فجميع الآيات أو جلها يذكر الاستواء ويذكر أيضا العلو..
● في سورة الرعد بعدها قال (الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيظ الأرحام وما تزداد وكل شيء عنده بمقدار* عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال)
● أيضا في سورة طه لما ذكر الاستواء (الرحمن على العرش استوى) ذكر أيضا العلم، علمه سبحانه وتعالى، وهكذا في عموم الآيات التي ذكر فيها الاستواء، أو جل الآيات التي ذكر فيها الاستواء قُرن معه العلم. نعم
📖 قال رحمه الله: "قوله (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون* وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين* قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم* قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنباءهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون* وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين"
نفعنا الله أجمعين بما علمنا وزادنا علما وتوفيقا، وأصلح لنا شاننا كله، وهدانا إليه صراطا مستقيما..
سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك، اللهم صلي وسلم على عبدك ورسولك، نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين. جزاكم الله خيرا
اقرأ المزيد...

الاثنين، 16 يونيو 2025

فوائد منتقاة من سورة هود - بين يدي السورة-

 بسم الله الرحمن الرحيم
سورة هود هي ثاني سورة في القرآن حسب ترتيب المصحف سميت باسم نبي من الأنبياء، سميت هذه السورة الكريمة باسم نبي الله هود عليه السلام، قال ابن عاشور: " سميت في جميع المصاحف وكتب التفسير والسنة سورة هود، ولا يُعرف لها اسم غير ذلك " كذلك وردت هذه التسمية عن النبي في حديث ابن عباس أن أبا بكر قال : يا رسول الله قد شبت؟ قال : (شيبتني هود ، والواقعة ، والمرسلات ، وعم يتساءلون، وإذا الشمس كورت ) رواه الترمذي بسند حسن في كتاب التفسير من سورة الواقعة.
والجامع بين هذه السور هو كونها تتحدث عن اليوم الآخر وأهواله وما يكون فيه، والله جل وعلا ذكر ذلك صراحة في كتابه العظيم، حيث قال الله جل وعلا في سورة المزمل: (يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا) والفزع يُورث الشيب وذلك أن الفزع يُذهل النفس فيُنشف رطوبة الجسد، وتحت كل شعرة منبع ، ومنه يعرق ، فإذا انتشف الفزع رطوبته يبست المنابع فيبس الشعر وابيض، كما ترى الزرع الأخضر بسقائه ، فإذا ذهب سقاؤُه يبس فابيض. وإنما يَبيَضُ شعر الشيخ لذهاب رطوبته ويبس جلده .
والناس يختلفون في السبب الذي يدفعهم إلى أن يشيبوا باعتبار تعلق قلوبهم، فمن الناس من يشيبه التعليم، ومن الناس من يشيبه العقار، ومن الناس من تشيبه التجارة، ومن الناس من يشيبه تربية الصبيان، ومن الناس من يشيبه الهم، وغير ذلك، وهذا ظاهر في الناس، ولا غرابة فيه ولا ننكره، ولكن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما كان قلبه معلقا بالله، وكان يخشى الله واليوم الآخر ويخاف ربه ويهابه جاء تعلق شيبه صلوات الله وسلامه عليه بهود وأخواتها، أي: باليوم الآخر. ولا يعني هذا أن النبي عليه الصلاة والسلام كان كثير الشيب، وإنما مرد ذلك إلى العُرف، وقد مات النبي عليه الصلاة والسلام ولا يُحصى من الشيب فيه أكثر من عشرين شعرة، وأكثر شيبه كان في أسفل شفته السفلى وفي أعلى عارضيه عن اليمين وعن الشمال، أما في لحيته فكان الشيب قليلاً جداً في شعيرات يمكن عدها، وكذلك شعر رأسه صلوات الله وسلامه عليه.
ومما شيّب النبي -صلى الله عليه وسلم- منها ذكر اليوم الآخر، وإن كان بعض العلماء يقول: إن الذي شيب النبي قول الله جل وعلا فيها (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ) [هود: ۱۱۲].
قال بعض المفسرين الذي شيب النبي - عليه الصلاة والسلام - هو قول الله - عز وجل- (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ ) ، ولكن قِرانه - صلى الله عليه وسلم- سورة هود بسورة المرسلات والواقعة وعمّ و (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ) نفهم منه أن الذي شيبه منها ذكر أهوال اليوم الآخرة لأن هذا هو الجامع بين هذه السور.
وفي هذه السورة ذكر الله - جل وعلا - أخبار الأنبياء، فذكر الأمم وتكذيبها لأنبيائها ورسلها، وكيف كان ذلك سبباً في فنائها وهلاكها، كما قال تعالى: ﴿ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ ) أي: شاهد باق ظاهر، كالحجر في أرض ثمود (وَحَصِيدٌ ) أي : مُنته، كما هو الحال في البحر الميت الذي كان موضع قوم لوط عليه السلام فهذه الأمور كلها مدعاة للشيب.
 قال ابن عاشور: " وسميت باسم هود لتكرر اسمه فيها خمس مرات ، ولأن ما حكي عنه فيها أطول مما حكي عنه في غيرها ، ولأن عادا وصفوا فيها بأنهم قوم هود في قوله : (ألا بعدا لعاد قوم هود).
ومن أوجه وضعها بعد سورة يونس :
"أن سورة يونس ذكر فيها قصة نوح مختصرة جداً مجملة فشرحت في هذه السورة وبسطت بما لم يبسطه في غيرها من السور ولا في سورة الأعراف على طولها ولا في سورة (إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا ) التي أفردت لقصته فكانت هذه السورة شارحة لما أُجمل في سورة يونس فإن قوله هناك : (وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ ) هو عين قوله هنا : (كِتَابُ أُحْكِمَتْ ايَتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ) فكان أول هود تفصيلاً لخاتمة يونس" ١
وأما عن مناسبتها لخاتمة ما قلبها وهي سورة يونس : فقد ختمت سورة يونس بقوله (وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمُ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ ) وفيه إيماء بأن الله ناصر رسوله والمؤمنين على الذين كذبوا وعاندوا، فجاءت سورة هود مبدوءة بقوله تعالى (الرَ كِتَابُ أُحْكِمَتْ ايَتُهُ ثُمَّ فَصَلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ * أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ )  لبيان صفة الكتاب الذي أنزله الله تعالى على رسوله محمد ليبلغ دعوة ربه بالنذارة والبشارة .

مكية السورة ومدنيتها : السورة مكية إجماعا قال الأستاذ رشيد رضا هي مكية حتما كالتي قبلها ، واستثنى بعضهم منها ثلاث آيات:
 (فَلَعَلَّكَ تَارِكُ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ)
 (أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ)
(وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفِي النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ الَّيْلِ)
 قيل إن هذه الآيات الثلاث مدنية وهو خلاف الظاهر ولا يقوم عليه دليل.
قال الشيخ صالح المغامسي:
 " هذه السورة سورة مكية ، وعدد آيها مائة وثلاث وعشرون آية كلها مكية، إلا قول الله جل وعلا فيها: ﴿ وَأَقِمِ الصَّلَوَةَ طَرَفِي النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ الَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ) فهذه الآية في المشهور عند العلماء نزلت بالمدنية، وأما ما سوى ذلك فآيات مكية نزلت قبل هجرته صلوات الله وسلامه عليه إلى المدنية. وذكر ابن كثير في تفسيره أنها مكية .
موضوع المسؤولية والجزاء يظلل السورة من أولها ، عندما أبرزت جانب الإنذار في رسالات الأنبياء ، إلى آخرها عندما تحدثت عن مصير السعداء والأشقياء يوم القيامة.
--------------------------------
١- أسرار ترتيب القرآن للسيوطي .


اقرأ المزيد...

الأربعاء، 4 يونيو 2025

الدرس التاسع والثلاثون | تفسير سورة البقرة: الآية (٢٧) (الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه..)

 تفسير سورة البقرة: الآية (٢٧) (الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه..) 



الحمدالله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللمسلمين والمسلمات أما بعد:
📖 فيقول الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله: "ثم وصف الفاسقين فقال (الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه) العهد الذي بينهم وبين ربهم، والذي بينهم وبين الخلق الذي أكده عليهم بالمواثيق الثقيلة والإلزامات، فلا يبالون بتلك المواثيق، بل ينقضونها، ويتركون أوامره، ويرتكبون نواهيه، وينقضون العهود التي بينهم وبين الخلق، (ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل) وهذا يدخل فيه أشياء كثيرة، فإن الله تعالى أمرنا أن نصل ما بيننا وبينه بالإيمان به، والقيام بعبوديته، وما بيننا وبين رسوله صلى الله عليه وسلم بالإيمان به، ومحبته وتعزيره، والقيام بحقوقه، وما بيننا وبين الوالدين والأقارب والأصحاب وسائر الخلق بالقيام بحقوقهم التي أمر الله تعالى أن نصلها، فأما المؤمنون فوصلوا ما أمر الله تعالى به أن يوصل من هذه الحقوق وقاموا بها أتم القيام، وأما الفاسقون فقطعوها ونبذوها وراء ظهورهم معتاضين عنها بالفسق والقطيعة، والعمل بالمعاصي وهو الإفساد في الأرض، أولئك أي من هذه صفته هم الخاسرون أي في الدنيا والآخرة، فحصر الخسارة فيهم لأن خسرانهم عام في كل أحوالهم، ليس لهم نوع من الربح لأن كل عمل صالح شرطه الإيمان، فمن لا إيمان له لا عمل له، وهذا الخسار هو خسار الكفر، وأما الخسار الذي قد يكون كفرا وقد يكون معصية، وقد يكون تفريطا في ترك مستحب المذكور في قوله تعالى (إن الإنسان لفي خسر) فهذا عام لكل مخلوق إلا من اتصف بالإيمان والعمل الصالح، والتواصي بالحق، والتواصي بالصبر، وحقيقته فوات الخير الذي كان العبد بصدد تحصيله، وهو تحت إمكانه"
🎙️بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، اللهم يا ربنا علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علما، وأصلح لنا، إلهنا شأننا كله ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين، اللهم يا ربنا يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام، يا رب العالمين فقهنا أجمعين في الدين وعلمنا يا ربنا التأويل أما بعد: أورد المصنف رحمه الله تعالى قول الله جل وعلا (الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون) هذه ذكرها الله جل وعلا صفاتا للفاسقين الذين ختم بذكرهم بهذا الوصف في الآية التي قبلها قال (وما يُضل به إلا الفاسقين) الذين صفاتهم كذا وكذا، فهذه الصفات للفاسقين، وعرفنا أن الفسق الذي وُصف به هؤلاء هو الفسق الأكبر الناقل من الملة. ومثله أيضا ما ختمت به هذه الآية وصفهم بالخسار وهو أيضا الخسار الأكبر الناقل من الملة. وقد مر معنا قاعدة نفيسة في هذا الباب في أثر يروى عن ابن عباس رضي الله عنهما، رواه ابن أبي حاتم في تفسيره قال رضي الله عنه: "كل شيء نسبه الله إلى غير أهل الإسلام من اسم مثل: خاسر، فإنما يعني به الكفر" هذا مثال من اسم مثل خاسر، مثل أيضا فاسق، مثل ظالم ونحو ذلك من الألفاظ فإنما يعني به الكفر،
"وما نسبه إلى أهل الإسلام -أي من هذه الألفاظ- فإنما يعني به الذنب" فالخاسرون هنا أي الخسران الأكبر، الخسران المبين، الخسران العظيم الموجب لدخول النار والخلود فيها.
 قال: (الذين ينقضون عهد الله) النقض هو: الترك، ترك العهد الذي بينهم وبين الله سبحانه وتعالى وهو طاعة الله فيما خلقهم لأجله وأوجدهم لتحقيقه وأقام عليهم الحجة فيه فنقضوا عهد الله بأن تركوا التزام هذا العهد الذي بينهم وبين الله سبحانه وتعالى، المقصود بالعهد: ما أمر الله جل وعلا به خلقه من لزوم طاعته سبحانه وتعالى وملازمة عبادته، وأيضا: مجانبة ضد ذلك من المعاصي والذنوب، وأعظم ما أمر الله به من الطاعة التوحيد، فالتوحيد هو أعظم طاعة بل هو أساسها، وأعظم نهى الله تبارك وتعالى عنه الشرك بالله سبحانه وتعالى، فهو أعظم الذنوب وأكبر الموبقات.
 (الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه) 
(من بعد ميثاقه) الميثاق الذي بينهم وبين الله سبحانه وتعالى أن يلتزموا هذا العهد، والميثاق أُخذ عليهم أولا في عالم الذر، ثم جاءت الفِطَر التي فطر الله سبحانه وتعالى الناس عليها مُذكرة بذلك، ثم ما أقامه الله سبحانه وتعالى في هذا الكون من البراهين والحجج البينات، ثم بعثة المرسلين الذين أقام الله بهم الحجة وقطع المعذرة (وإن من أمة إلا خلا فيها نذير)، (ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت).
 قال (الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل) (ويقطعون ما أمر الله به أن يُوصل)
من أهل العلم من جعلها في الرحِم أي يقطعون الأرحام مثل ما قال الله جل وعلا (فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم)، فمن أهل العلم من قال: (يقطعون ما أمر الله به أن يوصل) أي يقطعون الرحم ال التي أمر الله بوصلها، وعدها سبحانه وتعالى أن يصِل من وصلها وأن يقطع من قطعها ورضيت بذلك، قال الله للرحم: (أما ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك؟ قالت: بلى رضيت)، فمن أهل العلم من قال (يقطعون ما أمر الله به أن يوصل) أي يقطعون الرحم الذي أمر الله.
ومن أهل العلم -وهو الأظهر والأقرب والله تعالى أعلم- من يرون أنه عام في كل ما أمر الله سبحانه وتعالى بصلته، وأعظم ذلك الصلة بين العبد وبين ربه، والصلاة المكتوبة سميت صلاة لذلك، لأنها صلة بين العبد وبين الله، فمن ترك الصلاة ماذا فعل؟ قطع ما أمر الله به أن يوصل، لأن هذه صلة بين العبد وبين الله وهي أعظم من صلة الإنسان لرحمه، هذه صلة بين العبد وبين ربه فهي عامة. ولهذا قال ابن عطية رحمه الله في تفسيره: "قال جمهور العلماء على أن الإشارة في هذه الآية إلى دين الله وعبادته في الأرض، وإقامة شرائعه، وحفظ حدوده" وهذا هو الحق والرحم جزء من هذا، يعني داخله في عموم المعنى ليس المعنى مقتصرا عليها فهي داخلة في عموم المعنى.
قال: (ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض)
 (ويفسدون في الأرض) جاء عن مقاتل وغيره من أئمة التفسير في معنى قوله: (يفسدون في الأرض) قال: "يعملون فيها بالمعاصي" فالعمل بالمعاصي فوق الأرض التي خُلقت للطاعة، الأرض خلقها الله ليُطاع عليها، ما خلقها ليُعصى عليها، فمن يمشي فوق الأرض بالمعصية، يعمل المعصية فهذا نوع من الفساد في الأرض، والفساد في الأرض لفظ مثل الألفاظ التي تقدم كلام ابن عباس عنها، نعم قد يطلق الفساد ويُراد به الأكبر فساد الكفار، فساد المشركين بالشرك والكفر والصد عن دين الله سبحانه وتعالى، هذا أعظم الفساد في الأرض، وهو فساد أكبر ناقل من الملة، وهناك فساد دون الفساد الأكبر كما أن هناك كفر دون الكفر الأكبر، وفسق دون الفسق الأكبر، وخسران دون الخسران الأكبر، وظلم دون الظلم الأكبر، فالفساد في الأرض يكون:
● بالشرك والكفر وهذا أعظم الفساد
● ويكون بالمعاصي والذنوب والموبقات وهذا أيضا من الفساد في الأرض.
والفساد في الأرض بالمعاصي يحدث تغيرا في الأرض في الزروع، وفي الأمطار، وفي الخيرات كما قال الله سبحانه وتعالى: (ظهر الفساد في البر والبحر) البر والبحر ما هو؟ الأرض، (ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس) أي بسبب معاصيهم وذنوبهم التي ارتكبوها فوق الأرض، ارتكبوها في البر والبحر.
 (ويفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون) ما الخسران هنا؟ الأكبر لأن السياق  فيه، فالخسران هنا هو الخسران الأكبر، إذا نُسب الخسران -على القاعدة التي سمعنا عن ابن عباس رضي الله عنهم وهي قاعدة عظيمة متينة مهمة- الخسران إذا نُسب إلى غير أهل الإسلام فالمراد به الأكبر الكفر، ومثله الفسق، ومثله الظلم ونحو ذلك من الألفاظ، فالخاسرون هنا، أي خسارة الدنيا والآخرة، نظير هذه الآية تماما قول الله سبحانه وتعالى في سورة الرعد (والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار) فهذا في الخسران الأكبر، والفسق الأكبر الناقل من الملة، سعد بن أبي وقاص الصحابي الجليل رضي الله عنه قرأ هذه الآية وقال: "هم الحرورية" (الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض) قال: "هم الحرورية" من هم الحرورية؟ الخوارج، قال: "هم الحرورية"
وقوله: "هم الحرورية" لا يعني أن الآية ابتداء نزلت فيهم، وإنما المقصود: أن الصفات التي في هذه الآية وجدت فيهم، لأنهم داخلون في الأوصاف المذكورة في هذه الآية وتنطبق عليهم هذه الأوصاف، ولهذا قال رضي الله عنه: "هم الحرورية"، وكان رضي الله عنه يسميهم الفاسقين لأن قبلها قال الله جل وعلا: (وما يضل به إلا الفاسقين) فكان يسميهم الفاسقين ويقول هم الحرورية.
وهذا فيه أن مذهب الخوارج أخبث المذاهب وأضرها على أمة الإسلام وإن كانوا هم يظنون في أنفسهم أنهم يصلحون في الأرض ويقيمون دين الله، لكنهم مثل ما جاء عن سعد رضي الله عنه يفسدون في الأرض، عملهم فساد في الأرض، شيخ الإسلام تتبع حركات الخوارج عبر التاريخ وخرج بخلاصة يعني لنهاية أعمالهم قال: "فما أقاموا دينا ولا أبقوا دنيا" يعني أعمالهم ليس فيها إقامة لدين الله وأيضا أعمالهم تضر بدنيا الناس، (يفسدون في الأرض) يفسدون على الناس دنياهم، يعطلون مصالح الناس، حتى المصالح الدنيوية والعبادات وعموم المصالح يؤثرون في المجتمع الذي يوجدون فيه فيُعطلون كثير من مصالح الناس ولهذا قال عنهم هم الحرورية، أي ما جاء في هذه الآية من أوصاف لأنها تنطبق عليهم، وقد جاء عن نبينا عليه الصلاة والسلام فيهم أحاديث قال: (يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية)، وقال: (يقتلون أهل الإسلام ويذرون أهل الأوثان)، ولهذا لخبث مذهبهم وفساده العريض ما يستغرب لما يحصل منهم أعمال مدمرة للمسلمين ويحصل منهم نكايات وأضرار بالمسلمين لأنهم من المفسدين في الأرض أعظم الفساد، قال: (يقتلون أهل الإسلام وينذرون أهل الأوثان) ولهذا سعد رضي الله عنه لما قرأ هذه الآية (وما يضل به إلا الفاسقين* الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون) قال: "هم الحرورية" أي الخوارج.
  أنتم لما تسمعون كلامي ثم تقرأون كلام الشيخ تفرقون بين العلم المؤصل والعلم الذي هو كما يقال تمشية حال، فالذي أقوله هذا الشيء يعني تمشية حال، لكن هذا علم مؤصل، كلام الشيخ رحمه الله، ولهذا ركزوا على كلام الشيخ أكثر من التركيز على ما أقول، نسأل الله العافية والمعونة على كل خير.
 ■ قال: "(الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه) قال: "هذا يعُم العهد الذي بينهم وبين ربهم" أي فيما أمر به من توحيده، إخلاص الدين له، والبراءة من الشرك، والذي بينهم وبين الخلق الحقوق في مقدمتها حقوق ماذا؟ الوالدين، ثم الأرحام والجيران، وإلى غير ذلك من الحقوق التي جاءت بها الشريعة، "والذي بينهم وبين الخلق الذي أكده عليهم بالمواثيق الثقيلة والإلزامات فلا يبالون بتلك المواثيق بل ينقضونها ويتركون أوامر الله، ويرتكبون نواهيه، وينقضون العهود التي بينهم وبين الخلق". هذه الجملة الأولى.
● الثانية قال: (ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل) قال: "وهذا يدخل فيه أشياء كثيرة فإن الله أمرنا أن نصل ما بيننا وبينه بالإيمان به، والقيام بعبوديته، وما بيننا وبين رسوله صلى الله عليه وسلم بالإيمان به، ومحبته، وتعزيره، والقيام بحقوقه، وما بيننا وبين الوالدين والأقارب والأصحاب، وسائر الخلق بالقيام بتلك الحقوق التي أمر الله أن نصلها" فذكر أنها عامة (يصلون ما أمر الله به أن يوصل) ذكر أنها عامة، عامة في حقوق الله، وعامة أيضا حقوق الرسول عليه الصلاة والسلام، وأيضا حقوق الخلق، فأما المؤمنون فوصلوها ، فوصلوا ما أمر الله به أن يوصل من هذه الحقوق مثل ما قال الله جل وعلا في سورة الرعد (أفمن يعلم أن ما أنزل إليك من ربه الحق كمن هو أعمى إنما يتذكر أولو الألباب* الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق* والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب) فهذه صفات أهل الإيمان قاموا بحقوق الله، ووصلوا ما أمر الله به أن يوصل، وسعوا في الأرض بالإصلاح، أصلحوا أنفسهم في سيرهم على أرض الله، وعملوا على إصلاح عباد الله سبحانه وتعالى، فسلموا من الخسران الذي وقع فيه هؤلاء وباء به هؤلاء، قال: "فأما المؤمنون فوصلوا ما أمر الله به أن يوصل من هذه الحقوق وقاموا بها أتم القيام، وأما الفاسقون فقطعوها ونبذوها وراء ظهورهم، معتاضين عنها بالفسق والقطيعة والعمل بالمعاصي".
●  هنا تأتي الجملة الثالثة من الآية وهي: (ويفسدون في الأرض) قال: "والعمل بالمعاصي" وهو ما ذكره الله في هذه الآية في قوله: (ويفسدون في الأرض) والعمل بالمعاصي وهو الإفساد في الأرض، تقدم النقل عن مقاتل وغيره من أئمة التفسير في معنى قوله (يفسدون في الأرض) قال يعملون فيها بالمعاصي.
 قال جل وعلا: (أولئك) أي من هذه صفته، وهذه صفاتهم (أولئك هم الخاسرون) وفي سورة الرعد قال (أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار) (أولئك) أي أهل هذه الصفات. الفاء المدخلة في القوس في بعض النسخ تُزال.
  (أولئك هم الخاسرون) أي من هذه صفته هم الخاسرون، الخسران ما نوعه؟ الخسران الأكبر، لأنه كما مر معنا في القاعدة إذا نسب الخسران أو الظلم أو الفسق أو نحو ذلك من الألفاظ إلى غير أهل الإسلام فالمراد بها الأكبر الناقل من الملة، قال: "هم الخاسرون في الدنيا والآخرة، فحصر الخسارة فيهم لأن خسرانهم عام في كل أحوالهم، ليس لهم نوع من الربح لأن كل عمل صالح شرطه الإيمان"
الشيخ يقول: "ليس لهم نوع من الربح"
قد يقول قائل: بعضهم عنده أعمال خيرية، ينفق في أعمال الخير، يبني مثلا دورا للأيتام، أو يكفل أيتاما، أو يعطي فقراء ومحتاجين، أو يعالج مرضى، يقوم بأعمال بعض كبيرة جدا والشيخ يقول ليس لهم أي نوع من الربح مع إنه عدد منهم عنده من هذه الأعمال، الشيخ يقول: "ليس لهم نوع من الربح" قال مبينا ذلك "لأن كل عمل صالح شرطه الإيمان فمن لا إيمان له لا عمل له" مثل ما قال الله: (ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين) الخسار ما نوعه؟ الأكبر..
أيضا قول الله عز وجل (وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم) النفقة عمل صالح (وما منعهم أن تُقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله) هذا هو المانع (إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله)..
(ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين* بل الله فاعبد وكن من الشاكرين)
فالكافر لا ينفعه إن وجد منه أعمال صالحة، لا تنفعه، جاء في صحيح مسلم أن عائشة رضي الله عنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن واحد من أعيان المشركين كان معروف بالبذل والنفقة والصدقة، وفك العاني، ومساعدة المحتاج، وأعمال عديدة كانت له، قالت عائشة رضي الله عنها -كما في صحيح مسلم- (أرأيت عبد الله بن جدعان يفعل كذا، ويفعل كذا، يفعل كذا) تعدد أعمال كبيرة كان يقوم بها، (قالت: أينفعه ذلك؟ -يعني عند الله- أينفعه ذلك؟ قال: لا، لأنه ما قال يوما قط رب اغفر لي خطيئة يوم الدين) يعني الأعمال التي قام بها لم يقم بها ليوم الدين، وإنما قام بها للدنيا فما يجد ربحا، ما يجد ثوابا على تلك الأعمال، هذا معنى قوله: "لأن خسرانهم عام في كل أحوالهم، ليس لهم نوع من الربح لأن كل عمل صالح شرطه الإيمان فمن لا إيمان له لا عمل له" وهذا الخسار هو خسار الكفر، وأما الخسار الذي قد يكون كفرا، وقد يكون معصية، وقد يكون تفريطا في ترك مستحب المذكور في قوله تعالى (إن الإنسان لفي خسر) فهذا عام لكل مخلوق إلا من اتصف بأربع صفات بالإيمان والعمل الصالح، والتواصي بالحق، والتواصي بالصبر، حقيقته -يعني هذا الخسران- فوات الخير، حقيقته أي الخسران أو الخسر الذي ذكر في الآية فوات الخير الذي كان العبد بصدد تحصيله، وهو تحت إمكانه.

📖 قال رحمه الله: "ثم قال تعالى (كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون) هذا استفهام بمعنى التعجب والتوبيخ والإنكار، أي كيف يحصل منكم الكفر بالله الذي خلقكم من العدم، وأنعم عليكم بأصناف النعم، ثم يميتكم عند استكمال آجالكم ويجازيكم في القبور، ثم يحييكم بعد البعث والنشور، ثم إليه ترجعون فيجازيكم الجزاء الأوفى، فإذا كنتم في تصرفه وتدبيره وبره وتحت أوامره الدينية، ومن بعد ذلك تحت دينه الجزائي أفيليق بكم أن تكفروا به؟! وهل هذا إلا جهل عظيم، وسفه كبير، بل الذي يليق بكم أن تتقوه وتشكروه، وتؤمنوا به وتخافوا عذابه، وترجوا ثوابه"
نعم، نفعنا الله أجمعين بما علمنا وزادنا علما وتوفيقا، وأصلح لنا شأننا كله وهدانا إليه صراطا مستقيما…. سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك. اللهم صلِ وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.. جزاكم الله خيرا
اقرأ المزيد...

الجمعة، 30 مايو 2025

وقفات مع سورة الحج -اللقاء الأول-

 الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. نحمد الله-عزَّ وجلَّ-حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا ونسأله-سبحانه وتعالى-أن نكون من الشاكرين على نعمائه، فإنّ من أعظم نِعَم الله-عزَّ وجلَّ-على خلقه أن يدلّهم الصراط المستقيم ويجعل القرآن الكريم هو دليلهم على هذا الصراط المستقيم.
وهذه النعمة كلما شُكرت كلما زيدت فيها البركة؛ ولذا من الواجبات علينا-خصوصًا في هذه الأوضاع التي يعيشها العالم الإسلامي-أن نزداد شكرًا لربنا أن يسّر لنا أسباب العلم وسهّلها لنا ووفّقنا لها ويسّر لنا الاجتماع بهذه الصورة اليسيرة، فإننا نخرج في أمن من الله، ونجتمع في أمن الله، وننصرف إلى بيوتنا في أمن الله، فهذه كلها نعماء ثم أننا نجتمع على كتاب الله وعلى سنة نبيه-صلى الله عليه وسلم-متبرّئين من البدع، خائفين من الضلال، خائفين أن نكون من القوم الذين غضب الله عليهم في أنهم تعلموا ولم يعملوا، وهذه كلها مع اجتماعها نعمة عظيمة، وانظر حولك ترى آثار فقدان هذه النعمة! أسأل الله-عزَّ وجلَّ-أن لا يؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، وأن نكون ممن شكر صدقًا وحقًا فكان لربه شكّارًا كان لربه ذكّارًا اللهم آمين.

سورة الحج من أعاجيب السور

هذه السورة كما سماها أهل العلم (مِن أعاجيب السور)، والسبب في كونها من أعاجيب السور: ما تضمّنته من معاني مجموعة في كل باب من أبواب العقيدة وكل باب من أبواب العبادة. 
ومن أعاجيبها أنها تخاطب الناس على وجه العموم ثم ينقسم الناس انقسامات إلى أن ينتهي التقسيم في هذه السورة العظيمة بالكلام حول المؤمنين التي تأتي سورة المؤمنون بعدها تفصيلًا لها، فتكررت مناداة الناس في السورة أربع مرات: 
{يَا أَيُّهَا النَّاس} ثم في نهاية السورة نودي المؤمنين فقال الله-عزَّ وجلَّ-في آخر السورة كما سيتبيَّن لنا مناديًا المؤمنين: {يَا أَيُّهَا الّذِينَ آمَنُوا} ثم يأتي تفصيل خطاب أهل الإيمان في السورة التي بعدها مباشرة وهي سورة المؤمنون، فأصبحت سورة الحج مدخل لسورة المؤمنون.
من أعاجيب هذه السورة أيضًا: الكلام حول نفس اسم السورة فهي السورة الوحيدة التي فيها اسم لركن من أركان الإسلام، ليس هناك سورة اسمها الصلاة وليس هناك سورة اسمها الصيام ولا سور تذكر بقية الأركان إلا هذه السورة فيها الحج. والسبب لذلك والله أعلم-وهذه إحدى الوقفات المهمة-أن مسألة الحج تجمع بين أمرين أساسيين: 
الأول: ستظهر حين أعرف معنى كلمة الحج في اللغة، فما الحج في اللغة؟
الحج في اللغة بمعنى: القصد إلى معظّم، فمعنى هذا أن الحج فيه ركنين:
الركن الأول: عمل قلبي وهو القصْد، أي: تقصد، تريد، تتجه. وهنا: القصد إلى معظَّم، سيظهر من كلمة: (القصد) أنه أصلًا قصد بالقلب.
يأتي الأمر الثاني: أن هذا القصد لمن يراه الإنسان معظّمًا، وهذا العمل القلبي الثاني، أي: تقصد بقلبك من تعتقد أنه معظَّم، فالقصْد إلى معظَّم هذا اسمه (حج). هذا القصد إلى معظَّم سيكون أولًا بالقلب ثم ينتقل من كونه بالقلب إلى كونه بالجوارح، فتأتي المسألة الثانية، يعني كلمة "الحج" بنفسها كلمة عظيمة تحتاج إلى تفكير طويل، ليس هذا الذي يمر مباشرة على الخواطر أن كلمة الحج معناها بعض أعمال نقوم بها، إنما الحج أصلًا مجردًا من الأعمال هو قصْد إلى معظَّم، تقصد بقلبك أولًا وأنت تعتقد أن الذي تقصده صفته أنه معظَّم، ثم إذا قصد قلبك المعظَّم سيجر قلبك الجوارح. 
الأمر الثاني الذي يجعل كلمة الحج عجيبة: أن الجوارح ستقوم بكل أركان الإسلام تحت ظل الحج. كيف؟! 
ها هي ستصلي الصلوات المعلومة، وأيضًا ستطوف والطواف في صورته الحقيقية يشبه الصلاة، وها هي ستنفق مالًا من أجل أن تحج وهذا يشبه في أصله الزكاة، فهذان ركنان: مقصود الصلاة، ستصلي صلواتك وفي نفس الوقت ستطوف والطواف في صورة يشبه الصلاة. وستنفق مالًا فستستخرج حب المال الموجود في النفس، تزكيها بإخراج المال. ثم ستمتنع عن أمور، ستمتنع عن الرفث والفسوق والجدال في الحج، وهذا الامتناع يشبه الصيام.
فليس هناك حاج حقيقي حجّه مبرور إلا وقد تحقّق فيه القيام بأفعال أركان الإسلام، فقد صلى لله الصلاة المعروفة، لم يترك الصلاة، وأيضًا سيطوف فسيزيد صورة لصلاته عن الصورة الأساسية المعروفة، ثم سيدفع مالًا، ثم سيمتنع وهو في كل هذا ذاكرًا لله، في كل هذا معظمًا لله، في كل هذا يشهد أن لا إله إلا الله، في كل هذا يُظهر ذلّه وانكساره لله.
فانظر للأركان الخمسة من الإسلام تجدها كلها متمثلة في الحج؛ إذًا معنى ذلك أن سورة الحج تتميّز عن بقية السور باسمها لأنها سميت سورة الحج.
كأن السؤال: لماذا الحج هو الذي برز وأصبح أكثر أهمية من بقية الأركان؟! 
لا تفهم أنه أكثر أهمية لكن هذا الحج فيه بقية الأركان تامة الوضوح سواء كانت الصلاة أو الصيام أو الزكاة ثم شهادة أن لا إله إلا الله وما يلحقها هذا أظهر شيء أصلًا في الحج، لأن الذي يشهد أن لا إله إلا الله شهادته تظهر بوضوح عندما يقول: "لبيك اللهم لبيك".
هو يقول في: "أشهد أن لا إله إلا الله" ليس لي إله أحبه وأعظمه إلا الله، فإذا كان يحبه ويعظمه من آثار حب الله وتعظيمه أن يقول: لبيك، أن يستجيب للنداء، فالذي يلبّي هذا عبد وقع في قلبه محبة الله، تعظيم الله، فكان أثر محبة الله وتعظيم الله تلبية النداء؛ ولذا الإنسان عندما يقول: "لبَّيك" كما سيتبيَّن لنا إن شاء الله من خلال النقاش سيكون هذا عبد كأنه يسمع نداءً، متى تقول: لبَّيك؟! عندما تسمع نداءً، فالذي يحب الله ويعظم الله يسمع نداء الله فإذا سمعه لبَّى النداء.
وهذه الكلمة: (لبَّيك) تأتي من لُبّ الإنسان، فهو يحبّ ربّه حبًّا ويعظّمه تعظيمًا يجعله يعطيه ويُقبل عليه بلبّه فيقول: لبَّيك، وهذا الذي يلبّي ربه يلبّيه من جهة المحبة لأن في لغة العرب "امرأة لبّة" أي: امرأة محبة لأبنائها، (لبَّة): محبة، فأصبحت التلبية تأتي أيضًا من وجه المحبة، والعرب تقول: " أخذ بتلابيبه"، كيف أخذ بتلابيبه؟ يعني أخذ به منقادًا، فالذي يقول: لبَّيك. يقول: أنا منقاد، وكل هذه الحقائق هي حقيقة أثر (لا إله إلا الله)، فكأنّ (لا إله إلا الله) تظهر بوضوح في كلام الحاج لأنه يبتدئ بأن يلبي ربه كما تعلمون في أول المناسك إلى أن يصل إلى يوم العيد ويكون في قلبه من الفرح بهذا العمل الذي يرجو أن يقبله الله كما أخبر الله: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ}.
فالذي يقول: "الله أكبر" معناه أنه يقول: إقبالي عليك وقبولك لي أكبر عندي من كل شيء (الله أكبر الله أكبر) ويبقى يكبر. فيصبح الإنسان بين التلبية والتكبير يحقق معنى أنه ليس لي إله أحبّه وأعظّمه إلا الله.
نعيد الأمر الأول: هذه السورة العظيمة من أعاجيب السور، تبدأ عظمتها من النداءات الموجودة فيها، ففيها نداءات للناس إلى أن يصل النداء إلى المؤمنين، وسيتبيَّن-إن شاء الله-وسنتوقف مع هذه النداءات ونتكلم فيها بالتفصيل.
يأتي الأمر الثاني: الوقوف مع اسم السورة، هي السورة الوحيدة التي سميت باسم ركن من أركان الإسلام ولم تسمى سورة غيرها، والسبب في عظمة الاسم يأتي من جهتين:
يأتي من جهة معرفتك أصلًا لمعنى الاسم، قبل أن نتكلم عن الحج في المصطلح الشرعي فلنناقش الحج في اللغة، هذه المعلومة يجب أن نحفظها معنى الحج في اللغة: القصد إلى معظَّم، فمعناه أن الحج سيجمع بين أمرين: 
بين عمل القلب.
وعمل الجوارح.
تقصد بقلبك، جوارحك ستكون تابعة لك.
إذًا الجهة الأولى التي سيكون فيها اسم السورة عجيب أنها تشمل عملين مهمين: عمل القلب وعمل الجوارح.
ثم أن الحاج-إن صدق في حجه-لابد أن يكون معظمًا لله، إذا كان معظمًا لله فمعناه هو في نفسه ذليل، وهذا الذل واضح جدًا في سورة الحج بدليل أنها السورة الوحيدة التي فيها سجدتين، وهي التي فيها كلمة: "المخبتين"، وهي التي ورد فيها أكثر من مرة الكلام عن السجود والأمر به، فهذا كله إشارة إلى أن السورة تدور حول: الخضوع، الذل، الانكسار. تدور حول العبودية. فهذا شيء من أسرار الحج.
 ثم انظر لها من جهة الأعمال البدنية تجد أن من أسرار الحج نفسه الذي هو اسم السورة أن أعمال البدن كلها-أعمال الإسلام-من قول: (لا إله إلا الله) إلى أن نصل إلى الصلاة، إلى الصيام، إلى إيتاء الزكاة، كلها مجموعة في الحج. من أي جهة؟
إذا كانت كلمة (لا إله إلا الله) فإن تحقيقها بالتلبية وبيانها بالتكبير؛ لأن الذي يقول: (الله أكبر) يبيِّن أنه ليس في قلبه إله يحبه ويعظمه أكثر من الله، الله أكبر من كل أحد، والله أكبر من كل شيء، من كل المشتهيات ومن كل الرغبات ومن كل الاتجاهات ومن كل التعلّقات، كأنه يبيِّن ويوضح ما معنى كلمة: (لا إله إلا الله) في قلبه.
إذا بدأنا بكلمة: (لا إله إلا الله) فهذا بيانها وأكثر من ذلك البيان.
وإذا أتيت إلى الصلاة فإن الحاج يصلي صلواته وأيضًا يضيف على ذلك أنه يطوف، والطواف صورة من صور الصلاة.
وإذا أردت المال وإخراجه فهو يحج بماله.
وإذا أردت الامساك والامتناع فهو يمتنع عن الرفث والفسوق والجدال في الحج.
فهو في حال تحقيق لمقاصد أركان الإسلام؛ ولذا ترى هذا الحج عظيم في أثره على الخلق إن صدقوا في أمرين مهمين: 
إن صدقوا في مقاصدهم لا يريدون إلا أن ينظر لهم الله وهو راضٍ عنهم.
وإن صدقوا أيضًا في تعظيمهم لربهم، فكما يقولون: "إن الركب كثير والحجاج قليل"، فإن كثير من الخلق يُفضح عدم تعظيم ربهم في المواقف والأحداث. نسأل الله-عزَّ وجلَّ-أن يسترنا بستره ويجعلنا ممن عظمه حقًا ولما اختبره ظهر منه الجميل وستر منه القبيح اللهم آمين.
إذًا معنى ذلك أن هذا الاسم العظيم -اسم السورة- فيه من الأعاجيب التي تظهر داخل السورة، والناس حتى في الحج لهم هذه الأربعة أصناف وسيتبيَّن لنا، فكأننا سنأتي في لحظة نرى أصناف الناس في الحياة ونرى أصناف الناس أيضًا في نفس الحج، كأنه تأتي الابتلاءات والاختبارات فتكشف حقائق الناس.
الحج إذا تحقق حقًا وخرج الإنسان ومقصده ربه والمال الذي يدفعه يراه تزكية لنفسه والعبادات التي يقوم بها يكون صادقًا في استحضار نفسه مع ربه وامتناعه يكون حقًا، سيأتي نموذجًا جديد من شخص قد سما بعدما حج أربعة أيام! لأن كل أركان الإسلام تجتمع في أيام محددة.
ثم في الحج شأن عجيب من جهة أخرى في نفس اسم السورة: فإن الناس وهم سائرون إلى الله في حياتهم-هذه حقيقتهم-كل يوم يسألون ربهم الصراط المستقيم، وهم يقولون لربهم: نحن نقصد هذا الصراط ونريد أن نسير فيه، ونحن حجاج مقبلين عليك نرجو أن نلقاك وأنت عنا راضٍ.

في الحج نقصد مكانًا يحبه الله، وفي الحياة نقصد رؤية الله
فيكون هذا يشبه هذا في السير، أي أن السائر إلى ربه طوال الحياة على الصراط المستقيم يقصد في نهاية الأمر أن يصل إلى أن يلقى ربه وربه عنه راضٍ ويقبله ثم يتمتع بأن يراه، والذي يحج يريد أرضًا يحبها الله، أرضًا عظَّمها الله، فالحاج حين يمشي في سيره يسير ولا يريد أن يلتفت يمنة ولا يسرة.
وأكثر شيء -كما هو معلوم لمن حج ولمن يسمع عن الحج- يخيف الحجاج: الضياع، ودائمًا تسمع أن الجماعة تأخروا ولم يذهبوا عرفة في الوقت المناسب، الجماعة تأخروا ولم يدخلوا مزدلفة! انظروا هذا الضياع ولو تنظروا إلى المنطقة خالية من الناس تستطيع أن تراها بعينك من أعلى جبل محيطة مع بعضها، لكن حين يسير الناس في داخلها كم يتوهون! انظري لهذه المساحة التي هي عدة كيلومترات، مجرد عدة كيلومترات-عند الناس-لكن حين يأتونها الناس تصبح بالضبط كأنها الحياة، هكذا الحياة بالضبط عدة كيلومترات فقط تبتدئها من هنا، هنا تنام وهنا تمسى وهنا تصبح، هنا تخرج، هنا تأتي وتنتهي الحياة! 
هي بالضبط أيام منى ونهار عرفة وليلة مزدلفة ما هي إلا أيام، والناس أكثر شيء يخيفهم في هذه الأيام أن يتوهوا، هذه المشاعر بالضبط، لماذا خائفون من أن يتوهوا؟ لأنهم يقصدون، أي: يخرجون من ديارهم يقصدون مكة فيخافوا أن يتوهوا أو يضيع الوقت أو يُحبسوا، انظري كيف يكون حالنا حين نخاف أن نحبس؟! وهكذا يخاف العبد أن يحبس عن باب الله. 
عندما نصل، انظر ما هو مقدار الفرح الذي يحصل عند العبد أنه وصل إلى الحرم وأنه طاف؟ يكون معه تصريح ومتأكد أنهم سيجاوزونه وكل شيء لكن أول ما يقف عند النقطة ليفتش، تأتي مشاعر الرعب أن يُحبس، فهذه المشاعر المفروض تشبه مشاعرنا ونحن سائرون إلى ربنا، نخاف أن نحبس عن بابه، نكسل عن طاعة، نكسل عن صيام، نكسل عن صلاة، نكسل عن قيام، نكسل عن وتر، وتراك محبوسًا عن الله-عزَّ وجلَّ-. ثم إذا وصلنا يقع في قلوبنا الفرح ثم ننتهي من هذا فنطوف ونسعى على حسب النسك ونخرج من الطواف فنريد أن نصل منى بأي طريقة، نريد أن نطير ونصل إلى منى وكل مشاعرنا أننا نقصد.
انظري هذه الانتقالة "نقصد" فهكذا الإنسان في حياته يقصد الله، في رمضان يقصده بعمل، في الحج يقصده بعمل، في الشهور المعظمة يقصده بعمل، حين يذهب للعمرة يقصده بعمل، حين يتصدق يقصده بعمل وهكذا، وكل مرة يقصده بعمل، أكثر شيء يخيفه أن يتوه.
ونحن سائرون إلى الله المفترض أن تكون عندنا نفس الصورة بالضبط، نخاف أن نسير وينحرف مقصدنا، كيف ينحرف مقصدنا؟!
الحج هو القصْدُ إلى معظّم وهو الله!
لا تنس أن الحج هو القصد إلى معظَّم، والقصد إلى معظَّم يبتدئ بالقلب، هذا بالضبط يشبه حين تعبد الله، يمكن أن يحصل عند العبد انحراف عن المقصود. انظر كيف نخاف أن نضيع عن عرفة ونضيع عن مزدلفة، يعني نبات في منى ونقول سنتحرك نذهب إلى عرفة أكثر شيء يخيفنا-إن كنا صادقين-أن نُحبس عن عرفة، حين نصل إلى عرفة نخاف نحبس أن لا نذهب إلى مزدلفة، وهكذا، نخاف أن نحبس ولا نذهب لرمي الجمرات، هذه المشاعر نخاف أن نبعد عن المقصد.
والإنسان سائر إلى ربه بالضبط هذه صورته، المفترض أن تكون هذه صورته! طوال الوقت يخاف أن يحبس عن مقصده، مَن مقصوده المعظَّم؟! الله، إذا كان مقصودك المعظَّم الله؛ إذًا يجب أن يبقى هذا دائمًا في قلبك وتصبح هذه الصورة للإخلاص: أن الله هو المعظَّم في قلبك، وأنت سائر تريد رضاه، وتخشى أن تنحرف في الوسط عن رضاه.
تصور كيف يضيع الناس في المناسك؟! أحد الأسباب في الضياع أن يكون الشخص الذي يحمل الراية أمامك، وأنت تسرح، وأنت تلتفت، تتكلم في الجوال، تقف هنا تحاول تستريح! ذهبت الراية، ضاع عليك الطريق!
هكذا راية النبي -صلى الله عليه وسلم- تتوه عنها بأنك تذهب يمينًا أو يسارًا أو مع هذه الجماعة أو هؤلاء يقترحون عليك عبادة لم ترد في الشرع أو أهل الأهواء يأخذونك وتسير فتضيع عن الراية؛ فيأتي الضياع الذي هو أخطر ما يكون على أي أحد عنده وقت محدد ومقصد محدد وهذه هي الحياة بالضبط.
يعني لو تأخرنا عن مزدلفة وأشرقت الشمس ذهب البيات في مزدلفة! ذهب هذا الأمر وما استطعناه!
لو مثلًا هذا الحاج لم يأتِ عرفة لا أتاها ليلًا ولا نهارًا وهو ناوٍ أن يحج! إذًا انتهى ويقال له: السنة القادمة!
هكذا حياتنا بالضبط لابد في كل فترة من الحياة هناك مقاصد تامة الوضوح، أعمال نعملها نقصد بها ربنا ولا نتأخر، فالخوف الخوف أن نتأخر.
لو كانت هذه المشاعر موجودة تجاه الحياة كان الإنسان سار على الطريق المستقيم وهو في حالة من القوة المعنوية حتى لو ثقل بدنه هناك شوق إلى الله، هناك استغفار، هناك خوف من الضياع لكن الناس سائرون في الحياة وكأنهم مطمئنون تمامًا أنهم على الصراط المستقيم وهذا يضعف في وقت صلاتنا قولنا لربنا: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} والسبب أننا نشعر أننا سائرون ولا نشعر أننا نضيع لكن في الحج لأن الأشياء محسوسة -حسية- أنك ضعت وأن الناس ذهبوا إلى عرفة وأنه ليس هناك علامة وأننا في مزدلفة، لأنه هناك أشياء حسية فهناك خوف، هناك بكاء، هناك إحساس بالحزن، هناك صلاة ودعاء: دلّنا، خفف عنّا، يسر لنا! وهذا حين يكون الإنسان صادقًا في سيره للحج، فتراه أكثر شيء يخافه أن يتأخر عن الوقت، أن يضيع وقت عرفة، أو أن يجد نفسه وقتما يدعو الناس لا يستطيع أن يدعو؛ لأنه لا يعرف أين هو أصلًا في حدود عرفة أم في خارجها...
كل هذه المشاعر التي تسمعونها وراءها حكمة من الله-عزَّ وجلَّ-لأن لو كل الناس وصلوا عرفة وكل الناس ذهبوا إلى مزدلفة وكل الناس تم حجهم بدون أي مشاكل لن تكون هناك مشاعر أنك يمكن أن تضيع، والناس حين تصير هذه المواقف يكون كل ثقلهم على الحملة، كل ثقلهم على الناس، كل ثقلهم على الأشخاص، على الوزارة، على القطار، وهذا ليس صحيحًا إنما من أجل أن تتربى، لكن شعورك أنك تستطيع أن تصل إلى الصراط المستقيم بدون دعاء ولا ابتهال ولا انكسار إنما نشعر أنه بمالنا نذهب نحج والحجة مقبولة بناءً على أننا دفعنا فيها أكثر! فهذه المشاعر كلها أصلًا مفسدات، مفسدات تشبه مفسداتك وأنت سائر في الحياة، شعورك أنك مقبول، شعورك أنك فعلت ما عليك، ورميك دائمًا للأخطاء على غيرك هؤلاء سببوا لي أن أغضب وأقول كلمة خاطئة، وهؤلاء سببوا لي أن أتكلم بالرفث، وهؤلاء سببوا لي، هذا كله ليس مقبولًا كما أنه في الحياة ليس مقبولًا أنك تكون تعرف من ربك وتعظم الله وتسير في هذا الصراط ثم تكسل عنه أو تتأخر.
في الليل هناك وظائف، في النهار هناك وظائف، في الأماكن هناك وظائف...
إذا لم تأخذ كل الوظائف إذًا أنت تائه.
إذا لم تسر على الصراط المستقيم إذًا أنت تائه.
إذا لم تعرف سنة النبي -صلى الله عليه وسلم- في كل شيء إذً أنت لا تنظر إلى راية. وهكذا بالضبط هذه الصورة كاملة.
إذًا فهمنا أن الحج -اسم السورة- : القصد إلى معظَّم هو نفسه بالضبط صورة الحياة، نحن سائرون نقصد الله على الصراط المستقيم، حين يأتي الحج يصبح كأنه الصراط المستقيم موقع جغرافي، والصراط المستقيم في حياتنا ليس حسيًا إنما معنويًا، فهذا الصراط المستقيم المعنوي يصبح في لحظة في الحج عبارة عن حسيّ، وسنلاحظ علاقة بين الحسيّ والمعنوي أن كلا الطريقين مبنيان على الامتثال، ليس هناك اقتراحات أبدًا.
نفترض واحد سائر على قدميه ويذهب من عرفة إلى مزدلفة، والخريطة تقول له: من هنا، لكن هو يقول: فلنجرب هذا الطريق! فماذا سيحدث في النهاية؟! سيضيع! لابد أن يضيع، أو يأتي يقول: أجرب أن أفعل هذا الفعل، بدلًا من أن أرمي سبعة أرمي ثمانية، بدلًا من أن أرمي فقط جمرة العقبة في يوم العيد أرمي الصغرى والكبرى بالمرة! نقول: لا، لا يقبل منك وتصبح مبتدعًا وتصبح خرجت عن الصراط المستقيم ويصبح حجًا ليس مقبولًا لأنك اخترعته، بالضبط هكذا حين يكون الإنسان سائرًا ولا يفكر في امتثال الأوامر إنما يفكر أن يتقرب كما هو يريد وليس كما ربنا يريد.
في الحج أنت لا تستطيع أن تجلس في مزدلفة والناس في منى أبدًا، إنما الناس في منى أنت معهم في منى، الناس في عرفة أنت معهم في عرفة، الناس في مزدلفة أنت معهم في مزدلفة، الثلاثة أيام يجلسونها في منى تجلس معهم، يرمون الجمرات في الثلاثة أيام ترميها في الثلاثة أيام، قبل أو بعد هذه المساحة المفتوحة لا بأس لكن المقصد أن هذه الأعمال هي التي يجب عليك أن تعملها.
فمن قصد الله وهو معظم لله فيمتثل أمر الله، مثلما نمتثل أمر الله في الحج، انظر كم يكون الناس دقيقين في الحج-وهذا مما يشكرون عليه-فتجدهم يسألون: ماذا نفعل، كم حجم الحصى وقتما يرمون، ما حكم البيات في مزدلفة؟ وكثير من الناس يحبون أن يكملوا ما عليهم من الأعمال ويحبون أن يعرفوا ما الدعاء المحبوب، فهذه الدقة في الحج صورتها في الحياة أن لا تخطو خطوة إلا وقد كانت على الصراط المستقيم، لا تفتِ نفسك فتوى تذهب بدينك! لا تدخل في بيع وشراء لا تدري هل هو ربا أم حلال، لا تعالج بشيء ولا تدري هل هو شرك أم توحيد، وهكذا إلى أن يتم للإنسان أن يخرج من الحياة على الصراط المستقيم. 
مما نلاحظه أيضًا في الحج مقابل الصراط المستقيم أن الحج أيام معدودات والحياة تشبهها، الفوارق الشاسعة بين الناس في الأيام التي نراها طويلة بالضبط مثل قوم تعجلوا وقوم تأخروا، يعني كأن ليس بينهم إلا ليلة ويوم فقط، مهما طالت الأعمار ما بينهم إلا هذا اليوم، فإذا أطلت جدًا ستزيد عن الناس بيوم، وهذا اليوم اجعله عشر سنين، اجعله عشرين سنة، لكن في النهاية لابد أن تخرج من مِنى، لابد أن تخرج من الحياة... 

الحج أيام معدودات والحياة تشبهه
والذي رأى المشهد حين يخرج مِن مِنى سيكون بالضبط هو حقيقة الحياة لأنه أول ما يخرج الناس من مِنى، يقلعون خيامهم وتصبح مِنى-بعدما كانت فيها الأعداد والطعام والشراب والناس طوال ثلاثة أيام-لا شيء، اليوم يكون هذا المخيم مبني وهذا المخيم مبني، ولا يخرج من ذاك اليوم إلا وقد هُدّ كل شيء! وترجع مِنى إلى صورتها الأساسية وهكذا بالضبط الحياة سَيدُك الله-عزَّ وجلَّ-هذه الأرض دكًّا لا يوجد فيها عوجًا ولا أمتًا أبدًا، كل شيء متساوٍ، فالناس الذين كانوا يتفاخرون على غيرهم نحن في مخيم كذا يصبح ولا شيء، كله ذهب، مجرد زينة زائلة ستصبح متساوية في لحظة.
فالمقصد أن هذه الصور كلها تجعل الحج له عظمته في النفس سواء حججت أو لم تحج، الحياة صورة من الحج، طبعًا الذي يحج ويشعر بالمشاعر الحقيقية التي تنقله إلى الحياة سيكون موقفه مختلف عن من لم يشعر، لكن لو حركت قلبك؛ ستفهم أننا نسير على الصراط المستقيم الذي يشبه صراط الناس السائرين إلى ربهم في الحج.
يبقى علينا شيء مهم جدًا أن نفهمه: أن الحج قصد إلى معظّم، وإذا ما كان هذا الأمر واضحًا يعني إذا قصدت لكن ليس إلى المعظَّم ماذا يحصل في الحج؟! ترى سفيه، ترى هذا الشخص الذي لم يعظم ربه في كل المواقف سفيه، أصلًا لماذا تحصل مواقف؟! ما السبب في المواقف؟! 
نقول: الحج بالضبط يشبه الحياة لا يمكن أن يكون على ما تحب ويأتي بما تريد! بل لابد من بلاء يجره بلاء، والناس الذين يذهبون إلى الحج بتكرار، الله-عزَّ وجلَّ-ينوع عليهم أنواع البلاءات كل سنة بصورة: سنة يكون أصحابهم بلاءهم، سنة تكون نفوسهم بلاءهم ووسواسهم والشيطان، وسنة يكون وسنة يكون...
 لذلك مما يميز الحج أنه لا يشبه رمضان والشياطين ليست مثل رمضان مصفَّدة إنما هي منتشرة، وأيضًا في الحج هناك مشكلة أخرى بعد شياطين الجن، أن هناك شياطين الإنس فتجتمع عليك الصورة الحياتية الحقيقية أن هنا بلاء وهنا بلاء وهنا ينقص عليك ماذا تفعل في البلاءات؟! إذا بقيت تقول: هذا فعل وهذا اعتدى وهذا يستحق أن أرد عليه وهذا يستحق أن أدفعه وهذا دفعني أدفعه وهذا أخذ مني أأخذ منه...إذًا أنت راسب راسب راسب في كل الاختبارات!! لا يحتمل الحج ذلك أبدًا، ولابد طوال الوقت أن تقول: إن الله عظيم في نفسي؛ ومن أجله سأحبس نفسي، من أجله لا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج، تحبس نفسك من أجل العظيم.
فتصور الصورة: الأربعة أيام أنت تقول: هي كلها أربعة أيام ولن تعيش معه طوال العمر، هذا الذي جالس بجانبك أو الذي فوقك أو الذي هنا أو من قابلته لن تعيش معه طوال العمر، تقف تصلي في الحرم مثلًا أو تطوف ويأتي أحد يجاورك ويؤذيك أو امرأة تدفعك، فقط هذه اللحظة التي تمر عليك فيها تشبه ساعات أو أيام أو سنين لأحد يمر عليك وسينتهي!
مثلما يحصل في الطواف، انظروا كيف في الطواف لا نبقى بجانب أحد إلا الذين نمسك فيهم، مثلًا حين يكون والد وأبناؤه يمسكون في بعضهم، وأيضًا يمكن أن يضيعوا، لكن الذين يطوفون حولك ميزتهم أنهم يتغيرون، فلو تريد أن تعادي هذا وتجري وراءه لتؤذيه لأنه آذاك وهذا الآخر فعل لك كذا وهذا تنظر له وهذا تتأكد منه...إذًا ذهبت الحياة، في الصورة ذهب الطواف وفي الحياة ذهبت الحياة، فأنت تقول: هذا بيت الله لا أكون سفيهًا فيه. وهكذا بالضبط وأنت في الحياة، الرحلة إلى الله! فلا تكن سفيهًا تشتغل بغير أنك في بيت الله، بغير أن قدماك قد وطأت مكان وطئه الأنبياء، لا تفكر في غير هذا، من تعظيم البيت الحرام، ومن تعظيم ما عظَّمه الله-عزَّ وجلَّ-يقع في قلبك أنه عيب أن الله ينظر إلى قلبك وأنت مشتغل بالخلق، عيب أن ينظر الله إلى قلبي وأنا أريد أن أأخذ حقي من فلان وعلان، كله عند الله، وتصبح هناك طمأنينة في القلب أن هؤلاء الذين حولك فقط يمرون عليك وهكذا الناس حولك فقط يمرون لحظة الاختبار.
لحظة الاختبار هذه -تصوروها بهذا الشكل- أنك سائرة وجاءت هذه الحاجَّة ودفعتكِ وأنت إلا تدفعيها مثلما دفعتك! فتحاولين أن تسرعي لتصبحي في صفها، هكذا بالضبط حين تأتينا البلاءات في الدنيا هذا آذاني فأركز معه فماذا أفعل؟! أسير بنفس سرعته في الدنيا فيبقى البلاء عليّ وأنا كان يمكنني أن أخففه على نفسي بألَّا أركز معه وأطلب من الله أن يغفر له ويغفر لي ثم سيذهب وينتهي، مثلما يطوف الناس ويبتعدون عنك بالضبط هذه البلاءات في الدنيا تطوف عليك وتبتعد عنك. 

الحج يشبه الحياة من جهة السعي
هذا الحج يشبه الحياة من جهة السعي، انظر كيف أن الناس سعيهم في السعي شتَّى! هذا يتكلم في جواله وهذا عصبي وهذا متثاقل وهذا سرحان وهذا تعبان وهذا مركز ماذا يفعل وماذا يقول، فتخيل كيف سعيهم شتى في السعي والناس أوضاع مختلفة واليوم هذا يتكلم في جواله وهذا كسلان فتري صور واضحة تمامًا بأن سعيهم شتى والحياة تشبه هذا السعي كل الناس سعيهم يختلف على حسب حالهم وحضور قلبهم ونظرتهم للحياة.
إذًا كيف تتصور الحياة؟! الحياة تشبه هذه السبعة أشواط طوال الوقت تنكسر وتسبح وتذكر الله وسيأتيك هذا وسيأتيك هذا وستطول عليك المسافة وهنا تسرع وهنا تبطئ وهنا تنزل في بطن الوادي وهنا ترتفع وهنا تكون على الجبل، هكذا الحياة بالضبط، تخيلوا معي (المـَسعى) ما صورة المـَسعى؟! جبل ثم وادٍ ثم جبل مرة أخرى ثم تعود فتنزل إلى الوادي هكذا فقط، وهذا الذي نتصوره بسيط، كأنه يصور سعي الناس في الدنيا.
فالمقصد الآن أن الحج عمل لو نظرت إليه بتحليل رأيت بالضبط الحياة.
المقصد أن هذا الاسم حين سميت به السورة له دلالات عظيمة وخصوصًا لو نظرت جيدًا كيف وقعت هذه السورة بين سورتين: بين سورة الأنبياء وبين سورة المؤمنون.
أما الأنبياء فقد اتفقوا جميعًا على الحج، اتفقوا جميعًا على هذا النسك؛ ولذلك حين يأتينا -إن شاء الله- في الأسبوع القادم الكلام عن إبراهيم -عليه السلام- سنرى كيف أن إبراهيم نادى واتبعه كل الأنبياء في ذلك، فلما جاءت سورة الحج تقول: وكلهم دعا إلى التوحيد وكلهم دعا إلى الحج. ثم تأتي سورة المؤمنون بعد سورة الحج خصوصًا أننا نجد خاتمة سورة الحج تنادي المؤمنين: {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} ستتبيَّن لنا -إن شاء الله- العلاقة بين سورة الحج وسورة المؤمنون وسورة الأنبياء.

نبدأ الآن بمطلع السورة، سنقف فقط وقفات على السورة:
بِسْمِ اللَّـهِ الرَّحْمَـٰنِ الرَّحِيمِ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (١) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَىٰ وَمَا هُم بِسُكَارَىٰ وَلَـٰكِنَّ عَذَابَ اللَّـهِ شَدِيدٌ}
ابتدأت السورة بنداء الناس: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} وجاء الأمر بالتقوى، لكن انظروا بداية سورة الأنبياء: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ} ثم أتى بعدها في سورة الحج خبر عن الساعة، جاء خبر عن زلزلة الساعة وأن زلزلة الساعة شيء عظيم ثم أتى أخبار عن تفاصيلها، فقط نرى مطلع سورة الأنبياء لنتصور الأمر.
بِسْمِ اللَّـهِ الرَّحْمَـٰنِ الرَّحِيمِ
{اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ (١) مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (٢) لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَـٰذَا إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ} 
في سورة الأنبياء التي هي قبل سورة الحج أتى الخبر: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ} ما حالهم؟ {وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ} فهذه الغفلة سببت لهم الإعراض {وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ} هل لا تأتيهم النذر، لا تأتيهم الآيات؟ لا، بل تأتيهم {مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِم} ما صفته؟ {مُّحْدَثٍ} الذكر (محدث) أي: جديد، مجدد، يجدد لهم التذكير، ما ردهم؟ {إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ} ما حال قلوبهم؟ {لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ} إذًا لاهيةً قلوبهم ولاعبة أبدانهم، مع أن الذكر يأتيهم ومع اقتراب الحساب، فماذا نفعل مادام اقترب للناس الحساب؟! {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ} جاءت كلمة الناس وجاء في أول الحج {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ} يعني مادام اقترب الحساب لا تكونوا من أهل الغفلة، لا تكونوا من أهل اللعب، لا تكونوا من أهل اللهو، لا تلهو قلوبكم وتلعب أبدانكم، وكلما جاءكم ذكر يذكركم بلقاء ربكم كان موقفكم أن تعاملوه باللعب وتعرضوا عنه.
ونحن اليوم كل يوم هناك ذكر محدث لنا، فإذا نظرنا للشمس التي تولد كل يوم صباحًا وتموت كل يوم في نهاية اليوم، وإذا نظرنا للقمر يولد في بدايته ويموت في نهايته ثم إذا نظرنا للأكثر والأقرب حسًا وهم الموتى الذين يموتون حولنا، كل هذا ذكر محدث، كل يوم يقال لنا: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ} إلى درجة أننا بنفسنا نعيش مواقف نكون آمنين في سيارتنا -اسأل الله أن يؤمّن الجميع ويؤمّن المسلمين-نكون في سيارتنا سائرين ولا نجد إلا قد حصل حادث أو حصل كذا من الأمور، في لحظة إذا ما قلت: (لا إله إلا الله) انتهى الأمر ثم ينجيك الله ويخرجك الله فهذا ذكر محدث؛ لتتذكَّر لقاء الله، فلا تقابل الذكر المحدث بالإعراض! إنما قابله بالتقوى، تجد نفسك كدت أن تهلك ثم ينجيك الله، فقابل ذلك بالتقوى، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ} وما الذي يدفعكم للتقوى؟! أن تكونوا مؤمنين، أن تكونوا مصدقين، أن تكونوا متيقنين، بأي شيء؟! بما ستلقونه، بما سيكون حقًا موجودًا.

هذا الجزء الثاني الذي سنتكلم فيه: أن أزمتنا الحقيقية فيه أن ما نسمعه دائمًا معرفة، مجرد معارف نسمعها لم تبلغ في قلوبنا لا علم اليقين ولا عين اليقين ولا حق اليقين فلا نراه؛ ولذلك في سورة التكاثر الله-عزَّ وجلَّ-يقول: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (١) حَتَّىٰ زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} أي: يبقى يلهيكم ويلهيكم حتى تصلوا إلى المقابر ثم يقول لنا في آخر السورة: {كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (٤) كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ} لا تكفي أن تكون معلومة أن نأتي نناقش مثلًا قول الله-عزَّ وجلَّ-: {إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (١) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ} هذا الكلام كله مفهوم في أصله أنه سيأتي وقت ستذهل عن كل شيء، نحن في المواقف البسيطة نذهل عن كل شيء فكيف حين يأتي هذا اليوم كل شيء تذهل عنه ولن تفكر إلا في نفسك، اليوم  تجري وراء فلان وتجري وراء محبة فلان وغدًا لن تفكر إلا في نفسك فقط لكن لا تجعل الوقت المناسب يفوت، الوقت الذي تفكر فيه في نفسك فقط!

أزمتنا الحقيقية أن الحقائق التي نسمعها تقف في عقلنا على حد أنها معرفة ولا تبلغ قلوبنا
هذا الكلام الذي نسمعه بدون الدخول في تفاصيله معروف عندنا، معروف عند الناس أن يوم القيامة سيكونون فرادى ويلاقون ربهم ولا أحد ينفعهم لا شفيع ولا صديق حميم ولا أحد ينفع أحد ومع ذلك نعيش المواقف والأحداث بالضبط في الثلاثة كلمات التي ذكرت في سورة الأنبياء (معرضون، لاهية قلوبهم، يلعبون)!
والسبب في هذا كله: أن الحقائق التي نسمعها تقف عندنا في عقلنا على حد أنها معرفة كأننا نتثقّف، كأن أحد يقول لك: في الفضاء هناك كائنات كذا وكذا! كأنه كلام بعيد عنا، فنحتاج أن نرد قلوبنا ونحتاج أن نفكر ونفكر، نحتاج أن نغير همومنا ما الذي يهمّنا؛ ولذا كلما سمعت هذه الأخبار لابد أن تفكر في الأحوال، لابد أن تفكر بشريط واضح تمامًا ماذا سيكون حين يأتي الملك، متى سيأتي مجهول، لكن ماذا سيحصل حين يأتي إما ملائكة رحمة أو ملائكة عذاب، وهذه ما يجب أن يهمني ويشغلني وأفكر فيه، وكيف تأتي ملائكة بمقدار الأفق يكونون، وكيف حين تقبض الروح إما تقبض بيسر وسهولة وإما يحصل فيها كذا وكذا... كل هذه الحقائق تحتاج أن تكون محل للتفكير، تشغل القلب، إلى أن يتعايش الإنسان هذه الحقائق فتؤثر عليه لكن الناس ماذا يفعلون؟! سنسمع الآن كيف ينقسمون إلى أربعة أقسام.

سنقرأ آية 3 و4، وآية 8، وآية 11، وآية 14.
{وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّـهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ (٣) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَن تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَىٰ عَذَابِ السَّعِيرِ}
أمام الأمر بالتقوى الذي أتى قبله ذكر محدث والناس يسمعونه ماذا يفعل الناس أمام هذا التذكير، أمام الأمر بالتقوى؟! بدأ الصنف الأول، الصنف الأول: يجادل حين تقول له: تذكَّر ما سيكون بعد هذا، حين تكون في هذا الموقف ليس هناك رجعة، ليس هناك ارتداد إلى هنا، ليس هناك حل، اتقِ الله من أجل أن ينجيك الله.
فصنف يجادل لكن ليُعلم أن هذا لم يجادل من منشأ نفسه إنما هذا يجادل وهو يتبع أحد ولذلك سنرى صفته، يقول الله-عزَّ وجلَّ-: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّـهِ} أي: يجادل في لقاء الله، يجادل في عقوبة الله، يجادل في أوامر الله، يجادل في أمر الله بالتقوى، يجادل وهو يجادل هل يفهم ما يقول؟! الجواب: لا؛ لأن الله-عزَّ وجلَّ-يقول: {بغير علم} أي: يأتي لأي معصية من المعاصي التي يحبها ويهواها ويقول: الأغاني ليست حرامًا، لماذا؟! يقول: أنا أرى أن الأغاني ليست حرامًا، أنا أرى هذا، هكذا من عندك؟! نعم، من عنده أخذ قرارًا! إذًا يجادل بغير علم ويكلمك وهو أصلًا مشكلته الأساسية أن هذا هواه ولذلك يجعله الموضوع الرئيس في الحياة وإلا أنت أصلًا لم تأتِ تقول له: هذا حرام وهذا حلال، لم تأتِ تقول له، إنما هو يبدؤك بالجدال لأن الاستسلام الذي هو أصل الدين ليس موجودًا، فمادام الاستسلام الذي هو أصل الدين ليس موجودًا، يجادل.
واضحة جدًا هذه الصورة في الحج، نأتي نقول للحاجَّة مثلًا: "سنستيقظ غدًا قبل الفجر بساعة لتجمعوا أغراضكم ونذهب إلى عرفة". تقول: "لماذا ساعة؟! نقوم قبل الفجر بنصف ساعة!" فنبدأ الآن في الدنيا يخاصموننا ويجادلوننا! إلى أن نصل نقول: "الأولى في مزدلفة أنك لا تتكلمي وتنامين من الليل ما تستطيعين نومه" الأول كان في الدنيا والآن في أمر الشريعة، تقول: "لماذا ننام وهذا ليس وضع يسمح بالنوم وربنا لم يشدد علينا...!" وكلما تكلمنا في شيء تجادل، الآن هل هذه تجادل من نفسها؟! سنجد صفتين، هذه صورة في الحج وصورة في الحياة:
الصفة الأولى: أنه بغير علم.
والصفة الثانية: أنه يتبع كل شيطان مريد
 كأنه هو بنفسه ليس من أجل الجدال ويأتي أحد يدربه على أن يجادل في كل شيء، هذا حين يعترض لا يريد أن يعترض إنما فقط يقلد، فهو يتبع كل شيطان مريد. هذا الشيطان المريد لا يقصد به هنا شياطين الجن إنما أصلًا يقصد به شياطين الإنس الذين يخرجون مثلًا في الإعلام وفي وسائل التواصل فيعترضون على دين الله.
شخصين: المجادل والشيطان المريد، ماذا يفقدون وما علاقتهم بالحج؟! 
يفقدون تعظيم الله، وفقدانهم لتعظيم الله يؤدي إلى عدم الاستسلام، وإذا ما استسلموا ما صورة عدم الاستسلام؟! الجدال.
ولذلك بني إسرائيل في سورة البقرة ماذا فعلوا حين أمروا أن يذبحوا البقرة؟! جادلوا، ما استسلموا فكانوا نموذجًا إلى قيام الساعة أن هذا الذي يجادل حاله الحقيقية أنه لم يستسلم لله-عزَّ وجلَّ-.
تصوّر الحاج الآن؛ الحاج وغير الحاج، غير الحاج مع دين الله والحاج مع الحج: إذا لم يستسلم في تشريع الله ولم يستسلم حتى في دنياه لما خطَّه القوم ماذا يحصل؟! سيجادل ثم لابد أن يتوه، لابد أن يفقد قلبه، لابد أن لا يصل إلى حج.
ولذلك من الممنوعات في الحج الرفث والفسوق والجدال، ولماذا يصبح ممنوعًا في الحج؟! 
ليصبح سمتك الطاعة لله، ليكون الاستسلام طريقك، وأنت أصلًا الدين الذي تدين به اسمه الإسلام، فما المطلوب منك؟! الاستسلام، هذا الاستسلام فقده الناس مع جهلهم، يعني جاهل وغير مستسلم، ماذا تتصور من جاهل غير مستسلم؟! 
مثل الطفل الصغير الذي لا يفهم أي شيء في الحياة ويأتي يقول لك: المفترض تفعل كذا المفترض أن لا تفعل كذا! فماذا يكون موقفك من طفل صغير لا يفهم الحياة ويأتي يقول لك: المفترض تفعلين كذا وتتركين كذا؟! أكيد أنك تعتبرينه سفيهًا لأنه جمع بين أمرين: جمع بين الجهل والكلام في شيء لا يفهمه.
إذًا الناس في الحياة وفي الحج سواء هناك صنف كبير وقاعدة عريضة لا تستسلم إنما تجادل، معها علم وهي تجادل؟! ليس معها علم!! وتجادل في الله، ما معنى أنها تجادل في الله؟! يعني تجادل في شرع الله، تجادل في لقاء الله، تجادل في استحقاق الله في الانكسار والذل والخضوع، تجادل في ذلك، إلى أن بلغنا للأسف الشديد أنهم يجادلون في وجود الله!
وطبعًا هذا وحده كاف لنعرف حجم المشكلة، وكيف أن الجدال بدايته رأي في الشرع ونهايته نبذ الشرع، لابد أن ينبذ الشرع، وما أصبح بني إسرائيل مغضوب عليهم إلا حين بدؤوا بالجدال.
وهناك فرق كبير بين الجدال والمعرفة، فرق كبير لكن المشكلة أنهم تمرنوا على يد مجادلين فانتهى الأمر أنهم يعتقدون أنهم يسألون وهم في حقيقتهم يجادلون في الدين، فهناك فرق كبير بين واحد يقول: اقنعني لماذا أرمي سبعًا، اقنعني لماذا أطوف حول الكعبة سبع مرات؟ وبين واحد يقول: من المؤكد أن هذه السبعة التي نطوفها لها أثر في حياتنا ولها صورة...فتقول له: أنت مؤمن أن الله حكيم هنا مطلوب منك أن تستسلم لحكمته فيقتنع لأنه هو أصلًا سأل وهو مؤمن بعظمة الله.
ولذا الحج قصد إلى معظَّم، والحياة تشبهه تمامًا أنك في حياتك تسير إلى معظَّم، إلى عظيم، المطلوب منك أن تستسلم في طريق السير

الحج القصد إلى الله العظيم، المطلوب منك أن تستسلم ولا تجادل في شرعه
المشكلة الأولى أن هناك واحد يجادل وهو لم يعطَ جدلًا، يعني هو بنفسه لم يعطَ قوة على الجدل إنما يرسلون له مقطع من دقائق أو من ثوانٍ يسمع كلمتين ولا يفهمهم فيحملها ويتكلم، ويكون مجلس طويل عريض الناس فيه من أهل الدين والصلاح والإيمان ثم نأتي نقول: هجرنا سنة النبي -صلى الله عليه وسلم-، علينا أن نقرأ سنة النبي -صلى الله عليه وسلم-، علينا أن نهتم بسنته ونقرأ صحيح البخاري ويأتي واحد صغير لا يفهم شيء يقول: لكن صحيح البخاري ليس صحيحًا ولا ينسب للنبي -صلى الله عليه وسلم-!! من قال لك إنه ليس صحيحًا؟! فيدور ولا يعرف من قال له أصلًا! لكنه التقطتها مثل الجرثومة دخلت إلى قلبه وأصابت فؤاده وهو لا يدري أنه مريض، ويتكلم به وهو لا يشعر أنه قد أجرم في حق دين الله!
كيف تظن أن الله لا يحفظ سنة النبي صلى الله عليه وسلم! 
وكيف تظن أنه لا يقيض رجالًا لها!
وكيف تظن أن جزءً من دين الله يضيع! كيف تظن ذلك!
الشاهد أن من جادل في دين الله تبعًا، فقد نقض أهم عُرى الإسلام؛ لأن الإسلام هو الاستسلام.
غالب هؤلاء يُشفق عليهم الحقيقة لأنهم جهال ويتبعون ويمكن أكثر شيء والديهم والمجتمع المحيط يتحمل مسؤولية تركهم لهؤلاء المجادلين، واليوم أصبح الجدال ثقافة-على تعبيرهم-وأصبح الحوار ويتكلمون في كل شيء الذي يعنيهم والذي لا يعنيهم والذي يفهمونه والذي لا يفهمونه يتفلسفون فيه! أصبحت هذه الشابة المثقفة أو الشاب المثقف هو الذي له رأي في كل شيء يفهمه أو لا يفهمه، وهذه كلها ثقافة من خارج ديار المسلمين، هذه جرثومة دخلت على عقول المسلمين، والحقيقة أن المسلم إذا أمره الله قال: سمعًا وطاعة.
ألا نسمع هؤلاء الكرام كما وصف الله-عزَّ وجلَّ-في أخر سورة البقرة: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ} ما وصف هؤلاء المؤمنون؟ وصف هؤلاء المؤمنون أنهم آمنوا بالله وبكتبه وبرسله ثم أهم شيء {وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا}، هؤلاء إذا ما عللت لهم ما قال: سمعنا وأطعنا، وإذا عللت له طعن لك في الدين والدين لا يحتمل أن كل شيء يعلل والأصل أن تعبده بالاستسلام.
قال الله-عزَّ وجلَّ-: {كُتِبَ عَلَيْهِ} كتب على مَن؟ يعني الله-عزَّ وجلَّ-قدَّر على هذا الشيطان أن يُضلّ كل من اتبعه، فمعنى ذلك أن الإنسان لو ترك نفسه لهذا الشيطان لابد أن يضله {أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ}.
وأيضًا {وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} ونحن نريد أن نهتدي إلى الصراط المستقيم وطوال الوقت نقول: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} هذا الصنف الأول الذي يجادل تبعًا، ليس رأسًا إنما هو يتبع كل شيطان مريد.
تصور هذا الشيطان المريد مَن هو؟ 
يكون هؤلاء الإنس الذين في الإعلام، الذين يأتون إلى دين الله ويطعنون فيه، يأتون إلى حقائق الإيمان ويطعنون فيها، يقولون لك: لابد كل شيء أن تمرريه بعقلك، كأن العقل أداة للحكم على الشريعة! والعقل أداة لاستقبال الشريعة وليس للحكم على الشريعة، وهم بنفسهم في دنياهم إذا مروا بتجارب أخذوا نتائج التجارب وجعلوا عقولهم تحكم على النتائج لكن ليست عقولهم تقول النتائج إنما عقولهم تحكم على النتائج.
إذًا العقل دائمًا يستقبل النتيجة فالشريعة حين تأتيك تستقبلها، وُجد عقلك من أجل أن يعقلك عن الخطأ من أجل أن تصل أن تتقي الله؛ ولذلك في سورة الفجر: {هَلْ فِي ذَٰلِكَ قَسَمٌ لِّذِي حِجْرٍ} يعني يحجره عن الخطأ، يمنعه عن الخطأ بعدما يعرف الحقائق، الله يخبرك ما هي الحقائق التي تغيب عليك وأنت تجعل عقلك يحجرك عن الخطأ؛ ولذلك العقل السليم هو الذي حين يأتي في المواقف يتقي الله، لا يجادل في تقواه إنما يتقي الله.
هذا الصنف الأول، باختصار الصنف الأول ما صفته؟ يجادل وهو متبع، يتبع كل شيطان مريد.

والآن سيأتيني وصف الشيطان المريد في آية 8 و9 و10.
{وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّـهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ (٨) ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّـهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ (٩) ذَٰلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّـهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ}
نرى صفاته: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّـهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ} إلى هنا يشبه الأول، لكن هذا: {بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ} ما الفارق؟
الفارق أنه ادّعى أن عنده علم، ادّعى أنه ممن يعرف الحقائق، ثم تجد أنه بغير علم ولا مهتدٍ بهدي ولا هناك كتاب منير يدله إنما فلسفة وآراء الناس وأفكارهم وآراؤه ولا هو يرى ولا يرى مثله من الخلق، وفي لحظة يقارن بين كلام قاله الله أو كلام قاله النبي-صلى الله عليه وسلم-وبين كلام قاله فلان وعلان ويرجح بينهم وممكن يأتي في الأخير يقول وكلام الله أصوب! أصلًا من بداية الأمر كيف تتصور أن تقارن بين كلام الله وكلام رسوله وبين كلام هؤلاء، حتى لو صوبته!
ألم تر أن السيف ينقص قدره **إذا قيل أن السيف أمضى من العصا!
كيف أصلًا تقارن بين السيف والعصا؟! كيف يقارن الناس بين كلام الله وكلام غيره! 
فعدم تعظيم الله في القلوب وعدم قصد المعظَّم-سبحانه وتعالى-سبّب أنّ الإنسان يلوّث فكره بأي أمور، بأي كلام يسمعه، انظر كيف حين واحد يقارن بين الله الشافي وبين الحلقة التي ممكن أن يلبسها أو الخيط الذي يمكن أن يلبسه! هذه كلها أهوال حقيقية تدل ّعلى عدم تعظيم الله-عزّ وجلّ-. على كل حال، هذا صفته أنه {يُجَادِلُ فِي اللَّـهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ} ثم أنه له صفة نفسية خطيرة، وهذه الصفة النفسية من تأمّل وجدها مباشرة، أنه ما به؟
{ثَانِيَ عِطْفِهِ} ما معنى (ثاني عطفه)؟ أي: يلوي عنقه تكبّرًا، يقول: لا تناقشني، أنا أفهم، لا تكلمني، أنتم مساكين لا تفهمون! وأكثر صفة واضحة فيه أنه يرى نفسه أفهم من الخليقة، ثم يُخرج لك من التراث ويُخرج لك من كلام العلماء السابقين ويقول لك: البخاري قال كذا ويُرد عليه، والطبري قال كذا ويُرد عليه! يعني هو الفهيم وأن هؤلاء كلهم هذه ثغراتهم وهذه عيوبهم وهذه أخطاؤهم، ونحن لا نقول إنهم معصومون، إنما كل الخلق يخطؤون، لكن مَن عُدّ خطؤه كان دليل فضله.
المقصد أن هذا المتكبّر يرى نفسه أنه فهيم، يرى نفسه أنه يستطيع أن يقدر الأمور، يرى نفسه أن كلمته يجب أن تسري على الناس وأن الذي لا يطيعه ضال، وبذلك يكوّن في نفوس الناس حزبية له، فيستنصرهم لنفسه، ويكوّن له شعبية بحيث ينتصر الناس لرأيه ويدفعون كلام العلماء. فهذا يجمع بين صفات:
أولًا: أنه يجادل بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير.
والأمر الثاني: أنه مع عدم استسلامه، في حالة من الكبر ويصوّب نفسه ويخطّئ أي أحد آخر.
وهذه الصفة للأسف الشديد موجودة عند ناس كثيرين، أنه الصواب وأي أحد يخالفه خطأ، يعني ليس هناك أمر ثانٍ ولا الأمر واسع ولا نناقش الموضوع ولا أي شيء، يطالبك بالحوار يطالبك أن تسمعه ويمتنع هو أن يسمعك، وأي أحد يخالف رأيه يصبح عدوه! وهكذا إلى أن تجد المجتمع قد انقسم وتحارب فيما بينه بناء على ظهور مثل هؤلاء في المجتمع.

الله-عزَّ وجلَّ-ذكر هنا وعيدًا لهذا الذي يجادل بغير علم ومتكبّر، في مقابل أن الأول الذي يجادل وهو متبع لله-عزَّ وجلَّ-عرض عليه الحقائق، يعني حين نرجع للآيات الأولى سنجد أنه بعدما ذكر الصنف الأول عرض عليه الحقائق: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ} عُرضت عليه الحقائق، في مقابل الصنف الثاني لم تُعرض عليه الحقائق إنما أخبر أنه: {لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ} والسبب: أن فيه صفة تشبه صفة إبليس وهي الكبر، فإذا وجد الكبر أي موعظة لن تأتي بنتيجة.
هكذا أنت تقابل في الحياة وتقابل في الحج، أشخاص لا يعظمون الله في نفوسهم إنما نفوسهم هي العظيمة في نفوسهم، أهم شيء نفسه، وهذا كأنه يمثل صورة الذي اتخذ إلهه هواه، هو العظيم إذا قال القول لا يثنيه، إذا قال رأيه في مسألة لا يثنيها، لكن عندك علم أو تفهم؟! يقول لك: أنا فلان الفلاني، أنا حاصل على كذا ويأتي بكل الحروف التي قبل اسمه ويقول لك: أنا كذا وبحثت في كذا، ويمدح نفسه ويمدح نفسه (كالبالونة) في الانتفاخ!
 هذه المشاعر الخطيرة اليوم بعدما كان في الزمن الماضي يستحي الناس أن يتكلموا عن أنفسهم، اليوم الناس يتدربون أن يتكلموا عن أنفسهم ويتدربوا كيف يعرضون سيرتهم الذاتية! لا يخرجون على الناس إلا بعدما يقومون بعمل قائمة بقدر الجدار أنه درس وتعلم وجاء وفعل... فهذا كله عبارة عن كمية أمراض مختزلة في قلب صغير، وهؤلاء حتى ليسوا مثل الصنف الأول في كون أن الله وعظهم: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ} وعرض عليهم الأمر إلى أن وصلنا إلى: {ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّـهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَىٰ وَأَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٦) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَّا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّـهَ يَبْعَثُ مَن فِي الْقُبُورِ} كل هذا عرض على الصنف الأول الذي جادل وكان متبع ليرجع عن اتباعه، لكن الصنف الثاني مباشرة هدد والسبب: الكبر، الكبر مرض إذا أصاب الإنسان لا يصلح لا للحياة ولا للحج خاصة.
ولذا واحد من الاختبارات الكبيرة الخطيرة في الحج وتظهر هنا في سورة الحج بسبب السجود وبسبب وصف المخبتين، واحد من الاختبارات الكبيرة الخطيرة في الحج وفي الحياة (الكبر)، الخطر الخطير، والنبي -صلى الله عليه وسلم- وصف الكبر وأخبر أنه: ((لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ)) قَالَ رَجُلٌ: إِنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا وَنَعْلُهُ حَسَنَةً، قَالَ: ((إِنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ، الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ، وَغَمْطُ النَّاسِ)) ذرة من كبر كافية لعدم الاستسلام، والنبي-صلى الله عليه وسلم- وصف الكبر ما هو؟ 
((بَطَرُ الْحَقِّ)) أي رد الحق، متكبر في هذه الجهة بالذات، وبعد ذلك يأتي ((وَغَمْطُ النَّاسِ)) يعني لا يعطي الناس حقوقهم، لكن الأخطر من ذلك كل حق يعرض عليه إذا لم يتبناه هو أولًا يصبح ليس حقًا إلا إذا هو تبناه. مثلًا؛ افترض في زكاة الحليّ، هناك رأيين واضحين عند العلماء رأي يقول: مادام ملبوس إذًا ليس عليه زكاة، ورأي يقول: النبي -صلى الله عليه وسلم- أخذ من المرأة الذي كانت تلبسه وقال كذا وكذا وقال حتى لو كنت تلبسينه عليه زكاة، هذان رأيان، افترض أنه تبنى رأي أن عليه زكاة، القضية ليست الرأي الأخف والأصعب، لا القضية أنه تبنى أنه عليه زكاة، فيصبح كل تفكيره أنه يجب عليكم أن تزكوا، وإذا لم تزكوا أصبحتم عصاة وتدخلون النار وتفعلون! لا يسمح حتى أن تقول إن هناك رأي ثانٍ، عندما تقول: هناك رأي ثانٍ؛ يرد الحق، يرد أن هناك رأي ثانٍ ولا يسمح بالنقاش أبدًا، عندما يتبنى الفكرة مباشرة يحكم بها.  ليس شرطًا أشد أو أقل شدة، القضية ليست هنا، إنما القضية أنه ما دام تبنى هذا الرأي؛ انتهى! يردّ أي شيء آخر من الحق.
ومن أجل ذلك هؤلاء لو قادوا الأمة ذهبت الأمة للهلاك! لأنهم لا يقبلون أبدًا، هناك جماعة يقولون: أنا أرى أن هذا الحق وهناك بعض العلماء خالفوا في ذلك لكني أرى أن هذا الرأي الصائب، هذا الفرق بين أني أرد الحق وبين أن أقول هذا الذي أعرفه من الحق، الذي أعرفه من الحق والذي أعمل به وهذا ما عليه الفتوى، هذه كلها كلمات تسمعينها حين تسمع سؤال على الهاتف ونور على الدرب تسمع هذه الكلمات، يقول: هذا الذي عليه الحق، هذا دلالة الدليل عندنا، هذا ما عليه الفتوى، هذه كلمات كلها تقول لك إن هذا الحق، والكلام الآخر يمكن أن يكون قولًا متساويًا ويمكن أن يكون قولًا لا دليل عليه، فيفهمك الثاني ما هو.
يأتي مثلًا حكم غطاء الوجه يأتي أحد يناقش ويناقش نقول: الأدلة الصريحة والواضحة الثابتة تدل على أن كشف الوجه أمر منسوخ وغطاء الوجه هو الناسخ، ومن ثمّ هذه أدلته التي أتت، صحيح أتت أدلة هنا وأدلة هنا لكن بقاء كشف الوجه كان على الأصل لأنهم أتوا من الجاهلية كاشفين وجههم، ثم أتت الأدلة الناقلة عن الأصل وغطوا وجههم، ففهمنا أن الناقلة عن الأصل هي الشرع الأخير، وكذا وكذا والأدلة وعائشة -رضي الله عنها- في حادثة الإفك حين قالت: "كان يعرفني قبل الحجاب" كل هذه الكلمات وما معنى الجيب في لغة العرب، هذا كله حق وهذا الذي نراه وهذا الذي نعتقده، والذين خالفوا ذلك أخذوا أدلة فيها متشابهات. هذا نقاش غير أن أسفّه كل شيء وأقول: فقط الذي أعتمده هو الصواب وأي شيء آخر باطل! 
لا تتصوري أن هذا الشيء فقط في الدين إنما حتى في الحياة، يعني (س) تشتري مثلًا جوالًا من نوع و (ص) تشتري جوال من نوع آخر، (س) تبقى طوال الجلسة تدافع عن جوالها وعن شركة جوالها وأنه أفضل شيء وأنه ليس هناك مثله وأنت لابد في النهاية أن تعترفي أن جوالك لا يساوي ولا شيء وفقط جوالها الذي طيب، وفقط الذي اشترت منه هو الطيب، أما أنت فلا تعرفي تشترين ولا الشركة ثم تطول الأيام وتأتي نسخة جديدة من جوالك أنت وتأتي تدافع عنه لأنها اعتمدته! أي شيء هي تعتمده وهي تراه إذًا أي شيء آخر لا يكون.
قبل أن نفكر في الناس ونبحث هذه صفة مَن فيمن أعرفهم؟ فلنفكر في أنفسنا، وما أخطر هذه الصفة علينا وما أكثرها وما أكثر تكرارها، يكون من الكبر لأنه رد الحق، أنا أمامي الدليل ولا أقبله، غير النقاش وأني أقول إن هذا الدليل الصائب وغير الحوار وغير معرفة الحق.
ومن أجل ذلك عندما تكون لا تعرف أنه حق ولأنك لم تختره فترده وتراه ليس حقًا هذا مثلما فعل إبليس، إبليس تصوري عابد يعرف مَن هو الله في السماء مع الملائكة، يعرف أن الله خلق آدم بيديه، أُمر بالسجود فيقول لربنا: أنا خير منه! هذه حال خطيرة، لا تتصوروا أن كل من سيكون مثل إبليس سيقول: أنا خير منه، إنما سيرد الحق بصور مختلفة.
عندما يكون طبعنا في الحياة لابد أن يأتي الاختبار ويظهر طبعنا في الدين، مادام الإنسان متطبع في حياته لابد أن يأتي في الدين، فعندما يأتي في الحج يظهر في الغالب الاثنين، يظهر رد الحق في الحياة وفي الدين؛ لأننا نكون ذاهبين نازلين منتظرين وهي ترد الحق، كلما نقول لها: أفضل نجلس هنا تقول: لا لا، أفضل نذهب إلى هنا، إنما ما تعتمده هي، تقول: أفضل نجلس هنا فكلكم تجلسون هنا...فكل هذه الصعوبات التي نجدها في الشخصيات تبدأ برد الحق في الدنيا ثم تنتهي برد الحق في الدين.
فالذي يذهب للحج المفترض أن يكتشف نفسه هل هو من المتكبرين الذين يردون الحق ويجادلون في الحق، وفي الأصل أنت تكتشف نفسك في الحياة لأنك وأنت سائر إلى الله في الحياة ورددت الحق وتكبرت عليه هذا معناه أنك تركت الطريق المستقيم وذهبت إلى طريق إبليس، إبليس فعل هذا بالضبط.

نرى الصنف الثالث والخطير جدًا:
(وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّـهَ عَلَىٰ حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَىٰ وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَٰلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (١١) يَدْعُو مِن دُونِ اللَّـهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنفَعُهُ ذَٰلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (١٢) يَدْعُو لَمَن ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَىٰ وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ)
الحقيقة هذا أخطر قسم من أقسام الناس لكونه في ظاهره أنه مستسلم؛ لأن الله-عزَّ وجلَّ-يقول في حق هذا: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّـهَ عَلَىٰ حَرْفٍ} (يعبد الله) كلمة خطيرة جدًا، فإذا كان وصفه أنه يعبد الله ماذا بقي؟! لكن تأتي الصفة بعدها يعبده (على حرف)؛ ولأن الحرف معنوي وليس حسي لا يشعر به الإنسان، ممكن أن يقف على حرف وهو لا يشعر فتأتي الفتنة، والفتنة هذه خطورتها أنها تقلبه على وجهه، فإذا لم يكن يرد نفسه ويناقشها ويراجعها دائمًا عندما تأتي الفتنة لا يستطيع أن يقف؛ لأنه يقف على حرف، متخيلين حرف الجبل؟! هو متصور أن قدمه ثابتة على الدين.
{وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّـهَ} إذًا صفته أنه يعبد يصلي ويصوم ويتصدق "يعبد الله" لكن دافع هذه العبادة تظهر حين تسمع أنه يعبد الله على حرف، ما هو هذا الحرف الذي سيقلبه؟! مصالحه، هواه.
المعنى {فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ} اطمأن به يعني لم يطمئن بالله إنما اطمأن بالخير، حين وجد نفسه أقبل على الدين واستقام استقامت أموره ونجح يقول: معناه الاستقامة خير، يرسب يقول: ما فائدة أني صليت، ما فائدة أني صمت!
فمعناه لا يطمئن لدين الله إلا إذا أعطاه الله ما يريد، وهو في صورته كأنه واضع قدمه في مكان سليم والحقيقة تصوريه على حافة من جبل تأتي الفتنة كأنها العاصفة التي تدفعه فينقلب على وجهه، خسر الدنيا والآخرة.
وهذا الحقيقة من أخطر الأصناف، لأن في مسألة الجدال ممكن الطباع لا تسمح بالجدال، ممكن الإنسان يحبس نفسه يسكتها لكن حين تكون المقاصد غير صحيحة يكون الإنسان هذا أصلًا عابد لله لكنه غير مكتشف لنفسه أنه يعبد الله على حرف، فعندما تأتي المواقف وتأتي الأمور، يرتدّ ينقلب على وجهه!
هذه الصفة للأسف الشديد ما أظهرها في الحج، واضحة جدًا وتشبه جدًا في الحياة.
مثلًا خرجوا ووجدوا زحام عند القطار، قدر الله أن يكون هناك زحام، لو أراد الله تيسيره كان يسره إنما قدر الله، ولا أتكلم من فراغ إنما من مواقف وأحداث نعيشها مع الحجاج، أنت تعيش مثلما يعيشون وتحبس مثلما يحبسون ثم ترى بنفسك ما موقفك، ولأي درجة أنت قابل أنك محبوس في نوع من أنواع العبادة، أنت أصلًا محبوس تعبد الله!
الناس يقولون: جلسنا خمس ساعات ننتظر القطار، وفي القريب وليس ببعيد في أقل من خمس سنوات كنا نجلس في الباصات خمسة عشرة ساعة ونحن شاكرين الله حامدين له! ونرى الناس السائرين على أقدامهم نقول: الحمد الله، اليوم أنت تركب القطار بعد خمس ساعات تصل في أقل من خمسة عشرة دقيقة والناس يجلسوا خمسة عشرة ساعة في السيارة، لا أتكلم عن الوقائع فقط إنما أتكلم عن أن هناك صور للفتن كثيرة يكون الإنسان سائر أنه لابد أن تكوني يا حملة عندك خطط منظمة، هذه الخطط المنظمة تقابلها الأقدار التي لابد أن نستسلم لها.
كذبوا علينا أكذوبة كبيرة الغرب والشرق أننا منظمين ونسير على القانون وانظري لتسونامي حين آتاهم ماذا فعلوا؟! أغرق الدنيا وحملهم، التفجيرات الأخيرة في الصين ماذا فعلوا؟! إذًا كل شيء يخرج عن السيطرة، لكن يشعرونا أن كل شيء تحت السيطرة!! كل شيء على كيفهم، يضعوا الخطة وتسير بالضبط! حتى الأمراض صار الناس يفكرون فيها هكذا عندك مرض سافر للخارج وافعل كذا ويتحكمون في المرض وأين الله الشافي؟!
فهذه المشاعر حين يكون الإنسان مرتب نفسه أن لا نذهب وأن لا نتأخر إذًا أين المشقة التي وراءها وأصلًا الحج هذا صورة من الحياة لابد أن يكون وراءها المشاق.
على كل حال، هذه التفاصيل كلها يفهمها الحجاج جيدًا ويفهمها الإنسان في الحياة أنه ليس هناك شيء في الحياة يسير كما تريد، لا تتصور لأنك أطعت الله معناه أن الله يعطيك ما تريد! أطعت الله يعني الله يعاملك بحكمته فيسبّب لك أسباب زيادة الإيمان.
تُحبس خمس ساعات وينفرج عنك يوم القيامة الحبس العظيم، تصوري الفارق الآن تحبس خمس ستة عشر ساعة اليوم هنا في الدنيا ثم في نهايتها تصل إلى مخيمك وتصل بعدها إلى بلدك وتغتسل وتلبس وتنام وتفعل كل ما تريد هذا في مقابل أن يوم القيامة لا تحبس عن باب الله ولا تحبس عن باب الجنة! ماذا يكون عشرة أو اثني عشر ساعة، ماذا يكون هذا، لكن لأن الحج قصد إلى معظَّم وعدم تصور أنه قصد إلى معظّم وأنه صورة بالضبط من يوم القيامة حاصل أننا نتعامل مع محسوسات، وحتى في الحياة تُحبس عن هذا من أجل أن تؤجر، تُمنع من هذا من أجل أن تؤجر، تتألم هنا من أجل أن ترتفع، لك درجة في الجنة لا تلحقها إلا بصداع يصيب رأسك، بألم يصيب إصبعك، بمغص يصيب بطنك، هكذا تلحق الجنة هنا وهنا وهنا ثم تأتي الآلام الأكبر والآلام الأكبر إلى أن يسير الإنسان من الآلام والأمراض وليس عليه خطيئة، كل هذا من نعمائه!
فالذي عبد الله على حرف وينتظر فقط ما يناسبه وما يرغبه ما عبد الله حقا.
يعبد الله على حرف، حرفه متى أصاب الخير اطمأن للخير، اطمأن للدين وثبت عليه، وإذا أصابه ضر، شيء لا يناسبه انقلب على وجهه، انقلب على وجهه بمعنى سبّ الدين، كره، رجع، في الحج كره الحج، يسب الحج وهكذا، وتحصل مواقف يظنون أنهم يتكلمون عن الناس وهم في الحقيقة يتكلمون عن الله!
في هذه الأيام خصوصًا لأن المسألة فيها حملات فيضعون ثقلهم على الحملة، على الناس، وفي الحقيقة هم يعترضون على قدر الله، ولا أقصد بهذا الكلام التسيّب إنما أقصد بهذا الكلام أنك مؤمن أنه: ((أَنَّ الأمة لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلاَّ بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلاَّ بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ)) وكثير منا نكون متجاورين نركب نحن وهم لا يركبون، ويركبون هم ولا نركب نحن، وهم يصلون قبلنا بأربعة خمس ساعات ونحبس نحن بسبب فقط خطوة لم نخطها فمن حبسنا وأكرمهم؟! الله.
فأنت تصورها هكذا وتصورها في الحياة إن شاء الله يتبيَّن.

سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.






اقرأ المزيد...