السبت، 3 مايو 2025

الدرس السابع والثلاثون | تفسير سورة البقرة من الآية (٢٥) (وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات..)

 تفسير سورة البقرة: من الآية (٢٣) (وإن كنتم في ريب مما نزلنا..) 



الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللمسلمين والمسلمات أما بعد:
📖 فيقول الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله: "قوله (وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل وأتوا به متشابها ولهم فيها أزواج مطهرة وهم فيها خالدون) لما ذكر جزاء الكافرين ذكر جزاء المؤمنين أهل الأعمال الصالحات كما هي طريقته تعالى في كتابه، يجمع بين الترغيب والترهيب ليكون العبد راغبا راهبا، خائفا راجيا، فقال: (وبشر) أي أيها الرسول من قام ومن قام مقامك (الذين آمنوا) أي بقلوبهم، (وعملوا الصالحات) بجوارحهم فصدقوا إيمانهم بأعمالهم الصالحة، ووُصفت أعمال الخير بالصالحات لأن بها تصلح أحوال العبد وأمور دينه ودنياه، وحياته الدنيوية والأخروية، ويزول بها عنه فساد الأحوال، فيكون بذلك من الصالحين الذين يَصلحون لمجاورة الرحمن في جنته، فبشرهم (أن لهم جنات) أي: بساتين جامعة للأشجار العجيبة والثمار الأنيقة، والظل المديد، والأغصان والأفنان، وبذلك صارت جنة يجتن بها داخلها، وينعم فيها ساكنها، (تجري من تحتها الأنهار) أي أنهار الماء واللبن والعسل والخمر يفجرونها كيف شاؤوا، ويصر فونها أين أرادوا، وتسقى منها تلك الأشجار فتنبت أصناف الثمار، (كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل) أي هذا من جنسه وعلى وصفه كلها متشابهة في الحسن واللذة ليس فيها ثمرة خاسة، وليس لهم وقت خال من اللذة، فهم دائما متلذذون بأكلها. وقوله (وأُتوا به متشابها) قيل: متشابها في الإسم مختلفا في الطعم، وقيل: متشابها في اللون مختلفا في الاسم، وقيل: يشبه بعضه بعضا في الحسن واللذة والفكاهة، ولعل هذا هو الصحيح. 
ثم لما ذكر مسكنهم وأقواتهم من الطعام والشراب وفواكههم ذكر أزواجهم فوصفهن بأكمل وصف، وأوجزه وأوضحه فقال: (ولهم فيها أزواج مطهرة) فلم يقل مطهرة من العيب الفلاني ليشمل جميع أنواع التطهير، فهن مطهرات الأخلاق، مطهرات الخَلق، مطهرات اللسان، مطهرات الأبصار، فأخلاقهن أنهن عُرب متحببات إلى أزواجهن بالخلق الحسن وحسن التبعل، والأدب القولي الفعلي، ومطهر خلقهن من الحيض والنفاس، والمني والبول، والغائط، والمخاط، والبصاق، والرائحة الكريهة، ومطهرات الخلق أيضا بكمال الجمال فليس فيهن عيب ولا دمامة خلق بل هن خيرات حسان مطهرات اللسان والطرف، قاصرات طرفهن على أزواجهن، وقاصرات ألسنتهن عن كل كلام قبيح. ففي هذه الآية الكريمة ذكر المُبَشر والمُبِشر، والمُبشر به، والسبب الموصل لهذه البشارة، فالمبشِر هو: الرسول صلى الله عليه وسلم ومن قام مقامه من أمته، والمبشَر هم: المؤمنون العاملون الصالحات، والمُبشَر به هي: الجنات الموصوفات بتلك الصفات، والسبب الموصل لذلك هو: الإيمان والعمل الصالح، فلا سبيل إلى الوصول إلى هذه البشارة إلا بهما. وهذا أعظم بشارة حاصلة على يد أفضل الخلق بأفضل الأسباب. وفيه استحباب بشارة المؤمنين، وتنشيطهم على الأعمال بذكر جزاءها وثمراتها فإنها بذلك تخف وتسهُل، وأعظم بشرى حاصلة للإنسان توفيقه للإيمان والعمل الصالح، فذلك أول البشارة وأصلها، ومن بعده البشرى عند الموت، ومن بعده الوصول إلى هذا النعيم المقيم، نسأل الله تعالى من فضله".
🎙بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علما وأصلح لنا إلهنا شأننا كله ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين. اللهم يا ربنا فقهنا أجمعين في الدين، وعلمنا التأويل. أما بعد: هذه الآية الكريمة قول الله سبحانه وتعالى (وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات) إلى تمامها هي معطوفة على ما قبلها، قال (وبشر) الواو عاطفة، وهذا عطف جملة على جملة، الجملة التي قبلها فيها وصف عذاب الكفار وما أعد لهم من عقوبة نار وقودها الناس والحجارة، وهذه الآية فيها وصف النعيم الذي أعده الله سبحانه وتعالى للمؤمنين، فعطف جل وعلا جملة وصف ثواب المطيعين على جملة وصف عذاب العاصين الكفار. وهذا من المعاني التي ذُكرت في وصف القرآن بأنه مثاني، مثاني من المعاني التي ذكرت فيه أنه يُثنى فيه الوعد والوعيد، وهذا كثير جدا في القرآن.
ما معنى يُثنى فيه؟ يُكرر ويذكر الوعد مقرونا بالوعيد، ويذكر الوعيد مقرونا بالوعد وهذا النهج له أثره العظيم على القلوب لأن القلب إذا تأمل في الوعيد خاف، وإذا تأمل في الوعد رجا (يرجون رحمته ويخافون عذابه) قال الله جل وعلا (الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم) هذا متى؟ عندما يقرأ الوعيد (تقشعّر منه جلود الذين يخشون ربهم) يعني لما تقرأ (وقودها الناس والحجارة)، تقرأ (عليها ملائكة غلاظ شداد) إلى غير ذلك، يقشعر له الجلد من الخوف وهول العقوبة، وعِظم العقوبة، (ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله) هذا متى؟ عند قراءة الوعد، وهكذا شأن المسلم في تدبره لكلام ربه سبحانه وتعالى إذا مر بالوعيد اقشعر جلده وخاف، وإذا مر بالوعد لان جلده واستبشر، فيكون شأنه مع هذه الآيات بين الرجاء والخوف، الرجاء للرحمة والخوف من العذاب، وهذان هما الموجبان للنجاة والفوز بعالي ورفيع الدرجات (يرجون رحمته ويخافون عذابه).
وقوله جل وعلا (وبشر الذين آمنوا)
البشارة هي: إخبار المرء بما يسره ويدخل الفرح على قلبه، وسميت بشارة لأنه يظهر أثرها على البشرة. وحتى أيضا إخبار المرء بما يسوؤه يسمى بشارة (فبشرهم بعذاب أليم) وهو كذلك يظهر أثره على البشرة، على الوجه يؤثر، قال (وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات) لما تقرأ هذه الآية تستحضر أن ثمة مُبشِر -وهذا مقام يحتاج من العبد إلى حسن التأمل- أن ثمة مُبشِر وثمة مُبشَر، وأيضا ثمة بشارة، وثمة أيضا سبب تُنال به هذه البشارة. يقول ابن القيم -رحمه الله-: "فتأمل جلالة المُبشِر" المُبشِر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يأتسي به من قام مقامه من أهل العلم والفضل والدعاة إلى الله عز وجل، "فتأمل جلالة المُبشِّر ومنزلته، وصدقه، وعظمته، وعظمة من أرسله إليك بهذه البشارة -أي العظيمة الجليلة - وقد بشّرك به وضمنه لك وجعله أسهل شيء عليك وأيسره، وجمع سبحانه في هذه البشارة بين نعيم البدن بالجنات وما فيها من الأنهار والثمار، ونعيم النفس بالأزواج المطهرة، ونعيم القلب وقرة العين بمعرفة دوام هذا العيش  أبدا الآباد، وعدم انقطاعه".
قال (وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات) هذا فيه أن الإيمان وحده لا يكفي، لا بد في دخول الجنة ونيل البشارة من العمل الصالح ونص عليه وخصّ بالذكر بيانا لعظم شأنه وأهميته ووجوب الاهتمام به والعناية. وفي هذا رد على من يقول إن الإيمان وحده يكفي بلا عمل. وهذه عقيدة فاسدة مخالفة لهدي كتاب الله عز وجل وسنة نبيه صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.
 (أن لهم) أي لهؤلاء أهل الإيمان والعمل الصالح (جنات تجري من تحتها الأنهار) أي تجري من تحت أشجارها وغرفها الأنهار.

(كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل)
(من قبل) يقصدون في الدنيا، من قبل أي رزقناه في الدنيا، أو (من قبل) أي الرزق الذي سبقه في الجنة؟ وهذا سيأتي كلام أهل العلم فيه.
(قالوا هذا الذي رزقنا من قبل وأتوا به متشابها) أي النعيم والرزق (وأتو به متشابها) وفيه أيضا تنبيه على سبب قولهم (متشابها) أي متماثلا في الحُسن وجمال الطعم، وحلاوة المذاق، (وأوتوا به متشابها) أي شبيه لما قبله ونظير له في حسنه وجماله وجمال لونه ورائحته وطعمه. قال الحسن البصري - رحمه الله  تعالى- في معنى (متشابها) قال: "خيار كله لا رذل فيه، ألم تروا إلى ثمار الدنيا كيف ترذلون بعضه" الآن ثمار الدنيا فيه جملة تُسمع كثيرا "أنا هذا لا يعجبني"، "أنا هذا لا أستسيغه، وهذا الطعام لا أتقبله، هذا لا أكله، هذا.. الخ هذه الجملة ليست موجودة هناك - نسأل الله الكريم من فضله – كله غاية في الجودة، وكله حبيب إلى النفس، وكله جميل الطعم، ما فيه هناك هذا ما أشتهيه، وهذا لا يعجبني، وهذا مذاقه كذا، هذه كلها لا يوجد، كله متشابه، كله غاية في الجودة والجمال، وحسن الطعم وجمال اللذة، وجمال المذاق، كله متشابه ليس فيه ما في الدنيا يعني شيء يرذله الإنسان يقول هذا ما يعجبني، هذا ليس بلذيذ، هذا لا أشتهيه، إلى غير ذلك من العبارات، قال: "ألم تروا إلى ثمار الدنيا كيف ترذلون بعضه" يعني تذمون بعضها أو لا تشتهون بعض أو لا ترغبون في بعضه، هذا لا يوجد في الجنة، الجنة كل نعيمها متشابه، معنى متشابه أي: كله في غاية الجودة، كله حبيب للنفس، كله غاية في اللذة والحُسن.
● (وأتوا به متشابها) (أتوا به) أي جيء به إليهم متشابها، (متشابها) أي: متجانسا في الحسن والمذاق.
(ولهم فيها) أي الجنة، (أزواج مطهرة) (مطهرة) قال ابن عباس رضي الله عنهما: "من القذر والأذى"، وقال ابن مسعود: "لا يحضن ولا يحدثن ولا يتنخمن" يعني هذه الأشياء التي كانت تحصل لهن ومنهن في الدنيا تنتهي في الجنة، المرأة التي الآن في هذه الدنيا في الشهر يأتيها الأذى (يسألونك عن المحيض قل هو أذى) هذا الأذى الذي يأتيها في كل شهر أسبوعا أو زيادة أو أقل ويؤذيها برائحته، يؤذيها بالألم الذي يصاحبه والأتعاب، هذا كله ينقطع في الجنة، الجنة ليس فيها مثل ما قال ابن عباس أذى، وليس فيها قذر، فهي مطهرة من ذلك.
الحسن البصري رحمه الله قال عند الآية: " (أزواج مطهرة) هن عجائزكم الغمس الرمس العمش" العجوز الكبيرة المؤمنة التي اعتل بصرها ويظهر عليها شيء من تجمع الغمس ونحوه هذه هي المطهرة التي تكون في غاية الحسن، قال: "هن عجائزكم، الغمس، الرمس، العمش" طُهرن من قذرات الدنيا، لما ينظر المرء إلى الصالحات العابدات كبيرات السن، الذاكرات من أمهات وجدات وعمات وخالات ماضيات على الطاعات -  نسأل الله الكريم من فضله لأمهاتنا- النبي عليه الصلاة والسلام - كما جاء في الحديث - جاءته امرأة كبيرة في السن فقال عليه الصلاة والسلام الجنة لا تدخلها عجوز، قال الجنة لا تدخلها عجوز، فولت المرأة تبكي، قال الجنة لا تدخلها عجوز، فقال عليه الصلاة والسلام : (أخبروها أنها لا تدخلها وهي عجوز) يعني تعود العجوز إلى شابة تذهب التجاعيد، وعلامات الكبر، وأتعاب الكبر، وكل هذه الأمور تنتهي، تعود شابة غاية في الحسن، آية في الحسن والجمال، مطهّرة ومنزهة من كل أذى.
● قال: (وهم فيها خالدون) وهذا مثل ما قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: "هذه قرة عين" لأن المرء إذا كان في نعيم غاية في الحسن ويخشى زواله ما تقر عينه، لكن لما يعلم أن هذا النعيم الذي هو فيه مخلد فيه أبد الآباد، لا يحول ولا يزول هذه قرة عين، لو كان عندك ما عندك من المُتع وتخشى بعد يوم أو شهر أو سنة أنها ستذهب عنك أو ستذهب أنت عنها ما تقر عينك، قرة العين في هذا البقاء والدوام للنعيم، ولهذا ختمت الآية بقوله (وهم فيها خالدون) أي لا يموتون، مخلدون أبد الآباد في هذا النعيم المقيم الذي لا يحول ولا يزول.
 قال الشيخ رحمه الله تعالى: "لما ذكر جزاء الكافرين ذكر بعده جزاء المؤمنين" لما ذكر جزاء الكافرين في الآية التي قبله ذكر في هذه الآية جزاء المؤمنين فهو عطف جملة على جملة، لما ذكر جزاء الكافرين ذكر جزاء المؤمنين أهل الأعمال الصالحة، أهل الإيمان والعمل الصالح كما هي طريقته تعالى في كتابه يجمع بين الترغيب والترهيب (نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم* وأن عذابي هو العذاب الأليم) ليجمع بين الترغيب والترهيب، ترغيب ماذا فيه؟ تنشيط للمؤمن العامل بالصالحات، والترهيب فيه تثبيط، تثبيط لمن؟ للعاصي إذا سمع العقوبة واستشعر شدة العقوبة ثبطه عن ماذا؟ عن إقبال نفسه على المعصية، ولهذا كم من أناس هداهم الله عز وجل لما استشعروا عِظم العقوبة، ففيها تثبيط، فالترغيب فيه تنشيط للمطيع، والترهيب فيه تثبيط للعاصي عن عصيانه، قال: "ليكون العبد راغبا راهبا، خائفا راجيا" فقال (وبشر) أي أيها الرسول ومن قام مقامك أي من الدعاة والعلماء، (بشر) أي الذين آمنوا بقلوبهم وعملوا الصالحات بجوارحهم" فجمعوا بين العلم والعمل، صلاح القلب وصلاح الجوارح، فصدقوا إيمانهم بأعمالهم الصالحة، لأن الجوارح تصدق ما في القلب، وتكذب، إذا كان الإيمان الذي في القلب صادقا صدقته الجوارح بأن تبعته فيما هو عليه من صلاح، وإذا كان خلاف ذلك تبعته فيما هو عليه من فساد، وهذا واضح في الحديث (ألا أن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب).
● قال: "وصفت أعمال الخير بالصالحات" انظر لفتة جميلة: سميت أعمال الخير بالصالحات لأن بها تصلح أحوال العبد، هي صالحات لأنها تصلح أحوال العبد، وتصلح أمور دينه ودنياه، وحياته الدنيوية والأخروية، كل هذه لا تصلح إلا بالأعمال الموصوفة بأنها صالحات، صالحات لأنه يصلح بها العبد يصلح دينه، تصلح دنياه، تصلح أخرته، وفي الدعاء (اللهم أصلح لي ديني الذي هوعصمة أمري، وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي، وأصلح لي آخرتي التي فيها معادي) هذه لا تصلح إلا بالصالحات، لا تصلح كلها إلا بالصالحات، بالإيمان والعمل الصالح.
● قال: "ويزول بها عنه فساد الأحوال فيكون بذلك من الصالحين الذين يصلحون لمجاورة الرحمن في جنته". قال "فبشرهم أن لهم جنات أي بساتين جامعة للأشجار العجيبة، والثمار الأنيقة، والظل المديد، والأغصان والأفنان، الأفنان مثل ما في قوله (ذواتا أفنان) قيل في معنى ذواتا أفنان أي: أغصان مستقيمة، وقيل: أفنان أي أنواع وأصناف، وسيأتي في سورة الرحمن ذكر الشيخ هناك المعنيين، قال: "وبذلك صارت جنة يجتن بها داخلها وينعم فيها ساكنها" 
(تجري من تحتها الأنهار) أي أنهار الماء واللبن والعسل والخمر كما قال الله سبحانه وتعالى (مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من عسل مصفى وأنهار من خمر لذة للشاربين ولهم فيها من كل الثمرات) أنهار الماء، وأنهار اللبن، وأنهار العسل، وأنهار الخمر، يفجرونها كيف شاؤوا، ويصرفونها أين أرادوا، وتُسقى منها تلك الأشجار فتنبت أصناف الثمار.
(كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل) أي هذا من جنسه وعلى وصفه، كله متشابه في الحسن واللذة، ليس فيه ثمرة خاسة أي رذيلة لا تعجب الإنسان ولا يستسيغها، وليس لهم وقت خالٍ من اللذة، كل أوقاتهم في لذة، ليس هناك وقت سآمة، وقت ملل، النفس متضجرة، النفس ضاقت، هذا كله ما هو موجود، كل الوقت، ليس مرة لذة ومرة فرحة ومرة ترحة، مرة فرح ومرة حزن وألم، لا، كله فرح وكله لذة. قال: " وليس لهم وقت خال من لذة، فهم دائما متلذذون بأكلها"
قول الشيخ "أي هذا من جنسه وعلى وصفه" كله متشابه في الحسن. هذا قول في معنى الآية، أن معنى قوله (كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل) (من قبل) أي في الجنة. هذا قول، ويكون المعنى: كل الرزق الذي في الجنة متشابه، متشابه في ماذا؟ في جمال الطعم وحسن المذاق، كله متشابه ليس فيه رذل، ليس فيه شيء غير جيد أو طعمه غير حسن أو نحو ذلك، كله متشابه. فيكون (هذا الذي رزقنا من قبل) ليس المراد رزقنا من قبل أي عينه وإنما المراد جنسه في الحسن وجمال المذاق. وقيل في معنى قوله (هذا الذي رزقنا من قبل) في الدنيا. يقصدون رُزقنا مثله في الدنيا في الأسماء، يعني مثلا عنب، رمان، إلى غير ذلك من الثمار رزقنا ذلك من قبل، لكن كما قال ابن عباس رضي الله عنهما: "ليس في الجنة مما في الدنيا إلا الأسماء" فقولهم (رزقنا من قبل) يعني عنب في الدنيا ورمان وكذا، لكن ليس العنب كالعنب، ولا الرمان كالرمان، النبي عليه الصلاة والسلام لما رأى الجنة في صلاة الك الكسوف مد يده ليقطف عنقودا من عنبها، قال (لو أخذته لأكلتم منه ما بقيت الدنيا) هذا مثال يوضح لك الفرق الشاسع، استمعنا اليوم في صلاة الفجر قول الله سبحانه (فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين) والنبي عليه الصلاة والسلام قال (فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر) إذا هي أسماء متشابهة، تشابه في الأسماء أما الحقائق فأمرها آخر، وشأنها آخر..
فقيل: (الذي رزقنا من قبل) أي رزقناه في الدنيا، رزقنا نظيره في الدنيا من الفواكه والثمار.
الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى رجح القول الأول الذي هو رزقنا من قبل أي في الجنة، هذا مثل النعيم الذي سبقه في الجنة أي في الجودة والحُسن. رجحه من وجوه عديدة، قال رحمه الله: الأول في ترجيح هذا القول: أن المشابهة التي بين ثمار الجنة بعضها لبعض أعظم من المشابهة التي بينها وبين ثمار الدنيا.
الثاني: ما حكاه ابن جرير - وإن كان ابن جرير اختار الأول، اختار أنه في الدنيا- ما حكاها ابن جرير قال: "وقال ومن علة قائل هذا القول أن ثمار الجنة كلما نُزع منها شيء أي قُطف منها شيء عاد مكانه آخر مثله مباشرة، عاد مكانه آخر مثله،الوجه الثالث: قوله (وأتوا به متشابها) وهذا كالتعليل والسبب الموجب لقولهم (هذا الذي رزقنا من قبل) لأنه متشابه، أي متجانس، ولأجل هذا يقولون (هذا الذي رزقنا من قبل) لأنه يشبهه في الحُسن، وهذا مثل ما أشرنا سابقا أن طعام الدنيا ليس في كل مرة يعجب الإنسان، تجد أحيانا يقدم له طعام فتعافه نفسه، لا تقبل عليه، أو يكون في الطعام شيء معين يفتقد بسببه الجودة، يكون يُداخله طعما يفقده جودته، لكن الذي في الدنيا كله متشابه فإذا طعموا جديدا قالوا هذا مثل الذي قبله، يعني في الجودة، يعني يشبهه من وجه، يعني فقط للبيان، أحيانا الإنسان إذا طعم طعاما في غاية الجودة ثم فيما بعد طعِم مثله في غاية الجودة قال هذا مثل ذاك الطعام يقصد بماذا؟ هذا في الجودة مثله، أي في جودته وحسنه، وهذه الجملة لا تتكرر عند الناس، يعني في النادر يقول هذا مثل هذا، لكن كل طعام الجنة متشابه، كله في غاية الجودة والحُسن.
الأمر الرابع قال: "أن من المعلوم -وهذه لطيفة جدا- يقول أن من المعلوم أنه ليس كل ما في الجنة من الثمار قد رُزقوا مثله في الدنيا -هذه لطيفة جدا- فليس كل ما في الجنة من الثمار قد رُزقوا مثله في الدنيا"
زاده توضيحا قال: "وكثير من أهل الدنيا لا يعرفون ثمار الدنيا ولم يروها" واضح؟ كثير من أهل الدنيا ما رأوا ثمار الدنيا، ما رأوا فواكه الدنيا كلها، فالذي يقول (رزقنا من قبل) هو يتحدث عن شيء رُزقه، شيئا طعمه، شيئ رآه، فهل كل أهل الدنيا -مثلا- أكل الرمان؟ هل كلهم أكلوا -مثلا- التفاح أو أكلوا العنب؟ خاصة في الزمان الأول قبل الآن وسائل النقل ووسائل الحفظ الزمان الأول كانت بعض الفواكه في بعض المناطق أصلا يدخل الإنسان الدنيا ويخرج ولا يراها أصلا، ربما يسمع باسمها فقط أما رؤية ما رآها، والآن في زماننا هذا تجد قرى فقيرة ومناطق فقيرة ما يعرفون كثير من الفواكه، لو قيل له رمان، وإلا قيل له عنب، وإلا قيل له تفاح ما رآه، فيقول: "أن من المعلوم أنه ليس كل ما في الجنة من الثمار قد رُزقوا مثله في الدنيا، وكثير من أهل الدنيا لا يعرفون ثمار الدنيا ولا رأوها" يعني كثير من فواكه الدنيا وثمارها ما رأوها وإنما رأوا شيء منها أو يسير منها.
هذه وجوه أربعة رجح بها ابن القيم -رحمه الله- القول بأن المراد رزقنا من قبل أي في الجنة متشابه، أي متجانس في الحسن. اليوم نصبر قليل، لأنه ما في دوامات ولا فيه مدارس خلونا نمشي شوي مع الجنة ونعيمها، لعل الله عز وجل يحدث لنا شيئا.
قال (وأتوا به متشابها) قيل: متشابها في الاسم رمان رمان، عنب عنب.. إلى آخره مختلفا في الطعم، طعم آخر، وقيل: متشابها في اللون مختلف في الإسم، وقيل: يشبه بعضه بعضا في الحسن واللذة والفكاهة. ولعل هذا أحسن وهو الأقرب، هذا المعنى الثالث هو الأقرب، (متشابها) أي متجانسا في الحسن والجودة، وجمال الطعم والمذاق.
ثم لما ذكر مساكنهم وأقواتهم من الطعام والشراب وفواكههم ذكر أزواجهم فوصفهن بأكمل وصف وأوجزه وأوضحه قال (ولهم فيها أزواج مطهرة) مطهرة من ماذا؟ ما قال الله، ما قال مطهرة من الحيض، مطهرة من الأذى، مطهرة من القذر، ما ذكر شيء والأصل في حذف المتعلق أنه يفيد العموم. (ولهم فيها أزواج مطهرة) قال: "فلم يقل مطهرة من العيب الفلاني" لم يحدد شيء معين ما قال مثلا مطهرة من الحيض، لو قال مطهرة من الحيض اختصت الطهارة به، لكن لما أطلق صار يشمل قال: "ليشمل جميع أنواع التطهير" مثل ماذا؟ انظر الكلام الجميل قال: "فإنهن مطهرات الأخلاق، مطهرات الخَلق، مطهرات اللسان، مطهرات الأبصار، أخلاقهن أنهن عُرب أي متجملات، متحببات إلى أزواجهن بالخلق الحسن وحسن التبعل والأدب القولي والفعلي، ومُطهّر خلقُهن من الحيض والنفاس والمني والبول والغائط، والمخاط والبصاق، والرائحة الكريهة، مطهرات من ذلك كله، ومطهرات الخلق أيضا بكمال الجمال فليس فيهن عيب ولا دمامة خَلق بل هن خيرات حسان، مطهرات اللسان والطرف أي البصر، قاصرات طرفهن على أزواجهن، وقاصرات ألسنتهن عن كل كلام قبيح، هذه كلها داخلة في معنى (مطهّرة) كلها داخلة في معنى مطهرة. 
 قال: "ففي هذه الآية الكريمة ذكر المُبشر" الرسول عليه الصلاة والسلام، "والمُبشَر به" الجنة، "والسبب الموصل لهذه البشارة" الإيمان والعمل الصالح، "فالمبشر هو الرسول صلى الله عليه وسلم ومن قام مقامه من أمته، والمبشَر هم المؤمنون العاملون الصالحات، والمبشر به هي الجنة الموصوفة بتلك الصفات، والسبب الموصل إلى ذلك، وهو الإيمان والعمل الصالح" هذه الأربعة كلها جُمعت في قوله (وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات)
قال: "فلا سبيل إلى الوصول إلى هذه البشارة إلا بهما" أي الإيمان والعمل الصالح.
قال الشيخ: "وهذه أعظم بشارة حاصلة على يد أفضل الخلق بأفضل الأسباب" أعظم بشارة بشارة بالجنة والنعيم المقيم، "على يد أفضل الخلق" المُبشِّر رسول الله صلى الله عليه وسلم، "بأفضل الأسباب" الإيمان والعمل الصالح.
قال: "وفيه استحباب بشارة المؤمنين وتنشيطهم على الأعمال بذكر جزائها وثمراتها فإنها بذلك تخف وتسهل" ولهذا العبد بحاجة إلى أن يقرأ في نعيم الجنة، لتخف عليها الطاعات والعبادات، وتسهل عليه، وتقبل نفسه، وبحاجة أن يقرأ أيضا العذاب والنار وصفتها حتى تنزجر النفس عما تكون مقبلة عليه من معصية، أو مخالفة لأمر الله سبحانه وتعالى.
ثم استمع إلى هذه اللطيفة الجميلة يقول:
"أعظم بشارة وأعظم بشرى حاصلة للإنسان توفيقه للإيمان والعمل الصالح" هذه بشارة، هذه بحد ذاتها بشارة أن يجد الإنسان نفسه منشرحا للإيمان، منشرحة للعمل الصالح، مقبلة على الطاعة. هذا من المعاني التي ذكرت في قوله سبحانه وتعالى (لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة) فمن البشرى في الحياة الدنيا:
● أن يجد المرء نفسه منشرحة للخير، منشرحة للطاعة، مقبلة على العبادة. هذه بشارة، هذي أمارة خير..
● كذلك الرؤية الصالحة يراها أو تُرى له داخلة في الآية..
● أيضا الذكر الحسن ومعرفة الناس له بالخير، والناس -أهل الإيمان- شهداء الله في أرضه، هذه كلها داخلة.
وأظن الشيخ عند تفسير الآية ذكر هذه المعاني، أو ذكرها في كتاب من كتبه، لكن هذه المعاني للشيخ بن سعدي -رحمه الله- التفاصيل جميلة فيها إما أن تكون في تفسيره لهذه الآية من سورة يونس، أو يكون ذكرها في شيء من كتبه الأخرى. الأمور التي تدخل تحت قوله (لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة) لأن البشرى في الحياة الدنيا يدخل تحتها معاني عديدة، وكذلك في الآخرة.
 قال: "فذلك أول البشارة وأصلها" ما هو؟ "فذلك" ما هو؟ انشراح القلب للعمل، وإقباله على الإيمان والعمل الصالح، هذه أول البشارة وأصلها.
قال: "ومن بعده البشارة عند الموت" بشارة عند الموت (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة) ومن بعده الوصول إلى هذا النعيم المقيم، نسأل الله من فضله.
نفعنا الله أجمعين بما علمنا وزادنا علما وتوفيقا، وأصلح لنا شأننا كله، وهدانا إليه صراطا مستقيما…  سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، استغفرك وأتوب إليك، اللهم صلِ وسلم على عبدك ورسولك، نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين   جزاكم الله خيرا.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق