الاثنين، 19 مايو 2025

الدرس الثامن والثلاثون |  تفسير سورة البقرة: الآية (٢٦) (إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة..)

 تفسير سورة البقرة: الآية (٢٦) (إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة..) 



الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللمسلمين والمسلمات أما بعد:
📖 فيقول الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله: "قوله تعالى (إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثل يُضل به كثيرا ويهدي به كثيرا وما يضل به إلا الفاسقين* الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون).
يقول تعالى (إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما) أي مثلٍ كان بعوضة فما فوقها لاشتمال الأمثال على الحكمة وإيضاح الحق، والله تعالى لا يستحيي من الحق، وكأن في هذا جوابا لمن أنكر ضرب الأمثال في الأشياء الحقيرة، واعترض على الله تعالى في ذلك، فليس ذلك محل اعتراض، بل هو من تعليم الله تعالى لعباده ورحمته بهم فيجب أن تُتلقى بالقبول والشكر ولهذا قال تعالى: (فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم) فيفهمونها ويتفكرون فيها، فإن علموا ما اشتملت عليه على وجه التفصيل ازداد بذلك علمهم وإيمانهم، وإلا علموا أنها حق، وما اشتملت عليه حق، وإن خفي عليهم وجه الحق فيها لعلمهم بأن الله تعالى لم يضربها عبثا بل لحكمة بالغة، ونعمة سابغة، وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلا؟ فيعترضون ويتحيرون فيزدادون كفرا إلى كفرهم كما ازداد المؤمنون إيمانا على إيمانهم، ولهذا قال تعالى (يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا) فهذه حال المؤمنين والكافرين عند نزول الآيات القرآنية، قال تعالى: (وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون) فلا أعظم نعمة على العباد من نزول الآيات القرآنية، ومع هذا تكون لقوم محنة وحيرة وضلالة، وزيادة شر إلى شرهم، ولقوم منحة ورحمة وزيادة خير إلى خيرهم، فسبحان من فاوت بين عباده وانفرد بالهداية والإضلال. ثم ذكر تعالى حكمته وعدله في إضلاله من يُضل، وأن ذلك عدل منه تعالى فقال (وما يضل به إلا الفاسقين) أي الخارجين عن طاعة الله تعالى، المعاندين لرسل الله الذين صار الفسق وصفهم، فلا يبغون به بدلا، فاقتضت حكمته تعالى إضلالهم لعدم صلاحيتهم للهدى، كما اقتضى فضله وحكمته هداية من اتصف بالإيمان وتحلى بالأعمال. والفسق نوعان: نوع مخرج من الدين، وهو الفسق المقتضي للخروج من الإيمان، كالمذكور في هذه الآية ونحوها، ونوع غير مخرج من الإيمان كما في قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا)"
🎙بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علما. وأصلح لنا شأننا كله ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين أما بعد: يقول الله جل وعلا: (إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها) هذه الآية الكريمة نزلت في بيان عظم شأن الأمثال المضروبة في القرآن الكريم وأن فيها عبرة لمن اعتبر، وفيها ردا على الجاحد المنكر، ففائدتها عظيمة.
 قد تقدم معنا في علوم القرآن التي ذكر الشيخ رحمه الله تعالى أنواعها، أن من أنواع علوم القرآن الأمثال المضروبة، وهي كثيرة جدا في القرآن وأكثرها في بيان التوحيد والتحذير من ضده الشرك بالله سبحانه وتعالى. وأيضا من الأمثال المضروبة بيان حال الكفار المبطلين والمنافقين الفاسقين.
 قد تقدم معنا في أوائل السورة مثلين (مثلهم كمثل الذي استوقد نارا) ثم قال (أو كصيب من السماء) مثلين أحدهما مائي، والآخر ناري في كشف حال المنافقين. وجاءت أمثال كثيرة في القرآن، وقد يضرب الله سبحانه وتعالى المثل بالشيء الحقير لبيان خسة الشرك وقُبح حال المشرك كقوله (مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا) وقوله (يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له) وضرب الله عز وجل المثل في بيان قبح حال من يأتيه الحق ويرى العلم فلا يعمل به قال: (مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار) وقال: (فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث)، وضرب أيضا مثل بالشيطان (كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر) الأمثال كثيرة جدا في القرآن، وقد يضرب الله سبحانه وتعالى المثل بالشيء الحقير، أو بالشيء الخسيس من ذباب أو عنكبوت أو مثلا مثل ما تقدم الشيطان (كمثل الشيطان) أو الحمار، وهذه الأمثال للمتدبر ولمن يعقل عن الله سبحانه وتعالى خطابه يدرك عظم نفعها، وكبير فائدتها، وأن فيها عبرة لمن أراد الاعتبار، وفيها رد على الجاحدين المنكرين ودحض باطلهم. والمثل إذا تضمن إحقاق الحق وبيانه، وإبطال الباطل ودحضه كان من أحسن الأشياء وأنفعها.
والمقصود من المثل تجلية الأمر الذي ضُرب المثل لأجله.
 لما جاءت هذه الأمثال متوالية في القرآن ضاقت بها صدور المنافقين والضالين خاصة أنها كانت كاشفة لخزي ما هم عليه، وفساد ما هم عليه، وقبح ما هم عليه، جاءت كاشفة لذلك، ولهذا أخذوا يعترضون على هذه الأمثال، كيف يضرب مثل في كتاب يقال إنه مُنزل من الله يضرب فيه مثل بذباب أو بعنكبوت أو نحو ذلك، وكذلك ما تقدم في المثلين الكاشفين لحال المنافقين، ولهذا قيل ونُقل عن السلف في سبب النزول - سبب نزول هذه الآية - نُقل عنهم في الجملة قولان:
 الأول: أن هذا رد على من أنكر نزول المثلين المتقدمين في أول السورة. المثل المائي والمثل الناري.
والقول الثاني: أن الآية نزلت في رد من أنكر عموم الأمثال المضروبة في القرآن، وخاصة ما ضُرب فيه المثل بالذباب أو العنكبوت، أو نحو ذلك، جاء عن ابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهما وعن ناس من الصحابة رضي الله عنهم قالوا: "لما ضرب الله هذين المثلين للمنافقين - يعني قوله (مثلهم كمثل الذي استوقد نارا)، وقوله (أو كصيب من السماء) - قال المنافقون: الله أعلا وأجل من أن يضرب هذه الأمثال، فأنزل الله هذه الآية إلى قوله (هم الخاسرون) وجاء عن قتادة وغيره قال: "لما ذكر الله في كتابه الذباب والعنكبوت قال أهل الضلالة ما أراد الله من ذكر هذا؟ -يعني ذكر هذا الذباب أو ذكر هذه العنكبوت - فأنزل الله سبحانه وتعالى (إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها)".
 ومعنى لا يستحي: أي لا يمنعه الحياء، لأن الله سبحانه وتعالى كما وصفه به نبيه حيي كريم سبحانه وتعالى، في حديث سلمان قال: (إن الله حيي كريم يستحي من عبده) فالحياء صفته، وعندما نقول الحياء صفته يجب علينا وجوبا حتما ألا ننظر إلى الحياء الذي هو صفة لنا، ولنستحضر قاعدة عظيمة مهمة في هذا الباب: أن ما يُضاف إلى الله سبحانه وتعالى من الصفات يليق بعظمته وكماله وجلاله، وما يُضاف لنا نحن المخلوقين من الصفات يليق بضعفنا وفقرنا وحاجتنا.
 يعني الآن مثلا لما يقال الله موصوف بالحياة وأنه حي، وفي الغالب المناهج الكلامية التي خاضت في رد كثير من الصفات يثبتون الحياة فهل هذه الحياة يثبتونه على وجه يشابه الحياة التي عليه المخلوق؟ يقولون لا هذه حياة مضافة إلى الله، فهي تليق بالله، هكذا يقولون، يُقال لهم في عموم الصفات القول في بعض الصفات كالقول في بعض الآخر ما يفرق بين المتماثلات، فالحياء صفة لله نؤمن بها كما جاءت في كتاب ربنا وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم، ونقول كما قال نبينا إن الله حيي، ونقول: يستحيي كما قال نبينا عليه الصلاة والسلام.
 المتكلمون يقولون لا، هكذا يقول لا، ويؤولونها إلى معاني أخرى بعيدة. فالحاصل أن القول في بعض الصفات، كالقول في البعض، فكما أنهم يثبتون لله حياة لا كحياة المخلوقين، فالواجب أن يثبت له عموم صفاته على الوجه اللائق به، ولهذا أعيد فأقول عندما نقرأ مثل هذه النصوص لا يجوز أن يخطر في البال حياة المخلوقين، لأن إن خطر في البال حياة المخلوقين ما الذي سيحصل؟ سيشعر هذا الذي وقع في نفس هذا المعنى أن هذا الشيء الله منزه عنه، ونعم الله منزه عن مشابهة المخلوقين، لكن هذا فهمه هو للآية، فإذا فهم من الآية التشبيه اضطر إلى التحريف، تحريف الآية وصرفها عن معناها، وبهذا تدرك أن أهل السنة سلموا من التشبيه والتحريف معا على حد، يقول الله سبحانه وتعالى (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير) إذن قوله (إن الله لا يستحيي) أي لا يمنعه الحياء الذي هو صفته سبحانه، لا يمنعه جل وعلا الحياء الذي هو صفته أن يذكر للحق جل وعلا مثلا ماء بعوضة فما فوقها، يعني لا يستحيي في بيانه سبحانه وتعالى الحق أن يضرب المثل ولو بالشيء الحقير، طالما أن المثل ماذا؟ يُحق حقا، وماذا؟ يبطل باطلا، يعني انظر الآن المثل الذي ضرب بالعنكبوت، وسميت السورة بكاملها العنكبوت، سورة العنكبوت، سورة العنكبوت هذا علم على مثل ضُرب في السورة لبيان قبح حال المشركين (مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون) الآن العنكبوت تتخذ بيت، لكن هل يقي من حر؟ هل يقي من برد؟ هل يقي من عدو؟ أوهن بيت بيت العنكبوت، وسبحان الله عجيبة المعابد هذه، يعني عموم المعابد المتخذة من أصنام أو أحجار أو عموم المعابد لو نظر عابدوها إلى أسقُف جدران تلك المعابد، لوجدوا بيوتا توضح لهم وهاء الحالة التي هم عليها، وهي اتخاذ الأنداد مع الله (كمثل العنكبوت اتخذت بيتا) لو رفع رأسه ونظر لبيت العنكبوت معشعش في المعبد الذي اتخذ فيه معبودا من دون الله لكشف له الحالة القبيحة التي هو عليها (كمثل العنكبوت اتخذت بيتا وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت) في سورة الرعد قال (كباسط) هذا مثل (كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه) يعني لو رأيتم الآن رجل وثمة نهر، لكن بعيد عنه، مسافة بعيدة جدا ومد يديه، هو عطشان أشد العطش، ومد يديه من بعد من مسافة بعيدة، ينتظر أن يبلغ الماء فاه يسد عطشه، هذا مثل لحال المشرك، أو يقف على حافة بئر عميقة جدا، وفي أسفلها الماء وهو عطشان، فيقف على حافة البئر، ويمد يديه ينتظر أن يبلغ الماء الذي في البئر فاه. هذا حال هؤلاء.
هذه أمثال عظيمة جدا، ولما كان وقع هذه الأمثال قوي في إحقاق الحق وإبطال الباطل، ماذا حدث؟ ضاقت بها صدور المنافقين والمشركين قالوا (ماذا أراد الله بهذا) ما هذه الأمثال؟ ذباب، عنكبوت  كذا ضاقت بها صدورهم، المؤمن لما يرى هذا المثل ما يقول مثل قولهم، أي شيء يقول؟ ما أعظم هذا المثل وما أعجبه، وما أعظم نفعه، وما أكبر وقعه، يهديه الله بالمثل، ويقف من خلال المثل على حقائق عظيمة جدا، نافعة في إبطال كفر الكافرين، وشرك المشركين، وضلال الضالين، قال (إن الله لا يستحيي) أي لا يمنعه حياؤه الذي هو صفته سبحانه وتعالى أن يضرب للخلق مثلا ما، (مثلا ما) أي، أي مثل كان، طالما أن فيه نفع وفائدة للناس.
 (أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها) بعوضة فما فوق البعوضة، (فوق) هذا من الأضداد مثل (وراء) وراء تستعمل للأمام وللخلف (وكان وراءهم ملك) ما معنى (وراءهم ملك)؟ أمامهم، فهي من الأضداد، (فوق) كذلك، ولهذا اختلفت كلمة المفسرين في المراد فقيل في معنا (فوقها) قولان:
 قيل: فما فوقها أي فما دونها، ما معنى دونها؟ يعني أصغر من هذه البعوضة الصغيرة جدا، (إن الله لا نستحي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها) أي فما دون البعوضة، ما هو أقل أيضا من البعوضة، قالوا مثل ماذا؟ - ما نحتاج لتكلفات المعاصرين - السلف قديما قالوا: كجناح البعوضة. وانظر ما يوضح لك ذلك الحديث الذي قال فيه النبي عليه الصلاة والسلام (لو كانت الدنيا تساوي عند الله جناح بعوضة ما سقى منها كافر شربة ماء) جناح بعوضة، هذا الآن مثل بشيء ماذا؟ أصغر وإلا أكبر؟ أصغر من البعوضة، جناح البعوضة، (فما فوقها) قالوا كجناح البعوضة، وضُرب فيها المثل كما جاءت بها السنة مثل لحقارة الدنيا.
 مثلا يقول قائل فلان جاهل  فيقول السامع هو فوق هذا، ماذا يقصد؟ أي أجهل، أو مثلا يوصف بصفات ذم فيقول هو فوق هذا، يعني أكثر من هذا الذي تصفونه به، فوقه يعني أكثر في هذه الصفات المذمومة، فهذا تحقير أشد له، هذا قول في معنى الآية. 
والثاني: (فما فوقها) أي ما هو أكبر منها، أكبر من البعوضة، قال أهل هذا القول لأنه ليس شيء أحقر ولا أصغر من البعوضة. ويؤيد أن هذا المعنى هو المراد ما جاء في صحيح مسلم أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (ما من مسلم يشاك شوكة فما فوقها) ما المراد بـ (ما فوقها)؟ أكبر منها، شوكة فما فوق يعني شوكة وخزه يسيرة في جسمه، أو جرح كبير، أو كسر في عظم أو كذا، فما فوقها، هذا كله المراد بقوله (فما فوقها)، (إلا كتب الله له بها درجة، ومحيت عنه بها خطيئة).
 (إن الله لا يستحي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم) لأنهم على يقين بأن الله حق، وأن قوله حق، وأن الأمثال التي ضربها سبحانه وتعالى حق، وأن كتابه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد.
 (يعلمون) أي علم يقين لا شك فيه ولا ريب.
 (أنه الحق من ربهم) أي أنه حق منزل من رب العالمين، وأنه كلام الله سبحانه وتعالى ووحيه، وتنزيله جل وعلا، وأنه مشتمل على الحق كما تقدم في أول السورة (لا ريب فيه).
 (وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلا) نوع الاستفهام هنا ماذا؟ استنكار، يستنكرون من هذه الأمثال، (ماذا أراد الله بهذا مثلا) والجواب: أن هذا المثل وهذه الأمثال التي ضربها، ضربها امتحانا واختبارا للعباد، ليميز المؤمن من الكافر، والمهتدي من الضال، ولهذا قال بعدها: (يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا وما يضل به إلا الفاسقين).
 قال الشيخ رحمه الله تعالى: "يقول الله تعالى (إن الله لا يستحي أن يضرب مثلا ما) أي: أي مثل كان  هذا المقصود بـ (ما)، أي: أي مثل كان، يعني قليل أو كثير، كبير أو صغير، حقير أو عظيم، (ما) أي مثل كان (لا يستحي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها)
  البعوض: صغار البق صغيرة جدا، صغيرة جدا. (بعوضة فما فوقها) عرفنا كلام السلف ولا نحتاج إلى مزيد على كلام الصحابة وغيرهم، لأن الآن يتحدثون عن مكتشف فوق جناح البعوضة حشرات صغيرة جدا رؤية بالمجهر ولم تُر إلا في هذا الزمان بالوسائل الحديثة، على قول هؤلاء والأمثال تضرب بالشيء الواضح المحسوس لكشف المعاني الخفية، فهل يصح أن يضرب مثل بشيء ما يكتشف؟! (فما فوقها) قالوا: فوقها شيء ينبت أو ينمو، حشرات صغيرة جدا فوق جناح البعوضة يقولون هي المرادة بـ (بما فوقها) فعلى هذا المعنى الصحابة والأجيال الأول من الأمة ما عرفوا المعنى المراد بـ (بما فوقها) والأمثال إنما تضرب بالشيء المحسوس الواضح يُكشف من خلاله المعاني الخفية، لا يضرب بشيء خفي ما يُكتشف إلا بأزمنة متأخرة من الزمن، فهذا من التكلف في حمل معاني القرآن على غير المراد، هذا من التكلف الواضح، لكن لما يتحدث عن هذا المكتشف بعيد عن الآية،  ويبين عظمة الله.
نعم، هذا أمر عظيم يبين عظمة الله، لكن لما يربط المثل به هذا. هذا محل نظر، ويعد نوع من التكلف في تفسير الآية وبيان معناها.
 (إن الله لا يستحي أن يضرب مثلا ما) أي: أي مثل كان بعوضة فما فوقها لاشتمال الأمثال على الحكمة وإيضاح الحق والله لا يستحي من الحق، لأن المثل إذا تضمن إحقاق حق وإبطال باطل فهو من أحسن الأشياء وأنفعها، وكأن في هذا جوابا لمن أنكر ضرب الأمثال في الأشياء الحقيرة واعترض على الله في ذلك مثل ما تقدم في قول قتادة وغيره، لما ضرب الله المثل بالذباب والعنكبوت ونحوها، قالوا هذه أشياء حقيرة كيف تذكر في كلام الله؟! وكيف تضرب في القرآن الذي هو كلام الله؟! اعتراضه على ذلك، فليس في ذلك محل اعتراض بل هو من تعليم الله لعباده ورحمته بهم، فيجب أن تُتلقى بالقبول والشكر، وهذا الذي يحصل من المؤمن يجد فيها عبرة ويجد أنها كاشفة لكفر الكافرين، وشرك المشركين، وباطل المبطلين. فيحمد الله على نعمة الفهم ونعمة عقل المثل المضروب (وما يعقلها إلا العالمون) فيجب أن تُتلقى بالقبول والشكر، وهذا فيه الماحة مهمة جدا: أنك أيها المؤمن عندما تقرأ المثل في القرآن ويكون واضح لك وتفهمه، وتفرح بفهمك له هذه نعمة أشكر ربك عليها، نعمة أنعم الله بها عليك، تريد تُدرك عظم هذه النعمة؟ أنظر ماذا قال الضالون (ماذا أراد الله بهذا مثلا) أنت فرحت بهذا وعرفت معناه، وعرفت مدلوله، شرح الله صدرك وبصّرك وفهّمك وهداك (يهدي به) هذه هداية من الله، انتبه لهذا، حتى إذا فهمت لا تنظر إلى حدة فهمك ونباهتك، وإنما استحضر (يهدي به) أي المثل (كثيرا) هذه هداية من الله لك، هو الذي شرح صدرك، هو الذي علمك ما لم تعلم، هو الذي هداك سبحانه وتعالى، ولهذا ينبه الشيخ على ذلك أن تُتلقى بالقبول والشكر، ولهذا قال (فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم) أي منزل من الله وحي، فيفهمونها، ويتفكرون فيها، فإن علموا ما اشتملت عليه على وجه التفصيل ازداد بذلك علمهم وإيمانهم، وإلا علموا أنها حق وما اشتملت عليه حق وإن خفي عليهم وجه الحق فيها، قد لا يتضح بعض المعاني لبعض الناس، هي واضحة لكن قد لا تتضح لبعض الناس، من لم تتضح آمن بها إجمالا وأنها حق، وأنها مشتملة هداية حتى لو لم يتضح المعنى، وإن اتضحت معانيها له ازداد بذلك إيمانا إلى إيمانه، ويقينا إلى يقينه. قال مجاهد رحمه الله: "الأمثال - يعني المضروبة في القرآن - صغيرها وكبيرها يؤمن بها المؤمنون، ويعلمون أنها الحق من ربهم، ويهديهم الله بها".
 قوله: "يؤمنون بأنها الحق ويهديهم الله بها" كله مأخوذ من السياق هنا لأنه قال (يعلمون أنه الحق من ربهم) ، ثم قال بعدها (ويهدي به كثيرا) أي أهل الإيمان، يهديهم به يعني بالمثل الذي ضربه سبحانه وتعالى في القرآن. قال: "فيفهمونها ويتفكرون فيها".
قال (وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا) ما يقولون على وجه الاعتراض والإنكار لهذه الأمثال، ماذا أراد الله بهذا مثلا؟ مثلها ما جاء في سورة المدثر (وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون ماذا أراد الله بهذا مثلا كذلك يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء) يعني أنزل الله هذه الأمثال لحكمة وغاية وهي كشف حقائق عظيمة جدا وفيها امتحان للعباد، فمنهم المؤمن بها، ومنهم المكذب الجاحد (يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا).
 قال: "يقولون ماذا أراد الله بهذا مثلا يعترضون ويتحيرون فيزدادون كفرا إلى كفرهم، كما ازداد المؤمنون إيمانا إلى إيمانهم"، قال: "ولهذا قال (يضل به كثيرا) (به) الضمير عائد على المثل، (ويهدي به) أي المثل (كثيرا). فهذه حال المؤمنين والكفار عند نزول الآيات القرآنية، وعند نزول أيضا الأمثال المضروبة في القرآن مثل قوله جل وعلا (وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون* وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون). قال: "فلا أعظم نعمة على العباد من نزول الآيات القرآنية" ومع هذا تكون لقوم محنة وحيرة، وضلال وزيادة شر إلى شرهم وهؤلاء الكفار والمنافقون، ولقوم منحة ورحمة وزيادة خير إلى خيرهم، فسبحان من فاوت بين عباده، وانفرد بالهداية والإضلال. إقرأ

📖 "ثم ذكر تعالى حكمته وعدله في إضلاله من يضل، وأن ذلك عدل منه تعالى فقال (وما يضل به إلا الفاسقين) أي الخارجين عن طاعة الله، المعاندين لرسل الله، الذين صار الفسق وصفهم، فلا يبغون به بدلا، فاقتضت حكمته تعالى إضلالهم لعدم صلاحيتهم للهدى، كما اقتضى فضله وحكمته هداية من اتصف بالإيمان وتحلى بالأعمال الصالحة. والفسق نوعان نوع مخرج من الدين، وهو الفسق المقتضي للخروج من الإيمان كالمذكور في هذه الآية ونحوها، ونوع غير مخرج من الإيمان كما في قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا) الآية"
🎙نعم، لما قال جل وعلا (يضل به كثيرا) ذكر الحكمة من ذلك وأنه عدل من الله سبحانه وتعالى في إضلاله من يضل، ولهذا قال (وما يُضل به إلا الفاسقين)، ومثلها قوله في سورة إبراهيم (ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء)، وقوله: في المنافقين (والله أركسهم) أي أوقعهم في الكفر (بما كسبوا) أي بسبب ما كسبوه من فسوق وضلال وزيغ، مثلها أيضا قوله (فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم)، ومثلها قوله (ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة). فهذا في بيان الحكمة.
 قال (وما يضل به إلا الفاسقين) أي الخارجين عن طاعة الله، المعاندين لرسل الله صلوات الله وسلامه عليهم، الذين صار الفسق وصفهم. المعنى: أن أعمالهم القبيحة وأوصافهم الشنيعة كانت سببا لإضلال الله لهم، فصار الفسق وصفهم فلا يبغون به بدلا. فاقتضت حكمة الله إذلالهم لعدم صلاحيتهم للهدى، كما اقتضى فضله وحكمته هداية من اتصف بالإيمان وتحلى بالأعمال الصالحة.
 ثم ذكر الشيخ رحمه الله أن الفسق المذكور في القرآن نوعان:
النوع الأول: الفسق الذي هو بمعنى الكفر، وهو المراد هنا (وما يضل به إلا الفاسقين) أي فسق الكفر، لأن الفسق نوعان أكبر وأصغر، أكبر يخرج من الملة مثل فسق هؤلاء، خروج عن الطاعة يعني عن الدين ليس خروج عن الطاعة، بوقوع في المعصية، هذا فسق لكنه أصغر، فالمراد بقوله (وما يضل به إلا الفاسقين) أي الكافرين. نوع مخرج من الدين وهو الفسق المقتضي للخروج من الإيمان، كالمذكور في هذه الآية ونحوها مثل قوله (ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون)، وقوله في مواطن من القرآن (والله لا يهدي القوم الفاسقين) هذا جاء في مواطن (والله لا يهدي القوم الفاسقين) أي الكافرين.
 ونوع غير مخرج من الإيمان كما في قوله (يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ) هذه في سورة الحجرات، هذا الفسق هنا ليس الأكبر، وإنما هو الفسق الذي هو معصية، مثلها في السورة نفسها قال (وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان) جعل الفسوق شيء آخر غير الكفر وهو الكبائر، فالفسق منه أكبر وهو الناقل من الملة، ومنه أصغر وهو ما دون ذلك من المعاصي والذنوب التي لا تُخرج من الملة.
 هناك أثر يروى عن ابن عباس رضي الله عنهما جميل غاية في بيان هذا المعنى  يقول رضي الله عنه: "كل شيء نسبه الله إلى غير أهل الإسلام من اسم - مثل خاسر- فإنما يعني به الكفر" مثل خاسر، مثل ظالم، مثل فاسق مثل هذه الأسماء، قال: "مثل خاسر فإنما يعني به الكفر، وما نسبه إلى أهل الإسلام -يعني من هذه الأسماء - فإنما يعني به الذنب" هذا كلام عظيم جدا وتعتبر قاعدة في هذا الباب. أعيدها مرة ثانية يقول: "كل شيء نسبه الله إلى غير أهل الإسلام من اسم مثل خاسر فإنما يعني به الكفر، وما نسبه إلى أهل الإسلام، فإنما يعني به الذنب".
 نفعنا الله أجمعين بما علمنا وزادنا علما وتوفيقا، وأصلح لنا شاننا كله، وهدانا إليه الصراط مستقيما... سبحانك اللهم وبحمدك، إلا أنت. أستغفرك وأتوب إليك. اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.. جزاكم الله خيرا.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق