الثلاثاء، 7 مايو 2013

تفسير سورة طه (1-15) / محاسن التأويل



الحمد لله حمدًا كثيرا طيبا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى ، وأشهد أن لاإله إلاّ الله وحده لاشريك له ، شعار ودثار ولواء أهل التقوى ، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله ـ صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسانٍ إلى يوم الدين أما بعد :
ففي هذا اللقاء المبارك نستفتح سورة ( طه ) ، وسورة ( طه ) من العِتاق الأوَل مثل قرينتها سورة ( الكهف ) التي كنا قد انتهينا منها في اللقاء الماضي ، على أن سورة ( طه) أُنزلت بعد سورة ( مريم ) وهي كذلك في ترتيب المصحف بعد ( مريم ) ، ولكن الذي جعلنا نبدأ بسورة ( طه ) أن لنا تفسير لسورة ( مريم ) موجود بين الناس متداول ، فأحببنا أن نبدأ بما لم نشرع به ، لنا وقفات مع سورة ( مريم ) فلذلك بدأنا بسورة ( طه ) وسنعود ـ إن شاء الله تعالى ـ إلى سورة ( مريم ) لكن نُنبه إلى أنه من حيث النزول أن ( طه ) بعد ( مريم ) وكِلاهما سورة مكيِّة إلاّ آيتين من سورة ( طه ) اُختلف فيهما وهما الآيتين (130) و(131) ....
نبدأ مستعينين بالله ـ جلّ وعلا ـ :
سورة ( طه ) استفتحها العلي الكبير بقوله : { طه* مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى } ومن أكثر أحرف القرآن المتقطعة في أوائل المصحف إشكالاً هذان الحرفان ( طه ) ذلك أن العلماء من حيث الجملة انقسموا إلى قسمين في فهم هذا الأمر :
/ منهم من قال : إن ( طه ) هي من جنس الحروف المتقطعة ، ومما يعينهم على هذا الفهم أن الحرفين ( الطاء ، والهاء ) من نفس الأحرف التي جاء بها افتتاح القرآن (طسم ،كهيعص ) فـ ( الهاء ، والطاء ) وجدتا من قبل في فواتح القرآن .
 فهذا منحى ، وهذا المنحى يجري عليه أحكام رأيِّنا في قضيّة فواتح القرآن ـ الأحرف المتقطِّعة ـ وهذا فصّلنا فيه في افتتاح سورة ( ن) ولاحاجة لإعادته
/ الحالة الثانية أنه قال بعضهم : أن طه ليست من الأحرف المتقطِّعة ، وهؤلآء اختلفوا فيما بينهم ما المقصود بكلمة ( طه ) :
بعضهم قال إنها فعل أمر ( طَهْ ) بمعنى ( ضع ) من ( وطِأ ) ، وهؤلاء يقولون أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان إذا قام الليل يقوم على قدمٍ ويرفع أُخرى فجاء القرآن تسلية وتعزية له .
وفريق من العلماء قال : أن ( طه) كلمة معناها ( يا رجل) وحرف النداء محذوف والمعنى " يا رجل "
وقالت فرقة : أنها اسم للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وكنت إلى عامين أو عامٍ تقريباً أذهب إلى أنها من الحروف المتقطِّعة ، لكن الذي يبدو أن القول بأنها اسم للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أقوى ، ووجه القوة مما يأتي :
تدبُّر القرآن ـ لولا آية الشورى لجزمت ، لكن آية الشورى أوقفتني ـ تدبُّر القرآن ، وهذه طريقة في فهم القرآن :
الله تعالى يقول { الم ، ذَلِكَ الْكِتَابُ } { الم ، اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ } { طسم ، تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ } إلى غير ذلك من آيات القرآن ، فلا يكون بعد الأحرف المتقطِّعة خطاب مباشر للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ اللهم إلاّ في الشورى { حم ، عسق ، كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ } وهذه هي التي أوقفتني ، وإلا سائر القرآن لا يكون فيه مخاطبة للرسول - صلى الله عليه وسلم - وأمّا هنا فهناك مايشعر أن ( طه) اسم له ـ عليه الصلاة والسلام ـ إذ الخطاب يقول : { طه * مَاأَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى } .
/ أمّا قول من قال من أفاضل العلماء إن معناها ( يارجل ) فنعم ورد في شعر العرب -في شعر مُتمم وغيره- أن ( طه ) بمعنى (رجل ) لكننا نستبعدها لأن ليس لها نظائر ومعنى ليس لها نظائر بأننا نقول : إذا اتفقت الأمّة على أن الله ـ جلّ وعلا ـ إكراماً لنبيه لم يخاطبه باسمه ، لم يقل له في القرآن ( يا محمد ) فكيف يعقل أن يناديه ( يارجل ) ؟! هذا بعيد ، كل الذي في القرآن (ياأيها النبي / ياأيها الرسول ) فلا يمكن أن يُنتقل من هذه الفوقية حتى يُنادى ( يارجل ) وهذا بعيد وإن كانت اللغة تحتمله ، لكننا نقول إن القول إن ( طه ) كاسم للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ غير بعيد ، نميل إليه ميلاً كثيراً ، وهذا مستخدم حتى في الشعر العربي ، والذي ينبغي عليك أن تعقِد عليه أن تعلم أنه لو قُدِّر أنّك ارتأيت ـ كما ذهب بعض مشائخنا ـ إلى أن ( طه ) من الحروف المتقطِّعة لكن لا يُنكر على من ذهب إلى أن ( طه ) اسم للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وقد مر معكم ـ فيما يبدو لي أن سماحة الوالد الشيخ ابن باز، والشيخ العلاّمة ابن عثيمين ـ رحمة الله تعالى عليهما ـ أُنشد بين يديهما قصيدة للتويجري كان مطلعها: دم المصلين في المحراب ينهمر .....
في القصيدة كان مذكورا مانصّه :
إذا تطاول بالإهرام منهزم** فإن أهرامنا سلمان أو عمر
أهرامنا شادها طه دعائمها ** وحي من الله لاطين ولا حجر
فالشيخان كبَّرا عندما سمعا هذين البيتين ، ولم ينكرا كلمة ( طه ) مع أن الشيخ عبد العزيز ـ رحمه الله ـ كان يرى أن ( طه) ليست اسماً للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، لكن الآية كما قلنا قابلة للأخذ والعطاء ، وليست مجال إنكار ، والبيتان اللذان ذكرناهما من جميل الشعر الإسلامي المعاصر . نعود فنقول إننا نختار أن ( طه) اسم للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ
/ {مَاأَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى}
"ما" نافية قطعاً ، و "أنزلنا" أخبر الله أن القرآن منزل من عنده ـ وهذا مرّ معنا وفصّلنا القول فيه وأنواع التنزيل ـ ونذكِّر بأن الله لا يقول أن شيئاً أُنزل من عنده إلاّ القرآن ، وإلاّ يُبهم أو يسنده إلى غيره ، { فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ رِجْزًا مِّنَ السَّمَاء } ولم ينسبه إلى نفسه ،{ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء طَهُورًا } ولم يقل من عنده ، أما الذي ينسبه الله إلى ذاته العليّة -يُضيفه إلى ذاته العلية- لا يكون إلاّ في القرآن { تَنزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ } إلى غيرها من الآيات الشهيرة . 
نعود فنقول: الله يقول لنبيه : { مَاأَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى }أولاً: مالشقاء ؟
 الشقاء : العناء والتعب ، وإنّما مقصود الآية أن هذا القرآن أنزلناه رحمةً بك وبه ترحم الناس ، وليس المقصود من إنزاله أن يصيبك شقاء وعناء وتعب من كثرت محاورتك لقومك ، وكثرت تأسُفك على حالهم فإنّك لست مُكلَّفاً بأكثر من أن تدعوهم إلى الدين , وهذا المعنى يؤيده القرآن كله: {لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ} ، {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ} ، {فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} كل القرآن يؤيد هذا المعنى بأن الله ما أنزل هذا القرآن على نبيه حتى يصيبه من الكمد والعناء والشقاء بسبب جحود قومه له ...
{إِلاَّ تَذْكِرَةً لِّمَن يَخْشَى}
"إلاّ" استثناء منقطع {تَذْكِرَةً لِّمَن يَخْشَى} فالقرآن تذكرة ، لكن هذه التذكرة لايفرح بها ولا ينالها كل أحدٍ ، وإنّما ينالُها أهل الخشية ، ومن يخشى يدخل فيها جميع من خشي الله وفي مقدمتهم ، بل في ذروتهم نبينا ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ .
/ {تَنزِيلا} أي هذا القرآن ، مفعول به مطلق لفعل محذوف أي : " نزلناه تنزيلاً " ، {تَنزِيلا مِّمَّنْ خَلَقَ الأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى } الله ـ جلّ جلاله ـ ، وقدّم الأرض هنا على السموات لأنها ألصق بحياة الناس ، وهي أُولى الآيات المحسوسة بالنسبة لهم 
{تَنزِيلا مِّمَّنْ خَلَقَ الأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى} وخلْق السموات والأرض من أعظم الآيات الدالة على عظمة الله قررته أكثر من آية في كلام الله.
{ تَنزِيلا مِّمَّنْ خَلَقَ الأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى*الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}
أي : من خلق الأرض والسموات العلى هو الرحمن ، فـ " الرحمن " خبر لمبتدأ محذوف تقديره : هو الرحمن على العرش استوى . و"الرحمن" اسم من أسماء الله الحسنى ، بل من أعظم أسمائه الحسنى ، فالرحيم يجوز تنكيرها ويُنادى بها غير الله  يُقال : فلان رحيم بغيره , لكن لايقال : فلان رحمن بغيره , فهذا من الاسماء المختصّة بالله ـ جلّ وعلا ـ ..
/ { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى }
"العرش" سرير ذو قوائم تحمله الملائكة ، الدليل على أنّه ذو قوائم : قوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ : { فأكون أوَّل من تنشق عنه الأرض ، فإذا بموسى آخذٌ بقوائم العرش } فهذا نص صريح على أن العرش له قوائم  ، تحمله الملائكة ، آية (الحاقة) قال الله ـ جلّ وعلا ـ : { وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ } وقال الله في (غافر) : { الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ } فأثبت الله أن هناك ملائكة تحمل العرش . { عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } "استوى" استواءً يليق بجلاله وعظمته، وهذه أحد ست آيات أخبر الله ـ جلّ وعلا ـ فيها أنّه مستوٍ على عرشه ، ولا ينبغي العدول أبداً عن قول أهل السنة ( أن الاستواء معلوم والكيف مجهول ) لأن ذكر الله للاستواء في أكثر من موضع يصل إلى ست ولا يتغيّر اللفظ دليل على أن اللفظ مقصود ولا يقوم مقامه غيره كما ذهب بعضهم إلى أنه بمعنى استولى ـ فهذا باطل ـ فإنما أخبر الله ـ سبحانه ـ أنه مستوٍ على عرشه ، ونحن نقول : نؤمن بكلام الله على مراد الله ، ونؤمن بكلام رسول الله على مراد رسول الله ـ وكان الشافعي يردد هذا الكلام كثيراً ـ آمنت بالله وما جاء عن الله على مراد الله ، وآمنت برسول الله و ما جاء عن رسول الله على مراد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى* له} ملك ، { مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى } كم أملاك ؟
أربعة : ( السماوات ، والأرض ، وما بينهما ، وما تحت الثرى ) واختلف في معنى (وَمَا تَحْتَ الثَّرَى) ولعله يدخل فيها -من حيث الاستئناس- المعادن التي في الأرض ، وكنوز الأرض المدفونة غير الظاهرة ، وما بين السماء والأرض الأشياء الظاهرة , وينبغي أن تعلم أن الله ملكُ الأملاك , ورب الأفلاك , وأنه ـ جلّ وعلا ـ متصرف في هذه الأربعة تصرفاً تاماً ، فهو الذي أوجدها ، وهو الذي يملكها ، وهو الذي يفنيها ، وهو الذي يحيي من شاء منها . وهذا كله ملك تام لا نقص فيه بأي وجه من الوجوه .
/ {وَمَا تَحْتَ الثَّرَى } "ما" هنا موصولة والمعنى والذي تحت الثرى , وليست نافية .
ـ من باب الفوائد ـ : 
"ما" الموصولة لا يجوز الابتداء بها ، فمن أخطاء القُرَّاء مثلاً آية { قُولُواْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } لا يجوز أن تقرأها ثم تقول : { وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ } فلا تبدأ بـ { وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى } لأنه يصبح المعنى "ما" نافية ، فـ"ما" الموصولة لا يُبدأ بها ، إنما تعود فتقول { إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى } ولا تبدأ بها .
فهنا لو أن إنساناً انقطع نفَسَهُ فلا يقول لوحدها { وَمَا تَحْتَ الثَّرَى } كأنه ينفي , لأنها موصولة فلا يُبدأ بها , لأن واو العطف لا تعتبر شيء ، وهذا يحترزه من كان منكم إماماً .
/ نعود فنقول :
ثم قال الله : { وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى } يقول بعض المفسرين : إن المعنى أن الله يقول لنبيه لا حاجة للجهر فإن الله يعلم السر وأخفى ـ وأظنه بعيد ـ على جلالة من قاله ، وإنما المعنى إخبار النبي بعظيم علم الله , أو أن يُقال أن الخطاب لقارىء القرآن وليس النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مقصوداً به إلاّ في المقام الأول باعتبار أن القرآن أُنزل عليه , ومعنى { وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى } أن القول ينقسم إلى ثلاثة أقسام :
- جهر : وهو ما تُعلنه ، تقوله علانية فيسمعه من ترغب ومن لا ترغب .
- السر : ما تُعلنه لكن تُسمعه من ترغب .
فلو أني استدعيت أحدكم وأجلسته بجواري وأسمعته فأنا جهرت بالقول له حتى يسمعه لكن لا يُسمى جهر، يُسمى سر لأنني أردت به شخصاً بعينه .
مالذي أخفى من السر ؟ الشيء الذي في قلبك ، في نفسك ولم تخبر به أحداً ، هذا الذي قصده الله بقوله {فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} أي ما هو أخفى من السر ما لم تخُصّ به أحداً بعينه , وهذه مراتب القول والمقصود منها عظيم علم الرب ـ جلّ وعلا ـ .
/ { وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى } من هذا الذي يعلم السر وأخفى ؟ { اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى } وقد مر معنا أن لفظ الجلالة "الله" لم يتسمى به أحد وهو معنى قوله ـ جلّ وعلا ـ : { هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا }.
/ { لَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى } الله ـ جلّ وعلا ـ له أسماء حسنى وصفات عُليا ، وجملة ما يمكن أن تفقهه أيها الأخ المبارك أن تعلم أن الله ـ جلّ وعلا ـ وجهه أكرم الوجوه , وأسماؤه أحسن الأسماء , وعطيتُه أحسن العطايا فتوسَّل إلى ربك بهذه الثلاث قل : (اللهم ياذ الوجه الأكرم ، والاسم الأعظم ، والعطية الجزلا ، ثم سل الله ما شئت ).
{ لَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى } هذه الاسماء ذُكر منها تسعة وتسعون على اختلاف العلماء في تحديدها , وبعض أهل التحقيق من أهل العلم يقول إنها أكثر من تسعة وتسعين , وحجَّتهم ماجاء في الخبر الصحيح ( كل اسم سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحدا من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك) فقالوا إن لله أسماء استأثر بها في علم الغيب غير التسعة والتسعين التي أظهرها وبسطها لخلقه. هذا كل ما سلف بيان لعظمة الجبّار ـ جلّ وعلا ـ وإظهار لبعض صفاته , وأن له كمال الأسماء وأجمل الصفات , وأنه أحق من عُبد , وأجلّ من شُكر وأرأف من ملك , وأوسع من أعطى .
 ثم بعد أن قرر الله ـ جلّ وعلا ـ هذا لنبيه ذكر له قصة الكليم موسى بن عمران ـ عليه الصلاة والسلام ـ  وموسى بن عمران من أُولي العزم من الرسل الذين تكررت قصصهم في القرآن في مواطن شتى ـ سيأتي تفصيلها ـ .. لكننا هنا سنقف عند ما نحن معنيِّون به .
/ قال الله ـ جلّ وعلا ـ لنبيه : { وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى } و"هل" حرف استفهام المقصود به هنا التشويق , حتى تكون أُذن السامع متلهفة لإرعاء السمع , و"موسى" هو موسى بن عمران ، {وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى } هذا متى ؟ هذا بعد عودة موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ من أرض مدين , موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ خرج إلى أرض مدين ـ التي هي البدع الآن شمال الجزيرة العربية شمال المملكة ـ بعد أن فرَّ بسبب قتله للرجل القبطي , مكث في أرض مدين ـ كما سيأتي تفصيله في مواضع ـ عشر سنين , بعد أن جلس في مدين عشر سنين أخبر العبد الصالح ـ صهره ( أبو زوجته ) ـ أنَّه يريد أن يرجع ، فأذن له بعد أن أتم له موسى الأجل , خرج من البدع وأصبح خليج العقبة على يمينه ، ثم رجع حتى أصبح خليج العقبة على يساره ، وكان موازياً للبحر ، ثمّ دخل على صحراء سيناء وكان هناك جبل الطور في مكان ما نُبئ , وبعد أن نُبئ دخل بعد ذلك واستمر حتى قطع خليج السويس ودخل أرض مصر. سنتكلم نحن عن هذه المنطقة وعن الأحداث العظام التي نُبِّأ فيها موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ وأُرسل في هذا الموطن , فنقول : الله ـ جلّ وعلا ـ يقول لنبيه : { وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى } أي خبر موسى , {إِذْ رَأَى نَارًا} متى رأى النار ؟ رآها في ليلة باردة مظلمة ومعه زوجته وغنمه {فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا} ولم يقل إني رأيت ، لأنه كان يشعر بوحشة وخوف , فلمّا رآها شعر بشيءٍ من الأنس {إِنِّي آنَسْتُ نَارًا} , واحترازاً من الكذب قال ـ عليه الصلاة والسلام {لَّعَلِّي آتِيكُم} ما قال سآتيكم منها , وهذا كله احترازه من الكذب قبل أن يُنبئ , حتى تعلم أن الله أعلم حيث يجعل رسالته {لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِقَبَسٍ} ماالقبس؟ الجذوة من النار يعني القطيع من النار , القطعة من النار تسمّى جذوة ، والقطعة من الليل تسمّى هزيع , وكل شيءٍ منه قطعة له اسمه في اللغة ، إذا كانت الجذوة من النار هي القطعة من النار إذا كانت ملتصقة بعود ـ لم تكن جمرة لوحدها ـ تسمَّى قبس , إذا أخذنا عود -حطب- من النار فيه النار باقية مشتعلة تسمَّى قبس , وفي نفس الوقت تسمَّى جذوة لأنه قطعة من النار , فإذا أخذناه على هيئة جمر ليس فيه عود كامل يسمَّى جمرة , ولا يسمَّى قبس ، قال الله في سورة أُخرى  {شهابٍ قبس} يعني نار مشتعلة , وهذه أُمنية موسى الآن , وخوفاً على أهله قال {امْكُثُوا} والعاقل كما تقول العاميِّة : ( لايوضع البيض في سلَّة واحدة ) فلو كان فيه مهلكة يهلك هو وينجوا أهله {فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَّعَلِّي} احترازا من الكذب , {أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى} أي من يهديني ويدلَّني على الطريق الذي أضعته{أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى}, أتى موضع النار فرأى ناراً تضطرم في شجرة عوسج -على الأظهر- , فرأى النار تزداد وقوداً والشجرة تزداد خضرة وهو ما يتنافى في الأصل , لأن النار إذا كانت حارقة لن تُبقي الخضرة , وإذا كانت الخضرة ريِّانة لن تُبقي على النار ، لا تجتمعان , لكنه يرى النار تزداد نوراً ويرى الشجرة تزداد خضرة . جملة -أيها الإخوة- النار ثلاثة أقسام :
- نار لا نور فيها وهي حارقة وهي نار جهنَّم  ـ أعاذنا الله وإيكم منها ـ.
- ونار فيها نور وليست بحارقة وهي النار التي رآها موسى ـ عليه السلام ـ .
- ونار فيها نور وهي حارقة وهي نار الدنيا ، فأي نار تشعلها لها نور تضيء ما حولها , وفي نفس الوقت تحرق من يضع يده فيها .
/ نقول : قال الله -جل وعلا- {إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى* فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي } من الذي ناداه ؟ رب العزة ـ جلّ جلاله ـ وهذا معقل منيف , ومنزل شريف , وعطية قلَّما تعدلها عطية إلاّ أن يرى العبد ربه , {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي يَا مُوسَى} وكان في خوف فطمأنه الله ولم يطالبه بالتكليف قال له : {إِنِّي أَنَا رَبُّكَ} ليشعره بالاطمئنان , ووالله إن الإنسان ليسمع رجلاً أقوى منه ـ مديره أو أبوه أو مسؤوله أوأميره أو زعيمه ـ يطمئنه أنه معه فيغشاه شيءٌ من السكينة , فكيف إذا سمع عبد مخلوق في ليلة شاتية مظلمة -رب العزة -جل جلاله- يناديه {إِنِّي أَنَا رَبُّكَ} من غير واسطة ؟!
{فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ} والمقصود من خلع النعلين أمران :
 الأول : أن تمس موسى كله بركة الوادي , فلا يصبح هناك فاصل ما بين بركة هذا الوادي المقدَّس وما بين جسد موسى .
 والأمر الثاني : أن يشعر موسى بالتواضع , وعظمة الوقوف بين يدي رب العزة والجلال ـ جلّ جلاله ـ في مقام التكليم .
{إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى} وانظر كيف يؤدب الله نبيه ويرعاه يخبره بكل شيء , أخبره بأنه ربه , أخبره بأنه في واد مقدس اسمه طوى , والإنسان إذا كان يجهل الأشياء التي حوله يصيبه الرعب , فأول ما أعطى الله نبيه موسى  التعريف بالأشياء التي حوله {إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى} وهذه شهادة من رب العباد لهذا الوادي بأنه وادٍ مقدس , وقطعاً لو لم يكن وادياً مقدسا لما اختار الله تلك البقعة التي سمَّاها في سورة أُخرى بقعة مباركة ليُكلم فيها عبده وكليمه وصفيه موسى بن عمران . {إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى} بدل من "الوادي المقدس" يعني أن اسم الوادي (طوى) .
{نَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى*وَأَنَا اخْتَرْتُكَ } ولا يمكن أن نأتي بألفاظ تساعد أكثر من ألفاظ القرآن في بيان هذا الأمر العظيم في أن الله ينادي عبداً من عباده لا منَّة له على الله ولا فضل , ولا يدري هو لأي شيءٍ غادٍ , كان همُّه جذوة من النار فعاد وهو كليم الواحد القهار يقول له رب العزة في موقف عطاء وبذل كريم : {وَأَنَا اخْتَرْتُكَ} اخترتك لعظائم الأمور , للنبوة , للرسالة , لجلائل الطاعات , ولكن الله أعلم حيث يجعل رسالته إذ جعلها في هذا الكليم ـ عليه السلام ـ {وَأَنَا اخْتَرْتُكَ} فأصبح موسى مرهف السمع لربه فقال له ربه {فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى} موصولة أي للذي يوحى , ولكن الله لم يعطه الأوامر والتكاليف إلاّ بعد أن أشعره بالأمان , ورفعه إلى أعلى المنازل , وآواه أيما إيواء , وغرس في قلبه التلقي من رب العزة والجلال , وهي إحدى طرائق الوحي الثلاثة , بل إنها أرفع طرائق الوحي الدنيوية .
{إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ} قلت مراراً هذه الآية من أعظم الأدلة على أن اسم الله الأعظم هو لفظ الجلالة ( الله ) , ووجه الدلالة أن الله ـ جلّ وعلا ـ لما أراد أن يعرف نفسه لعبده موسى قال له {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ} فاختار الرب ـ جلّ وعلا ـ هذا الاسم دون غيره من الاسماء الدالة عليه ـ جلّ وعلا ـ ليعرِّف به نفسه لكليمه موسى , ولا يلزم أن نجزم لكن نقول إشارة قوية وأمر فيه تلميح قوي إلى أن لفظ الجلالة ( الله ) من أعظم أسماء الله الحسنى إن لم يكن هو اسم الله الأعظم . {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا} ومادام قد تحقق لديك ياعبدنا أنه لاإله إلاّ أنا فوجب أن تصرف العبادة لي دون سواي ولهذا قال الله له {فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} طبعاً لا يمكن أن يدعوا موسى الناس لعبادة الله حتى يحقق العبودية في نفسه , فالرسول الذي يحمل هم أمر لابد وأن يكون مقتنعاً به أولاً , ولا يمكن للإنسان أن يحقق هدفا هو غير مقتنع به , وعظائم الأمور , وجلائل الهبات لا تُنال إلاّ إذا انطلق الإنسان من خاصة نفسه , يتصرف في السر كما يتصرف في العلانية , ويؤمن بقضيته أمام الملأ وفي الخلاء , أما إن كانت القضايا بالنسبة له يجلب من ورائها ديناراً أو درهماً فسيكون سيره في تلك القضية ضعيف إن لم تنكشف عورته وتظهر سوأته ما بين يوم وآخر , لكن الله وطَّن في قلوب أنبيائه محبته وإجلاله ـ جلّ وعلا ـ وعظمته وحبهم وعبادتهم لربهم {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} وفي هذا دلالة ظاهرة على أن الصلاة من أرفع العبادات , اختلفوا في قوله ـ جلّ شأنه ـ : {لِذِكْرِي} هل هو للتعليل أي لأقامة ذكري , أو على ذكري ؟ بمعنى في الوقت الذي أمرتك أن تذكرني فيه ؟ وهذا يؤيده حديث صحيح : (من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها لاكفارة لها إلاّ ذلك) ثم تلا { وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي}.
/ {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى} أخذ الله ـ جلّ وعلا ـ يبين لموسى قضية الساعة , والساعة هي : الأذن بفناء الدنيا {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ} أي قادمة لا محالة ، {أَكَادُ أُخْفِيهَا} اختلف العلماء في "أكاد" هذه , لكن الأظهر أن يقال أنها على بابها فعل من أفعال المقاربة ـ نحوياً ـ أخ لـ كان , والفرق بينها وبين كان , تسمعون كان وأخواتها , فما دام "كاد" و "أوشك" و "عسى" و "اخلولق" تعمل عمل (كان) لماذا لم يقولوا بأن هذه الأربع تدخل مع كان وأخواتها وينتهي النزاع ؟ والسبب أن كان وأخواتها خبرها يأتي مفرداً, ويأتي جملة اسمية, ويأتي جملة فعلية , أما ( كاد و أوشك و عسى ) شرط في خبرها أن يكون جملة فعلية , فانفكت عن كان في العمل من هذا الباب .
{أَكَادُ} بمعنى قارب وهي على بابها , فيصبح معنى الآية أن الله لم يخفِ الساعة بالكلية , وإنما أظهر أشراطها وعلاماتها , وفي نفس الوقت عينها تحديداً  لا يعلمه إلاّ الله.
 {لِتُجْزَى} أي بعد أتيانها {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى} و"كل" من ألفاظ العموم.
{فَلاَ يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا} والخطاب لموسى الآن ,{فَلاَ يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا} عن أي شيء ؟
 قيل إن (عَنْهَا) عائد على الصلاة , وقيل أن (عَنْهَا) أي عن الإيمان بالساعة , والصواب أن يُقال : أن {فَلاَ يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا} أي عن الإيمان بالساعة وما يتعلق بالاستعداد لها .
 {مَنْ لاَ يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى} فذكر الله صفتين للصادين عن سبيله وهما عدم الإيمان بالله , واتباع الهوى , (فَتَرْدَى) بمعنى فتهلك , وأتوقف هنا حتى يستقيم التفسير الذي بعده ,(فَتَرْدَى) هنا بمعنى فتهلك والمقصود بالهلاك هنا دخول النار وعدم مقاربة الجنة وهو أعظم الهلاك .
 هذا ما سنكتفي فيه في سورة ( طه ) , لكننا سنعرِّج على فوائد عما مضى من الآيات , سنتكلم إجمالاً كيف نستعين به في فهم القرآن :
 / عبَّر الله عن الزوجة هنا في قضية موسى بكلمة الأهل وهو أفضل مايعبَّر به عن الزوجة في قضايا الائتلاف , في المحاكم والقضاء وشؤون الحقوق يقال زوج وزوجة , بعض الصحابة والصحابيات لمّا سألهم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن عائشة في حادثة الإفك ماذا قالوا ؟ قالوا يارسول الله أهلك ولا نعلم إلاّ خيراً .. ما قالوا زوجتك , وأنا أعرف بعض من حولنا إذا أراد أن يكتب رمزاً لهاتف جوال زوجته في الجوال يكتب (الأهل) اتباعاً للقرآن , لا يكتب أم فلان ولا عبارات مبالغ فيها , أنا أريد أن أذهب إلى أهلي , سأوصل أهلي , اتصل بي أهلي , فالقضية ليست قضية حساسية مفرطة ممن حولنا لا , القضية في المقام الأول أن مما يفتح به الله عليك في فهم القرآن أنك تحاول استخدام أسلوب القرآن .
/ {فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِقَبَسٍ} قلنا أن العلماء يقولون : أن موسى ـ عليه السلام ـ قال: {لَّعَلِّي} من باب الاحتراز , وهذه أصلاً قضية عامة . يقولون: أن أهل العقل لا يضعون أقدامهم اليُمنى حتى يجدون موطأً لليسرى , ويفكرون في طريق الرجوع قبل أن يفكروا في طريق الذهاب , والعاقل لا يقطع الحبال كلها عن نفسه , وإنما يجعل له طريق عودة , وهذا الذي قصده موسى {لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِقَبَسٍ} و"لعل" في القرآن على بابها إلاّ في موضع واحد ، فـ "لعل" عند النحويين حرف يفيد الترجِّي ـ للرجاء ـ ويستخدم في الغالب فيما يُرجى وقوعه , ويقولون في "ليت" إنها حرف للتمني وهي قرينتها في العمل إلاّ أن "ليت" فيما لا يُرجى في الغالب وقوعه ومنه قول الشاعر : ألا ليت الشباب يعود يوماً ** فأخبره بما فعل المشيب
 والشباب لا يعود فعبّر بـ "ليت" , أمّا "لعل" للترجِّي , فـ "لعل" في القرآن على بابها إلاّ في موضع واحد في سورة الشعراء قال الله ـ جلّ وعلا ـ {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ*وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ} هنا ليست للترجِّي , وإنما بمعنى: كأنكم تخلدون أو كأنما تخلدون ، لأن الموت اتفق الناس على أنه لا يدفعه شيء , حتى أهل الكفر مؤمنون بالموت , ولذلك لا يوجد موطن سكن إلاّ وجواره مقبرة , وهذا في كل مكان في الدنيا , فلم يقل أحد أن تشييد البناء والمبالغة فيه يدفع الموت , لكن بعض الناس يشيد بناءه كأنه لا يموت كأنه مخلد , وهو يعلم أنه غير مخلد وهذا هو معنى الآية : {وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ} .
 / مما يستفاد من القضية هذه أن اللذين حولك أحوج ما يكونون إلى الأمن , والإنسان إذا أُعطي الأمن يعطي القدرة على العطاء , أما إذا شعر الإنسان بالخوف فإنه يكون غالباً غير قادر على العطاء قال الله ـ تعالى ـ في حق أهل الكفر : {فَأَجِرْهُ} أي أشعره بالأمن {حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} لأنه لن يستطيع أن يسمع كلام الله ويفقهه عنك وهو خائف وجِل , والسيف إذا وضع على رقبة أي إنسان يجعله لا يعقل ، وأحد الأمراء ـ دون ذكر أسماء ـ من الخلفاء السابقين في عهد بني أُمية أتى برجلٍ صالح ومعه زمرة من أصحابه , وكانوا قوماً صالحين , وهذا الزعيم فيهم كان مشهوراً بثبات جأشه وفصاحة لسانه فقال له الناس في ذلك الموضع تكلم قل , قال : ماذا أقول ؟! سيف مشهور , وكفن منشور , وقبر محفور ، من أين يأتي كلام ؟! وهو محق أن الخوف والوضع الذي أنا فيه لا يساعد على أن أتكلم , ولهذا أراد الله لهذا العبد الصالح موسى، لما أراد الله أن يفيء عليه بعظيم العطايا وجزيل المواهب -ومقام التكليم كما قلت مقام لا يمكن تخيله- والله كلم موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ مرتين كلمه في هذا الموضع , وكلمه عندما ناداه عند جبل الطور في نفس الموضع , وهذا الجبل ـ جبل الطور ـ كان الجبل عن غرب موسى , وفي نفس الوقت الجانب الأيمن منه قال الله تعالى : {وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} موضع الشاهد : أن الله ـ جلّ وعلا ـ طمأن موسى حتى يعطيه , لكن يقول الناس عموماً ـ كفوائد تاريخية ـ أنه قد يوجد في الناس ـ لكن هذه حالة أفراد شاذة ـ من يكون رابط الجأش حتى عند رؤية السيف , فيقولون أن المعتصم أراد أن يقتل رجلاً يقال له جميل , كان له أطفال وصبية صغار , ثم إنه أُحضر النطع والجلاّد والسيف والناس ينظرون , ولم يكن ثمَّة شك في أن أمير المؤمنين قرر قتله , فأراد المعتصم أن يختبره ليرى أين لسانه عن جنانه فقال له ما تقول يا جميل ؟ ـ هذا والسيف مشهور , والكفن منشور , والقبر شبه محفور ـ قال : أرى الموت بين السيف والنطع كامنا **يلاحظني من حيث ما أتلفَّت
وأكبر ظنِّي أنك اليوم قاتلي ** وأي امرئ مما قضى الله يفلت
يعز على الأوس بن تغلب موقف ** يسل علي السيف فيه وأسكت
وما جزعي من أن أموت وإنني ** لأعلم أن الموت شيء مؤقت
ولكن خلفي صبية قد تركتهم ** وأكبادهم من حسرة تتفتت
كأني أراهم حين أنعى إليهم ** وقد خمَّشوا تلك الوجوه وصوِّتوا
فإن عشت عاشوا سالمين لغبطة ** أذود الردى عنهم وإن مت موِّتوا
 فتعجّب المعتصم من رباطة جأشه مع الحال التي هو فيها , وقال تركتك لله ثم لصبيتك وعفى عنه , لكن هذا المقام الذي أقامه جميل بين يدي المعتصم قام مقام فردي يعني قلَّما يعطاه أحد , لكن في باب الدعوة وفي باب التربية التأسي بالقرآن هو الأصل , ولما أراد الله أن يُربي هذا النبي المكلم ـ عليه السلام ـ خاطبه بقوله {إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ} وعرَّفه بالمقام {إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى} , ولهذا أحيانا تتلقى مكالمة مجهولة المصدر , فلا يحسن أن تتعامل معها بانفعال ولا بعجلة , وإنما من حقك على من اتصل بك أن تعرف من هو قبل أن تعرف مقامك , وليس من الأدب ما يشيع عند بعض الناس أنه إذا اتصل من غير عمد سوء يقول : ماعرفتني , فيضعك للإحراج في أن تصبح يذهب همك في البحث عن شخصيته , وإنما الإنسان إذا دخل أو إذا اتصل أو طرق باباً وغلب على ظنه أن من أمامه لا يسمعه أو لا يعلمه أن يُعرِّفه بنفسه , نختم على هذه القضية بشاهد عظيم من السنة ,( فالنبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ وجبريل أرفع الخلق , فلما استفتحا باب السماء جبريل يطرق يقول له الخازن من أنت ؟ يقول أنا جبريل , أومعك أحد ؟ يقول نعم معي محمد ) , قال العلماء : فاستئذان جبريل مع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ رغم أنهما أرفع مقاماً من صاحب المحل ـ خزنة السماء ـ يدل على أن الإنسان يجب عليه أن يستأذن ويُعرِّف بنفسه ولو كان داخلاً على من هو أقل منه , وهذه قضية مهمة جداً في فهم كلام الله ـ جلّ وعلا ـ .
في اللقاء القادم ـ إن شاء الله ـ سنتحدث إلى قول الله ـ جلّ وعلا ـ : {قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى} ونتكلم عن قضية العصا , وقضية إدخال اليد في الجيب وما حولهما من آيات . نفعنا الله وإياكم بهدي كتابه , وجعلنا الله ممن يستمع القول فيتبع أحسنه .
نقول ما ألفنا أن نقوله : هذا ما تهيأ إيراده وتيسر إعداده والله المستعان وصلى الله على محمد وعلى آله .
-------------------------------------
النص من مكتبة الشاملة (بتصرف يسير)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق