الأحد، 7 ديسمبر 2025

| الدرس السادس والخمسون | تفسير سورة البقرة: من الآية (٧٩) (فويل للذين يكتبون الكتاب…)


الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللمسلمين والمسلمات أما بعد: فيقول الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله:
ن/ "قوله (فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون) توعد تعالى المُحرفين للكتاب الذين يقولون لتحريفهم وما يكتبون هذا من عند الله، وهذا فيه إظهار الباطل وكتم الحق وإنما فعلوا ذلك مع علمهم ليشتروا به ثمنا قليلا، والدنيا كلها من أولها إلى آخرها ثمن قليل فجعلوا باطلهم شركا يصطادون به ما في أيدي الناس فظلموهم من وجهين: من جهة تلبيس دينهم عليهم ومن جهة أخذ أموالهم بغير حق بل بأبطل الباطل وذلك أعظم ممن يأخذها غصبا وسرقة ونحوهما ولهذا توعدهم بهذين الأمرين فقال (فويل لهم مما كتبت أيديهم) أي من التحريف والباطل (وويل لهم مما يكسبون) أي من الأموال، و(الويل) شدة العذاب والحسرة وفي ضمنها الوعيد الشديد قال شيخ الإسلام رحمه الله: «لما ذكر هذه الآيات..» نعم

ت/ بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علما وأصلح لنا إلهنا شأننا كله ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين أما بعد: يقول الله تبارك وتعالى (فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا)
هذه الآية تتعلق ببيان أمر غاية في السوء والشر كان عليه أحبار اليهود وعلمائهم وكبرائهم كانوا يكتبون كلاما بأيديهم ينشئونه ثم يقولون (هذا من عند الله) أي أن الله هو الذي تكلم به وأن الله سبحانه وتعالى أنزله من عنده وهم يعلمون ما هم عليه من الافتراء والكذب على الله سبحانه وتعالى وكل ذلك يصنعونه طمعا في شيء من الدنيا من رئاسة أو مال.
وقول الله جل وعلا (فويل) الويل: هو الهلاك العظيم، وقيل: واد في جهنم.
● (فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم) المراد بـ (الذين يكتبون الكتاب) أي الأحبار الذين بدلوا في التوراة وغيروا وزادوا ونقصوا.
(الذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله)
 قوله (بأيديهم) هذا بيان لعظم الجرم وأنه شيء يصنعونه قصدا وعمدا ويخطونه بأيديهم.
(فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون) أي للأتباع، للأميين الذين لا يعلمون الكتاب إلا أماني يعني إلا مجرد سماع من الأحبار لكن لا يميزون ولا يعرفون فالأحبار الذين هم كبراؤهم يقولون لهم هذا من عند الله، فالعوام الأميين يصدقونهم ويظنون أنه من عند الله ثم يقولون أي للأتباع الأميين الذين لا يعلمون الكتاب إلا أماني أي إلا مجرد سماع أو قراءة (ثم يقولون هذا من عند الله) 
من أجل ماذا يفعلوا ذلك؟
قال (ليشتروا به ثمنا قليلا) الثمن القليل: إما مال أو رئاسة أو كلاهما.
● (ليشتروا به ثمنا قليلا فويل لهم مما كتبت أيديهم) أي من الكذب والبهتان والتحريف والتغيير والتبديل لكلام الله عز وجل.
(وويل لهم مما يكسبون) أي من الأموال هذا الذي يفعلونه من أجل أن يشتروا به مالا ثمنا قليلا، (فويل لهم مما يكسبون) أي من المال أو مما يكسبون من الإثم بهذا الصنيع الذي يصنعونه والفعلة الشنيعه التي يفعلونها، نظير هذه الآية قول الله عز وجل:
(وإن منهم لفريقا يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون) (ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون) هذه نظيرها في بيان حال أحبار اليهود، قال ابن عباس رضي الله عنهما: «نزلت في أهل الكتاب»
(فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم) ثم هذه الطريقة (يكتبون الكتاب بأيديهم) بقيت في كبار هؤلاء وأحبارهم مستمرة، كلما أراد منهم أحد شيء كتب ونسبه للتوراة، ولهذا كثُرت التحريفات وكثُرت النسخ للتوراة كثرة عجيبة كلها يدخلها هذا التحريف وهذا التبديل.
وقد ذكر لي أن شخصا من هؤلاء في زماننا هذا دخل الإسلام بهذه الآية (فويل للذين يكتبون الكتاب) كان مارا في طريق ومحل فاتح لتلاوة القرآن فسمع هذه الآية - فأراد الله له خيرا - أثرت فيه، قال في نفسه هذا الذي نفعله  نكتب ونقول للناس هذا من عند الله، فأيقظه هذا الوعيد وهز قلبه فكانت سبب إسلامه (فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون).
 روى الإمام البخاري رحمه الله في كتابه الصحيح عن الزهري قال: اخبرني عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: «يا معشر المسلمين كيف تسألون أهل الكتاب عن شيء وكتابكم الذي أنزل الله على نبيه أحدث أخبار الله،  تقرؤنه محضا لم يشب وقد حدثكم الله تعالى أن أهل الكتاب قد بدلوا كتاب الله وغيروه فكتبوا بأيديهم الكتاب وقالوا هو من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا أفلا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مساءلتهم؟ ولا والله ما رأينا منهم أحدا قط سألكم عن الذي أنزل إليكم»
قال الشيخ ابن سعدي رحمه الله: «توعد تعالى المحرفين للكتاب الذين يقولون لتحريفهم وما يكتبون هذا من عند الله وهذا فيه إظهار الباطل وكتم الحق وإنما فعلوا ذلك مع علمهم ليشتروا به ثمنا قليلا والدنيا كلها من أولها إلى آخرها ثمن قليل فجعلوا باطلهم شَركا يصطادون به ما في أيدي الناس – أي من الأموال - فظلموا من وجهين - يعني وقع منهم الظلم من جهتين - من جهة تلبيس دينهم عليهم - تلبيس دين الناس على الناس - ومن جهة أخذ أموالهم بغير حق فجمعوا لعوامهم بين بليتين:
الأولى: يلبسون عليهم دينهم
والثاني: يأخذون منهم أموالهم» 
أخذ الأموال على ماذا؟ على شيء يعطونهم إياه محرفا ليس من دين الله ويقولون هذا من دين الله، فجمعوا بين الغش في أعظم الأمور، في الدين نفسه، وأكل أموال الناس بالباطل، وأخذ أموال الناس بالباطل قال: «فظلموا من وجهين: من جهة تلبيس دينهم عليهم، ومن جهة أخذ أموالهم بغير حق  بل بأبطل الباطل، وذلك أعظم ممن يأخذها غصبا وسرقة ونحوهما» هؤلاء الأحبار المال الذي يأخذونه مقابل التحريف والتبديل والتلبيس الذي يفعلونه هذا أعظم من أخذ المال غصبا أو سرقة، ولهذا توعدهم بهذين الأمرين قال: (فويل لهم مما كتبت أيديهم) أي من التحريف والباطل (وويل لهم مما يكسبون) أي من الأموال. والويل: شدة العذاب والحسرة وفي ضمنها الوعيد الشديد. نعم.

ن/ قال رحمه الله: "قال شيخ الإسلام رحمه الله لما ذكر هذه الآيات من قوله (أفتطمعون) إلى قوله (يكسبون) «فإن الله ذم الذين يُحرفون الكلمة عن مواضعه وهو متناول لمن حمل الكتاب والسنة على ما أصّله من البدع والباطلة»"
ت/ نعم. في الأصل «على ما أصّله هو من البدع الباطلة»

ن/ «لمن حمل الكتاب والسنة على ما أصّله هو من البدع الباطلة وذم الذين لا يعلمون الكتاب إلا أماني وهو مُتناوِل لمن ترك تدبر القرآن ولم يعلم إلا مجرد تلاوة حروفه، ومُتناوِل لمن كتب كتابا بيده مخالفا لكتاب الله لينال به دنيا وقال إنه من عند الله مثل أن يقول هذا هو الشرع والدين،  وهذا معنى الكتاب والسنة، وهذا معقول السلف والأئمة، وهذا هو أصول الدين ..
ت/ في الأصل وهو الواضح «وهذا قول السلف والأئمة» عندكم في الهامش كذا في الأصل، وفي كتاب درء التعارض« قول السلف»
ن/ «وهذا هو أصول الدين الذي يجب اعتقاده على الأعيان أو الكفاية، ومُتناوِل لمن كتم ما عنده من الكتاب والسنة لئلا يحتج به
 مُخالفه في الحق الذي يقوله، وهذه الأمور كثيرة جدا في أهل الأهواء جملة كالرافضة، وتفصيلا مثل كثير من المنتسبين إلى الفقهاء» انتهى كلامه.
 أعِد، «وهذه الأمور كثيرة جدا في أهل الأهواء جملة كالرافضة» في الحاشية زاد في الأصل والجهمية ونحوهم من أهل الأهواء والكلام وفي أهل الأهواء وتفصيلا..

 ت/ الزيادة هذه موجودة في الأصل وإثباتها بين معكوفتين في الأصل مناسب لأنها موجودة في الأصل، والواو التي قبل كلمة تفصيلا هذه زائدة انظر الآن الكلام من أوله يقول ابن تيمية: «وهذه الأمور كثيرة جدا في أهل الأهواء جملة» ثم قال: «وفي أهل الأهواء تفصيلا» ذكر أولا جملة ثم ذكر قال: «وهي في أهل الأهواء جملة كالرافضة، وفي أهل الأهواء تفصيلا – قال - مثل كثير» فالواو هذه زائدة. هذا كلام نفيس جدا نقله عن شيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى فيه تنبيه على مسألة مهمة وهي: أن الله عز وجل لما ذكر صنيع هؤلاء الذين هم أحبار اليهود يسمعون كلام الله ثم يحرفونه، (يحرفونه) يبدلون ويغيرون إما الألفاظ أو المعاني، وأيضا عندهم هذا الذي هو التحريف (يحرفونه)، وعندهم الكتمان، وعندهم هذا الذي هو يكتبون شيئا من أنفسهم ويقولون هذا من عند الله
فالله عز وجل لما أخبر عنهم بهذا وتوعدهم وتهددهم يُحذر مما صنعوا، لا يصنع أحد مثل صنيعهم فيبؤ بمثل عقوبتهم، ولهذا يقول شيخ الإسلام لما ذكر هذه الآيات من قوله (أفتطمعون) قال: «فإن الله ذم الذين يحرفون الكلم عن مواضعه وهو مُتناول لمن حمل الكتاب والسنة على ما أصّله هو من البدع» وهذه طريقة أهل البدع يأتي إلى القرآن والعقيدة عنده منتهية ماذا يصنع؟ 
يحاول يلوي النصوص عن مدلولها ليجعلها دالة على العقيدة التي عنده، يعني يعتقد أولا ثم يستدل هذه طريقتهم يعتقد أولا عقيدة مبنية على الرأي على المنطق على أشياء من هذا القبيل ثم يقرأ القرآن ليستدل على عقيدة ثابتة عنده من دون القرآن ويحاول أن يلوي النصوص لتصبح دالة على العقيدة التي عنده. 
الأصل: أن الإنسان يهتدي بالقرآن يأخذ عقيدته أصالة من القرآن، وإذا وجد في القرآن شيئا يخالف ما في نفسه أو ما تعلمه أو ما توصل إليه برأيه يترك رايه ويترك ما علمه ويأخذ بكتاب الله سبحانه وتعالى.
فهذه الآيات مُتناوله لمن حمل الكتاب والسنة على ما أصّله هو من البدع الباطلة، وذم الذين لا يعلمون الكتاب إلا أماني وهو متناول لمن ترك تدبر القرآن ولم يعلم إلا مجرد تلاوة حروفه، الله ذكر في ذمهم - كما تقدم – (لا يعلمون الكتاب إلا أماني)، (إلا أماني) أي ليس لهم حظ من كتاب الله إلا التلاوة فقط، هكذا ذمهم الله سبحانه وتعالى، إذا من يقرأ القرآن ولا يفكر في التدبر وفهم القرآن والاهتداء بهداية القران يتناوله هذا الوعيد، قال: «وذم الذين لا يعلمون الكتاب إلا أماني» وهو مُتناوِل لمن ترك تدبر القرآن ولم يعلم إلا مجرد تلاوة حروفه، ومتناول لمن كتب كتابا بيده مخالفا لكتاب الله لينال به دنيا إما رئاسة أو غير ذلك وقال إنه من عند الله مثل أن يقول هذا هو الشرع وهذا هو الدين، يعني يؤلف شيء من رأيه، من عقله ويقول للناس هذا هو شرع الله وهذا هو دين الله، أو هذا معنى الكتاب والسنة، أو هذا قول السلف والأئمة، وهذا كثير في أهل البدع يريدون أن يروجوا بدعتهم وضلالتهم على العوام وعلى الجهال فيقولون لهم هذا من الكتاب والسنة، هذا دل عليه الكتاب والسنة، أو يقولون أن هذا دل عليه كلام السلف، من أجل أن يروجوا هذا الكلام على العوام والجُهال، وهذا هو أصول الدين الذي يجب اعتقاده على الأعيان أو الكفاية، هكذا يقولون للعوام، ومُتناول لمن كتم ما عنده من الكتاب والسنة لئلا يحتج به مُخالفه في الحق الذي يقوله، وهذه الأمور كثيرة جدا في أهل الأهواء جملة كالرافضة والجهمية ونحوهم من أهل الأهواء والكلام، وفي أهل الأهواء تفصيلا يعني يوجد منها أشياء هناك توجد جملة في الرافضة في الجامية يعني يكاد يكون دينهم كله قائم على ذلك، لكن تفصيلا يوجد أشياء منها متفرقة في كثير من المنتسبين إلى الفقهاء من المنتسبين إلى الفقهاء. هذا كلام في تنبيه مهم من شيخ الإسلام يستفاد من هذه الآيات بدءا من قوله (أفتطمعون) إلى قوله (فويل للذين يكتبون الكتاب) نعم.

ن/ قال رحمه الله: «قوله (وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة قل أتخذتم عند الله عهدا فلن يخلف الله عهده أم تقولون على الله ما لا تعلمون* بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون* والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون) ذكر أفعالهم القبيحة ثم ذكر مع هذا أنهم يزكون أنفسهم ويشهدون لها بالنجاة من عذاب الله والفوز بثوابه وأنهم لن تمسهم النار إلا أياما معدودة أي قليلة تعد بالأصابع فجمعوا بين الإساءة والأمن، ولما كان هذا مجرد دعوة رد تعالى عليهم فقال: قل لهم أيها الرسول (أتخذتم عند الله عهدا) أي بالإيمان به وبرسله وبطاعته فهذا الوعد الموجب لنجاة صاحبه الذي لا يتغير ولا يتبدل (أم تقولون على الله ما لا تعلمون) فأخبر تعالى أن صدق دعواهم متوقف على أحد هذين الأمرين الذين لا ثالث لهما، إما أن يكونوا قد اتخذوا عند الله عهدا فتكون دعواهم صحيحة، وإما أن يكونوا متقولين عليه فتكون كاذبة، فيكون أبلغ لخزيهم وعذابهم، وقد عُلم من حالهم أنهم لم يتخذوا عند الله عهدا لتكذيبهم كثيرا من الأنبياء حتى وصلت بهم الحال إلى أن قتلوا طائفة منهم، ولنكولهم عن طاعة الله، ونقضهم المواثيق، فتعين بذلك أنهم متقولون مختلقون قائلون عليه ما لا يعلمون، والقول عليه بلا علم من أعظم المحرمات وأشنع القبيحات. ثم ذكر تعالى حكما عاما لكل أحد يدخل فيه بنو إسرائيل وغيرهم وهو الحكم الذي لا حكم غيره لا أمانيهم ودعاويهم بصفة الهالكين والناجين فقال: (بلى) أي ليس الأمر كما ذكرتم فإنه قول لا حقيقة له ولكن من كسب سيئة وهو نكرة في سياق الشرط فيعم الشرك فما دونه والمراد به الشرك هنا بدليل قوله (وأحاطت به خطيئته) أي أحاطت بعاملها فلم تدع له منفذا وهذا لا يكون الا الشرك، فإن من معه الإيمان لا تحيط به خطيئته، (فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) وقد احتج بها الخوارج على كفر صاحب المعصية، وهي حجة عليهم كما ترى فإنها ظاهرة في الشرك، وهكذا كل مُبطل يحتج بآية أو أحاديث صحيح، أو حديث صحيح على قوله الباطل فلا بد أن يكون فيما احتج به حجة عليه. (والذين آمنوا) أي بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر (وعملوا الصالحات) ولا تكون الأعمال صالحة إلا بشرطين: أن تكون خالصة لوجه الله، متبعا بها سنة رسوله صلى الله عليه وسلم فحاصل هاتين الآيتين أن أهل النجاة والفوز هم أهل الإيمان والعمل الصالح والهالكون أهل النار المشركون بالله الكافرون به».

ت/ ثم قال الله جل وعلا (وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة) قالوا أي اليهود (لن تمسنا النار) أي لن تصيبنا النار إلا أيام معدودة (معدودة) أي قليلة، لا يُعرف عدد هذه الأيام لكن تأتي بعض النقولات عن بعض السلف أنها سبعة أو أربعين أو نحو ذلك، مثل ما جاء عن الضحاك وقتادة وعطاء ومقاتل: «قالت اليهود لن نُعذب في النار يوم القيامة إلا أربعين يوما، مقدار ما عبدنا العجل» 
الحاصل: هي دعوة يدعيها هؤلاء أن النار لن تمسهم، لن تصيبهم إلا أيام قليلة فيقول الله عز وجل لنبيه عليه الصلاة والسلام قل لهؤلاء قل أيها النبي لهؤلاء في إبطال هذه الدعوة التي يدعونها (أتخذتم عند الله عهدا) عهدا بماذا؟ ألا يدخلوا النار إلا أيام معدودة (أتخذتم عند الله عهدا فلن يخلف الله عهده) يعني إن كان عاهدكم (اتخذتم عند الله عهدا) أي ميثاقا بذلك وموعدا من الله وعدكم بذلك أن لا تمسكم النار إلا أياما معدودة؟ إن كنتم اتخذتم عند الله عهدا فلن يخلف الله عهده، وقيل في المعنى (اتخذتم عند الله عهدا) أن المراد بالعهد التوحيد، يعني هل وحدتم الله لأن النجاة إنما هي لأهل التوحيد، أي هل أسلفتم توحيدا وإيمانا وطاعة لله توجب لكم ما تدّعون، توجب لكم ما تدّعون؟ (قل) أي أيها النبي لهؤلاء أهل هذه الدعوة (أتخذتم عند الله عهدا فلن يخلف الله عهده أم تقولون) (أم) يقول ابن كثير: «هذه بمعنى (بل) (أم) تقولون على الله ما لا تعلمون) أي: بل تقولون على الله ما لا تعلمون»
● قال جل وعلا (بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون)
(بلى) هذا حرف استدراك ينفي الخبر الذي قبله ويثبت الخبر الذي بعده، بلى ينفي ما قبله ويثبت ما بعده، الذي قبله أن النار لن تمسهم إلا أياما معدودة، هذا (بلى) تنفيه، والذي بعدها الذي تثبته (بلى) هو الخلود في النار (أصحاب النار هم فيها خالدون) فنفت دعواهم أن النار لن تمسهم إلا أياما معدودة، وأثبتت أن من كان على هذا الكفر وعلى هذا الشرك الذي هم عليه ليس له إلا النار مخلدا فيها، فرد عليهم سبحانه وتعالى وبيّن أن الخلود في النار أو كذلك الخلود في الجنة راجع إلى ماذا؟ الإيمان والكفر، الخلود في النار راجع إلى وجود الكفر، والخلود في الجنة - كما سيأتي- راجع إلى وجود الإيمان والطاعة لله سبحانه وتعالى، قال: (بلى من كسب سيئة) لابد من فهم المراد بالسيئة هنا، (بلى من كسب سيئة) الشيخ - مثل ما مر معنا- يقول: «سيئة جاءت في سياق الشرط فتفيد العموم» أي أنها بعمومها تتناول أعظم السيئات التي هي سيئة الشرك.
 (وأحاطت به خطيئته) في قراءة (خطيئاته) جمع خطيئة، جمع مؤنث سالم، الإحاطة هنا أحاطت به تقوي ذلك أن المراد بالسيئة ماذا؟ الشرك، لأن العاصي لا يوصف بأن خطيئته أحاطت به، عنده إيمان، عنده شيء من الطاعة فلا يوصف العاصي بأن خطيئته أحاطت به، فالعاصي لم تُحط به خطيئته، فالذي عنده إيمان عنده طاعات فلا يوصف بأن خطيئته أحاطت به قال (بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) من كانوا على هذا الوصف في الشرك والكفر بالله أحاطت بهم الخطيئة، إحاطت الخطيئة هي صفه الكافر خطيئته أي كفره بالله، حتى لو كان عنده شيء من العمل الصالح خطيئته التي هي الكفر تُحبط عمله وتبطله.
 قال (والذين آمنوا وعملوا الصالحات) هذا الآن دليل ثالث على أن المراد بمن كسب سيئة أو أحاطت به خطيئته، أن المراد به ماذا؟ الشرك، لأن قال (والذين آمنوا) إذًا الذي قبله ماذا يكون؟ قال (والذين امنوا) هذا عطف على ما قبله إذا الذي قبله كفر هذا وجه ثالث.
ووجه رابع في الدلالة على أن قوله (كسب سيئة وأحاطت به خطيئته) ليس المراد المعاصي وإنما المراد الكفر أن الرد في هذا السياق على من؟ لما تقرا السياق (وقالوا لن تمسنا النار) ثم تأتي (بل) التي تنفي ما قبله وتثبت ما بعدها الرد على من؟ على عصاة أم على كفار؟ على كفار، فالرد في السياق على كفار يدّعون أن النار لن تمسهم إلا أياما معدودة، النار لا تمس إلا أياما معدودة من؟ العصاة من أهل التوحيد، لكن الكافر لا، الكافر الذي أحاطت به خطيئته (أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون)، إذًا قوله (بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك اصحاب النار هم فيها خالدون) السياق واضح أنها في الكفار، في اليهود. ماذا صنع الخوارج؟ نزلوها على المسلمين ويحتجون بها على تكفير مرتكب الكبيرة، يقول مرتكب الكبيرة كافر مخلد في النار قال تعالى (بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) الآية في اليهود في الكفار والسياق واضح وأشرت إلى أربعة وجوه تدل على أن السياق إنما هو في الكافر والسيئة المراد بها الكفر وينزلونها على من؟ وينزلونها على أهل الإسلام، ثم لما ينزلون هذه الآيات على أهل الإسلام انظر ماذا تولد من البدع من ضلالات لما ينزلون هذه الآيات على أهل الإسلام يفعلون ماذا؟ ما جاء في الحديث الصحيح يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان، أهل الأوثان في عافية منهم ولا يتعرضون لهم، ويتتبعون أهل الإسلام حتى في مساجدهم ويقول هؤلاء كفار ويقتلونهم وينزلون عليهم مثل هذه الآيات، لما تقرأ في استدلالاتهم كلها على هذه الطريقة ينزلون آيات في كتاب الله على غير وجهها ومن كان معهم من الجُهال لما يقرأون عليه هذه الآية وينزلونها على مرتكب الكبيرة يظن بجهله أن الآية هكذا هي تدل على أن صاحب الكبيرة كافر وأنه يوم القيامة مخلد في النار، روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما افتتحت خيبر أهديت لرسول الله صلى الله عليه وسلم شاة فيها سُم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اجمعوا لي من كان ها هنا من اليهود فقال لهم من أبوكم؟ قالوا: فلان، قال: كذبتم بل أبوكم فلان - يريد أن ينبههم على ما سياتي من أسئلة انتبهوا الله يطلعني على ما تقولونه من كذب- قال: من أبوكم؟ فكذبوا قالوا فلان، قال: لا، بل أبوكم فلان - يعني الآن انتبهوا الأسئلة الآتية- قالوا صدقت وبررت، قال: هل أنتم صادقي - الذي سبق الآن مقدمة لشيء بعده، الآن كذبوا وكشف لهم كذبهم ثم قال لهم: هل أنتم صادقي عن شيء إن سألتكم عنه؟ قال: نعم، قال: يا أبا القاسم وان كذبناك عرفت كذبنا كما عرفت عرفته في أبينا) لن نكذب عليك أنت الآن أعطيتنا موعظة وأنّا لو كذبنا عليك يطلعك الله على الكذب، ما هناك حاجة أن نكذب عليك، لو كذبنا مكشوف سيكون كذبنا فسنصدقك الحديث، قال لهم: من أهل النار؟ قالوا: نكون فيها يسيرا - يعني مدة قليلة (لن تمسنا النار إلا أياما معدودة) - قالوا لن نكون فيها إلا يسيرا ثم تخلفوننا فيها، من؟ يعني يا معاشر المسلمين، قال عليه الصلاة والسلام: (اخسؤوا والله لا نخلفكم فيها أبدا) سمعتم الحديث اعجبوا إذا من حال الخوارج، لا نخلفكم فيها أبدا، تركوا مَن نزلت فيهم الآية ونزّلوها في المسلمين، والمسلم لا يخلُف اليهود فيها أبدا، حتى من دخل النار لا يخلفهم، ويدخل ليس كدخولها أولئك، هم يدخلون دخول تخليد وتأبيد، والعاصي يدخل دخول تطهير وتنقية، فرق بين الدخولين. 
الحاصل: أن هذه كلها من الأمور التي تكشف قبح عقيدة أولئك الذين وصفهم النبي عليه الصلاة والسلام بأنهم كلاب أهل النار، قال كلاب أهل النار، الكلب ماذا يفعل؟ في الغالب؟ أعماله ما هي؟ إما نباح أو نهش هكذا، وهؤلاء نباحهم تكفير للمسلمين ونهشهم تفجير وتدمير. هذا يعني وضح كيف وصفوا بأنهم كلاب أهل النار، الكلب عنده نباح وعنده نهش، ينبح وينهش هؤلاء نباحهم تكفير، ونهشهم تفجير وتدمير، يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان.
 قال الشيخ رحمه الله: «ذكر أفعالهم القبيحة ثم ذكر مع هذا أنهم يزكون أنفسهم».
 أظن ما بقي وقتا نقرأها غدا إن شاء الله لكن ارجعوا قليلا في موضع عند قوله أرشدوني إلى الصفحة اللي أورد فيها الشيخ الآية واسألهم عن القرية في أي صفحة؟ سبعة وستين (واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر إذ يعدون في السبت) قال الشيخ بعدها ماذا؟ الآيات أنا قلت لكم أظنها الآية لكن الصواب كما ذكر الشيخ لأن الآيات التي بعدها كلها في الموضوع ذاته لأن بعد هذه الآية (وإذ قالت أمة منهم لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا قالوا معذرة إلى ربكم ولعلهم يرجعون) ثم قال (فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون* فلما عتوا عما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة خاسئين)  فالسياق الآيات التي بعدها، فقط أردت أنبه على هذا.
 نفعنا الله أجمعين بما علمنا وزادنا علما وتوفيقا وأصلح لنا شأننا كله وهدانا إليه صراطا مستقيما.. سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت استغفرك وأتوب إليك، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين جزاكم الله خيرا.
اقرأ المزيد...

الاثنين، 1 ديسمبر 2025

العمل بالآيات / سورة_الإنسان (۲۳-۳۱)

 ١_  من أعظم نعم الله علينا أن جعل كتابنا هذا القرآن المعجز المحفوظ الباهر العجيب، فاحرص على تدبره، والتفكر في آياته، وقراءة تفسيره، والعمل بأحكامه، لتترقى في سلم الإيمان:
(إنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلا).

٢- اصبر لأوامر الله وقضائه وقدره، واحذر من قطاع الطرق الذين يؤولون أحكام الله، ويتلاعبون بحدود الدين، ويميّعون فرائض الإسلام، احذرهم أن يفتنوك عن شيء من دينك، فإنهم يودون أن يردوك عن دينك إن استطاعوا، فرد كيدهم في نحورهم، وكن صخرة عظيمة تتكسر عليها أمواج شبهاتهم وشهواتهم:
( فاصبر لحكم ربك ولا تطع منهم آثما أو كفورا).

٣- داوم على ذكر الله أوّل النهار وآخره، فإنه الحصن الحصين لك من أعدائك الذين يتربصون بك من الجن والإنس:
(واذكر اسم ربك بكرة وأصيلا).

٤- عليك بقيام الليل، فإنه دأب الصالحين قبلك، وقربة إلى ربك، ومكفرة للسيئات، ومنهاة عن الإثم، ومطردة للداء عن الجسد، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم:
(ومن الليل فاسجد له وسبحه ليلا طويلا).

٥- إياك أن تحب الدنيا، فإن حبها يورث نسيان الآخرة والغفلة عنها ، بل اجعل الآخرة همك، وموطن زرعك، ومقر بناء قصورك، وشمر لها عن ساعد الجد، فإنها عسيرة ثقيلة لمن أتى ربه بغير زاد: (إن هؤلاء يحبون العاجلة ويذرون وراءهم يوما ثقيلا).

٦- تأمل كيف أبدع الله خلقك، فركب عظامك ومفاصلك وأوتارك وأعصابك وفق ما يحقق مصالحك واحتياجاتك، فاشكر الله على هذه النعمة العظيمة، واحمده كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه: (نحن خلقناهم وشددنا أسرهم وإذا شئنا بدلنا أمثالهم تبديلا).

٧- كرّر قراءة سورة الإنسان بتأمل وتفكر وتدبّر، فإن فيها من المواعظ والمبشرات ما يرفعك عن سفاسف الأمور، وتوافه الاهتمامات، ويسمو بهمتك إلى أعالي الجنان:
(إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا).

٨- اعلم أن لك مشيئة واختيارا فيما تأتي وتذر من شؤونك الدينية والدنيوية، لكنك لا تستطيع فعل شيء إلا أن يشاءه الله لك، فاسأل الله من فضله، وليكن أعظم ما تسأله أن يدخلك في رحمته، وأن ينجيك من حال الظالمين ومآلهم:
( وما تشاؤون إلا أن يشاء الله إن الله كان عليما حكيما* يُدخل من يشاء في رحمته والظالمين أعد لهم عذابا أليما).
---------------------------------------------
*د. أبصار الإسلام
اقرأ المزيد...

الجمعة، 28 نوفمبر 2025

فوائد سورة الإنسان الآيات (۲۳-۳۱)

 بسم الله الرحمن الرحيم
/ (إنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلا)
قال البغوي: « قال ابن عباس رضي الله عنهما- يعني في هذه الآية -: متفرقا آية بعد آية، ولم ينزل جملة واحدة». «تفسير البغوي (۲۹۸۸).
وقال القرطبي : «(إنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلا) ما افتريته ولا جئت به من عندك، ولا من تلقاء نفسك، كما يدعيه المشركون». «تفسير القرطبي» (١٩ / ١٤٨).

/ (فاصبر لحكم ربك ولا تطع منهم آثما أو كفورا)
 قال البغوي: «قال قتادة: أراد بالآثم الكفور أبا جهل، وذلك أنه لما فرضت الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم نهاه أبو جهل عنها، وقال: لئن رأيت محمدا يصلي لأطأن عنقه».
وقال مقاتل: «أراد بـ "الآثم" عتبة بن ربيعة، وبـ "الكفور" الوليد بن المغيرة، قالا للنبي صلى الله عليه وسلم: إن كنت صنعت ما صنعت لأجل النساء والمال فارجع عن هذا الأمر، قال عتبة: فأنا أزوجك ابنتي وأسوقها إليك بغير مهر، وقال الوليد: أنا أعطيك من المال حتى ترضى فارجع عن هذا الأمر، فأنزل الله هذه الآية». تفسير البغوي (۲۹۹۸).
وقال ابن عطية: «وحكم ربه هو أن يُبلغ ويكافح ويتحمل المشقة ويصبر على الأذى ليعذر الله إليهم».
●وقوله تعالى: (آثما أو كفورا) هو تخيير في أن يعرف الذي ينبغي أن لا يطيعه بأي وصف كان من هذين؛ لأن كل واحد منهم فهو آثم وهو كفور، ولم تكن الأمة -الأمة الإسلامية- حينئذ من الكثرة بحيث يقع الإثم على العاصي. قال: واللفظ أيضا يقتضي نهي الإمام عن طاعة آثم من العصاة أو كفور من المشركين». «تفسير ابن عطية» .(٥/ ٤١٤)
وقال القرطبي: «(آثما أو كفورا) أوكد من الواو - يعني (أو) أوكد من (الواو) لأن الواو إذا قلت: لا تطع زيدا وعمرا فأطاع أحدهما كان غير عاص، لأنه أمره ألا يطيع الإثنين، فإذا قال: (لا تطع منهم آثما أو كفورا) فـ (أو) قد دلت على أن كل واحد منهما أهل أن يُعصى، كما أنك إذا قلت: لا تخالف الحسن أو ابن سيرين، أو اتبع الحسن أو ابن سيرين فقد قلت هذان أهل أن يتبعا، وكل واحد منهما أهل لأن يتبع، قاله الزجاج، وقال الفراء: (أو) هنا بمنزلة (لا) كأنه قال: ولا كفورا». «الجامع لأحكام القرآن» (١٩/ ١٤٩).
وقال ابن تيمية: «وقد قيل في معناه: اصبر لما يحكم به عليك، وقيل: اصبر على أذاهم لقضاء ربك الذي هو آت. والأول أصح».
وحكم الله نوعان: خلق وأمر. 
فالأول: ما يُقدره من المصائب. 
والثاني: ما يأمر به وينهى عنه.
 والعبد مأمور بالصبر على هذا وعلى هذا، فعليه أن يصبر لما أمر به ولما نهي عنه، فيفعل المأمور ويترك المحظور، وعليه أن يصبر لما قدّره الله عليه.
وبعض المفسرين يقول: هذه الآية منسوخة بآية السيف، وهذا يتوجه إن كان في الآية النهي عن القتال فيكون هذا النهي منسوخا، وليس جميع أنواع الصبر منسوخة، كيف والآية لم تتعرض لذلك هنا لا بنفي ولا إثبات، بل الصبر لحكم الله ما زال واجبا، وإذا أمر بالجهاد فعليه أيضا أن يصبر لحكم الله، فإنه يبتلى من قتالهم بما هو أعظم من كلامهم، كما ابتلي به يوم أحد والخندق، وعليه حينئذ أن يصبر ويفعل ما أُمر به من الجهاد». مجموع الفتاوى (٨ ٣٢٥).

/ (واذكر اسم ربك بكرة وأصيلا * ومن الليل فاسجد له وسبحه ليلا طويلا)
قال ابن عطية: «أمره تعالى بذكر ربه دأبا بكرة وأصيلا ومن الليل، بالسجود والتسبيح الذي هو الصلاة، ويحتمل أن يريد قول: سبحان الله، وذهب قوم من أهل العلم إلى أن هذه الآية إشارة إلى الصلوات الخمس، منهم ابن حبيب وغيره. فالبكرة: صلاة الصبح، والأصيل : الظهر والعصر، ومن الليل: المغرب والعشاء». تفسير ابن عطية (٥) ٤١٤).
وقال القرطبي: «قال ابن عباس وسفيان: كل تسبيح في القرآن فهو صلاة». «الجامع لأحكام القرآن».(١٩ / ١٥٠)
وقال ابن تيمية: «الله تعالى أوجب الركوع والسجود في الكتاب والسنة، وهو واجب بالإجماع، لقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا} ، وقوله تعالى : {يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة وقد كانوا يدعون إلى السجود وهم سالمون}، وقوله تعالى: { فما لهم لا يؤمنون* وإذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون}، وقوله تعالى : {إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكروا بها خروا سجدا وسبحوا بحمد ربهم وهم لا يستكبرون}، وقوله تعالى: {واسجد واقترب}، وقوله تعالى: {ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب} فدل على أن الذي لا يسجد لله من الناس قد حق عليه العذاب، وقوله: {ومن الليل فاسجد له وسبحه ليلا طويلا». «مجموع الفتاوى» .(٢٢/ ٥٦٦)
وقال السعدي: ولما كان الصبر يستمد من القيام بطاعة الله والإكثار من ذكره أمره الله بذلك» - يعني أن الصبر الوارد في قوله (فاصبر لحكم ربك) - أمره الله بذلك فقال: (واذكر اسم ربك بكرة وأصيلا) أي: أول النهار وآخره، فدخل في ذلك الصلوات المكتوبات وما يتبعها من النوافل، والذكر، والتسبيح، والتهليل والتكبير في هذه الأوقات» «تفسير السعدي» (ص ۹۰۲).

/ (إن هؤلاء يحبون العاجلة ويذرون وراءهم يوما ثقيلا)
قال الطبري: «(ويذرون وراءهم يوما ثقيلا) يقول : «ويدعون خلف ظهورهم العمل للآخرة، وما لهم فيه النجاة من عذاب الله يومئذ، وقد تأوّله بعضهم بمعنى ويذرون أمامهم يوما ثقيلا، وليس ذلك قولا مدفوعا، غير أن الذي قلناه أشبه بمعنى الكلمة». تفسير الطبري (٢٤ / ١١٧).
وقال ابن القيم: «إن طال وقوفه في الصلاة ليلا ونهارا لله، وتحمل لأجله المشاق في مرضاته وطاعته خف عليه الوقوف ذلك اليوم - يعني يوم القيامة- وسهُل عليه، وإن آثر الراحة هنا والدعة والبطالة والنعمة طال عليه الوقوف هناك ذلك اليوم، واشتدت مشقته عليه. وقد أشار الله تعالى إلى ذلك في قوله: {إنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلا* فاصبر لحكم ربك ولا تطع منهم أثما أو كفورا* واذكر اسم ربك بكرة وأصيلا* ومن الليل فاسجد له وسبحه ليلا طويلا* إن هؤلاء يحبون العاجلة ويذرون وراءهم يوما ثقيلا) فمن سبح الله ليلا طويلا لم يكن ذلك اليوم ثقيلا عليه، بل كان أخف شيء عليه». «اجتماع الجيوش الإسلامية (ص ۷۰).
وقال ابن القيم: للعبد بين يدي الله موقفان: 
موقف بين يديه في الصلاة
وموقف بين يديه يوم لقائه.
 فمن قام بحق الموقف الأول هون عليه الموقف الآخر، ومن استهان بهذا الموقف ولم يوفه حقه شدد عليه ذلك الموقف. قال تعالى : { ومن الليل فاسجد له وسبحه ليلا طويلا* إن هؤلاء يحبون العاجلة ويذرون وراءهم يوما ثقيلا)» «الفوائد لابن القيم (۱) ۲۹۱».

/ (نحن خلقناهم وشددنا أسرهم وإذا شئنا بدلنا أمثالهم تبديلا)
قال ابن عطية: «والأسر : الخلقة واتساع الأعضاء والمفاصل، وقد قال أبو هريرة والحسن والربيع: (الأسر): المفاصل والأوصال، وقال بعضهم: (الأسر): القوة. قال الطبري: ومنه قول العامة خذه بأسره، يريدون: خذه كله».
وقال القرطبي: «الكلام خرج مخرج الامتنان عليهم بالنعم حين قابلوها بالمعصية. أي سويت خلقك وأحكمته بالقوى ثم أنت تكفر بي؟! (وإذا شئنا بدلنا أمثالهم تبديلا) قال ابن عباس: يقول: لو نشاء لأهلكناهم وجئنا بأطوع لله منهم. وعنه أيضا : لغيرنا محاسنهم إلى أسمج الصور وأقبحها». «الجامع لأحكام القرآن» (١٩/ ١٥٢).
وقال ابن كثير : «{وإذا شئنا بدلنا أمثالهم تبديلا} أي : وإذا شئنا بعثناهم يوم القيامة، وبدلناهم فأعدناهم خلقا جديدا. وهذا استدلال بالبداءة على الرجعة».
وقال ابن زيد وابن جرير : «{وإذا شئنا بدلنا أمثالهم تبديلا} أي: وإذا شئنا أتينا بقوم آخرين غيرهم، كقوله: {إن يشأ يذهبكم أيها الناس ويأت بآخرين وكان الله على ذلك قديرا} وكقوله: {إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد وما ذلك على الله بعزيز}». «تفسير ابن كثير (٢٩٤٨)».
وقال السعدي: «استدل عليهم وعلى بعثهم بدليل عقلي، وهو دليل الابتداء، فقال: {نحن خلقناهم} أي: أوجدناهم من العدم، وشددنا أسرهم أي: أحكمنا خلقتهم بالأعصاب والعروق والأوتار، والقوى الظاهرة والباطنة، حتى تم الجسم واستكمل وتمكن من كل ما يريده، فالذي أوجدهم على هذه الحالة قادر على أن يعيدهم بعد موتهم لجزائهم، والذي نقلهم في هذه الدار إلى هذه الأطوار لا يليق به أن يتركهم سدى، لا يُؤمرون، ولا يُنهون، ولا يثابون، ولا يعاقبون، ولهذا قال: {بدلنا أمثالهم تبديلا} أي: أنشأناكم للبعث نشأة أخرى، وأعدناكم بأعيانك وهم بأنفسهم أمثالهم». «تفسير السعدي» (ص ۹۰۳).

/( إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا)
قال ابن عطية: «وقوله تعالى: (فمن شاء اتخذ..) ليس على جهة التخيير، بل فيه قرينة التحذير، والحض على اتخاذ السبيل». «تفسير ابن عطية (٥/ ٤١٥)».

/ (وما تشاؤون إلا أن يشاء الله إن الله كان عليما حكيما)
قال ابن تيمية: «العبد له مشيئة للخير والشر، وله قدرة على هذا وهذا، وهو العامل لهذا وهذا، والله خالق ذلك كله وريثه ومليكه؛ لا خالق غيره؛ ولا رب سواه؛ ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن. وقد أثبت الله المشيئتين مشيئة الرب ومشيئة العبد، وبيّن أن مشيئة العبد تابعة لمشيئة الرب في قوله تعالى : {إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا* وما تشاءون إلا أن يشاء الله إن الله كان عليما حكيما}، وقال تعالى: {إن هو إلا ذكر للعالمين* لمن شاء منكم أن يستقيم* وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين}». «مجموع الفتاوى» (۸) ۲۳۸)
--------------------------------
اقرأ المزيد...

الاثنين، 24 نوفمبر 2025

| الدرس الخامس والخمسون | تفسير سورة البقرة: من الآية (٧٤) (ثم قست قلوبكم من بعد ذلك…)

 
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللمسلمين والمسلمات أما بعد:
 فيقول الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله في قوله (ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله وما الله بغافل عما تعملون)
ن/ «(ثم قست قلوبكم) أي اشتدت وغلظت فلم تؤثر فيها الموعظة، (من بعد ذلك) أي من بعد ما أنعم الله تعالى عليكم بالنعم العظيمة وأراكم الآيات ولم يكن ينبغي أن تقسو قلوبكم لأن ما شاهدتم مما يوجب رقة القلب وانقياده، ثم وصف قسوتها بأنها كالحجارة التي هي أشد قسوة من الحديد لأن الحديد والرصاص إذا أذيب في النار ذاب بخلاف الأحجار، وقوله (أو أشد قسوة) أي أنها لا تقصر عن قساوة الأحجار وليست (أو) بمعنى (بل)، ثم ذكر فضيلة الأحجار على قلوبهم فقال: (وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله) فبهذه الأمور فضلت الحجارة قلوبكم. ثم توعدهم تعالى أشد الوعيد فقال: (وما الله بغافل عما تعملون) بل هو عالم بها حافظ لصغيرها وكبيرها وسيجازيكم على ذلك أتم الجزاء وأوفاه، واعلم أن كثيرا من المفسرين رحمهم الله قد أكثروا في حشو تفاسيرهم من قصص بني إسرائيل»

ت/ بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علما وأصلح لنا إلهنا شأننا كله ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين، اللهم فقهنا في الدين وعلمنا التأويل يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام أما بعد: يقول الله جل وعلا (ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة) لا يزال الخطاب لبني إسرائيل، قد ذكر الله عز وجل كما مر معنا في الآيات السابقات ما كانوا عليه من التعنت والجدال وأيضا غلطة القلوب والتكذيب بما جاء به موسى عليه السلام، ذكر الله سبحانه وتعالى عنهم أمورا عديدة ثم ختم ذلك بقصة القتيل الذي ادّارؤا فيه كلٌ يلقي بالتهمة على غيره فأحياه الله وقال الذي قتلني فلان، وهذه آية باهرة تليّن القلب القاسي، يرى آية باهرة تدل على عظمة الله، رجل قُتل يتشطح بدمه ثم يحيا، يُبعث حيا ويُعين قاتله، ومن قبلها أيضا مرّ معنا في سياق الآيات القرآنية الآيات التي أيّد الله سبحانه وتعالى بها موسى - مثل ما مر معنا - رفع الجبل كأنه ظلة وغير ذلك مما مرّ، فمع هذه الآيات كلها التي يفترض أنها تُلين القلب القاسي، مع هذه الآيات قست قلوبهم وازدادت قسوة والمفروض هو خلاف ذلك، لو كان القلب قاسيا أن يلين بما يرى من الآيات الباهرة الدالة على عظمة الله سبحانه وتعالى.
 قال: (ثم قست قلوبكم من بعد ذلك) أي من بعد كل هذه الآيات التي من آخرها ذكرا إحياء القتيل وإخباره بقاتله.
●(ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة)
 (فهي) أي قلوبهم، (كالحجارة) أي صارت كالحجارة، صارت مثل الحجارة.
● (فهي كالحجارة أو أشد قسوة)
(هي) هذا مبتدأ، والكاف: خبر (فهي) مثل الحجارة، الكاف خبر و(أشد) معطوفة على الكاف ولهذا جاءت مرفوعة عطفا على المرفوع قال: (فهي كالحجارة أو أشد قسوة) أي من الحجارة.
 قيل: إن (أو) بمعنى الواو
وقيل: بمعنى (بل)
الشيخ - كما سيأتي – قال: ليست بمعنى (بل).
وقيل: إن (أو) للتخيير يعني: إن قلتم كالحجارة فهي كذلك، وإن قلتم أشد فهي كذلك، فقلوبهم في غلظتها إن وصفها الواصف بأنها كالحجارة في قسوتها فهي كذلك، وإن قال هي أشد من الحجارة في قسوتها فهي كذلك من شدة القسوة، هذا بيان شدة القسوة التي آلت إليها قلوب أولئك.
ثم ذكر جل وعلا في شأن الحجارة ما يدل على تفضيلها عليهم، وأيضا يتضمن هذا عذر للحجارة، الحجارة قاسية ومع ذلك فيها هذه المعاني العظيمة ولهذا قال أبو العالية: "عذر الله الحجارة ولم يعذر القاسية قلوبهم"، وقال قتادة: "عذر الله الحجارة ولم يعذر شقي بني آدم" عذر الله الحجارة قال (وإن من الحجارة) الحجارة قاسية صلبة لكن مع ذلك هذا من شأنها وهذا من حالها (إن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله) من الحجارة ما (لما يتفجر منه الأنهار) يعني ينفرج وتنبع منها المياه الغزيرة التي تصير أنهارا من غزارتها، (وإن منها لما يشقق) يتصدع (فيخرج منها الماء)، (وإن منها لما يهبط من خشية الله) يعني يسقط من أعلى الجبل إلى أسفله من خشيه الله سبحانه وتعالى.
ولما نقرأ مثل هذه الآيات لا يذهب ذهننا إلى أي معنى آخر غير الحقيقة التي يدل عليها اللفظ (يهبط من خشية الله) نقول كما قال ربنا (يهبط من خشية الله) ما نذهب مذاهب التأويل التي يصرف فيها المعنى عن حقيقتهم والله على كل شيء قدير.
الصحابة سمعوا حجارة في يد النبي عليه الصلاة والسلام تُسبح، سمعوا صوت تسبيحها والله يقول (تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم) وبعض الناس إذا لم يفقه هذه المعاني، إذا لم يفقهها ذهب إلى تأويلها وحملها على المعاني البعيدة، (تهبط من خشية الله) نقول تهبط من خشية الله، حجارة تهبط؟! نقول نعم ربنا الذي خلقها أخبرنا بذلك أنها تهبط ونحن نقول تهبط من خشية الله، نقول نعم من خشية الله كما قال الله جل وعلا وربنا على كل شيء قدير، ربنا سبحانه وتعالى على كل شيء قدير، ثبت في الحديث الصحيح أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (إني لأعلم حجرا في مكة يسلم علي إذا مررت به)، الجبل الذي شمال المدينة جبل أحد قال عليه الصلاة والسلام: (هذا جبل يحبنا ونحبه) نقول يحبنا مثل ما قال عليه الصلاة والسلام، فمثل هذه النصوص يُؤمن بها كما أخبر ربنا جل وعلا وما جاء في السنة، نؤمن به كما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام ونحذر من مسالك التأويل التي لما لم تفقه قلوبهم هذه المعاني صرفوها إلى معاني بعيدة وحملوها على مجاز اللغة وتأويلات بعيدة حاصلها صرف النص عن ظاهره، حاصلها نفي ما أثبت الله حاصل التأويل نفي ما أثبت الله، يعني الله يقول تهبط من خشيه الله، يقولون: لا ليست تهبط، المراد كذا والمراد كذا، ويأتون بتأويلات حاصلها نفي الذي أخبر الله سبحانه وتعالى به (وإن من الحجارة لما يهبط من خشية الله) يعني يسقط من أعلى الجبل إلى أسفله من خشية الله من خشية الله (لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله).
 قال: (أو أشد قسوة وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله (وما الله بغافل عما تعملون) هذا فيه تهديد وعيد لهم، يعني الله سبحانه وتعالى مُطّلع ولا تخفى عليه سبحانه وتعالى خافية وكل أعمالكم محصاة والله جل وعلا مُطّلع عليها وسيجازيكم عليها ويحاسبكم عليها يوم تقفون بين يديه، (وما الله بغافل عما تعملون).
 قال الشيخ رحمه الله: "(ثم قست قلوبكم) أي اشتدت وغلظت، أصبحت غليظة فلم تؤثر فيها الموعظة" الموعظة إذا غلظ القلب اشتدت غلظته لا تؤثر فيه، ما تلج الموعظة إلى قلب غلظ اشتدت غلظته.
"(من بعد ذلك) أي من بعد ما أنعم الله عليكم بالنعم العظيمة وأراكم الآيات الباهرة ولم يكن ينبغي أن تقسوا قلوبكم لأن ما شاهدتم مما يوجب رقة القلب" ما شاهدتم أي الذي شاهدتم يوجب رقة القلب، يوجب أن ترق قلوبكم، لو كان فيها قسوة الذي رأيتموه يوجب أن تلين قلوبكم، والذي حصل فيهم العكس رأوا آيات باهرة فقست قلوبهم واشتدت قسوتها.
قال: "ثم وصف قسوتها بأنها كالحجارة التي هي أشد قسوة من الحديد، لأن الحديد والرصاص إذا أذيب في النار ذاب، بخلاف الحجارة"
وقوله: (أو أشد قسوة) أي أنها لا تقصر عن قسوة الحجارة فماذا يكون المعنى (كالحجارة أو أشد قسوة)؟
يعني كالحجارة ولا تنزل عن قسوة الحجارة، إما كالحجارة أو أشد منها، أعلى منها، أكثر منها قسوة.
قال الشيخ: "وليست (أو) بمعنى (بل)"
من المفسرين من قال هي بمعنى (بل) التي للإضراب قال: "فهي كالحجارة بل قسوتها أشد من قسوة الحجارة"
وقيل (أو) بمعنى (الواو) كالحجارة وأشد قسوة من الحجارة
وقيل بمعنى التخيير يعني إن قلت هي كالحجارة أصبت، وإن قلت أشد أيضا أصبت لأنها بلغت مبلغا شديدا في القسوة.
قال: "ثم ذكر فضيلة الأحجار على قلوبهم" أي ما يدل على فضيلة الأحجار على قلوبهم "فقال: (وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشيه الله) هذه ثلاثة أمور، ثلاثة شواهد، ثلاثة دلائل على أن الحجارة حالها أفضل من حال قلوب أولئك" هذه الحجارة حالها أفضل من حال قلوب أولئك القاسية قلوبهم، فبهذه الأمور فضلت قلوبكم يعني الحجارة" فبهذه الأمور فضلت - أي الحجارة- قلوبكم.
ثم توعدهم تعالى أشد الوعيد فقال: (وما الله بغافل عما تعملون) أي هو عالم مطلع لا تخفى عليه أعمالكم الصغير منها والكبير ثم يجازيكم على ذلك الجزاء أتم الجزاء وأوفاه. نعم.

ن/ قال رحمه الله: "واعلم أن كثيرا من المفسرين رحمهم الله قد أكثروا في حشو تفاسيرهم من قصص بني إسرائيل ونزّلوا عليها الآيات القرآنية وجعلوها تفسيرا لكتاب الله محتجين بقوله صلى الله عليه وسلم (حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج) والذي أرى أنه وإن جاز نقل أحاديثهم على وجه تكون مفردة غير مقرونة ولا منزّلة على كتاب الله فإنه لا يجوز جعلها تفسيرا لكتاب الله تعالى قطعا إذا لم تصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك أن مرتبتها كما قال صلى الله عليه وسلم لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم فإذا كانت مرتبتها أن تكون مشكوكا فيها وكان من المعلوم بالضرورة من دين الإسلام أن القرآن يجب الإيمان به والقطع بألفاظه ومعانيه فلا يجوز أن تجعل تلك القصص المنقولة بالروايات المجهولة التي يغلب على الظن كذبها أو كذب أكثرها معاني لكتاب الله مقطوعا بها ولا يستريب بهذا أحد ولكن بسبب الغفلة عن هذا حصل ما حصل. والله الموفق"

ت/ نعم هذه فائدة ثمينة وتنبيه عظيم ومفيد من الشيخ رحمه الله تعالى، وأيضا هذا يبين المنهج الذي سلكه في تفسيره وهو الإعراض عن ذكر الإسرائيليات وخاصة في إبانة المعنى، معاني الآيات القرآنية ودلالاتها.
وأشار رحمه الله أن كثير من المفسرين في حشو تفاسيرهم - أي في ضمن - تفاسيرهم الآيات القرآنية أوردوا الكثير من القصص المتعلقة ببني إسرائيل ونزّلوا عليها معاني الآيات، الشيخ يقول قول النبي عليه الصلاة والسلام (حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج) يعني هذا إذا حدّث به من حدث على وجه الانفراد فلا حرج لكن أن يُجعل معنى للآية، وأن يُجعل مفسرا للآية وهو في الأصل مشكوك فيه لأنه قال في الحديث (لا تصدقوهم ولا تكذبوهم) يعني مشكوك فيه قد يكون صدق وقد يكون كذب والقرآن هو الذي يحكم، هو المهيمن، هو المصدق لما بين يديه، فإذا أوتي بهذه الأخبار المشكوك فيها إما صدق أو كذب ثم جُعلت مفسرة للآيات هذا محل إشكال، ولهذا الشيخ في تفسيره أعرض عنها ما يذكر هذه الإسرائيليات، قال: «الذي أرى أنه وإن جاز نقل أحاديثهم على وجه تكون مفردة غير مقرونة ولا مُنزلة على كتاب الله» غير مقرونة يعني بالآيات تفسيرا لها فإنه لا يجوز جعلها تفسيرا لكتاب الله قطعا إذا لم تصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
أما ما صح من أخبارهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فهذا لا شك أنه يستفاد منه حتى في تفسير الآيات وبيان معانيها وهداياتها نعم.
ابن كثير رحمه الله لو فتحتم تفسيره ذكر جملة من الروايات وأكثر من ذكرها تتعلق بمثل هذا الموطن يعني قصه القتيل، وأيضا تدارؤهم في القتيل (ادارأتم فيها) ذكر روايات كثيرة ثم أعقبها بكلام جميل في خاتمتها. نعم.

ن/ قال رحمه الله:
«قوله (أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون* واذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم أفلا تعقلون* أولا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون* ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني وإن هم إلا يظنون) هذا قطع لأطماع المؤمنين من إيمان أهل الكتاب أي فلا تطمعوا في إيمانهم وأخلاقهم لا تقتضي الطمع فيهم، فإنهم كانوا يحرفون كلام الله تعالى من بعد ما عقلوه وعلموه فيضعون له معاني ما أرادها الله ليوهموا الناس أنها من عند الله وما هي من عند الله، فإذا كانت هذه حالهم في كتابهم الذي يرونه شرفهم ودينهم يصدون به الناس عن سبيل الله فكيف يرجى منهم إيمان لكم فهذا من أبعد الأشياء»

ت/ يقول سبحانه وتعالى (أفتطمعون) الخطاب هنا تحول إلى المؤمنين، إلى أهل الإيمان، إلى النبي عليه الصلاة والسلام والصحابة الكرام وكانوا على حرص وطمع في هداية هؤلاء وطمع في دخولهم في الإسلام فيقول الله جل وعلا بعد ذكر ما سبق من قصص تُبين حال أسلافهم قال: (أفتطمعون) هذا فيه قطع للطمع القائم في قلوب أهل الإيمان أن يؤمن أولئك، فالله عز وجل يقول (أفتطمعون أن يؤمنوا لكم)
(يؤمنوا لكم) أي ينقادوا، (آمن) هنا عُديت باللام لأنه ضُمن معنى الانقياد، (أن يؤمنوا لكم) أي ينقادوا.
 (أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوا وهم يعلمون) وهم على علم بما يصنعون، وفساد ما يصنعون، هم على علم بذلك، إذا كانت هذه حالهم مع كتابهم الذي هو شرف لهم فكيف تطمعون أن يؤمنوا بالرسول عليه الصلاة والسلام ويصدقوا بما جاء به عليه الصلاة والسلام، (أفتطمعون) هذا قطع للطمع في ايمان أولئك يعني أهل الكتاب.
(أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه) والموجودون على سنن أوائلهم وأسلافهم (وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه) قال قتادة: «هم اليهود كانوا يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما سمعوه ووعوه» وهذا معنى قوله (وهم يعلمون) بعد ما سمعوه ووعوه (ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون) ولهذا فالتحريف الذي هو صرف النص عن دلالته إلى معنى آخر غير المقصود بدلالة الآية هذا كان من عمل اليهود وصنيعهم،
فالله عز وجل وصفهم بالتحريف كما وصفهم فيما تقدم بالكتمان - كتمان الحق- ، (ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون) يعلمون أنهم مُحرفة لكلام الله، يعلمون من أنفسهم أنهم مُحرفون لكلام الله سبحانه وتعالى، أو يعلمون أن فيها عقوبة من الله هذا العمل الذي يقومون به يعلمون أنه فيه عقوبة من الله، والمعنيان كلاهما يدل عليه السياق وأحدهما مترتب على الآخر، يعلمون أنهم يحرفون وعاقبة التحريف لكلام الله  عقوبة الله سبحانه وتعالى.
قال: (وإذا لقوا الذين امنوا قالوا آمنا) آمنا باللسان أما القلب باقي على ما هم عليه من الكفر (إذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا) أي بدينكم وبرسولكم المبشر به في التوراة عندنا، هكذا كانوا يقولون نحن مؤمنون بالدين الإسلامي، مؤمنون بالرسول عليه الصلاة والسلام، وهو مبشر به عندنا في التوراة، يقولون هكذا عند لقاء المؤمنين، وإذا خلا بعضهم إلى بعض بدأ يحصل بينهم عتاب، من هذا العتاب الذي يحصل بينهم (قالوا أتحدثونهم) أي تحدثون المسلمين (بما فتح الله عليكم) يعني تحدثونهم بما بيّن الله لكم في التوراة أن هذا هو فعلا الرسول، تحدثونهم بذلك (ليحاجوكم به عند ربكم) يعني يوم القيامة يأخذون حجة عليكم عند الله أنكم أقررتم بأنه رسول. (ليحاجوكم به عند ربكم أفلا تعقلون)،
 (قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم) أي بما بيّن لكم في التوراة من أمر محمد صلى الله عليه وسلم، قال ابن عباس وغير واحد من المفسرين: «الذي فتحه الله عليهم ما أنزله عليهم من التوراة في صفة محمد صلى الله عليه وسلم» وهم كان بعضهم إذا لقي المؤمنين يقول نحن مؤمنون بدينكم ومؤمنون بالرسول محمد صلى الله عليه وسلم وبُشر به عندنا في التوراة، هذا يقولونه فقط عند لقاء المؤمنين لا عن إيمان، يقولونه نفاقا، ولهذا فإن هذه الآية (وإذا لقوا) هذه في صفة المنافقين، مثل ما تقدم نظيرها في صفات المنافقين التي جاءت في أول السورة في ثلاثة عشر آيات في صفات المنافقين (وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون)
 قال (وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم) أي باعترافكم لهم أنه نبي هذا يكون حجة عليكم عند الله، (عند ربكم) يعني يوم لقاء الله، يوم القيامة لتكون لهم حجة بذلك عليكم عند الله عز وجل.
 (أفلا تعقلون) يعني يقول بعضهم لبعض أفلا تعقلون أن هذا حجة عليكم لما تقولون لهم، (أفلا تعقلون) يعني أن هذا حجة عليكم.
 ثم يقول جل وعلا (أولا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون) أي يعملون هذه الشنائع وهذه القبائح وهذه الأمور العظيمة ولا يعلمون أن الله يعلم سرهم ونجواهم، ما يسرون وما يعلنون والله سبحانه وتعالى عليم بكل شيء وهم يعلمون أن الله سبحانه وتعالى عليم بهم.
قال: (ومنهم) يعني هؤلاء أهل الكتاب (أميون) الأمي: الذي لا يقرأ ولا يكتب، (ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني) يعني العلم الذي عندهم بالكتاب هو مجرد قراءة للألفاظ وسماع للألفاظ.
(وإن هم إلا يظنون) غاية ما عندهم ظنون كاذبة، هذا غاية ما عندهم ظنون كاذبة (ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب الا أماني وإن هم إلا يظنون)
 قال الشيخ رحمه الله: «ثم ذكر حال منافقي أهل الكتاب فقال (وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا) فأظهروا لهم الإيمان قولا بألسنتهم ما ليس في قلوبه، يقولون في ألسنتهم ما ليس في قلوبهم، (واذا خلا بعضهم إلى بعض) فلم يكن عندهم أحد من غير أهل دينهم قال بعضهم لبعض أي على وجه العتب (أتحدثونهم بما فتح الله عليكم) أي أتظهرون لهم الإيمان  وتخبرونهم أنكم مثلهم فيكون ذلك حجة لهم عليكم، يقولون أنهم قد أقروا بأن ما نحن عليه حق وما هم عليه باطل فيحتج عليكم بذلك عند ربكم عند ربكم» وتقدم قول ابن عباس الذي فتح الله عليهم ما أنزله عليهم من التوراة في صفة محمد لأن بعضهم كان إذا لقي المؤمنين قال نحن على دينكم ونؤمن برسولكم وهو مُبشر به عندنا في التوراة، فبعضهم يعاتب بعض يقول كيف تقولون لهم أنه بُشر به في التوراة فيأخذوا ذلك حجة عليكم عند الله يوم القيامة ولهذا عقب الله بقوله (أولا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون)، (أفلا تعقلون) أي أفلا يكون لكم عقل فتتركون ما هو حجة عليكم؟ كيف تفعلون هذا ما عندكم عقل؟ يقول بعضهم لبعض تلقنونهم حجج عليكم، هذا يقوله بعضهم لبعض، قال جل وعلا (أولا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون) فهم وإن أسرّوا ما يعتقدونه فيما بينهم وزعموا أنهم بإسراره لا يتطرق عليهم حجة للمؤمنين فإن هذا غلط منهم وجهل كبير فإن الله يعلم سرهم وعلنهم فيظهر لعباده ما هم عليه.
 ● قال (ومنهم) أي جماعة منهم، أي أهل الكتاب، (أُميون) أي عوام وليسوا من أهل العلم، (لا يعلمون الكتاب إلا أماني) (إلا أماني) أي ليس لهم حظ من كتاب الله إلا التلاوة فقط، وفي قوله (إلا أمانيّ) بالتشديد، وأيضا قُرأت بالتخفيف (إلا أماني) قيل في معناها أقوال رجح شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى أن المراد بها أي مجرد تلاوة، أماني يعني مجرد تلاوة فهم لا يعلمون فقه الكتاب وإنما يقتصرون على ما يسمعون ويتلى عليهم، قال: «والأماني جمع أمنية وهي التلاوة ومنه قوله (وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنّى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته)» قيل: الأماني الكذب
وقيل: ما يتمنونه الأماني ما يتمنونه وفي آية أخرى قال (ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب) قال شيخ الإسلام: كلا القولين ضعيف والصواب الأول أن الأماني المراد بها مجرد التلاوة بلا فقه ولا فِهم.
 (لا يعلمون الكتاب إلا أماني) أي ليس لهم حظ من كتاب الله إلا التلاوة فقط وليس عندهم خبر بما عند الأولين الذين يعلمون حق المعرفة حالهم وهؤلاء إنما معهم ظنون وتقاليد لأهل العلم منهم، ما عندهم إلا أماني حظهم من التوراة أماني مجرد قراءة لا يفهمون ولا يفقهون.
وأيضا (إن هم إلا يظنون) القائم عندهم مبني على الظن والتقليد لعلمائهم فذكر في هذه الآيات علماءهم وعوامهم ومنافقيهم.
تأمل قال: «ذكر في هذه الآيات علماءهم» علماءهم ذكرهم بماذا؟ (قد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه)
المنافقين (إذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا)، والعوام في قوله (ومنهم)، فذكر في هذه الآيات علماءهم وعوامهم ومنافقيهم ومن لم ينافق منهم، من لم ينافق منهم من اعترض على المنافق قال كيف تحدثونهم، كيف تظهرون عندهم، هذا من لم ينافق منهم، باقٍ على كفره لكنه لم ينافق، فذكر هؤلاء الأربعة: العلماء والعوام والمنافقين ومن لم ينافق منهم، قال: «فالعلماء منهم متمسكون بما هم عليه من الضلال والعوام مقلدون لهم لا بصيرة عندهم فلا مطمع لكم في الطائفتين» هذا تأكيد للمعنى الذي صُدرت به هذه الآيات (أفتطمعون أن يؤمنوا لكم) أي لا مطمع في إيمانهم وهذه حالهم، العلماء التحريف للنصوص، وعوامهم مقلدة لهم، اتباع لهم، فلا مطمع لكم في الطائفتين.
ابن كثير له كلام في موضعين. نعم اقرأ كلا الموضوعين:
 قال ابن كثير رحمه الله في موضع سورة الأنعام « وما قصّه كثير من المفسرين وغيرهم فعامتها أحاديث بني إسرائيل فما وافق منها الحق مما بأيدينا عن المعصوم قبلناه لموافقته الصحيح، وما خالف شيئا من ذلك رددناه  وما ليس فيه موافقة ولا مخالفة لا نصدقه ولا نكذبه بل نجعله وقفا، وما كان من هذا الضرب منها فقد ترخّص كثير من السلف في روايتها وكثير من ذلك ما لا فائدة فيه ولا حاصل له مما ينتفع به في الدين، ولو كانت فيه فائدة تعود على المكلفين في دينهم لبينته هذه الشريعة الكاملة الشاملة، والذي نسلكه في هذا التفسير الإعراض عن كثير من الأحاديث الإسرائيلية لما فيها من تضييع الزمان ولما اشتمل عليه كثير منها من الكذب المروج عليهم فإنهم لا تفرقة عندهم بين صحيحها وسقيمها كما حرره الأئمة الحفاظ المتقنون من هذه الأمة»
وقال في موضع البقرة: «وهذه السياقات كلها عن عبيدة وأبي العالية والسدي وغيرهم فيها اختلاف ما والظاهر أنها مأخوذة من كتب بني إسرائيل» هذا يتعلق في سياق (ادارأتم فيها) ذكر هذا عنده نعم. «وهي مما يجوز نقلها ولكن لا نصدق ولا نكذب فلهذا لا نعتمد عليها إلا ما وافق الحق عندنا والله أعلم»
نعم. قال لا نعتمد عليها إلا ما وافق الحق، لكن لا تجعل هي في نفسها مفسرة لمعاني القرآن لكن ما وافق منها الحق يعني شهد له القرآن أو شهدت له السنة - سنة النبي صلى الله عليه وسلم - بأنه حق قبلناه وإلا رددناه.
 نفعنا الله أجمعين بما علمنا وزادنا علما وتوفيقا وأصلح لنا شأننا كله وهدانا إليه صراطا مستقيما... سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك اللهم صلِ وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين. جزاكم الله خيرا
----------------------------------

اقرأ المزيد...

السبت، 22 نوفمبر 2025

اسم الله [الغالب/ النصير] من كتاب فقه الأسماء الحسنى للشيخ عبد الرزاق البدر

  ورد اسم الله (الغالب) في موضع واحد من القرآن، وهو قول الله تعالى: (وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ )
 [يوسف: ٢١]. 
وورد اسمه (النصير) في أربعة مواضع وهي:
 قوله تعالى: ﴿فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ ﴾ [الأنفال: ٤٠]
 وقوله :  ﴿ وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا ﴾ [النساء : ٤٥] 
وقوله: ﴿ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ ﴾ [الحج : ٧٨]
وقوله: ﴿ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا ﴾ [الفرقان: ٣١].

و«الغالب» معناه الذي يفعل ما يشاء، لا يغلبه شيء، ولا يرد حكمه راد، ولا يملك أحد رد ما قضاه، أو منع ما أمضاه. 
قال القرطبي رحمه الله: "فيجب على كل مكلف أن يعلم أنَّ الله سبحانه وتعالى هو الغالب على الإطلاق، فمن تمسك به فهو الغالب، ولو أن جميع من في الأرض طالب، قال تعالى:  ﴿ كتب الله لأغلين أنا وَرُسُلِي ﴾ [المجادلة : ٢١]، ومن اعرض عن الله تعالى وتمسك بغيره كان مغلوبًا، وفي حبائل الشيطان مقلوبا" (۱).

و«النصير» معناه: الذي تولى نصر عباده، وتكفل بتأييد أوليائه والدفاع عنهم، والنصر لا يكون إلا منه، ولا يتحقق إلا بمنّه ، فالمنصور من نصره الله؛ إذ لا ناصر للعباد سواه، ولا حافظ لهم إلا هو ، قال تعالى: ﴿وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الحكيم ﴾ [آل عمران: ١٢٦]، وقال تعالى: ﴿إِن يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّنْ بَعْدِهِ ﴾ [آل عمران: ١٦٠]، وقال تعالى :  ﴿ أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُندٌ لَكُمْ يَنصُرُكُم مِّن دُونِ الرَّحْمَنِ ﴾ [الملك: ٢٠] ، وقال تعالى: ﴿وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِي وَلَا نصير﴾ [البقرة: ١٠٧]، وقال تعالى: ﴿ وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الروم: ٤٧].

وقد ذكر الله سبحانه في مواضع عديدة من القرآن الكريم منته على أنبيائه وأوليائه بالنصر والتأييد:
قال تعالى: ﴿إِنَّا لَننْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ ءَامَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ ﴾ [غافر : ٥١]
 وقال تعالى: ﴿لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ ) [التوبة: ٢٥]، وقال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ مَنَنَا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ وَنَجَيْنَهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ* وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ ﴾ [الصافات: ١١٤ - ١١٦].
وأخبر أنهم لا يطلبون نصرهم إلا منه، ولا يلجؤون لنيله إلا إليه
 ففي دعاء نوح الله :  ﴿ قَالَ رَبِّ انصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ ﴾ [المؤمنون : ٢٦]
 وفي دعاء لوط :  ﴿ قَالَ رَبِّ انصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ ﴾ [العنكبوت: ٣٠]، وفي دعاء نبينا محمد صلى الله عليه وسلم والمؤمنين : {أَنتَ مَوْلَانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾ [البقرة: ٢٨٦].
وفي سنن أبي داود والترمذي وغيرهما (٢) عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان رسول الله الله إذا غزا قال: (اللهم أنت عضدي ونصيري، بك أحول وبك أصول وبك أقاتل).
وأخبر سبحانه أن الكفار لا ناصر لهم:
قال تعالى: ﴿ فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ ﴾ [آل عمران : ٥٦]
وقال تعالى: ﴿ بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَن يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ ﴾ [الروم: ٢٩]
 وقال تعالى : ﴿ وَكَأَيِّن مِن قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ ﴾ [محمد: ١٣]
وقال تعالى للمؤمنين : ﴿ وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوْا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا * سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا ﴾ [الفتح: ٢٢ - ٢٣].
وهو خطاب للمؤمنين الذين قاموا بحقائق الإيمان الظاهرة والباطنة بأنهم هم المنصورون، وأن العاقبة الحميدة لهم في الدنيا والآخرة.
ولهذا فإن المؤمنين ما لم يجاهدوا أنفسهم على تحقيق الإيمان والإتيان بمقومات النصر على الأعداء لا يتحقق لهم نصر، بل يتسلّط عليهم أعداؤهم بسبب ذنوبهم وتقصيرهم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : "وحيث ظهر الكفار فإنما ذاك لذنوب المسلمين التي أوجبت نقص إيمانهم، ثم إذا تابوا بتكميل إيمانهم نصرهم الله، كما قال تعالى: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ﴾ [آل عمران: ۱۳۹]، وقال: ﴿أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ ﴾ [آل عمران: ١٦٥ ]" (٣).
فيحتاج العباد للانتصار على العدو الظاهر أن يجاهدوا العدو الباطن من النفس الأمارة بالسوء والشيطان، فما لم ينتصروا على هذا العدو فلا نصر لهم.
قال ابن القيم رحمه الله في بيانه لقوله تعالى : ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [العنكبوت: ٦٩]: 
"علق سبحانه الهداية بالجهاد، فأكمل الناس هداية أعظمهم جهادًا، وأفرض الجهاد جهاد النفس وجهاد الهوى وجهاد الشيطان وجهاد الدنيا، فمن جاهد هذه الأربعة في الله هداه الله سبل رضاه الموصلة إلى جنته، ومن ترك الجهاد فاته من الهدى بحسب ما عطّل من الجهاد... ولا يتمكن من جهاد عدوه الظاهر إلا من جاهد هذه الأعداء باطنا، فمن نصر عليها نصر على عدوه، ومن نصرت عليه نصر عليه عدوه" (٤).
وقال رحمه الله: «فإذا ضعف الإيمان صار لعدوهم عليهم من السبيل بحسب ما نقص من إيمانهم، فهم جعلوا لهم عليهم السبيل بما تركوه من طاعة الله تعالى، فالمؤمن عزيز عال مؤيد منصور مكفي مدفوع عنه بالذات أين كان، ولو اجتمع عليه من بأقطارها، إذا قام بحقيقة الإيمان وواجباته ظاهرا وباطنا، وقد قال تعالى للمؤمنين: ﴿ فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَن يَتَرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ ﴾ [محمد : ٣٥] ، فهذا الضمان إنما هو بإيمانهم وأعمالهم التي هي جند من جنود الله يحفظهم بها، ولا يفردها عنهم ويقتطعها عنهم فيبطلها عليهم كما يتر الكافرين والمنافقين أعمالهم إذ كانت لغيره، ولم تكن موافقة لأمره» (٥).
هذا ونسأل الله الكريم أن يُصلح أحوال المسلمين، وأن يقيهم شر أعدائهم، وأن يحفظ على المسلمين أمنهم وإيمانهم، وأن يكف بأس الذين كفروا، والله أشد بأساً وأشد تنكيلا، وأن يعزّ دينه ويعلي كلمته، وأن ينصرنا على القوم الكافرين، والله عزل حافظ لمن لجأ إليه، وكاف من اعتصم به، فنعم المولى ونعم النصير.
------------------------------------------------------------
(۱) «الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى» (۲۱۹/۱).
(٢) رواه أبو داود (رقم : (۲۶۳۲)، والترمذي (رقم : ٣٥٨٤) وحسنه . وانظر صحيح أبي داود للألباني (۲۲۹۱).
(٣) «الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح» (٦ / ٤٥٠ ) .
(٤) «الفوائد» (ص/ ۱۰۹) .
(٥) «إغاثة اللهفان» (٢ / ٩١٣ - ٩١٤).

اقرأ المزيد...

الجمعة، 21 نوفمبر 2025

العمل بسورة الإنسان (۱۲-۲۲)

 بسم الله الرحمن الرحيم

١- أدم القراءة في وصف نعيم الجنة الوارد في القرآن، لتزهد في متاع الدنيا القليل الزائل، وتشتاق إلى نعيم الجنة النفيس الباقي، فإن ملابس أهل الجنة من الحرير الخالص، ومجالسهم أسرة مزينة يتكئون فيها مرتاحين مطمئنين فرحين مستبشرين لا يعانون فيها من أذى الحر ولا ضرر البرد، ويستظلون بظلال أشجارها الوارفة، ويقطفون ما شاؤوا من لذيذ الفواكه بأنواعها المختلفة متى شاؤوا قياما وقعودا ومضطجعين، لا يكابدون أي عناء في قطف ثمارها، وأوانيهم من فضة في صفاء الزجاج، يشربون فيها من ألذ الأشربة ما يشتهون من خمر وكافور، أو خمر وزنجبيل، والعيون تجري من تحت أرجلهم، يوجهونها حيث شاؤوا، ويسقيهم ربهم شرابا طهورا، وخدمهم فيها غلمان باقون على شبابهم ونضارتهم منتشرون في كل مكان كأنهم اللؤلؤ المنثور، ويُحلّون فيها بأساور من فضة، ويعطى الواحد منهم ملكا كبيرا واسعا، ينظر في ملكه مسيرة ألفي سنة، يرى أقصاه كما يرى أدناه، فما أعظمه من نعيم، وما أجملها من كرامة، وما أكرمه من رب رحيم، وما أعظم حسرة من يفوته هذا النعيم المقيم؛ لأنه لم يصبر على طاعة ربه ساعات يسيرة من عمره .
(وجزاهم بما صبروا جنة وحريرا * متكئين فيها على الأرائك لا يرون فيها شمسا ولا زمهريرا * ودانية عليهم ظلالها وذللت قطوفها تذليلا * ويطاف عليهم بآنية من فضة وأكواب كانت قواريرا* قواريرا من فضة قدروها تقديرا * ويُسقون فيها كأسا كان مزاجها زنجبيلا * عينا فيها تسمى سلسبيلا * ويطوف عليهم ولدان مخلدون إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤا منثورا * وإذا رأيت ثم رأيت نعيما وملكا كبيرا * عاليهم ثياب سندس خضر وإستبرق وحلّوا أساور من فضة وسقاهم ربهم شرابا طهورا * إن هذا كان لكم جزاء وكان سعيكم مشكورا).
-------------------
اقرأ المزيد...

الخميس، 20 نوفمبر 2025

فوائد سورة الإنسان الآيات (۱۲-۲۲)

 بسم الله الرحمن الرحيم

قال ابن القيم في حال أهل الجنة ونعيمهم: "ولما علم الموفقون ما خلقوا له، وما أريد بإيجادهم، رفعوا رؤوسهم، فإذا علمُ الجنة قد رفع لهم ، فشمّروا إليه، وإذا صراطها المستقيم قد وضح لهم فاستقاموا عليه، ورأوا من أعظم الغبن بيع ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر في أبد لا يزول ولا ينفد - بصبابة عيش، إنما هو كأضغاث أحلام، أو كطيف زار في المنام، مشوب بالنغص، ممزوج بالغصص، إن أضحك قليلا أبكى كثيرا، وإن سرّ يوما أحزن شهورا، آلامه تزيد على لذاته، وأحزانه أضعاف أضعاف مسراته، أوله مخاوف، وآخره متالف. فيا عجبا من سفيه في صورة حكيم، ومعتوه في مسلاخ عاقل، آثر الحظ الفاني الخسيس، على الحظ الباقي النفيس، وباع جنة عرضها السموات والأرض بسجن ضيق بين أرباب العاهات، ومساكن طيبة في جنات عدن تجري من تحتها الأنهار، بأعطان ضيقة آخرها الخراب والبوار، وأبكارا عربا أترابا كأنهن الياقوت والمرجان بقذرات دنسات سيئات الأخلاق مسافحات أو متخذات أخدان، وحورا مقصورات في الخيام بخبيثات مسيئات بين الأنام، وأنها را من خمر لذة للشاربين بشراب نجس مذهب للعقل مفسد للدنيا والدين، ولذة النظر إلى وجه العزيز الرحيم بالتمتع برؤية الوجه القبيح الدميم، وسماع الخطاب من الرحمن بسماع المعازف والغناء والألحان، والجلوس على منابر اللؤلؤ والياقوت والزبرجد يوم المزيد بالجلوس في مجالس الفسوق مع كل شيطان مريد، ونداء المنادي: يا أهل الجنة: إن لكم أن تنعموا فلا تبأسوا، وتحيوا فلا تموتوا، وتقيموا فلا تظعنوا، وتشبّوا فلا تهرموا بغناء المغنين:
 وقف الهوى بي حيث أنتِ فليس لي .... متأخر عنه ولا متقدم
أجد الملامة في هواك لذيذة .... حبا لذكرك فليلمني اللوم
وإنما يظهر الغبن الفاحش في هذا البيع يوم القيامة، وإنما يتبين سفه بائعه يوم الحسرة والندامة، إذا حشر المتقون إلى الرحمن وفدا، وسيق المجرمون إلى جهنم وردا، ونادى المنادي على رؤوس الأشهاد ليعلمن أهل الموقف من أولى بالكرم من بين العباد، فلو توهم المتخلف عن هذه الرفقة ما أُعد لهم من الإكرام، وادُّخر لهم من الفضل والإنعام، وما أخفي لهم من قرة أعين، لم يقع على مثلها بصر، ولا سمعته أذن، ولا خطر على قلب بشر لعلم أي بضاعة أضاع، وأنه لا خير له في حياته، وهو معدود من سقط المتاع، وعلم أن القوم قد توسطوا ملكا كبيرا، لا تعتريه الآفات، ولا يلحقه الزوال، وفازوا بالنعيم المقيم في جوار الكبير المتعال. فهم في روضات الجنات يتقلبون، وعلى أسرتها تحت الحجال يجلسون، وعلى الفرش - التي بطائنها من إستبرق - يتكئون، وبالحور العين يتمتعون، وبأنواع الثمار يتفكهون (يطوف عليهم ولدان مخلدون* بأكواب وأباريق وكأس من معين* لا يُصدعون عنها ولا ينزفون* وفاكهة مما يتخيرون* ولحم طير مما يشتهون* وحور عين* كأمثال اللؤلؤ المكنون* جزاء بما كانوا يعملون)، (يطاف عليهم بصحاف من ذهب وأكواب وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وأنتم فيها خالدون)، تالله لقد نودي عليها في سوق الكساد فما قبِل ولا استام إلا أفراد من العباد، فواعجبا لها كيف نام طالبها؟! 
وكيف لم يسمح بمهرها خاطبها؟!
وكيف طاب العيش في هذه الدار بعد سماع أخبارها؟!
 وكيف قرّ للمشتاق القرار دون معانقة أبكارها؟!
 وكيف قرت دونها أعين المشتاقين؟!
 وكيف صبرت عنها أنفس الموقنين؟!
 وكيف صدفت عنها قلوب أكثر العالمين؟!
 وبأي شيء تعوضت عنها نفوس المعرضين؟!
وما ذاك إلا غيرة أن ينالها… سوى كفئها، والرب بالخلق أعلم
وإن حجبت عنا بكل كريهة ... وحفت بما يؤذي النفوس ويؤلم
فلله ما في حشوها من مسرة .... وأصناف لذات بها يتنعم
ولله برد العيش بين خيامها ... وروضاتها، والثغر في الروض يبسم
ولله واديها الذي هو موعد الـ... مزيد لوفد الحب، لو كنت منهم
 بذيالك الوادي يهيم صبابة .... محب يرى أن الصبابة مغنم
ولله أفراح المحبين عندما ... يخاطبهم من فوقهم، ويسلم
ولله أبصار ترى الله جهرة ... فلا الضيم يغشاها، ولا هي تسأم
فيا نظرة أهدت إلى الوجه نضرة ... أمن بعدها يسلو المحب المتيم
ولله كم من خيرة إن تبسمت .... أضاء لها نور من الفجر أعظم
فيا لذة الأبصار إن هي أقبلت ... ويا لذة الأسماع حين تكلم 
و يا خجلة الغصن الرطيب إذا انـ ... ثنت ويا خجلة الفجرين حين تبسم
 فإن كنت ذا قلب عليل بحبها ... فلم يبق إلا وصلها لك مرهم
 ولا سيما في لثمها عند ضمها .... وقد صار منها تحت جيدك معصم 
تراه إذا أبدت له حسن وجهها ... يلذ به قبل الوصال، وينعم
 تفكّه فيها العين عند اجتلائها ... فواكه شتى، طلعها ليس يعدم 
عناقيد من كرم، وتفاح جنة ... ورمان أغصان به القلب مغرم
وللورد ما قد ألبسته خدودها ... وللخمر ما قد ضمه الريق والفم 
تقسم منها الحسن في جمع واحد ... فيا عجبا من واحد يتقسم
لها فرق شتى من الحسن أجمعت .... بجملتها، أن السلو محرم
تذكر بالرحمن من هو ناظر ... فينطق بالتسبيح لا يتلعثم
إذا قابلت جيش الهموم بوجهها ... تولى على أعقابه الجيش يهزم
 فيا خاطب الحسناء إن كنت باغيا .... فهذا زمان المهر فهو المقدم
وكن مبغضا للخائنات لحبها ... فتحظى بها من دونهن وتنعم
وكن أيما ممن سواها فإنها ... لمثلك في جنات عدن تأيم
وصم يومك الأدنى لعلك في غد ... تفوز بعيد الفطر، والناس صوم
 وأقدم ولا تقنع بعيش منغص .... فما فاز باللذات من ليس يقدم
وإن ضاقت الدنيا عليك بأسرها ... ولم يك فيها منزل لك يُعلم
 فحي على جنات عدن فإنها ... منازلك الأولى وفيها المخيم
ولكننا سبي العدو فهل ترى ... نعود إلى أوطاننا ونسلم
وقد زعموا أن الغريب إذا نأى .... وشطت به أوطانه فهو مغرم
وأي اغتراب فوق غربتنا التي ... لها أضحت الأعداء فينا تحكم
وحي على السوق الذي فيه يلتقي الـ.... محبون، ذاك السوق للقوم معلم
 فما شئت خذ منه بلا ثمن له ... فقد أسلف التجار فيه وأسلموا
وحي على يوم المزيد الذي به ... زيارة رب العرش، فاليوم موسم
 وحي على واد هنالك أفيح ... وتربته من أذفر المسك أعظم
منابر من نور هناك وفضة .... ومن خالص العقيان لا يتفصم
وكثبان مسك قد جعلن مقاعدا ... لمن دون أصحاب المنابر تعلم
فبينا هم في عيشهم وسرورهم .... وأرزاقهم تجري عليهم وتقسم
 إذا هم بنور ساطع أشرقت له ... بأقطارها الجنات لا يتوهم
 تجلى لهم رب السماوات جهرة ... فيضحك فوق العرش ثم يكلّم
سلام عليكم، يسمعون جميعهم ... بآذانهم تسليمه إذ يسلّم
يقول: سلوني ما اشتهيتم فكل ما ... تريدون عندي، إنني أنا أرحم
فقالوا جميعا : نحن نسألك الرضا ... فأنت الذي تولي الجميل وترحم
 فيعطيهم هذا، ويشهد جمعهم .... عليه، تعالى الله، فالله أكرم
 فيا بائعا هذا ببخس معجل ... كأنك لا تدري، بلى سوف تعلم
فإن كنت لا تدري فتلك مصيبة .... وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم.
« حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح»(١/ ٨-١٥)

/ (وجزاهم بما صبروا جنة وحريرا)
قال ابن القيم: من فسح لنفسه في اتباع الهوى ضيق عليها في قبره ويوم معاده، ومن ضيق عليها بمخالفة الهوى وسّع عليها في قبره ومعاده، وقد أشار تعالى إلى هذا في قوله تعالى : {وجزاهم بما صبروا جنة وحريرا} فلما كان في الصبر - الذي هو حبس النفس عن الهوى - خشونة وتضييق؛ جازاهم على ذلك نعومة الحرير، وسعة الجنة.
 قال أبو سليمان الداراني رحمه الله تعالى في هذه الآية: "وجزاهم بما صبروا عن الشهوات". «روضة المحبين ونزهة المشتاقين» (ص ٦٤١).
وقال السعدي رحمه الله: "وجزاهم بما صبروا على طاعة الله فعملوا ما أمكنهم منها، وعن معاصي الله فتركوها، وعلى أقدار الله المؤلمة فلم يتسخطوها". «تفسير السعدي» (ص ۹۰۱).

/ (متكئين فيها على الأرائك لا يرون فيها شمسا ولا زمهريرا)
عن قتادة في قوله تعالى: (لا يرون فيها شمسا ولا زمهريرا) "يعلم أن شدة الحر تؤذي، وشدة القر تؤذي فوقاهم الله أذاهما". «تفسير الطبري (٢٤/ ١٠٢).
وقال البغوي: "{لا يرون فيها شمسا ولا زمهريرا} أي صيفا ولا شتاء. قال مقاتل: يعني شمسا يؤذيهم حرها، ولا زمهريرا يؤذيهم برده، لأنهما يؤذيان في الدنيا. والزمهرير البرد الشديد". «تفسير البغوي» (٨ ٢٩٦)

/ (ودانية عليهم ظلالها وذللت قطوفها تذليلا)
قال ابن كثير: "(وذللت قطوفها تذليلا) أي: متى تعاطاه دنا القطف إليه وتدلى من أعلى غصنه، كأنه سامع طائع، كما قال تعالى في الآية الأخرى: (وجنى الجنتين دان) وقال تعالى: (قطوفها دانية).
قال مجاهد: "(وذللت قطوفها تذليلا) إن قام ارتفعت بقدره، وإن قعد تدلّت له حتى ينالها، وإن اضطجع تدلت له حتى ينالها، فذلك قوله : {تذليلا}".
وقال قتادة: "لا يرد أيديهم عنها شوك ولا بعد".
وقال مجاهد: أرض الجنة من ورِق، وترابها المسك، وأصول شجرها من ذهب وفضة، وأفنانها من اللؤلؤ الرطب والزبرجد والياقوت والورق والثمر بين ذلك، فمن أكل منها قائما لم يؤذه، ومن أكل منها قاعدا لم يؤذه، ومن أكل منها مضطجعا لم يؤذه" «تفسير ابن كثير» (۸/ ۲۹۱).

/ (ويطاف عليهم بآنية من فضة وأكواب كانت قواريرا * قواريرا من فضة قدروها تقديرا)
عن قتادة في قوله: (قوارير من فضة) قال: "لو احتاج أهل الباطل أن يعملوا إناء من فضة يرى ما فيه من خلفه، كما يرى ما في القوارير ما قدروا عليه". «تفسير الطبري» (٢٤/ ١٠٥).
وقال البغوي:" (قوارير من فضة) قال المفسرون: أراد بياض الفضة في صفاء القوارير، فهي من فضة في صفاء الزجاج، يرى ما في داخلها من خارجه". «تفسير البغوي» (٢٩٦/٨).
وقال القرطبي: "وقيل: أرض الجنة من فضة، والأواني تتخذ من تربة الأرض التي هي منها. ذكره ابن عباس"، وقال: "ليس في الجنة شيء إلا قد أعطيتم في الدنيا شبهه إلا القوارير من فضة"، وقال:" لو أخذت فضة من فضة الدنيا فضربتها حتى تجعلها مثل جناح الذباب لم تر من ورائها الماء، ولكن قوارير الجنة مثل الفضة في صفاء القوارير". «الجامع لأحكام القرآن» (١٩ / ١٤٠).
وقال ابن تيمية: "فإن قيل: فلم اقتصر من آنيتهم وحليتهم على الفضة دون الذهب؟ ومعلوم أن الجنان جنتان من فضة آنيتهما وحليتهما وما فيهما، وجنتان من ذهب آنيتهما وحليتهما وما فيهما؟
قيل: سياق هذه الآيات إنما هو في وصف الأبرار ونعيمهم مفصلا دون تفصيل جزاء المقربين، فإنه سبحانه إنما أشار إليه إشارة تنبه على ما سكت عنه، وهو أن شارب الأبرار يُمزج من شرابهم.
فالسورة - سورة الإنسان - مشوقة بصفة الأبرار وجزائهم على التفصيل، وذلك - والله أعلم - لأنهم أعم من المقربين وأكثر منهم؛ ولهذا يخبر سبحانه عنهم بأنهم ثلة من الأولين وثلة من الآخرين، وعن المقربين السابقين بأنهم ثلة من الأولين وقليل من الآخرين.
وأيضا: فإن في ذكر جزاء الأبرار تنبيها على أن جزاء المقربين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر». جامع الرسائل لابن تيمية» (۱) (۷۳).
وقال ابن القيم -رحمه الله - في هذه الآية: ذكر هنا الأساور من الفضة والأكواب من الفضة في جزاء الأبرار، وذكر في سورة الملائكة - سورة فاطر - الأساور من الذهب في جزاء السابقين بالخيرات، فعُلم جزاء المقتصدين من سورة الإنسان، وعُلم جزاء السابقين من سورة الملائكة، فانتظمت السورتان جزاء المقربين على أتم الوجوه. والله أعلم بأسرار كلامه وحكمه. «طريق الهجرتين وباب السعادتين» (١/ ٤٣٥).

/ (ويسقون فيها كأسا كان مزاجها زنجبيلا)
قال الطبري -رحمه الله- : ويسقى هؤلاء القوم الأبرار في الجنة كأسا، وهي كل إناء كان فيه شراب، فإذا كان فارغا من الخمر لم يقل له: كأس، وإنما يقال له : إناء، كما يقال للطبق الذي تهدى فيه الهدية المهدى مقصورا ما دامت عليه الهدية، فإذا فرغ مما عليه كان طبقا أو خوانا، ولم يكن مهدى». «تفسير الطبري» (٢٤) .(۱۰۷
وقال البغوي -رحمه الله- في هذه الآية: (ويسقون فيها كأسا كان مزاجها زنجبيلا) "يُشوّق ويُطرب، والزنجبيل مما كانت العرب تستطيبه جدا، فوعدهم الله تعالى أنهم يسقون في الجنة الكأس الممزوجة بزنجبيل الجنة. قال ابن عباس: كل ما ذكر الله في القرآن مما في الجنة وسماه ليس له في الدنيا مثل". «تفسير البغوي» (٢٩٦/٨).
وقال ابن كثير -رحمه الله- : "(كان مزاجها زنجبيلا) فتارة يمزج لهم الشراب بالكافور وهو بارد، وتارة بالزنجبيل وهو حار، ليعتدل الأمر، وهؤلاء يمزج لهم من هذا تارة ومن هذا تارة. وأما المقربون فإنهم يشربون من كل منهما صرفا، كما قاله قتادة وغير واحد". «تفسير ابن كثير» (۲۹۱۸)

/ (عينا فيها تسمى سلسبيلا)
قال البغوي -رحمه الله-: "قال أبو العالية ومقاتل بن حيان سميت سلسبيلا لأنها تسيل عليهم في الطرق وفي منازلهم، تنبع من أصل العرش من جنة عدن إلى أهل الجنان، وشراب الجنة على برد الكافور وطعم الزنجبيل وريح المسك". قال الزجاج: "سميت سلسبيلا لأنها في غاية السلاسة تتسلسل في الحلق». «تفسير البغوي» (۲۹۷۸)

/ (ويطوف عليهم ولدان مخلدون إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤا منثورا):
قال الطبري -رحمه الله- : "عُني به أنهم دائم شبابهم، لا يتغيرون عن تلك السن. وذكر عن العرب أنها تقول للرجل إذا كبر وثبت سواد شعره إنه لمخلد؛ كذلك إذا كبر وثبت أضراسه وأسنانه قيل: إنه لمخلد، يراد به أنه ثابت الحال، وهذا تصحيح لما قال قتادة من أن معناه: لا يموتون، لأنهم إذا ثبتوا على حال واحدة فلم يتغيروا بهرم ولا شيب ولا موت، فهم مخلدون". «تفسير الطبري» (٢٤ / ١١٠).
وقال ابن القيم -رحمه الله- : "شبههم سبحانه باللؤلؤ المنثور، لما فيه من البياض وحسن الخلق، وفي كونه منثورا فائدتان: 
إحداهما: الدلالة على أنهم غير معطلين، بل مبثوثون في خدمتهم وحوائجهم.
والثاني: أن اللؤلؤ إذا كان منثورا، ولا سيما على بساط من ذهب أو حرير؛ كان أحسن لمنظره وأبهى من كونه مجموعا في مكان واحد". «حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح» (١/ ٤٦٣ - ٤٦٥).
وقال ابن كثير -رحمه الله- : "{إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤا منثورا } أي: إذا رأيتهم في انتشارهم في قضاء حوائج السادة، وكثرتهم، وصباحة وجوههم، وحسن ألوانهم وثيابهم وحليهم، حسبتهم لؤلؤا منثورا ولا يكون في التشبيه أحسن من هذا، ولا في المنظر أحسن من اللؤلؤ المنثور على المكان الحسن".
قال قتادة عن أبي أيوب عن عبد الله بن عمرو : ما من أهل الجنة من أحد إلا يسعى عليه ألف خادم، كل خادم على عملٍ ما عليه صاحبه" تفسير ابن كثير) (۲۹۲۸).

/ (وإذا رأيت ثم رأيت نعيما وملكا كبيرا):
قال البغوي -رحمه الله- : "(وإذا رأيت ثم) أي إذا رأيت ببصرك ونظرت به {ثم} يعني في الجنة، رأيت نعيما لا يوصف وملكا كبيرا وهو أن أدناهم منزلة ينظر إلى ملكه في مسيرة ألف عام يرى أقصاه كما يرى أدناه.
وقال مقاتل والكلبي : "هو أن رسول رب العزة من الملائكة لا يدخل عليه إلا بإذنه". وقيل: "ملكا لا زوال له". «تفسير البغوي» (۸) ۲۹۷).
وقال ابن كثير -رحمه الله- : (رأيت نعيما وملكا كبيرا) أي : مملكة الله هناك عظيمة وسلطانا باهرا. وثبت في الصحيح أن الله تعالى يقول لآخر أهل النار خروجا منها، وآخر أهل الجنة دخولا إليها: (إن لك مثل الدنيا وعشرة أمثالها).
وقد قدمنا في الحديث المروي من طريق ثوير بن أبي فاختة، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أدنى أهل الجنة منزلة لمن ينظر في ملكه مسيرة ألفي سنة ينظر إلى أقصاه كما ينظر إلى أدناه). فإذا كان هذا عطاؤه تعالى لأدنى من يكون في الجنة، فما ظنك بما هو أعلى منزلة، وأحظى عنده تعالی". «تفسیر ابن کثیر» (۲۹۲۸)
وقال السعدي -رحمه الله- : "(وإذا رأيت ثم) أي: هناك في الجنة، ورمقت ما هم فيه من النعيم رأيت نعيما وملكا كبيرا فتجد الواحد منهم عنده من القصور والمساكن والغرف المزينة المزخرفة ما لا يدركه الوصف، ولديه من البساتين الزاهرة، والثمار الدانية، والفواكه اللذيذة والأنهار الجارية، والرياض المعجبة والطيور المطربة المشجية ما يأخذ بالقلوب، ويفرح النفوس. وعنده من الزوجات اللاتي هن في غاية الحسن والإحسان الجامعات لجمال الظاهر والباطن الخيرات الحسان، ما يملأ القلب سرورا، ولذة وحبورا، وحوله من الولدان المخلدين والخدم المؤبدين ما به تحصل الراحة والطمأنينة، وتتم لذة العيش وتكمل الغبطة.
ثم علاوة ذلك وأعظمه الفوز برؤية الرب الرحيم، وسماع خطابه، ولذة قربه، والابتهاج برضاه، والخلود الدائم، وتزايد ما هم فيه من النعيم كل وقت وحين، فسبحان الملك المالك الحق المبين، الذي لا تنفد خزائنه، ولا يقل خيره، فكما لا نهاية لأوصافه فلا نهاية لبره وإحسانه". «تفسير السعدي» (ص ۹۰۲).

/ (عاليهم ثياب سندس خضر وإستبرق وحلّوا أساور من فضة وسقاهم ربهم شرابا طهورا):
قال ابن القيم -رحمه الله-: "(عاليهم ثياب سندس خضر وإستبرق وحلوا أساور من فضة) فهذه زينة الظاهر، ثم قال: (وسقاهم ربهم شرابا طهورا) فهذه زينة الباطن المطهر له من كل أذى ونقص.
ونظيره قوله تعالى لأبيهم آدم عليه السلام: (إنّ لك ألا تجوع فيها ولا تعرى* وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى) فضمن له أن لا يصيبه ذل الباطن بالجوع، ولا ذل الظاهر بالعري، وأن لا يناله حر الباطن بالظمأ، ولا حر الظاهر بالضحى". «حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح» (۱/ ۳۹۳).
قال البغوي -رحمه الله: "(وسقاهم ربهم شرابا طهورا) قيل : طاهرا من الأقذار والأقذاء لم تدنسه الأيدي والأرجل كخمر الدنيا".
وقال أبو قلابة وإبراهيم: "إنه لا يصير بولا نجسا ولكنه يصير رشحا في أبدانهم، ريحه كريح المسك، وذلك أنهم يؤتون بالطعام، فإذا كان آخر ذلك أتوا بالشراب الطهور، فيشربون فيطهر بطونهم ويصير ما أكلوا رشحا يخرج من جلودهم ريحا أطيب من المسك الأذفر ، وتضمر بطونهم، وتعود شهوتهم".
وقال مقاتل -رحمه الله-: "هو عين ماء على باب الجنة من شرب منها نزع الله ما كان في قلبه من غل وغش وحسد". «تفسير البغوي» (۲۹۸۸)
وقال القرطبي -رحمه الله : "قال علي رضي الله عنه في قوله تعالى: (وسقاهم ربهم شرابا طهورا) قال: إذا توجه أهل الجنة إلى الجنة مروا بشجرة يخرج من تحت ساقها عينان، فيشربون من إحداهما، فتجري عليهم بنضرة النعيم، فلا تتغير أبشارهم، ولا تتشعث أشعارهم أبدا، ثم يشربون من الأخرى، فيخرج ما في بطونهم من الأذى، ثم تستقبلهم خزنة الجنة، فيقولون لهم: سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين)". «الجامع لأحكام القرآن» (١٩/ ١٤٧).
---------------------------

اقرأ المزيد...

الاثنين، 17 نوفمبر 2025

| الدرس الرابع والخمسون | تفسير سورة البقرة: من الآية (٦٧) (وإذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة)


الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللمسلمين والمسلمات، أما بعد:
 ن/ يقول الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله: "قوله (وإذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة قالوا اتتخذنا هزوا قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين* قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي قال إنه يقول إنها بقرة لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك فافعلوا ما تؤمرون* قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها قال إنه يقول إنها بقرة صفراء فاقع لونها تسر الناظرين* قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي إن البقرة تشابه علينا وإنا إن شاء الله لمهتدون * قال إنه يقول إنها بقرة لا ذلول تثير الأرض ولا تسق الحرث مسلمة لا شية فيها قالوا الآن جئت بالحق فذبحوها وما كادوا يفعلون * وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها والله مخرج ما كنتم تكتمون * فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحيي الله الموتى ويريكم آياته لعلكم تعقلون * ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة وإنّ من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله وما الله بغافل عما تعملون )، أي واذكروا ما جرى لكم مع موسى عليه السلام حين قتلتم قتيلا فادارأتم فيه أي تدافعتم واختلفتم في قاتله حتى تفاقم الأمر بينكم وكاد لولا تبيين الله تعالى لكم يحدث بينكم شر كبير فقال لكم موسى عليه السلام في تبيين القاتل (اذبحوا بقرة) وكان من الواجب المبادرة إلى امتثال أمره وعدم الاعتراض عليه ولكنهم أبوا إلا الاعتراض فقالوا (أتتخذنا هزوا) فقال نبي الله عليه السلام (أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين) فإن الجاهل هو الذي يتكلم بالكلام الذي لا فائدة فيه وهو الذي يستهزئ بالناس، وأما العاقل فيرى أن من أكبر العيوب المزرية بالدين والعقل استهزاؤه بمن هو آدمي مثله وإن كان قد فُضل عليه فتفضيله يقتضي منه الشكر لربه والرحمة لعباده فلما قال لهم موسى ذلك علموا أن ذلك صدق فقالوا (ادع لنا ربك يبين لنا ما هي) أي ما سِنها؟ قال (إنه يقول إنها بقرة لا فارض) أي كبيرة، (ولا بكر) أي صغيرة، (عوان بين ذلك فافعلوا ما تؤمرون) واتركوا التشديد والتعنت، (قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها قال إنه يقول إنها بقرة صفراء فاقع لونها) أي شديد، (تسر الناظرين) أي من حُسنها، (قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي إن البقرة تشابه علينا) فلم نهتدي إلى ما تريد (وإنا إن شاء الله لمهتدون* قال إنه يقول إنها بقرة لا ذلول) أي مذللة بالعمل، (تثير الأرض) أي بالحراث، (ولا تسق الحرث) أي ليست بسانية، (مُسلَّمة) من العيوب أو من العمل، (لا شية فيها) أي لا لون فيها غير لونها الموصوف المتقدم، (قالوا الآن جئت بالحق) أي بالبيان الواضح وهذا من جهلهم وإلا فقد جاءهم بالحق أول مرة فلو أنهم اعترضوا أي بقره لحصل المقصود ولكنهم شددوا بكثرة الأسئلة فشدد الله تعالى عليهم، ولو لم يقولوا إن شاء الله لم يهتدوا أيضا إليها، (فذبحوها) أي البقرة التي وصفت بتلك الصفات، (وما كادوا يفعلون) بسبب التعنت الذي جرى منهم، فلما ذبحوها قلنا لهم اضربوا القتيل ببعضها أي بعضو منها إما بعضو معين أو أي عضو منها فليس في تعيينه فائدة، (فضربوه ببعضها) فأحياه الله تعالى وأخرج ما كانوا يكتمون فأخبر بقاتله وكان في إحيائه وهم يشاهدون ما يدل على إحياء الله تعالى الموتى، (لعلكم تعقلون) فتنزجرون عما يضركم"

ت/ بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علما وأصلح لنا إلهنا شأننا كله ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين، اللهم فقهنا في الدين وعلمنا التأويل يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام أما بعد: قول الله جل وعلا (وإذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة) هذا الخطاب لا يزال موجها إلى بني إسرائيل يُذكرون بأحوال وأعمال أسلافهم، وفي هذه القصة ما كان عليه أسلافهم من التعنت وكثرة الجدال، وأيضا محاولة التفلت من الأوامر، أوامر الله سبحانه وتعالى فيقول جل وعلا:
(وإذ قال موسى لقومه) أي: واذكروا يا بني إسرائيل حين قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة، اذكروا هذه القصة والحالة التي كان عليها آباؤكم عندما أخبرهم موسى عليه السلام أن الله يأمرهم أن يذبحوا بقرة، وذبح البقرة له تعلق بقصة القتيل الذي ادّارؤا فيه، اختلفوا كل يذُب عن نفسه قتله، وكل ينفي عن نفسه قتله، فاحتكموا إلى موسى عليه السلام فقال: (إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة)، هم الآن قضيتهم قضية ماذا؟ قضية كشف من القاتل، وكل يرمي على الآخر، وكل ينفي عن نفسه (ادرأتم) كل يتبرأ من القاتل، واشتد الأمر بينهم عظم الخطب فجاؤوا إلى موسى قال بعضهم لبعض لا تختلفوا عندكم نبي اسألوه، فلما سألوه قال: (إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة) قالوا:
تسخر منا، تستهزئ بنا، هذا كلام لا يقوله عاقل عندما يسأل أحد العقلاء والفضلاء فكيف إذا كان المسؤول نبي مرسل من رب العالمين - وهم يعرفون ذلك- هذا لا يليق بعقلاء الناس فكيف يصفون نبيا بذلك (قالوا أتتخذنا هزوا) يعني تسخر، تستهزئ بنا.
● (أتتخذنا هزوا) فيها ثلاث قراءات:
 ●هُزُوا
●وهُزُؤا
 ●وهزْءًا
 والمراد: أي هل تستهزئ؟ هل أنت تسخر؟ تتخذنا هزوا؟ قال عليه السلام (أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين) هذا فعل الجهلاء، فعل السفهاء، (أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين) يعني هذا أمر من الله سبحانه وتعالى أن تذبحوا بقرة، فبدأوا التعنت وكثرة الجدال لما قال لهم إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة، لو أخذوا أي بقرة لكفتهم وحصل بها المقصود لكنهم شددوا فشدد الله عليهم.
(قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي) هذا السؤال الأول: (ادع لنا ربك يبين لنا ما هي) وهو السؤال عن السن هل صغيرة أو كبيرة؟ هل سنها صغير أو سنها كبير؟ (ادع لنا ربك يبين لنا ما هي)
 (قال إنه يقول إنها بقرة لا فارض ولا بكر) الفارض: المُسنة الكبيرة، والبكر: الصغيرة، فقال (إنه يقول إنها بقرة لا فارض ولا بكر) ليست مُسنّة كبيرة ولا أيضا صغيرة وإنما (عوان بين ذلك) أي وسط بين الكبيرة وبين الصغيرة، وهذا السن هو أقوى ما يكون في الدوام، الصغيرة ما زالت في ضعف الصغر، والكبيرة في ضعف الكِبر والهرم، والوسط هي في السن التي تكون أقوى ما تكون فيه الدابة، (قال إنه يقول إنها بقرة لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك) يعني وسط بين الكبيرة والصغيرة.
(فافعلوا ما تؤمرون) افعلوا ما أمركم الله به، فما اكتفوا، جاءوا بسؤال ثان: (قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها) عرفنا السن نريد الآن تبين لنا اللون، ما لونها (ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها* قال إنه يقول إنها بقرة صفراء فاقع لونها تسر الناظرين) (فاقع لونها) قال ابن عباس رضي الله عنهما: "أي: شديدة الصفرة"
(تسُر الناظرين)
أي لجمالها تسر الناظرين، يعني من ينظر إليها لجمالها وحسنها وصفاء لونها (فاقع لونها تسر الناظرين) أيضا ما اكتفوا بذلك جاءوا بسؤال ثالث (قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي)، السؤال الأول: كان عن السن، والثاني: عن اللون، والثالث: ما هي؟ ما كفت الصفات التي تقدمت قالوا والبقر كثير واشتبه البقر نريد صفة مميزة، نريد صفة مميزة بيّن لنا، (ادع لنا ربك يُبين لنا ما هي) وهذا السؤال الثالث: كان عن هذه البقرة هل هي عاملة أو سائمة؟ هل هي تعمل في الحرث والسقي أو أنها سائمة لا تعمل؟ (قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي إن البقرة تشابه علينا)، (إن البقرة تشابه علينا) يعني يريدون صفات أخرى لأن الصفات التي تقدمت البقر كثير فيريدون شيئا مُميزا لهذه البقرة، ما كان مطلوبا منهم ماذا؟ أن يبحثوا عن بقرة تميزت بصفات معينة أو صفات دقيقة، ولهذا كما قال أئمة السلف: "لو أخذوا أي بقرة كفتهم وحصل بذلك المقصود"
 (قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي إن البقرة تشابه علينا وإنا إن شاء الله لمهتدون) نفعهم الله بهذه الكلمة (إن شاء الله) ولهذا كما قال غير واحد من السلف: "لو لم يستثنوا لما بُينت لهم) لما وجدوها، لكن قالوا: إن شاء الله، وهذا فيه أيضا أهمية تعليق الأمور المستقبلة بالمشيئة (ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله) فنفعهم الله بهذه الكلمة، ولهذا قال غير واحد من السلف: "لو لم يستثنوا ما بيُنت لهم ولما هُدوا إليها" لكنهم قالوا (وإنا إن شاء الله لمهتدون) لمهتدون إلى ماذا؟ إلى بقرة بهذه الصفات المحددة التي هم غلظوا وشددوا على أنفسهم في تحديدها فكان الأمر سهلا فأصبح شديدا.
 (قال إنه يقول إنها بقرة لا ذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث)
(لا ذلول تثير الأرض):
أي غير مذللة للحرث، لحرث الأرض، ليست ذلولا تثير الأرض أي تقوم بأعمال الحراثة، كانت يستفاد من البقرة في ذلك (لا ذلول تثير الأرض) أي: ليست مذللة للحراثة.
 (ولا تسقي الحرث) أي: غير مُعدة لسقي الزرع، هل هي الآن عاملة أو سائمة؟ سائمة، ليست عاملة، ليست ذلول لم تُذلل، قال لهم: لم تذلل لإثارة الأرض، وأيضا لم تذلل للسقي - سقي الزرع - فهي ليست مذللة للحراثة ولا مذللة للسقاية، إذا ليست متخذة لعمل.
 (مسلمة) أي خالية من العيوب مسلمة، سالمة من مسلمة يعني سالمة من العيوب.
(لا شية فيها) يعني ليس فيها علامة لون آخر غير اللون الذي ذكر لكم صفراء فاقع لونها، ليس فيها علامة أخرى مثل لون آخر، يعني يدخل على لون الصفرة -على لونها - فليس فيها علامة من لون غير اللون الذي ذُكر لكم، قال ابن عباس رضي الله عنهما: "لو أخذوا أدنى بقرة اكتفوا بها ولكنهم شددوا فشدد الله عليهم" وقال هذا المعنى غير واحد من أئمه السلف، فحاصل هذه السؤالات أنها سؤالات تعنت ضيقوا بها الخناق على أنفسهم وشددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم وإلا لو ذبحوا أي بقرة لكفتهم.
 (قالوا الآن جئت بالحق) هذه كلمة قبيحة، كلمة سيئة، وهذا من أقبح جهلهم وظلمهم وسفههم يقول لنبي يخبر عن الله عز وجل يقول: (الآن جئت بالحق) يعني الذي كان يقولها قبل ذلك ماذا يكون؟ 
(الآن جئت بالحق) قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: "وقبل ذلك والله قد جاء بالحق" انظر العلم، فرق بينه وبين الجهل، يعني الآن لما قرأ هذا الإمام هذه الكلمة (قالوا الآن جئت بالحق) أزعجته، أليس كذلك؟ أزعجته كيف يقال الآن جئت بالحق فحلف رضي الله عنه قال: (وقبل ذلك والله قد جاءهم بالحق) فهذه كلمة قالها هؤلاء كلمة سيئة، من أقبح جهلهم وظلمهم.
 (فذبحوها) فعلوا ما أُمروا به، ذبحوها متى؟ من بعد ما أكثروا المراوغة والتهرب ادع لنا ربك ما هي، ادع لنا ربك ما لونها، ادع لنا ربك ما هي، البقرة تشابه، تهرّب ومراوغة، وجدال، وتعنت، فذبحوها بعد هذا كله وما كادوا يفعلون (وما كادوا يفعلون) يعني قاربوا ألا يتمكنوا من الفعل، لماذا؟ لأنهم ضيقوا على أنفسهم، تضيقا واسعا.
 يأتي هنا أخبار كثيرة عن بني إسرائيل كيف حصلوا على البقرة، وعند من حصلوا عليها، وتأتي روايات مختلفة يعني وجدوها عند رجل كان بارا بوالده برا عظيما، وقيل وجدوها عند امرأة ذات أيتام، فلما علم من أرادوها منه أنها هي التي لا يحصل مقصودهم إلا بها باعها عليهم بأغلى الأثمان، فقيل: وما كادوا يفعلون لغلاء ثمنها، وقيل: ما كادوا يفعلون لأنهم صعب عليهم العثور عليها بهذه الصفات. فعلى كل حال يعني مثل هذه الروايات يأتي إعراض الشيخ عنها في كلامه، إعراضه عن هذه الروايات وليس من ورائها كبير أهمية في فهم المعنى، المعنى واضح والمقصود الذي في الآية واضح. قال: (فذبحوها وما كادوا يفعلون).
 قال: (وإذ قتلتم) أي واذكروا يا بني إسرائيل إذ قتلتم، من القائل؟ هم يخاطبون بذلك والمعني أسلافهم، أولوهم (وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها) اختلفتم فيها، صار بينكم خلاف شديد في من القاتل، كل يبرئ نفسه، وكل يلقي بالتهمة على الآخر، وكاد أن يقوم بينهم شيء عظيم مقتلة فاحتكموا إلى موسى عليه السلام (وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها والله مخرج ما كنتم تكتمون) مخرج ما أخفيتموه من هو القاتل، وتعيين القاتل، (والله مخرج ما كنتم تكتمون) أي كاشف من هذا الذي قتل القتيل.
(فقلنا اضربوه ببعضها) ببعض ماذا؟ الضمير عائد على البقرة، (فقلنا اضربوه ببعضها) فعرفنا أنهم احتكموا في قضيتهم إلى موسى فأخبرهم أن الله يأمرهم بأن يذبحوا بقرة، تعنتوا وجادلوا إلى أن ذبحوا بقرة، وما كادوا يفعلون ذلك لأنهم شددوا على أنفسهم، حينئذ قال لهم موسى عليه السلام (اضربوه ببعضها)، (اضربوه) أي القتيل، (ببعضها) أي: البقرة، البعض هنا من البقرة أي عضو منها، يأتي في أخبار بني إسرائيل يعني أشياء كثيرة لا حاجة إليها لأن المقصود، والمعنى المقصود، والمعنى واضح حتى وإن لم يعرف هذا البعض أهو يدها، أو عظم منها، أو لسانها، ذُكرت أقوال كلها مأخوذة من الروايات عن بني إسرائيل، (فقلنا اضربوه ببعضها) أي: فسيُحيه الله إذا ضربته ببعضها، سيحيه الله سبحانه وتعالى وسيخبركم من قتله، قال الحسن البصري رحمه الله: "فضربوه ببعضها فقام حيا -على أِثر الضرب- فقام حيا فقال قتلني فلان ثم مات" لم يزد على ذلك، أحياه الله وعيّن القاتل ومات، لم يزد على ذلك (فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحيي الله الموتى).
(ويريكم آياته لعلكم تعقلون) الآن في قضية إحياء الله الموتى: أراهم هذه الآية العظيمة الباهرة، هذا رجل قتل صار ميتا فأحياه الله وهم يشاهدونه، وقام من بعد موته وتكلم وقال الذي قتلني فلان، أحياه الله، فهذه آية وبرهان على إحياء الله للموتى.
وسورة البقرة جاء فيها خمسة مواطن جاءت فيها آيات على إحياء الله سبحانه وتعالى الموتى منها:
هذه القصة قصه القتيل
● ومنها: ما تقدم (ثم بعثناكم من بعد موتكم) تقدمت معنا نعم
● ومنها: قصة الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم
● ومنها: قصة الرجل الذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها (قال أنى يحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله مئة عام ثم بعثه)
● وأيضا القصة التي بعدها، قصة الطيور الأربعة التي أحياها الله عز وجل لإبراهيم (وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي قال فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا ثم ادعهن يأتينك سعيا واعلم أن الله عزيز حكيم).
قال (كذلك يحيي الله الموتى ويريكم آياته لعلكم تعقلون) هنا إضمار، إضمار كلام يدل عليه السياق، مثل ما تقدم في أثر الحسن البصري "ففعلوا" أي ففعلوا ذلك، ضربوه ببعضها فأحياه الله وأخبرهم بالذي قتله. هنا لطيفة يحسُن الإشارة إليها:
 بنو إسرائيل حصل لهم فتنه فيما يتعلق بالبقرة  والبقره يقال أنها من أبلد البهائم يعني دابة فيها بلادة شديدة ويضرب بها المثل في البَلاَدة، يعني إذا أرادوا وصف شخص ببلادة قالوا أبلد من بقرة، بليدة يعني. ففُتنوا في هذه الدابة التي هي من أبلد البهائم مرتين: مر معنا أنهم ماذا صنعوا؟ عبدوها، اتخذوها معبودا لهم، مرت معنا (إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل) اتخذوها معبودا فجاء هذا الابتلاء يأمركم أن تذبحوا بقرة وهم يذكرون أنهم في وقت مر كانوا يعبدون بقرة، يعبدون عجلا، فتأتي هذه الفتنة أيضا موقظة لهم، هذه بقرة، دابة تستعمل في حراثة، تستعمل في سقي الزرع، تستعمل في أشياء، يعني سخرها الله للعباد تنفعهم بها، فهذه موقظة لهم، هذه البقرة الآن تؤمرون بذبح بقرة انتبهوا قبل وقت عبدتم أنتم بقرة واتخذتوها معبودا من دون الله، من دون الله العظيم الرب لهذا الكون سبحانه وتعالى، ففتنوا في البقرة مرتين. وهذه القصة التي هنا، قصة البقرة بها سُميت السورة  سورة البقرة.
قال (ثم قست قلوبكم من بعد ذلك) يعني بعد هذه الآيات الباهرة، الموقظة للقلوب أعظم الإيقاظ.
 (من بعد ذلك) كل هذه الآيات العظيمة الباهرة قست قلوبكم، الأصل أن الآيات ماذا تصنع؟ توقظ القلب وتلينه وتجعله يُقبِل، هؤلاء العكس قست قلوبكم من بعد هذه الآيات، (ثم قست قلوبكم من بعد ذلك) أي من بعد كل هذه الآيات العظيمة الباهرة، (فهي كالحجارة) حتى صارت في القسوة كالحجارة، (أو أشد قسوة) (كالحجارة أو أشد قسوة) يعني شبهوها بالحجارة تصيبون، شبهوها بما هو أقسى من الحجارة تصيبون، صارت قاسية أشد ما يكون قسوة. وذكر الحجارة ولم يذكر الحديد مع أن الحديد صلابته أقوى من الحجارة لكن الحديد يلين ألنا لداوود الحديد، فالحديد يلين بالنار، الحجارة لا.
 قال (كالحجارة أو أشد قسوة) يعني سواء وصفتموها بقلوبهم بأنها كالحجارة تصيبون أو قلتم هي أشد من الحجارة أيضا تصيبون لشدة القسوة التي كانت عليها أو صارت إليها قلوب أولئك القوم قال (فهي كالحجارة أو أشد قسوة) ثم ذكر أمورا عن الحجارة تبين أن الحجارة خير منهم، وأفضل منهم قال:
 (وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار) ينفرج ويخرج الماء ينبع، (وإن منها لما يشقق) يتصدع، الشقق يتصدع فيخرج منه الماء، (وإن منها) أي الحجارة (لما يهبط من خشيه الله) يسقط من الجبل العالي منحدرا إلى الأرض من خشية الله.
(وما الله بغافل عما تعملون) أي مطلع عليكم.
 والختم بقوله (وما الله بغافل عما تعملون) أي مطلع عليكم وعلى قلوبكم وعلى أحوالكم وستُجزون وتعاقبون على هذه الأعمال.
 قال الشيخ رحمه الله تعالى: "واذكروا ما جرى لكم مع موسى عليه السلام حين قتلتم قتيلا فادّأراتم فيه) أي تدافعتم واختلفتم، كل يرمي التهمة على الآخر حتى تفاقم الأمر وعظم الخطب وكاد لولا تبيين الله لكم بهذه البقرة التي أمرتم بذبحها وضربه ببعضها، لولا تبيين الله لكم يحدث بينكم شر كبير، فقال لكم موسى في تبيين القاتل اذبحوا بقرة، كان من الواجب المبادرة إلى امتثال أمره وعدم الاعتراض عليه لكنهم أبوا إلا الاعتراض والتعنت فقالوا (اتتخذ هزوا) تسخر، تستهزئ بنا، يقولون هذا لنبي فقال (أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين) الجاهل هو: الذي يتكلم بالكلام الذي لا فائدة فيه، وهو الذي يستهزئ بالناس، أما العاقل فيرى أن من أكبر العيوب المزرية بالدين والعقل استهزاؤه بمن هو آدمي مثله وإن كان قد فُضل عليه فتفضيله عليه يقتضي منه الشكر لربه والرحمة لعباده"
 انتبهوا هذا كلام عظيم جدا، والشيخ ابن سعدي رحمه الله عليه له في التفسير وفي غيره لفتات تربوية عجيبة ينتزعها من الآيات، فعنده حس تربوي عجيب وفقه في التربية عظيم جدا قال:
"من أكبر العيوب المزرية بالدين والعقل استهزاؤه بمن هو آدمي مثله وإن كان قد فُضل عليه"
وإن كان يرى أنه مثلا أفضل منه لا يستهزئ به، بل يحمد الله الذي فضّله عليه، ويرحم هذا الذي فُضل عليه.
" فلما قال لهم موسى ذلك علموا أن ذلك صدق" أنه فعلا مأمورين بذبح بقرة فقالوا (ادع لنا ربك يبين لنا ما هي) أي من حيث السن ما سنها؟ (قال إنه يقول إنها بقرة لا فارض) أي ليست كبيرة، (ولا بكر) أي ليست صغيرة، (عوان بين ذلك) أي وسط بين ذلك، (فافعلوا ما تؤمرون) واتركوا التشتيت والتعنت، دعوكم من هذا التشتيت والتعنت افعلوا ما تؤمرون ما امتثلوا، اعادوا السؤال قالوا (ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها*قال إنه يقول إنها بقرة صفراء فاقع لونها) أي شديد - مثل ما تقدم في الأثر عن ابن عباس "شديدة الصفرة" تسُر الناظرين من حسنها أي تسر من نظر إليها من حسنها وجمالها، فما اكتفوا أيضا بذلك (قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي) ما هي؟ السؤال هذا نوع ثالث الآن، الأول عن السن، الثاني عن اللون، الثالث هل هي عاملة أو سائمة ما هي؟ قالوا (ما هي إن البقرة تشابه علينا) فلم نهتدي لما تريد (وإنا إن شاء الله لمهتدون) قال غير واحد من السلف "لو لم يعلقوا الأمر بالمشيئة لما اهتدوا"
 (قال إنه يقول إنها بقرة لا ذلول)
(لا ذلول) أي: مذللة بالعمل تثير الأرض بالحراثة ولا تسقي الحرث، أي ليست بسانية، والأظهر في المعنى (لا ذلول تثير الأرض) ليست ذلولا تثير الأرض، فنفى عنها ذلك، نفى عنها أنها تثير الأرض يعني لم تذلل لإثارة الأرض، وأيضا لم تذلل لتسقي الحرث، فهي ليست مذللة للعمل لا في إثارة الأرض ولا في سقي الحرث، مسلمة من العيوب أو مسلمة من العمل، مسلمة من العمل لا ذلول أي لا ذلول أي ليست مذللة بالعمل تثير الأرض بالحراثة، ولا تسقي الحرث أي ليست بسانية وإنما هي مسلمة، وأيضا مسلمة من العيوب أو من العمل، (لا شية فيه) أي لا لون فيها غير لونها الموصوف المتقدم صفراء فاقع لونها.
 (قالوا الآن جئت بالحق) أي بالبيان الواضح، وهذا من جهلهم وإلا فقد جاء بالحق أول مرة مثل ما مر معنا في القَسَم من عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، فلو أنهم اعترضوا أي بقرة لحصل المقصود، ما معنى اعترضوا أي بقرة؟ أخذوا أي بقرة لحصل المقصود ولكنهم شددوا بكثرة الأسئلة فشدد الله عليهم ولو لم يقولوا إن شاء الله لم يهتدوا أيضا إليها. (فذبحوها) أي البقرة التي وصفت بتلك الصفات، (وما كادوا يفعلون) بسبب التعنت الذي جرى منهم، قال: فلما ذبحوها (قلنا لهم اضربوا القتيل ببعضها أي البقرة، أي بعضو منها إما بعضو معين يكون عينه موسى لهم، أو عضو منها ولم يعين لهم شيئا، (اضربوه ببعضها) قد يكون سمى لهم عضوا وقد يكون لم يسمِ لهم عضوا، يعني خذوا جزءا منها واضربوه بها دون أن يعين. قال الشيخ: "فليس في تعيينه فائدة" يعني لنا في فهم المعنى، (فضربوه ببعضها) ابن كثير رحمه الله عند هذا الموضع قال: "لو كان في تعيين البعض فائدة -أي لنا- لبيّنه الله" فضربوه ببعضها فاحياه الله وأخرج ما كانوا يكتمون فأخبر بقاتله، قال قتلني فلان، وكان في إحيائه وهم يشاهدون ما يدل على إحياء الله الموتى قال جل وعلا (كذلك يحيي الله الموتى ويريكم آياته لعلكم تعقلون) أي تعقلون عن آيات الله آياته فتنزجرون عن كل ما يضركم.
 نفعنا الله أجمعين بما علمنا وزادنا علما وتوفيقا وأصلح لنا شأننا كله وهدانا إليه صراطا مستقيما .. سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
جزاكم الله خيرا.
---------------------------------------------------------------
اقرأ المزيد...