الأربعاء، 10 يوليو 2013

الوقفــ الأولى ــة من جـ14 / مع قوله تعالى (وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ)


بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شعارُ ودثارُ ولواءُ أهل التقوى ، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسانٍ إلى يوم الدين وبعد هذه أولى الوقفات الثلاث مع الجزء الرابع عشر من كِتاب الله -جل وعلا- وقد مضت طريقتنا في التدريس أننا نقف عند كل جزء ثلاث وقفات ونحرص قدر الإمكان أن تكون الوقفات متنوعة ونُعَرج في الوقفات كما جرت العادة على فوائد عِدَّة في شتَّى فنون العلم حتى يستفيد الكُلُ من الخِطاب .
والوقفة الأولى مع قول الله -جل وعلا- (وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ) أمَّا خلق الإنسان فقد مر معنا في اللقاء الأول عند الإخبار عن خلق آدم فالمقصود بالإنسان هنا لمَّا قال الله (مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ) عُرف أنه آدم لأن سائر الخلق إنَّما خُلقوا من نُطفة كما سيأتي بيانه إن شاء الله في سورة المؤمنون . والحمأ هو: الطين الأسود المُتغير والأصل أن آدم عليه السلام كما مر معنا خُلق من تراب ثم خُلط ذلك التُراب بالماء فأصبح طيناً ثم لبث مدة حتى أضحى حمأً ثم أضحى صلصالاً وهذا فَرَغْنَا من الحديث عنه .
لكن نبدأ بقول الله -جل وعلا- (وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ) المقصود بالجآنّ هنا : أبو الجآنّ ، وكما أن آدم -عليه السلام- هو أبو البشر فإن الجآنّ المُرآد به على الصحيح هو إبليس أبو الجن. إذا هناك ثلاث عوالم تشترك جميعاً في أن لها عقل هي: الملائكة وبنو آدم والجنّ ، الملائكة والإنس -الذين هم بنو آدم- والجن وهؤلاء الثلاثة تجمعهم أمور مُتَفرقة فالذي يجمعهم جميعاً الثلاثة أنها جميعاً تَعْقِل ، والذي يُفرق بينها كالتالي: الجن والإنس يتفقان في أنهما أهل تكليف (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ) أما الملائكة فليسوا أهل تكليف إنما (لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) واختُلف أيهما أفضل الملائكة أم صالح البشر والأدلة ليست ظاهرة جلية في الباب أي كل أحد من العُلماء يقول بأحد القولين يجد ما يُرجّح قوله هذا من حيث العموم لا من حيث الأفراد بدليل حديث الشفاعة فيه أن الله -جل وعلا- يقول : (شفعت الملائكة -بدأ بهم- وشفع النبيون وشفع المؤمنون) فَقَدَّم الملائكة ويدل على فضلهم قول الله تبارك وتعالى : (لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْدًا لِّلَّهِ) ثم قال (وَلاَ الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ) وهذا ظاهِرُهُ أن الملائكة أفضل من المسيح ، ظاهِرُهُ (لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْدًا لِّلَّهِ وَلاَ الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ) ظاهِرُهُ أن الملائكة المقربين أفضل من المسيح لكن قلت أنا لا أقطع إنما أنا لا يُهمني ما هو الرأي الأخير المهم في قضية فهم القرآن كيف تفهم ، قضية إيجاد عقلية تتعامل مع القرآن ولا تعجل هذه ناحية.
 قلنا إن الجنّ والإنس مكلفين والملائكة غير مُكلفين ، بالنسبة لنا الجنّ والملائكة محجوبون عنا لا نراهم فاتفقت الجن والملائكة في هذا الباب ولهذا جاء في القرآن على أحد قَوْلَيِّ المفسرين أن الملائكة تُسمى جِنَّة في قوله -جل وعلا- (وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ) قال الله -جل وعلا- (وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا) الجِنَّة هنا بمعنى الملائكة لأن العرب لم تقل إن الجنّ بنات الله ، قالوا إن الملائكة بنات الله ، قال الله تعالى (وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا) هي نفسها تُفَسِرُها (وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ) والمقصود من هذا إن كلاهما محجوبٌ عنَّا رؤيا.
 بعض العلماء يقول الفرق بين الملائكة والجِن -الآن أُبعد بنو آدم- أن الملائكة لا تحكمهم الصورة والجنّ تحكمهم الصورة وهذا قد لا يتأتى تطبيقه لكنه من حيث النظر والمعنى أنه لو قُدِر أن أحد الجنّ تمثل وتصوّر في دابّة من الدواب ثم عرض لأحد من بني آدم يؤذيه فذهب هذا فقتله فقالوا إن الصورة تحكم الجني فيموت ومن أدلة هذا ما رواه مالك في الموطأ من حديث أبي سعيد الخُدري وجملته -فحوى الحديث-: أن رجلا أتى لأبي سعيد فوجده يصلي فأخذ يتنظر فرأى حيَّة في عراجين البيت فَهَمَّ لِيقتلها فأشار إليه أبو سعيد وهو في الصلاة أن اثبت مكانك -يعني لا تفعل شيئاً- فتركها فلمَّا فرغ أبو سعيد من صلاته أخذ بيده وأخرجه من الدار ثم أشار إلى دارٍ أُخرى قال أترى تلك الدار قال نعم قال إنها لرجلٍ منا معشر الأنصار كان شاباً حديث عهدٍ بِعُرس -أي لتوه متزوج يوم الأحزاب -فكان يأتي النبي -صلى الله عليه وسلم- في خندقه وإذا جاء المساءُ يستأذن لأنه حديث عهدٍ بِعُرس فيأذن له ، فذات يومٍ قال له -صلى الله عليه وسلم- وقد أراد أن يستأذن خُذ عليك سلاحك فإني أخاف عليك بني قُرَيضة ، فأخذ سلاحه وعاد إلى بيته فلمَّا عاد إلى بيته وجد عُرْسه -أي زوجه- خارج الدار فأدركته الغيرة فأخرج سيفه أو رمحه فأشارت إليه لا تعجل لكن ادخل ، فلمَّا دخل وجد حيَّة عظيمة مُلتوية على فِراشه . قال أبو سعيد فضربها فلا يُدرى أيهما أسبق موتاً الفتى أم الحيَّة ، فلمَّا أُخبر -صلى الله عليه وسلم- قال إن في المدينة إخواناً لكم من الجن فإذا رأيتم مثل هذا فاستأذنوه ثلاثا. موضوع الشاهد منه: أن الحيَّة لمَّا كانت على هيئة جِنّ حُكِمت فلمَّا قُتلت ضُربت ماتت هذا واحد. قالوا هذا لا يتأتى في الملائكة وكونه لا يتأتى في الملائكة هذا لا يحتاج إلى دليل ، لا يمكن أن يقع لكن نحن نتكلم عن الصورة .
 بما أن الجن والإنس هُما المُكلَّفان فقد جاء القرآن بالآية العظيمة (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ) ونحن كل اللقاءات هذه مع القرآن فنصل إلى أن الخِطاب الإلهي للجن والإنس يأتي أحياناً بتقديم الجن وأحياناً يأتي بتقديم الإنس ولابد أن يكون هناكَ غَرَضٌ ما عند تقديم الجن أو عند تقديم الإنس فقال الله -جل وعلا- (يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ فَانفُذُوا لا تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ) فالله هنا يتكلم عن قوة ولا ريب أن الجن أقوى من الإنس فقُدِّموا على الإنس ، ونظيره أن الله قال عن جُندِ سليمان (وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ) فَقَدَّم الأقوى وهم الجنّ ، في حين أن الكَلِم والخطاب والبيان صِبغتٌ في الإنس أكثر ولهذا قال الله -جل وعلا- لمَّا تكلم عن التحدي في كلامه وكتابه قال (قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا) فَقَدَّم الإنس على الجن لأن الكلام كان يتكلم عن مسألة البيان والفصاحة وهي في الإنس أكبر، لمَّا ذكر الله -جل وعلا- الخلقَ كان خلق الجآنّ -كما هو نص الآية التي نشرحها- مقدماً قدَّمهم (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ) فقَدَّم الجن لأنهم أسبق خلقاً .
قال رَبُنا (وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ) "من قبل" مقطوعة الإضافة عند النحوين مبنية على الضم لانقطاع الإضافة ، مر معنا أن "قبل وبعد" إذا أُضِيفَتا تخْرُج من كونها أسماء مبنية إلى كونها أسماء مُعربة تظهر عليها العلامة (مِن قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ) فـ"قبل" عليها كسر لكنها إذا انقطعت عن الإضافة تُبنى على الضم فهُنا قال الله -جل وعلا- (وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ) انقطعت من قبل ماذا؟ والمعنى من قبل خلق الإنس (وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ).
 يبقى مسألة في الفوارق بين الملائكة والجن ، ويتفق هذا الجن مع الإنس أن الملائكة لا يتناسلون ولا يوصفون لا بذكورية ولا بإنوثية فلا يُقال لهم ذُكراناً ولا يُقال لهم إناثاً في حين أن الجن يتناكحون ويتناسلون بدليل قول الله -تبارك وتعالى- (أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِي) فجعل لإبليس ذُرية ، فالفرق بين هذا وهذا أن هناك تناسُل بين الجآن ولا يوجد تناسُل بين الملائكة .
هنا أهل التاريخ ، أهل الأدب يقولون -من باب كيف أن الإنسان أحياناً يُجيبُ فُجْأةً- قالوا : إن الشعبي وهو أحد الأئمة الكبار سأله رجُلٌ كأنه يُريد أن يسخر منه لكن الشعبي كان أذكى، قال : يا شعبي ما اسم زوجة إبليس؟ كأن الشعبي كان يشرح أن الجآن لهم ذُرية فقال : ذاك نِكاحٌ لم أشهده . موضوع الشاهد منه أن الإنسان أحياناً في غَمْرة ما يُسْأل في غَمْرة ما يتكلم قد يُبتلى بمن يُريد شيئاً غير ظاهر كلامه فيكون من الحِكمة والعقل أن يحفظ الإنسان لنفسه حقه في مثل هذه الأحوال ، الذي يعنينا هنا قول الله -جل وعلا- (وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ) وقد جاء في الخبر الصحيح أنه -صلى الله عليه وسلم- قال : (خُلقت الملائكة من نور وخُلق الجآنّ من نار السَمُوم ، وخُلق آدم من ماء ذُكِر لكم أو ماء وُصِف لكم) فهذا بيانٌ لهؤلاء العُقلاء كيف خَلقهم الله تبارك  وتعالى.
 وهؤلاء الجن حبو في القرآن مرتين بإجابتين بليغتين أو بِحديثين بلِيغَين:
 الأولى منهما: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لَما قرأ عليهم سورة الرحمن قالوا لمَّا كان يقرأ (فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) كانوا يقولون: "لا نُكذب بشيء من آلاء ربنا" وهؤلاء مؤمنوا الجن.
 الأمر الثاني: أنهم قالوا في أدبهم مع الله (وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الأَرْضِ) فجعلوها بما يُسميه النُحاه بما لم يُسمَّ فاعله، ما ذكروا الفاعل قالوا (أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الأَرْضِ) لمَّا ذكروا الخير قالوا (أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا) لمَّا ذكروا الخير نسبوه إلى الله قالوا (أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا) هذا ما تحرر حول قول الله (وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِالسَّمُومِ) ونأخذُ إن شاء الله وقفة أُخرى مع آية أُخرى من هذا الجُزء المُبارك .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق