الثلاثاء، 14 أكتوبر 2014

الحلقـ الثانية والعشرون ــة / سورة الإسراء الآية (41)


الحمد لله الذي أحسن كل شيءٍ خلَقَه وبدأ خلق الإنسان من طين ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له رب العالمين وأشهد أن سيدنا ونبيّنا محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين وبعد ..
 أيها المباركون في هذه الدروس المباركة في تفسير القرآن العظيم نفيئ معكم إلى قول الله جل وعلا :
 ( وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَٰذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا * قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَىٰ ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا * سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا * تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ ۚ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَٰكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ۗ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا ) ..سورة الإسراء
 فنقول مستعينين بالله جل وعلا هذه الآيات من  وقد مرَّ معنا أنها سورةٌ مكية وأعظم ما عُنيَت به السور المكية بل أعظم ما عُنِيَ به القرآن كله تحقيق أمر العقيدة ، والقرآن هذا الكتاب العظيم أعظم هادٍ بلا شك ، فالله جل وعلا يقول في هذه الآيات المباركة : ( وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَٰذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا ) يجيء معك في القرآن تصريف الرياح وتصريف الرياح أي تنقلها وتنوعها ، فالله جل و علا يقول هنا : ( وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَٰذَا الْقُرْآن ) أي هذا القرآن كلامنا تكلمنا به حقيقة على الوجه الذي يليق بجلالنا وعظمتنا ثم أنزلناه بواسطة مَلَكٍ مقرَّب على قلبك أيها النبي الكريم ففيه من العظات وفيه من الزواجر وفيه من الوعد والوعيد ما يجعل كل ذي قلبٍ سليم أن يزدلف إليه ويفر إليه ويُقبِل عليه لكن قومك هؤلاء على ما صرّفنا في القرآن فيه من عظيم الآيات وجليل العظات إلا أنهم ينفرون عنه ، فقول الله جل وعلا : ( وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا ) هذه حكاية تَعَجُبٍ عن حالهم لأن النفور أصلاً مستسقاً عن حال الدواب عندما تشعر بالأذى فتفر كما قال الله جل وعلا : ( فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ ) تنفِر ، فهذا القرآن مليء بالعظات والعلم والهدى و مع ذلك يتعاملون معه كأنما ينالهم أذى ، فأخبر الله جل و علا هنا نعيَه عليهم قال : ( وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَٰذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا ) على هذا ينظر المؤمن و هو يتلو القرآن أين قلبه ، فإذا كان قلب المؤمن مقبلاً على القرآن إذا تلاه يعلم أنه لا يمكن أن يجد شيئاً يذكّره بربه ويدله على خالقه ويرشده إلى مولاه أعظم من القرآن فهذا قد عرف الهدى و استبان له السبيل وهُدي إلى صراطٍ مستقيم ، أما إن كان المرء -عياذاً بالله- لايرغب أن يسمع آية ولا يحب أن يُتلى عليه شيءٌ من القرآن ويفر إذا ذُكِّر بآيات الله فهذا الذي يمكن أن يُحكم عليه بالضلال بل يجزم بالحكم عليه أنه ضال .
 ثم قال جل وعلا بتحقيق مسألة عظيمة في الدين وهي إثبات وحدانيته جل و علا ، هذه الآيات لا يمكن أن تُفهم حتى يُفهم الواقع الذي نزلت فيه : قريش نصبت آلهة حول البيت قرابة 360 صنماً كهُبَل واللات والعُزَّى وغيرها مما هو قريب أو متفرق ثم ٱذا نوقشوا في هذا -عورضوا- قالوا : هؤلاء شفعاؤنا عند الله ، والقرآن أُنزل ليُقيم الحجة وتتضح المحجة وتنقطع المعاذير ، ولا يمكن أن تقوم حُجة وتتضح المحجة و تنقطع المعاذير إلا بشيء شافٍ بيّن ظاهر لا يمكن بعد لأحدٍ أن يحتج به ، و لهذا قال الله جل وعلا (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ ) فالقرآن أي هذا الكتاب العظيم أعظم حُجة ولا يمكن أن يأتي أحدٌ يرقى منبراٌ ويتكلم في محراب ويقول أن القرآن أعظم حُجّة و هذا حق لكن لابد أن يبيّن للناس أين دلالة القرآن أين إثبات أن القرآن أعظم حُجّة ، من هذه الدلائل هذه الآيات المباركات قال ربنا جل وعلا : ( قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَىٰ ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا ) ما معنى الآيات ؟ ربنا جل وعلا يقول لهم في معنى هذه الآيات معناها تفسيرها : أنكم تزعمون أن هذه التي تعبدونها من دون الله آلهة والكون كما ترونه منتظم - هذا مهم - الكون كما ترونه منتظم وأنتم تزعمون أن هذه آلهة ؛ فربنا جل وعلا يقول : (قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ ) أي مع الله ( آلِهَةٌ ) كما تقولون أنتم بأفواهكم وإلا على وجه الحقيقة ليس هناك إله إلا الله، كما تقولون ( إِذًا ) هذا جوابٌ لِلو الممتنِع شرطها فلما امتنع شرطها امتنع وقوع جوابها .. امتنع وقوع جوابها لامتناع وقوع شرطها ( إِذاً لَابْتَغَوْا إِلَىٰ ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا ) مامعنى ( لَابْتَغَوْا إِلَىٰ ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا ) ؟ يصبح المعنى أن الإبتغاء أحد طريقين : إما ابتغاء مغالبة وقهر وإما ابتغاء تذلل وخضوع .
 نبدأ بالأولى : ندع الآية قليلاً نأتي لحال الناس أي أمم فيهن ملوك أنداد كلٌّ منهم يقارع الآخر لا يمكن أن ينتظم حال الناس فيها لأن المغالبة مابين هؤلاء الملوك سيُحدِث عنها فساد حتى ينتصر أحدهم على الآخر فتصبح هناك مغالبة لأنهم أنداد فتارة هذا يغلب وتارة هذا يغلب كلهم يحاول أن ينازع ذي السلطان كلما علا ذي سلطان منهم جاء الآخرون ينازعوه وهذا أمر لا يمكن أن يرده عاقل، يعرفه كل الناس لا ينازعونه أحد ، فإن كانت هذه الآلهة التي تزعمون أنها آلهة هي آلهة حقاً فكان ينبغي أن تغالب الله جل و علا وتنازعه فلما رأينا أن الكون مُنتظم علمنا أن الله لاينازعه أحد ، إذاً بَطُل أن تكون هذه آلهة ، لو كانت آلهة حقاً مثل الله - تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً - لنازعت الله جل وعلا في مُلكه ، لكن لما رأينا أن الكون الله وحده يحيي والله وحده يفني والله وحده يحيي بعد الإفناء ورأينا الكون منتظم والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ورأينا الكون كل ما فيه يدل على أن هناك إله واحد علمنا أن هذه الآلهة لا يمكن لها أن تغالب ربها إذ أنها ليست بآلهة أصلاً ، أنتم تسمونها آلهة وهي غير آلهة .. هذا الابتغاء الأول الذي تحتمله الآية ( إِذاً لَابْتَغَوْا إِلَىٰ ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا ). وقد مرّ معكم أن أبا مسلم الخرساني لما علا بأسه وجنده وكثُر عدده وهو الذي أقام دولة بني العباس خاف منه أبو جعفر المنصور أن ينازعه فكان لابد من أحدٍ أن يغلب الآخر فاستدعاه أبو جعفر فلما استدعاه احتار في أمره ماذا يفعل به وكان أبو مسلم الخرساني يأمر وينهى ويقول أهل العلم : مات تحت سيفه أكثر من ستمائة ألف مسلم حتى أضاع دولة وأقام دولة ، ضيّع دولة بني أمية وأقام دولة بني العباس ، فلما دخل على أبي جعفر وقبل أن يدخل على أبي جعفر استشار أبو جعفر المنصور بعض خواصه قال : ما تقول في أبي مسلم ؟ قال : يا أمير المؤمنين ( لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا ) - يعني ما يصلح أنت وهو بمقام واحد - فقال أبو جعفر : لقد أودعتها أذناً واعية ، فلما دخل أبو مسلم على أبي جعفر قتله بإشارة له إلى غلمانه ضربوه ثم قتلوه حتى ينفرد بالأمر ، هذا أمر لا يختلف عليه أي أحد من أهل العقل ، فالله جل وعلا يقول : لو قُدِّر ان هذه آلهة كما تزعمون لنازعت ربها في ملكه ، فلما رأينا أن الكون منتظم علمنا انه لا أحد ينازع الله .. هذا المعنى الأول .
 المعنى الثاني : ( إِذاً لَابْتَغَوْا إِلَىٰ ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا ) لا ابتغاء مغالبة وقهر كما مر إنما ابتغاء تذلل وخضوع بمعنى أنها تتذلل لله وتخضع له حتى يعطيها ما تريد فإن كان هذا حالها لا يمكن أن تُسمى آلهة ، إن كان هذا حالها تتذلل لله وتخضع لا يُعقل أن تُسمّى آلهة ، لا يُسمى آلهة لا يُسمى إله إلا الذي لا يخضع لأحد ولا يستكين لأحد وهذا ليس إلا لمن ؟ للواحد الأحد ، قال الله جل و علا عن يوسف : ( يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ) وقال الله جل و علا : ( لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَىٰ مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ۚ ) ثم نزّه ذاته قال : ( سُبْحَانَهُ ۖ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ) فهو جل و علا واحد بمعنى : ليس كمثله شيء وبمعنى قهار : كل أحد جبرائيل، الكوروبيون، حملة العرش، الأنبياء، أولي العزم، الشياطين، الجن، خزنة الجنة، خزنة النار، سكان السماوات، سكان الأرض، الحوت في بحره، الطير في وكره، كل أحد الله جل و علا قاهرٌ له ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ۖ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ) ف،عندما يقول المؤمن لا إله إلا الله معناها : أن لا إله يُعبد بحق إلا الله ، و إن عُبد غير الله كثير لكنها لا تُعبَد بحق ، يقول الله جل و علا : ( وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَٰنُ وَلَدًا ۗ سُبْحَانَهُ ۚ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُون َ) وقال جل و علا (قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) .. ( سَيَقُولُونَ لِلَّهِ ۚ قُلْ فَأَنَّىٰ تُسْحَرُونَ ) إلى أن قال جل ذكره : (قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ ۚ قُلْ فَأَنَّىٰ تُسْحَرُونَ * مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَٰهٍ ۚ إِذًا ) الآن عاد إلى نفس القضية لو كان معه إله ( إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَٰهٍ بِمَا خَلَقَ) فيصبح تنازع ( وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ ۚ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ * عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ ) بهذه الحُجة أُبطِل ما تزعمه قريش يوم أن كان أكثرها كفار أن مع الله جل و علا شريك وأن هناك آلهة تُعبَد من دون الله .
 قال الله جل و علا : ( قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَىٰ ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا )
قال العلماء : لحكمةٍ أرادها الله قال : ( إِلَىٰ ذِي الْعَرْش ) لأنه في شأن أهل الدنيا إذا كان هناك عرشٌ مجيدٌ عظيم يطمع فيه من يريد السلطان والمُلك والبُغيَة ، فالله جل وعلا قال : ( ذِي الْعَرْش ) ليُعلَم أنه لا أحد يقدر أن يُنازع الله جل وعلا في مُلكه وعرشه ( لَابْتَغَوْا إِلَىٰ ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا ).
ثمّ لما قَصُر العباد عن عبادة ربهم على الوجه الأكمل نزّه الله جل و علا ذاته العلية بنفسه فقال جل ذكره : (سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يَقُولُونَ ) قال : ( عُلُوًّا ) مع أن المصدر من تعالى تعالياً لكنه جاء بكلمة ( عُلُوًّا ) حتى يُبَيَّن أن العُلو المطلق الحقيقي له جل و علا وحده لا لغيره تبارك الله جل وعلا عما يقول الظالمون علواًكبيراً ، فكل من انتقص قدر الله فهو ظالم قال جل و علا : ( سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا ).
 ثم بيّن أنه وإن وُجد من عاصي بني أدم من لا يعبد الله ولا يعظمه ولا يوحّده فإن الخلق كلهم مُذعنون لربهم قال جل و علا : ( تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ ) من جمادات أو نباتات أو دواب ثم أكّد هذا قال : و "إن" هنا نافية ( وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ ) نكرة في سياق النفي تعني العموم ( وَإِنْ مِنْ شَيْء إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ) وحتى يبين جل وعلا أن هذا التسبيح شيءٌ خفي لا يتنبه إليه كل أحد قال : ( وَلَٰكِنْ لَا تَفْقَهُونَ ) ولم يقل و لكن لا تعلمون ، فرقٌ مابين العلم والفقه فالفقه مزيد نظر بمعنى أن تسبيحهم ليس ظاهرٌ لكل أحد ومع ذلك سمع الصحابة تسبيح الطعام في يد رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع الصحابة تسبيح الطعام في يد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال الله جل وعلا : ( وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَٰكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ۗ إِنَّهُ ) جل ذكره ( كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا )
الآن لمَ جيء بهذين الإسمين العظيمين حليم وغفور في هذا الأمر ؟
إن هؤلاء رغم علمهم فيما يرونه من آيات أن الله جل وعلا لا شريك معه مع ذلك كفروا به و دعوا غيره و أشركوا معه ، فكون الله لم يعاجلهم بالعذاب دل هذا على حلمٍ الله .. دل على حِلمٍ الله وهذا لا يحتاج -والله- أن ينظر في أخبار قريش وغيرها ينظر في نفسه كم مرةً عصى ربه ولم يعاقبه الله ؟! لا يمكن أن يُستثنى منه أحد ، كل بنو آدم خطَّاء فإذا تذكر الإنسان حِلم الله يأتي للإسم الذي بعده الله جل و علا يقول : ( إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا ) ثم جاء بعدها ( غَفُورًا ) والمعنى: ما دام الله جل وعلا لم يُعَجّل عليك العقوبة و لم يبادرك بخطيئتك و ذنبك أن عاقبك فلا أولى لك من أن تسارع بالتوبة لعل الله جل وعلا أن يغفر لك ولهذا قال : ( إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا) . نعود للتسبيح قال أصدق القائلين : (تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ ۚ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ )
و التسبيح ورد في القرآن كثيراً ، وردً بالمضارع و بالماضي و بالأمر و بالمصدر ، و قلّما كلمة في القرآن تأتي على هذه الأحوال الأربعة ، و استُفتِح القرآن بـ ( سَبِحِ ) و بـ ( سَبَّحَ ) و ( يُسَبِحُ ) و بالمصدر ( سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ ) على الأربعةِ أحوال ، والأنبياء إنما بُعِثوا ليُبلِغوا عن الله الدين و قد صح عنه صلى الله عليه و سلم أنه قال : لما حضرت نوحاً الوفاة جمع بنيه فقال : أي بنيّ أوصيكم باثنتين  أنهاكم عن اثنتين ، أوصيكم بلا إله إلا الله فإن السماوات السبع والأرضين السبع لو كْنَّ كحلقةٍ مفرغة لقصمتهن لا إله إلا الله ، وأوصيكم بسبحان الله و بحمده فإنها صلاة كل شي و بها يُرزَقُ الخلق .. فإنها صلاة كل شيء وبها يُرزَقُ الخلق ، وأنهاكم عن الشرك والكِبر .
يعود المرء هنا إلى التسبيح كيف ورد في شرع الله ؟ سُئِل رسول الله صلى الله عليه و سلم : أيُّ الذِّكر أفضل ؟ قال : ما اصطفى الله لملائكته : سبحان الله و بحمده . والبخاري رحمه الله ختم صحيحه بحديث : (كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن سبحان الله و بحمده سبحان الله العظيم) . يلزمك أو يحسُن بك أن تتحلى باثنتين:
الأولى : تُكثِر من التسبيح خاصة في أدبار الصلوات المكتوبة و في أوقات فراغك و إذا أويت إلى فراشك لحديث علي : ألا أدلكما على خيرٍ من خادم ؟ إذا أنتما أويتما إلى فراشكما فسبحا ثلاثاً وثلاثين واحمدا الله ثلاثاً وثلاثين وكبِّرا أربعاً وثلاثين .. هذه مواطن ذُكر فيها التسبيح .
مما ورد فيه التسبيح حال التعجب فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أصحابه بالذئب الذي أقعى على ذَنَبِه وأخذ يخاطب الراعي فلما أخبرهم بهذا قال الصحابة : سبحان الله ذئبٌ يتكلم !؟ فبدأوا بماذا ؟ بدأوا بالتسبيح .. هذه أيها المباركون الحالة الأولى .
أما الحالة الثانية : حسنٌ منك أن تُعظِّم وتوقر وتستحيي من كل عبدٍ رأيته يسبح الله .. حسنٌ منك أن تُعظِّم وتوقر وتستحيي من كل أحدٍ رأيته يسبح الله ، جاء في الحديث أن نبيّا قرصته نملة فأحرق قرية من النمل كلها فعاتبه ربه : أحرقت قرية من الأمم تسبِّح !؟ هلّا كانت نملةً واحدة . موضوع الشاهد منه معلِّم يُقبِل على طالبه ، زوج يُقبِل على زوجته ، مؤدِّب يُقبِل على مؤدّّبه ، رئيس يُقبِل على مرؤسه ، أيُّ أحدٍ أعلا دنيوياً يُقبِل على من هو أدنى منه لا ينبغي أن يجعلك تُحجِم عنه أكثر من أنك رأيته يوماً من الدهر يسبح لله ، فمن رأيته يسبح لله فعظّمه إجلالاً لله.
 نحن نرى أحياناً من عباد الله الصالحين ما نعلم ضعفنا وأننا لا نستطيع أن نبلغ عملهم فعلى الأقل نُجِلُّهم إجلالاً لله
 نرى لله عباداً صالحين نعلم من أنفسنا أننا لا نستطيع أن نعمل عملهم فإذا عجزنا أن نعمل عملهم فلا أقل من أن نُجِلَّهم، نحبهم ، إن كانوا فقراء نتصدق عليهم إجلالاً لله ، وافعل إن شئت ادخل أحد الحرمين مرة فترى بعض الخلق فيها في أسماط بالية ، ولو قُدِّر أنك ترددت على الحرم مرتين ثلاث أربع و حاولت أن تُراقب هذا العبد فوجدته لا يسأل الناس ومنشغلٌ في التسبيح والعبادة وأنت تعلم من نفسك ضعفك وأنك لا تقدر على هذا فعلى الأقل أكرمه إجلالاً أكرمه إجلالاً لله فما لا تقدر أن تطلبه بعملك فلا أقل من أن أن تطلبه بنيتك  فإن للقلوب شأنٌ عظيم عند الله ، والنبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن قلوب المؤمنين أوعية لمحبة الله جل وعلا . متعنا الله وإياكم متاع الصالحين والحمد لله رب العالمين.
____________________________
جزى الله خيرا من قامت بتفريغ الحلقة ونفع بها

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق