الاثنين، 13 مايو 2013

الفلاح والخيبة -٢-


 الحمد لله على فضله والصلاة والسلام على أشرف رسله وخير خلقه وبعد :
 فهذا الجزء الثاني من حديثنا عن مفردتي الفلاح و الخيبة ، وكنا قد تكلمنا في اللقاء الذي سلف أنهما مفردتان متقابلتان ، وتحدثنا جملة عن الفلاح وقلنا أننا سنختار آيات من كتاب الله ذُكر فيهن الفلاح وذُكرت فيهن الخيبة مُترجمٌ عنها بالفعل "خابَ" ثم نشرع في تفسيرها .
/ قال الله عز و جل في سورة النور : (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) فهذا فعل أمر والمراد منه الوجوب ، والتوبة وظيفة العمر ، وكل بني آدم خطّاء وخير الخطائين التوابون ، وبيان ذلك على النحو الآتي : الاعتذار له ثلاثة أحوال :
- أن يقول المعتذر لم أفعل .
الحالة الثانية : أن يقول المعتذر فعلت من أجل كذا وكذا ، وهو ما يقول عنه العامة اليوم يبرر الخطأ .
هذان حالان ، وهذان الحالان لا علاقة لهما بالتوبة ، لكنهما مندرجان في مسائل الاعتذار جملة ، والتوبة نوع من الإعتذار .
تبقى الحال الثالثة ولا رابع لها وهو : أن يقول : فعلتُ وأخطأتُ وأسأتُ ، أي يعترف بالذنب . ثم يذكر ثلاثة معانٍ جليلة ، يقول بعد ذلك : أقلعت أي : تركت الذنب ، وندمت أي : على ما قد كان ، وعزمت أي أن لا أفعل في مستقبل أيامي .
 فإذا وقع من الإنسان أنه ندم على ما قد كان ، وعزم أن لا يعود ، وفي الوقت نفسه ترك الذنب ، ترك الخطيئة فهذه ما يدل -في غالب حاله- إن صدقت نيته على أن توبته حسنة ، نصوحٌ ، مقبولة عند الله -جل وعلا- ، برحمة الله -جل وعلا- وفضله ، قال أصدق القائلين : (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا) وقوله (جَمِيعًا) يدل على أن التوبة لا يُستثنى منها أحدٌ البتة ، ولا يقولن أحد : لي و لي من الصالحات ، فالإنسان كلما كثرت إنابته وتوبته واستغفاره إلى ربه دل ذلك على خوفه ، على وجله ، على حياءه من خالقه وسيده ومولاه -تبارك اسمه وجل ثناؤه- ، وهذا هو الذي ينبغي أن يكون شعار المؤمن في سره وعلانيته ، و في ليله ونهاره .
/ الآية الثانية: لكن ليس فيها ذكر الفلاح ، ذكر الفعل "خاب" ، وقد بيّنا أن الخيبة مقابلة للفلاح ، قال أصدق القائلين : (وَاسْتَفْتَحُواْ وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ) .
(وَاسْتَفْتَحُواْ طلبوا النصر ، أو دعوا أن الله -جل وعلا- أن يفصل بينهم ، ويسمى هذا في اللغة طلب الفصل ، والآية نزلت في بعض كفار قريش على الصحيح ، قال -عز وجل -عنهم : (وَاسْتَفْتَحُواْ لكن أهل التفسير يقولون إن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب وإن كانت القاعدة ليست على إطلاقها ، لكنها تجري في كثير من الأمور ، قال رب العزة هنا : (وَاسْتَفْتَحُواْ) ثم عقّب بقوله جل ذكره : (وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ) معنى خاب : خسر ولم يظفر ببغيته ، ولم ينل مطلوبه ولن ينال مطلوبه ، فكل جبار عنيد رب العزة يقول : محال أن ينال الجبار العنيد مقصوده ومطلوبه ولو امتدت به الأيام كما هو مشاهد في بعض أحوال طغاة أهل هذا الزمان ، لكن المراد بالعاقبة ، بالخاتمة ، بالمئآل ، قال أصدق القائلين : (وَاسْتَفْتَحُواْ وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ) "كل" من ألفاظ العموم ، بقينا في الإسم (جبار) ، ما معنى جبار ؟ يأتي في اللغة على معانٍ ، لكن المعنى المراد هنا : الجبار من يجبُر نقيصته بالتعالي على غيره ، فلو أن أحدا ممن تعول كُسر منه عظم فأنت تذهب به إلى من يجبُر ذلكم الكسر حتى يلتئم ، حتى يعوض ذلكم الكسر ، فهؤلاء يشعرون بالنقيصة ، فلما شعروا بالنقيصة عمدوا إلى التعالي على الحق ، على الناس وأن يطلبوا ما ليس لهم حتى يجبروا النقص الذي يشعرون به في أنفسهم ، قال الله -عز وجل- : (وَاسْتَفْتَحُواْ وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ) . وقال بعض أهل العلم : أن الجبار من لم يرَ لأحدٍ حقا عليه ، وهذا ليس ذلك ببعيد . أما كلمة "عنيد" فإنها مُستّلة ، مأخوذة من العُنود -بالضم- والعُنود في اللغة: الميل عن الطريق ، والطرق أيها المبارك تنقسم إلى قسمين :
 إما طرق محسوسة ، أو طرق معنوية  -أحكام وأوامر ونواهي- هذه معنوية ، وإما طرق محسوسة يطرقها الناس على أقدامهم ، على دوابهم فهذه طرق محسوسة ، فإذا كان الإنسان يميل ، يحيد عن الطرق المحسوسة هذا في اللغة يسمى العَنود -بالفتح- ، ذكرا كان أو أنثى ، وأما إذا كان ميله عن الطرق المعنوية فهذا يسمى العنيد وهو المراد في الآية  (وَاسْتَفْتَحُواْ وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ) أي مائلٍ بعيدٍ عن طريق الحق ، ومعلوم أنه لا كتاب في طياته الحق والنور مثل كتاب الله ، وإن كانت الكتب السماوية من قبل مثل التوراة والإنجيل والزبور فيها الكمال والطُّهر ، لكن الله -جل وعلا- جعل هذا الكتاب الذي أنزله على قلب نبيّه -صلى الله عليه وسلم- مهيمنا على الكتب كلها .
 قال ربنا هنا : (وَاسْتَفْتَحُواْ وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ) وقد دل القرآن على أن الإنسان ينبغي أن ينأى بنفسه أن يكون جبارا ، لأن الله -جل وعلا- ذكر صفات ، إما ذمها وإما مدحها ، إما ذكرها وصفا لمن أبغضهم ، وإما ذكرها وصفا لمن أثنى عليهم ، فإذا ذكر الله الوصف لمن أثنى عليه تعلقنا بتلك الصفات ، وإذا ذكر الله ذلك وصفا لمن أبغضهم نأينا بأنفسنا عن تلكم الصفات ، قال الله -عز وجل- عن ابني الخالة -يحيى بن زكريا وعيسى بن مريم- في سورة مريم في آيات متتابعات ليس بينهن إلا قليل من الآيات ، قال عن يحيى : (وَلَمْ يَكُن جَبَّارًا عَصِيًّا) وقال بعدها عن عيسى : (وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا) فنفى الجبروت ، نفى التجبر والتعالى عن الناس ، نفاه عن يحيى و نفاه عن عيسى وهم كرام خلقه وخيار رسله ، لكن بعض أهل العلم يقول : أن هناك كنزا دفينا في الآية وهو : أنه ورد أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال : (ما من أحد إلا وعصى أو همّ بمعصية إلا يحيى بن زكريا) . فالمشهور -والعلم عند الله- أن هذ العبد الصالح لم يعصِ الله قط ، و لهذا قال الله هنا عنه : (يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا * وَحَنَانًا مِّن لَّدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُن جَبَّارًا عَصِيًّا) أنا قلت في الأول ولم يجعلني -سْبقُ لسان- ، فالمقصود نفى الله المعصية عن يحيى . لما ذكر عيسى بن مريم لم ينفِ المعصية وإنما نفى الشقاء فقال الله -جل وعلا- عنه : (وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا) وليس في ذلك أن عيسى عليه السلام كان عاصيا محال ، هذا نبي له مقام رفيع لكن المراد قد يقع من عيسى خلاف الأولى مما هو مناسب لحال الأنبياء ، لكن يحيى ظاهر أقوال أهل العلم ، ظاهر ما بأيدينا من الآثار أن الله حفظه من ذلك كله لحكمة أرادها إلا أنك ينبغي أن تعلم أن يحيى لم يُعمّر ، قُتل وهو شاب والمراد بيان أن هذه الصفات نزّه الله -جل وعلا- عنها خيارا من الخلق ، قال ربنا هنا : (وَاسْتَفْتَحُواْ وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ) .
/ من الآيات التي ورد فيها ذكر الفعل "خاب" ذكرها الله -جل وعلا- في سورة (طه) لما ذكر ربنا نبأ موسى وهارون مع فرعون وقومه ومع السحرة ، فالسحرة جاؤا بالعصي ، وموسى -عليه السلام- جاء بالعصا ، وحاول موسى -عليه السلام- أن يبين لفرعون أن هذه العصا إنما تنقلب حية لأن الله أمرها ، لا أن هناك سحرٌ خفي ولا شيء مخبأ ، لكن ذلكم اللعين جعل هذا الكرامة التي من الله التي آتاها الله نبيّه جعلها وما يقع من السحرة شيئا واحدا ، فلما علم موسى أنه لا سبيل إلى إقناع فرعون حاول أن يقنع السحرة فلما تحاور مع السحرة حذرهم من أن يصنعوا صنيع فرعون ، فلما حذرهم جمع لهم ما بين الترغيب والترهيب ، وحذرهم من أن يعصوا الله ، فقال فيما قاله لهم : (قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَن يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى) قال الله -جل وعلا- عن الكليم موسى أنه قال لهم : (وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى) "خاب" بمعنى لا يمكن أن يفلح ، لا يمكن أن يظفر ببغيته ، ولا ينال مطلوبه من افترى على الله الكذب ، ومعنى افترى على الله الكذب : جاء بما يتحقق بالاستعانة بالشياطين فجعله صِنوا ومثيلا وشبيها لتأييد رب العالمين ، وشتان بين هذا وذاك ، ومن هنا يُعلم أنه وقع في أعصر سابقة ويقع في عصرنا هذا و سيقع لأن الصراع بين الحق والباطل كان وما زال ، يقع أن أقواما يأتون لكلام الناس -كما يوجد هذا فيما يُعرف في بعض و ليس في كل- في بعض نظريات الأدب الحديث يتفقهها المرء ، يقرأ بعض النظريات ثم جهلا أو عمدا ، أو نسيانا أو غفلة ، أو تشبّها ، أيا كان سببه فيجعل تلكم النظريات قابلة إلى أن يسقطها على كلام رب العالمين -جل جلاله- ، وظهر في عصرنا من ألّف كتبا وسُمّي مفكرا في شتى دول العالم شرقيه وغربيه من يأتي للقرأن ويريد أن يأتي بالنظريات الأدبية البشرية فيريد أن يتعامل مع القرآن وِفق هذه النظريات ، وهذا مندرج في قول الله -عز وجل- في التحذير : (وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى) ومن علِم عظمة الله علِم عظَمة كلامه ، ومن علِم عظمة كلام الله لم يقع في خلده البتة أن يُجريَ أقوال البشر على كلام رب العالمين -تبارك وتعالى-. وقد مرّ معنا في دروس سلفت ، أيام خلت أن الله -جل وعلا- مِما قاله في حق الوليد بن المغيرة أنه قال : (إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ) فجعل كلام الله الذي يسمعه من نبينا -صلى الله عليه وسلم- جعله مشابها لأقوال الشعراء والكهان وغيرهم من البشر الذين يسمع كلامهم مرارا ، فهذا مندرج في قول الله -عزّ وجل- : (وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى) ومن عرف عظمة الله نأى بنفسه أن يفتري على الله -جلّ وعلا- الكذب .
/ من الآيات التي ذُكر فيها الخيبة و الفلاح في كلام رب العالمين -تبارك وتعالى- ما صدّر الله -جلّ وعلا- به سورة المؤمنون ، فقال -تبارك اسمه وجلّ ثناؤه- : (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ) وبعض أهل التفسير يقول: أن الله لما خلق جنّة عَدْنِ قال لها : أَنْطِقِي ، قالت : قد أفلح المؤمنون . فالفلاح : الظفر بالبُغية ونَيل المطلوب ، والمطلوب الأعظم لكل مؤمن و مؤمنة أن يطأ بقدميه الجنة ، ولا يُتَصوّر أن أحدا يعلم أن وراءه موتا ، ووراءه بعثا ونشورا ، وأن وراءه دارين لا ثالث لهما ، ثم يقع في ذهنه ، في خلَده أن يبتغي مطلوبا أو مقصودا أو بُغية غير الجنة ، فلما خلق الله الجنة أمرها أن تنطق وهو ربها فقالت : (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ) ، فجعل الله -جلّ وعلا- عنوان الفلاح الخشوع في الصلاة ، والخشوع في الصلاة له أسباب لكن من أعظمها خشية الله خارج الصلاة ، فإن من وقف عند حدود الله قبل أن يأتي المسجد ، والله يبتلي كل غادٍ إليه بشيء يحبه مما حرمه الله ، وشيء ربما ثَقُلَ على النفس مما أمر الله ، فإذا قدر على الثاني أن يأتيَه وعلى الأول أن يتركه ، فإذا وقف بين يدي الله ، قلوب العباد بين يدي الله فيرزق الله الخشوع من أحسن الصلة به قبل أن يقف بين يديه ،  والوقوف على أبواب الملوك ، على أبواب الأمراء على أبواب السلاطين لا يرونك إلا ساعة أن تدخل عليهم فينظرون إلى محياك إلى مرآك إلى ثيابك إلى ما تكتنزه و بادٍ عليك ، و قطعا يجهلون عنك ما كنت عليه قبل أن تدخل عليهم ، فيعاملونك بالساعة التي وقفت فيها بين يديهم ، أما الوقوف بين يدي الله فإن الله أعلم بك من نفسك ، لا تخفى عليه خافية ، فكلما كان الإنسان وهو في سيره إلى الله يتقي ربه ويخشاه ويتولاه ويقف عند حدوده فلا يتجاوزها ، و يأتي ما أمره الله -جلّ وعلا- به ويُحسن ويعطي ، فإذا وقف بين يدي الله رزقه الله -جل وعلا- رحمة منه- أن يخشع بين يديه ، وربما صلى بجواره من لم يُرزق شيئا من هذا الحظ ، فيقرأ الإمام قراءة هي عند الناس يُعرف باللغة العامية الدارجة قراءة عادية ، و ربما قرأ آيات ليس فيها مزيد وعد ولا مزيد وعيد ، وترى هذا خاشعا منكسرا مبكيا ، فيقول الذي بجواره : سبحان الله ما الذي يبكيه ؟ على ما يبكي ؟ لم ذرفت عيناه ؟ لم وجِل قلبه ؟ وليس الشأن شأن تلك اللحظة ، إنما الشأن قبل القدوم إلى بيوت الله ، فكلما كان المؤمن قبل أن يقدُم إلى بيوت الله يرغب ، يحافظ على أن ينكسر حاله ، كلما انكسرت و أنت تأتي بيته ، أحسنَ برحمته أن تقف بين يديه ، وإذا كنت تأتي بيته ( وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا) وفي قلبك من الكِبر ما فيه فلا تطمعن أن يرزقك الخشوع بين يديه ، فالخلق خلقه والملك ملكه ، وهو -جلّ وعلا- أعلم بمن ينال حظ أن يخشع بين يديه لأنه رتب على هذا فلاحا عظيما وجنة عالية وقال -وقوله الحق- : (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ) .
 هذا ما تيسر إيراده و تهيأ إعداده في لقاءين متتابعين مضيا عن الفلاح والخيبة ، نسأل الله أن يزيد وجوهنا ووجوهكم إشراقآ ، وأن يزيد أعمالنا وأعمالكم توفيقآ ، والعلم عند الله ، وصلى الله على محمدٍ وآله والحمد لله رب العالمين .
-------------------------------------
الشكر موصول لمن قامت بتفريغ الحلقة .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق