بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على عبده ونبيه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ..
معشر المؤمنين والمؤمنات، الصائمين والصائمات، القائمين والقائمات، المتدبرين كتاب الله والمتدبرات ..
رأينا في الآيات السابقات في المجلس الماضي كيف أن الله سبحانه وتعالى قلب المِحنَة إلا مِنحة والضراء إلى سراء وتوالت البشارات لهذه الفتاة الحَصان الرزان مريم بنت عمران فقيل لها :
{ فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا ۖ فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَٰنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا } ومضت رضي الله عنها تحمل وليدها كما أخبر الله عز وجل { فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ } وظاهر الآيات لا يدل على أنها أمضت وقتاً للنفاس كما قال ذلك من قال، بل ظاهر الآيات أنها لفّت وليدها بمهده ثم أتجهت إلى قومها.
{ فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا ۖ فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَٰنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا } ومضت رضي الله عنها تحمل وليدها كما أخبر الله عز وجل { فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ } وظاهر الآيات لا يدل على أنها أمضت وقتاً للنفاس كما قال ذلك من قال، بل ظاهر الآيات أنها لفّت وليدها بمهده ثم أتجهت إلى قومها.
ولكم -أيها الكرام ويا أيتها الكريمات- أن تتصوروا هَول الموقف، الناس قد افتقدوا هذه الفتاة التي كان يُدخَل عليها في المحراب والذي كانت تداري وتتواري وتتخفى من الناس تريد أن لا يظهر أثر حملها ثم تغيب عنهم بعض نهار ويتساءلون فيما بينهم أين هي ؟ ولو كانت غيبتها طويلة لأرسلوا في طلبها لكنها غابت -والله أعلم- نصف نهار أو نحو ذلك لذلك قال ربنا عز وجل : { فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ } مشهد عجيب بنو إسرائيل قد قاموا شخوصاً وينظرون إلى هذا السراب المُقبل من بعيد وإذا بمريم تحمل بين يديها جنيناً وإذا بالأنظار مصوبة إليها وإذا بالأنفاس محبوسة لا يُدرى ماذا يُقال وجال في من أنواع الرِيب والتُّهم ما الله به عليم فتُقبل عليهم وتقف أمامهم ووليدها بين يديها فحينئذٍ يبتدرونها بتهم متلاحقة { يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا } بل قد قالوا قبل ذلك : { يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا } والشيء الفري هو الشيء الفظيع المنكر الذي بلغ في الشناعة غايته.
ثم هم بعد ذلك يخِزُونها بهذه السهام الشديدة حينما يقولون لها : { يَا أُخْتَ هَارُونَ } فيذكرونا ببيئتها الطاهرة العفيفة، وهارون هذا قطعاً ليس هو هارون أخو موسى إذ أن يينهما قروناً متطاولة وإنما هو أخ لها -فيما يظهر- وليس كما قال بعض المفسرين يا شبيهة هارون بل هو أخ لها -والله أعلم- وإنما كان الأمر كما وقع للمغيرة بن شعبة حينما بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى نجران فأوردوا عليه هذا الإيراد وقالوا له كيف في كتابكم يا أخت هارون وبين مريم وهارون قروناً؟ فسكت رضي الله عنه ولم يجد جواباً وعاد إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره بالجواب فقال : (أنهم كانوا يُسمُّون بأسماء أنبيائهم وصالحيهم وهارون هذا أخ لها) ولذلك أذكرها قومها بأخيها { يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ } أبوها كان رجلاً صالحاً هو عِمران الذي أثنى الله على بيته، { وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا } أي لم يكن أبوكِ فاجراً زانياً ولا كانت أمك مُومساً بغية فمن أين يأتيك الردى، وما أشد وقع هذه الكلمات على الإنسان لولا أن الله تعالى ربط على قلبها بما بشّرها به.
{ فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ } أشارت كما أمرها ربها أن لا تكلم إنسياً فأشارت إلى هذا الرضيع الذي بين يديها فقالوا متعجبين : { كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا } لم تجرِ العادة بأن يُحال إلى من لا ينطق { كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا } وحينئذٍ تقع الآية العظمى الباهرة المعجزة الذي تقشعر لها الأبدان، طفل رضيع عيناه تزهران وإذا به ينطلق بلسان فصيح قائلاً : { إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا }
الله أكبر يالها من خطبة عصماء ينطق بها هذا الطفل الرضيع الذي لم يبتَر ثغره عن شيء وإذا به يقول هذه الكلمات المُحكمات والناس منبهرون ذاهلون وما كانوا ليقتنعوا إلا بآية كهذه فقد كانت قد بلغت قساوة القلوب ببني إسرائيل مبلغها فكانوا بحاجة إلى آية عظيمة تهزُّهم وتُذكِّرهم وتردُّهم وتُقنعهم.
وتأملوا أيها الكرام هذه الجمل النبوية العيسوية التي أنطقه الله تعالى بها في المهد فأول هذه الجمل { إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ } فيعلن العبودية لله تعالى لكي تكون حاسمة من كل ظن أو ريبة ممن أدعى فيه أنه الله أو ابن الله أو ثالث ثلاثة فإذا به يوحِّد الله تعالى في أول ما يبتَر به ثغره وتنطق به شفته قال { إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ } وهذه عبودية خاصة عبودية الأنبياء والمرسلين التي فيها غاية الإخلاص لله رب العالمين.
{ آتَانِيَ الْكِتَابَ } والمراد بالكتاب هاهنا الإنجيل والمقصود أي أنه قضى لي أن يعلمني الإنجيل وأن يؤتيني الإنجيل لا أنه في تلك اللحظة قد أُوتي الإنجيل وإنما قد قضى وقدّر سبحانه وتعالى بهذه الكرامة له .
{ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا } أي من سائر أنبياء الله الذين يُوحى إليهم.
{ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا } { وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ } مما يدل على عِظم هتين الشعيرتين وأنهما من الشعائر التي لا تخلوا منها ملة سماوية فالصلاة أمرها عظيم وشأنها خطير الصلاة نور الصلاة صلة بين العبد وربه ولا خير في دين لا صلاة فيه ولهذا كان أصح أقوال أهل العلم أن من ترك الصلاة ولو كان مُقراً بوجوبها وإنما تركها تهاوناً وكسلاً فإنه كافر كفر مخرج عن الملة فإنه لا دين لمن لا صلاة له فالصلاة أسّ الدين وعموده، هي الصلة بين العبد وربه ومن أبى الصلاة فقد قام في قلبه من الكِبر ما لا يستحق به أن يدخل الجنة .
{ قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا }
أما قوله : { وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ } فإن البركة: كثرة الخير، وقد كان عليه الصلاة والسلام مباركاً في جميع أحواله حتى أنه كان { وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَىٰ } وكان بركة على من حوله وأعظم بركاته أنه ردّ الناس إلى توحيد رب العاليمن وأخرجهم مما كانوا فيه من القسوة والغفلة وأتاهم بالموعظة والذكرى { وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ } .
{ وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ } والمراد بالزكاة ها هنا زكاة المال وزكاة النفس ذلك أن الصلاة أشرف العبادات البدنية والزكاة هي أشرف العبادات المالية والزكاة التي هي بمعنى تزكية النفس هي أفضل ما يفعله الإنسان ويُشغل فيه عمره فقد كان نبينا صلى الله عليه وسلم يدعو ربه في سجوده قائلاً ( اللهم آتِ نفسي تقواها وزكِّها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها ) فالزكاة هي طهارة النفس من الآفات والأخلاق الذميمة الرذيلة .
وتأملوا قوله { مَا دُمْتُ حَيًّا } أي أن هذه الأمور لا تنقطع أبداً وفيه ردٌ على زنادقة الصوفية الذين يقولون إن المرء إذا بلغ درجة من الدرجات التي يُوصِّفونها سقطت عنه التكاليف حتى إنهم ليقولون إذا بلغ الإنسان درجة اليقين سقطت عنه التكاليف الشرعية ويستدلون بقوله تعالى : { وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ } وإنما اليقين الموت وهذا مطابق لما قال عيسى عليه السلام { بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا } ثم ثلَّث وقال : { وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا } فمن حقّ أمه التي احتملت في سبيله ما احتملت من هذا الضنك وهذا الألم النفسي والبدني أن يكون باراً بها، ولهذا -أيها الكرام- قال نبينا صلى الله عليه وسلم : ( لا يجزي والد ولده إلا أن يجده رقيقاً فيعتقه ) ولهذا كان البِر -كما أسلفنا في قصة يحيى- من أعظم العبادات والقُربات { وَبَرًّا بِوَالِدَتِي } وقد كان كذلك عليه الصلاة والسلام .
{ وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا } { جَبَّارَاً } أي متكبراً متجنياً متطاولاً على الناس .
{ شَقِيًّا } أي لم يسبق لي عنده شقاوة بل كان من أهل السعادة .
{ وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا } دعا بالسلامة لنفسه في هذه الأحوال الثلاث كما قال الله تعالى في شأن يحيى: { وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا } وهنا جاء السلام أبلغ فإنه قد صُدِّر بأل التعريف { وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ } ومن سلامة الله له يوم ولد ما حدَّث به النبي صلى الله عليه وسلم ( ما من مولود يولد إلا نخس الشيطان في جنبه فيستهل صارخاً إلا ما كان من عيسى وأمه فإنهما عصما من ذلك) فإن مريم قد قالت أمها { وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ } فلم تتعرض لهذه النخسة التي ينخس بها كل مولود فهذا من سلامته حين ولد وكذلك حين يموت .
وعيسى عليه السلام لم يمُت بعد فإن عيسى قد رفعه الله إليه كما قال في الآية : { وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَٰكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ } وقال في آية أخرى : { بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ } وذلك أن بني إسرائيل لما تكالبوا عليه وتمالؤا عليه ليقتلوه ويُسلِموه إلى الرُومان أرسل الله تعالى الملائكة فاحتملوه فكان في السماء الثالثة هو وابن خالته يحيى بن زكريا وينزل يوم القيامة كما بشّر نبينا صلى الله عليه وسلم حكماً عدلاً مقسطاً فيقتل الخنزير ويكسر الصليب ويقطع الجزية، وهذا من موعودات نبينا صلى الله عليه وسلم الثابتة في الأحاديث الصحيحة فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن المسيح بن مريم ينزل على المنارة البيضاء شرقي دمشق ويكون المسلمون قد اصطفوا للصلاة وذلك وقت الملحمة مع المسيح الدجال فبينما هم كذلك يسوون صفوفهم وإذا به ينزل واضعاً يديه على ملكين عليه مهرودتين -يعني ثوبين يسميان بهذا الإسم- يتقاطر منه مثل الجُمَان أن طأطأ رأسه تناثر وإن رفع رأسه سال على جبينه مثل الجُمَان فيقدمونه للصلاة فيأبى عليه الصلاة والسلام ويقول : ( أئمتُكُم منكم ) تكرمة الله لهذه الأمة .
{ وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا } إذاً عندما يموت في آخر الزمان بعد أن يقتل الله مسيح الضلالة على يد مسيح الهدى -فمسيح الهدى هو عيسى بن مريم ومسيح الضلالة هو المسيح الدجال- فيلحَقه عليه الصلاة والسلام حتى يُدركه بموضع يقال له باب لُد فيقتله فيذوب الخبيث كما يذوب الملح لكنه يقول : إن لي فيك ضربة لن تفوتك فيُري أصحابه أثر الدم في حربته، فهذا من دعائه الذي استجابه الله له يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حياً ، وذلك أنه بعد بعثه حياً له مقام شريف إذ أن الله تعالى يستشهده على الناس ويقول : { أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَٰهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ ۖ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ ۚ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ ۚ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ ۚ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ * مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ ۚ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ ۖ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ ۚ وَأَنْتَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ ۖ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } وهذا موقف عظيم له في ذلك المقام فيه سلامة له وتبرئة لساحته .
بعد ذلك ختم الله تعالى هذه القصة العظيمة التي أبكت النجاشي وأخضَلت لحيته بدموعه وأبكت بطارقته وأخضَلت مصاحفهم بدموعهم ختمها بهذه الجملة الرصينة { ذَٰلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ ۚ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ * مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ ۖ سُبْحَانَهُ ۚ إِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ }، أي والله هذا قول الحق في عيسى بن مريم ، لا كما خاض النصارى وخاض اليهود في شأنه فقومٌ غلو فيه وهم النصارى فمن قائل إنه الله -تعالى الله عما يقولون- ومن قائل إنه ابن الله، ومن قائل إنه ثالث ثلاثة، وقد أكفر الله القائلين بهذه المقالات فقال سبحانه وتعالى : { لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ } في آيتين في سورة المائدة في آخر ما أنزل من القرآن ، وأيضاً في سورة المائدة { لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ } وعامّة النصارى على وجه الأرض منذ مجمع ميقيا سنة ثلاث مائة وخمس وعشرين للميلاد وكلهم على هذه العقيدة الباطلة يغلُون في عيسى غلواً عظيماً فيزعمون أنه الله أو ابن الله أو ثالث ثلاثة ولهذا قال ربنا عز وجل : { وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ ۚ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ ۚ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ ۖ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ ۘ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ }. وقوم جفوا في حقه وهم اليهود -عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة- فقد زعموا أن عيسى ابن زنا وأن أمه بغي والله حسيبهم على ماقالوا، وإنما أصاب فيه الحق المؤمنون به من الحواريين { فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ ۖ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَىٰ عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ }، وآمن به محمد صلى الله عليه وسلم والمسلمون فاعتقدوا فيه العقيدة الصحيحة ولهذا جاء في الحديث : ( من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم ورُوح منه ) فكان ذلك من شرائط الإيمان ولم يزل المسلمون يكتبون في وصاياهم "هذا ما أوصى به فلان بن فلان وهو يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه" لهذا كان هذا هو قول الحق في هذه المسألة ، أما النصارى فقديماً وحديثاً مضطربون فيه غاية الاضطراب ففيما مضى أنقسموا إلى مساطرة وملكانية ويعاقبة، وفي هذا الزمان هم طوائف ثلاث كبار كاثوليك وبروستانت وأرثودوكس وطوائف متعدده وصدق فيهم قول الله تعالى : { وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَىٰ أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ }.
إذاً الأمر كما قال الله : { ذَٰلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ ۚ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ * مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ ۖ سُبْحَانَهُ ۚ إِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ ۚ هَٰذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ * فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ ۖ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ} الله الموعد {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا } أي ما أسمعهم وما أبصرهم يوم يأتوننا أما الآن فعلى أسماعهم وقَر وعلى قلوبهم أكِنة وعلى أعينهم غشاوة أما حين يأتون ربهم { أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا ۖ لَٰكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ * إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ } .
وبهذا أسدل الستار على هذه القصة العظيمة التي هي من أصول الإيمان والذي ينبغي أن ينعقد عليها قلب المؤمن والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق