الأحد، 7 يوليو 2013

الوقفــ الثالثة ــة من جـ 13 / تتمة خبر نبي الله يوسف عليه السلام



هذه الوقفة الثالثة مع الجزء الثالث عشر وجُله في سورة يوسف .
انتهينا إلى أنه كُشف اللثام عن شخصيته وانتهت الطرائق والمراحل التي مر بها يوسف مع إخوته (قَالُواْ تَاللَّهِ) وهذا قسم والقسم بالله تعظيم له هنا قالوا (قَالُواْ تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ) هذا اعتراف منهم قابله يوسف بقوله (لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) وهذه ظاهرة المعنى.
 النفوس الكِبار إذا قَدُرت عفت ولهذا جاء في الآثار إن الملائكة وهي من أعلم الخلق بربها ثماني صفوف تحمل العرش أربعة يقولون : اللهم لك الحمد على حِلمك بعد عِلمك والآخرون يقولون : اللهم لك الحمد على عفوك بعد قُدرتك . وما لله -جل وعلا- من صفات جلال وكمال بعضها يُرَغَّب المؤمن أن يفعلها ، وبعضها يُحَرَّم أن يُقاربها فالله رحيم وَيُحِبُ من عباده الرُحماء والله جليلٌ مُتكبر لكن لآيُحب من عباده المُتكبرين هنا قال (لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) وخلع قميصه (اذْهَبُواْ بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا) وهذا لا يكون إلا بوحي لأنه قَطع قال (فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا) "يأتِ" هُنا جواب الأمر ولهذا جاءت من دون ياء مجزومة بحذف حرف العلة  (يَأْتِ بَصِيرًا) فكأنه قد علم أن أباه ابيضت عيناه (وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ) .
قال أصدق القائلين (وَلَمَّا) أي : حين (فَصَلَتِ الْعِيرُ) أي : خرجت من أرض مصر لم تصل إلى أرض الشام لكنها خرجت عن أرض مصر قال أبوهم (قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ) يقوله لمن؟! لمن بقي من أبنائه عنده (لَوْلاَ أَن تُفَنِّدُونِ) تصفوني بما ليس فيّ (قَالُواْ تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ)  قال أصدق القائلين (فَلَمَّا أَن جَاءَ الْبَشِيرُ) يُقال إن الأخ الأكبر هو الذي حمل القميص وقال : كما أحزنته بهِ أُفرحه به فأتى به . قال الله -جل وعلا- (فَلَمَّا أَن جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ)  أي القميص (عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا) هنا عاد لِمَعْقِد القِصة قال (أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ). العلمُ عن الله يكون: بالوحي وهذا أعظمها ولا يقبل هذا الخطأ ، ويكون بالرؤيا وهذا يحتمل الخطأ لأنه قد يكون للرؤيا معنى غير الذي رأيت ، ويكون أحياناً نور يقذفه الله -جل وعلا- في قلب بعض عباده لكنه كذلك لا يُجزم به ولا يُعتمد عليه في أحكامٍ شرعية قال (إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ* قَالُواْ يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ*قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّيَ)  أَخَّرَها ، بعض العلماء يقول أنه أَخَّرَها يترقب ساعة السَحَرْ حتى يكون أدعى للإجابة ، وهذا عندي بعيد، لِمَ بعيد؟ لأنه لا يمنع أن يقول لهم في وقت الحاجة أستغفر الله لكم وفي السَحَر يستغفر الله لهم بالإمكان أن يدعو الله لهم وهم يطلبونه ثم إذا جاء السَحَر يدعو مرة أُخرى ويدعو مرة أُخرى لا يوجد ما يمنع ، إذاً لماذا قال (سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّيَ)  ؟!
أراد أن يوأدبهم ولا يُفرِحهم بما صنعوا وحتى يبقى أثر خطئهم في نفوسهم أنه واعظٌ وزاجِرٌ لهم من أن يقع منهم شي فهو سيعفو بدليل قوله (سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ) لكنه لم يعفُ في الحال حتى يُبَيِّن لهم جلال المُصاب ويوسف -عليه السلام- غفر لهم مباشرة لأنه صاحب القضية لكن الإساءة للأخ ليست كالإساءة للوالد ، فيوسف أخوهم والحسد بين الأقران بين الإخوة وارد لكن القضية كيف أنهم أدْمَو قلب أبيهم بصنيعهم بأخيهم ولهذا قال (سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّيَ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) انتقلوا من أرض الشام إلى أرض مصر دخلوا على نبي الله (فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ) مر معنا أن تحتمل أمه وأبوه وهذا ظاهر القرآن ويحتمل أن أمه ماتت فمن قال إن أمه ماتت في ولادة بنيامين احتج بأن الله لم يذكر خبر الأم في القصة كلها ولاريب أنه لو كانت أمه حية -هذا قولهم- لكان حَزَنُها على ابنها ظاهر والقرآن أغفلها لم يذكرها وعلى العموم هذا غيب لانملك الجزم فيه.
(فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُواْ مِصْرَ إِن شَاء اللَّهُ آمِنِينَ*وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ) مالعرش ؟! أي سرير له قوائم يُوصف بحسب استعماله : فإن وضعنا عليه جنازة فهو نعش ، وإن نمنا عليه فهو سرير ، وإن جلس عليه مَلِك فهو عرش ، وإن نمنا عليه فهو سرير وإن وضعنا عليه جنازة فهو محمول له قوائم فهو نعش (وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدًا) الجميع لأن "خروا" واو جماعة تعود على أقرب مذكور على أبويه وإخوانه ، هذا السجود مهم أن تفقه أنه سجود تحية لا سجود عبادة ، محال العبادة لا تكون إلا لله (وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ) هذه الرؤيا هي التي رَحِمَ الله بها يعقوب منذ أن جاء يوسف وهو إبن سبع سنين وقال لأبيه (إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ) فهِم يعقوب أن هذا الابن سيبلغ مجداً عظيماً وموئلاً كريماً وأنه لن يموت صغيراً هذا هو النور الذي كان من خلاله ينتظر يعقوب الفرج وهذا من رحمة الله بعباده ولهذا قال الخضر لموسى (وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا) الآن لو حُكم على رَجل بالسجن كيف تريد أن تقتله حقاً من غير أن يموت لا تقل له كم حكمنا عليك سيموت لأنه يريد أن يعرف لكن لو أخبرته يتكيف مع السنين التي أخبرته بها فالأمر المُعلّق دائماً يُحدث نزاعاً في النفس فهذه الرؤيا كل ما اشتد الكرب يتذكر يعقوب -برحمة الله- تلك الرؤيا وأن يوسف بخير وعافية لكن الواقع آنذاك لا يشهد بذلك فتختصم في قلب يعقوب ما تختصم من هذا وذاك لبشريته فأصابه ما أصابه .
(هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي) مادام قد عفى وقال (لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ) ليس من أخلاق الرجال أن يُذكّرهم بشيء قد عفى عنه فلمَّا قد عفى ومضى ليس حسناً أن يقول من بعد ما كاد لي إخوتي ، من بعد أن آذوني إخوتي أنت الآن عفوت خلاص فقال (مِن بَعْدِ أَن نَّزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي) فلم يجعلها في نفسه ولم يجعلها في إخوته وأسندها للشيطان .
(مِن بَعْدِ أَن نَّزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاء) هذه تُكتب بماء العينين لا ينْفك قَدَر الله من لُطفه لكن من يفقه هذا اللطف؟ سيكون في أي قَدَرٍ يأتيك شيء من اللطف يفقَهُهُ هذا ويغيب عنه هذا وإذا أراد الله بِعبدٍ رحمة أنبأه كيف يعرف لُطف الله في قَدَرِه فتسكن نفسه ويطمئن قلبه ويزدلف بالدعاء إلى ربه قال هذا الصِدِّيقْ المُبارك (إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاء إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) .
 ثم قال (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) هل تمنى الموت ؟! بعيد ، لكنه خشي بعد هذا العمر المتقلب في رحمة الله أن لا يُرزق خاتمته فتوسل إلى الله بالخاتمة الحسنة قال (تَوَفَّنِي) أي إذا توفيتني (تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) ما أخبرتكم به من القرآن ، والقرآن جاء به محمد، ومحمد لا يعلم الغيب فقال الله لنبيه (ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ) فسبحان من وسِعَ علمه كل شيء والحمد لله ربِ العالمين . ‏

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق