السبت، 27 سبتمبر 2014

النعم المعنوية وفوائدها التربوية في سورة النحل

أولاً : الروح :
 أ - قال تعالى : (يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ) النحل/2
 المعنى الإجمالي : الروح سر الحياة - وهي النفس، يذكر ويؤنث والجمع أرواح) (١)، وقد وردت الروح في القرآن بعدة معان منها:
ما أطلق على القرآن قال تعالى : (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا) الشورى / 52.
وأطلقت على الروح التي يعيش بها الإنسان، قال تعالى : (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) الإسراء / 85
وأطلقت على عيسى بن مريم، قال تعالى : (إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ) النساء / 171 النحل/102.
قال المفسرون : المراد بالروح الواردة في هذه الآية : كلام الله، وقال آخرون منهم مجاهد : أن المراد بالروح؛ أي أرواح الخلق أو أن المراد بالروح هنا هو النبوة (٢)، ولكن أبو عبيدة فسر الروح بجبريل عليه السلام (٣)، وورد تأويل الروح أنها بمعنى الهداية لأنها تحيا بها القلوب كما تحيى الروح الأبدان. فما هو المعنى المقصود من الآية ( قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) حسب الأقوال السابقة؟
 أرى أن جميع الأقوال صحيحة فالقرآن والخلق والنبوة كلها من أمر الله. ولأن القرآن عبّر عنها في الآيات المتقدمة آنفاً دون تقييد، بخلاف ما سيرد في فرع ب.
 ب - قال تعالى : (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَىٰ لِلْمُسْلِمِينَ) النحل / 102.
 المعنى الإجمالي : أجمع المفسرون على أن المراد بالروح في هذه الآية هو : جبريل عليه السلام لأنه أطلق روح القدس على جبريل عليه السلام من حيث إنّه ينزل بالقدس من الله تعالى أي يطهر النفوس بالقرآن الكريم والحكمة والفيض الإلهي (٤).
 وأما تسميته بالروح إما لأنه خُصّ بهذا الاسم أو لأنه بسبب ما يكلفه الله به من الهداية والرسالات ليبلغها للرسل الكرام (٥).
ولكن التقييد بلفظ القدس خصص معنى الروح بجبريل عليه السلام. بخلاف معنى الروح في فرع أ، المتقدم إذ ذكرت عامة من غير قيد والله أعلم.
 الفوائد التربوية من ذكر الروح : 
أيّاً كان معنى الروح فكلها تلتقى بمعنى الحياة، فالنفس الذى يعيش به الإنسان من أجل الحياة، بحاجة إلى الإيمان لتستقيم الحياة فلا قيمة لعيش الإنسان بجسده إذا كان قلبه ميتا، قال تعالى : (أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ ۚ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ ۖ بَلْ هُمْ أَضَلُّ) الفرقان / 44، وقال تعالى : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ) محمد / 12.
 والحياة الحقيقية لا تكون إلا بالهداية، قال تعالى : (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) الأنعام / 122.

 ثانياً : الوحي :
 أ - الوحي لغة : الإشارة، والكتابة، والرسالة، والإلهام، والكلام الخفى، وكل ما ألقيته إلى غيرك (٦).
 والوحي بمعناه اللغوى ورد في قولـه تعالى : (وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ) النحل / 68. لا نستطيع في هذا البحث تقصي حياة النحل وما يقوم به ولكن من يطّلع على بنائها لبيوتها، وتقسيمها العمل، ودور كل نحلة في الخلية بما فيها الملكة وتأدية الأعمال بإتقان لا يملك إلا أن يسبّح ويخّر ساجداً لعظمة الله. فسبحان الذى أعطى كل شىء خَلْقه ثم هدى، فكل مادة من المواد التي يفرزها النحل سواء العسل، أم غيره، لها مميزاتها، وفوائدها العلاجية الخاصة الشافية من كثير من الأمراض التي ذكرها العلماء المختصون في كتبهم، وهذه النّعم جميعا من صنع الله ليس للبشرية فيها تدخل (٧).
 وفي وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم للرجل الذى سأل عن دواء لأخيه المريض، قال : " إن أخى استطلق بطنه فقال صلى الله عليه وسلم : اسقه عسلا فسقاه ثم جاء فقال : يا رسول الله قد سقيته عسلا فلم يزده إلا استطلاقا فقال ثلاث مرات وفي الرابعة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : صدق الله وكذب بطن أخيك اسقه عسلا، فسقاه، فبرأ " (٨) دلالة على صدق قول الله سبحانه (فيه شفاء للناس).
 ب - الوحي اصطلاحا : أنِِ يُعلِم الله تعالى من اصطفاه من عباده كل ما أراد إطلاعه عليه من ألوان الهداية والعلم بطريقة سرية خفية غير معتادة للبشر(٩).
 أ - قال تعالى : (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُّوحِي إِلَيْهِمْ ۚ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) النحل/43.
المعنى الاجمالي : الآية تثبت بشرية الرسل عليهم السلام، وفي ذلك رد على استغراب المشركين الذين أرادوا أن يكون الرسل من الملائكة فرُوى عن ابن عباس رضى الله عنهما أنه قال : لما بعث الله محمداً رسولاً أنكرت العرب ذلك وقالوا: الله أعظم من أن يكون رسولـه بشراً مثل محمد, فأنزل الله هذه الآية (١٠).
 ب - قال تعالى : (فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ*وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) النحل /35 - 36. جاءت الأية لتأييد النبى صلى الله عليه وسلم والدفاع عن دعوته وتسليته عما يلقاه وحثه على الصبر والرد على ادّعاءات المشركين. ج - قال تعالى : (ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ۖ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) النحل/123. إنه إبراهيم عليه السلام الذى وصفه الله بأنه أمة حنيفا قانتا شاكرا لأنعمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم، وأنه لـه في الدنيا حسنة، وفي الآخرة لمن الصالحين، لذا أمر الله رسولـه أن ينهج نهجه ويسلك دربه الذي ارتضاه له.

 الفوائد التربوية من ذكر الوحي :
 1 - أوحى الله لرسولـه صلى الله عليه وسلم باتباع ملة إبراهيم عليه السلام. والأمر بالاتباع في الأصول، أما الفروع فإنها مختلفة، قال تعالى (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا) المائدة / 48؛ لاختلاف الظروف والأحوال، وتطور الزمان، ولكن المراد أن الرسالات جميعا تلتقى على منهاج واحد وكلاهما صدر من مشكاة واحدة، وأن أصول التشريع واحدة. ولو ألزم الله رسولـه بالاتباع في الفروع لمن سبقه من الرسل لكان في هذا مشقة بالغة يصعب تطبيقها وهذه رحمة من الله لعبادة تستوجب الشكر.
2 - وفي أمر الله لرسولـه باتباع ملة إبراهيم نعمة عظيمة على رسولـه صلى الله عليه وسلم وعلى أمته من بعده فإبراهيم عليه السلام خليل الرحمن، والخليل يعطي خليلـه أحسن ما عنده وأطيبه، فملة إبراهيم خير الملل وتكليف رسول الله صلى الله عليه وسلم باتباعها هداية إلى تلك الخيرية.
 3 - وفيه زيادة الثقة لدى المؤمن وزيادة يقينه بربه واعتزازه بدينه، هذا الدين الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ففي الأمر باتباع ملة إبراهيم إشاعة للأنس في نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي نفس أمته مما يشجع المسلم للدفاع عن عقيدته، والتضحية لأجلها, وفي ذلك تطهير لنفس الإنسان من الكسل والجبن والنفاق، ومواصلة الطريق الذى بدأه الرسل عليهم السلام قال تعالى : (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ ۚ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) الممتحنة / 6. وإذا تربت الأجيال على ذلك واقتدت بالرسل عليهم السلام واهتدوا بهديهم فإن المستقبل الأمثل لهذا الدين بإذن الله.
 4 - أشارت الآيات إلى أن موقف الناس من الهداية، يقسم إلى قسمين : فمنهم من استجاب فاهتدى، ومنهم من ضل فغوى.
 والهداية أنواع : هداية الفطرة، وهداية الدعوة، وهداية التوفيق والإلهام، وهداية الجنة (١١).
 وهذه الهدايات مترتبة على بعضها : الفطرة والعقل تقود للهداية، والهداية تقود للتوفيق ومن ثم يكون دخول الجنة (١٢).
 والدعاة إلى الله عليهم الاستفادة من هذه الأنواع في تربيتهم للمدعوين للاسلام والتركيز على جوانب الفطرة ومحاولة إزالة ما يمنعها وما ران عليها من المعاصى والآثام لتعود إلى ربها لأن الإنسان لن يصل إلى التوفيق والهداية إلا بتكثيف الجهود بالدعوة واستغلال وسائل الإعلام القديمة والحديثة والرد على الشبهات والأباطيل.
-------------------------
١- ابن منظور، لسان العرب، م2 / ص462.
٢- الطبري، جامع البيان عن تأويل القرآن، م7 / ص558.
٣- الماوردي، علي بن محمد، النكت والعيون، ج3 / ص 178.
٤- البغوي، الحسين بن مسعود، معالم التنزيل في التفسير، ج3 / ص69.
٥- ابن عطية، المحرر الوجيز، ج3 / ص421.
٦- ابن منظور, لسان العرب، م15 /ص379.
٧- المصري، مملكة النحل، ص301.
٨- البخاري، صحيح البخاري، كتاب الطب، باب 4، حديث رقم (5684).
٩- الزرقاني، مناهل العرفان، ج1 / ص51.
١٠- الطبري، جامع البيان في تأويل آي القرآن، م7 / ص587.
١١- الفيروزآبادي، البصائر، ج5 / ص 313 - 314.
١٢- الراغب، المفردات، ص 516.
 / الفوائد من سورة النحل - د.محمد عيد الكري

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق