الجمعة، 18 فبراير 2011

الدرة القرآنية الخامسة/ قوله تعالى (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ) الآية


الدرة القرآنية اليوم حول سورة الزمر ، قوله تبارك اسمه وجلّ ثناؤه :{ اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ*أَفَمَن يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ } .
هاتان آيتان عظيمتان من سورة الزمر ، فأما المقصود من الآية الأولى فهو ذكر صفة الأبرار عند سماعهم كلام الجبار ، هذا المقصود الأعظم من الآية . أما ما يمكن أن نقوله حول الآية :

فالله هو الملِك الحق ، وهو يقول - وقوله الحق - الله الملِك الجليل العظيم نزّل أحسن الحديث ، فهو تبارك وتعالى تمدّح بأن نسب هذا الكليم العظيم إليه ، وهو الذي أنزله (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ ) وصف - جل وعلا- كلامه المبين في قرآنه العظيم بأنه أحسن الحديث ، احسن الحديث من جهة اللفظ والمعنى .
/ من جهة اللفظ : من جهة التركيب والمفردات ، فهو عظيم في جزالة لفظه ، وهو عظيم في جمال نظمه ، فهذا ما يتعلق باللفظ .( قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا )
/ أما من جهة المعنى فهو عظيم جليل وأحسن الحديث إذ لا تناقض فيه ( وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا ) ، يُخبر بالعلوم الغيبية السابقة ، والتي لم تقع بعد .
فيه من الهُدى والرحمة ما ليس في غيره ، بل كله هدى ورحمة للمؤمنين المتقين . فهذا ما جعله أحسن الحديث أنه أولا وآخرا كلام رب العالمين .
( اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا ) يُشبه بعضه بعضا ويُصدق بعضه بعضا إذ لا تناقض فيه البتة .
( مَّثَانِيَ ) هذه المثاني جمع لمفردة مثنى ، فتكون مفردة مثنى إما بمعن باعتبار ما ثُني فيه من الوعد والوعيد ، والأخبار والأمر والنهي والأحكام ، فكم من خبر ثُني وذُكر ، جاء مُثنيا فيه .
وإما أن تكون بمعنى مفعل أي يُكرر ، فإن الله - جل وعلا - كثيرا من الأوامر ، كثيرا من النواهي ، كثيرا من الأخبار ، تكرر ذكرها في القرآن كما نجده في الأمر بالصلاة والأمر بالزكاة والنهي عن الزنا والنهي عن القتل والنهي عن الشرك من باب أولى ، وذِكر بعض أخبار الأنبياء ، جاءت مُكررة في القرآن .
{ اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ }
القشعريرة تغير واضطراب في البشرة والجلد يعتري الإنسان إذا أصابه خوف ووجل ، فهؤلاء الأبرار المتقون عندما يسمعون كلام الجبار يفقهون معنى وعيده ومعنى ما فيه من إخبار الله - جل وعلا - بكمال قدرته فيُصيبهم الخوف والوجل فيظهر ذلك على جلودهم على هيئة قشعريرة ، ثم يتذكرون ما يرجونه من رحمة الله فإذا بالأمر يفيئ إلى اللين ، قال رب العالمين ( ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ) هذا هو حال المؤمنين .
وتلحظ - أيها المبارك - أن مسألة العقل لم تُذكر هنا ، فالله - جل وعلا - هنا لم يُخبر أن كلامه يجعل العقل يطيش أو يذهل أو ما أشبه ذلك ، هذا مُحال ، لكن المؤمن يبقى مُتماسكا مُترويا ، أما أن يكون هناك نياح وصريخ وعويل فهذا ليس حال المؤمن عندما يقرأ القرآن ، وإنما وَصف المتقين عند قراءة القرآن تغير ، قشعريرة في الجلد ، ووجل في القلب ، ودمع في العين . ( أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا ) .
( تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ) عائد على القرآن ( هُدَى اللَّهِ ) أي أن الهدى كله في القرآن .
( يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ ) أي يجعل الله - جل وعلا - قلب العبد محلا للانتفاع بالقرآن ، فالقرآن هدى - لا محالة - لكن ليس كل أحد قابلا لأن ينتفع بهذا الهدى ، ولهذا قال بعده ( وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ) فحكم الله - جل وعلا - على أهل الكفر في الدنيا بالضلالة ، ثم قال عنهم في الآخرة ( أَفَمَن يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ )
إذا أخذنا الآية كاملة فإن المقارن به محذوف لدلالة الـمعنى عليه ، ونظيره في القرآن عندما ذُكر الإثنين قول الله - جل وعلا - ( أَفَمَن يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَم مَّن يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) هنا في هذه الآية ذكر القسمين لكن في آية الزُمر لم يذكر إلا قسما واحدا لدلالة المعنى عليه .
(أَفَمَن يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)
معنى الآية : أنت ترى أن الإنسان في الدنيا إذا خاف ضررا أو خشي عنتا أو عذابا أو أذى يُصيبه يحرص على أن يحفظ وجهه ، فتراه طبعيا جبليا يضع يده على وجهه ، إذا همّ أحد أن يضربه ، أن يبطش به ، أول ما يريد أن يدفع به الضرر عن نفسه وجهه لأن الوجه فيه الصباحة ، ومجمع محاسن بني آدم ، فإنك لا تعرف أن فلانا فرحا أو حزينا ، شقيا أو سعيدا إلا من ملامح وجهه ، فمكارم بني آدم كلها تكاد تكون مجتمعة في وجهه ، فحري به في الدنيا إذا عُذب ، إذا ناله أذى أن يُدافع بأعضائه ، يذود بأعضائه عن وجهه بما استطاع من أعضائه ، خاصة يده ، يتقي بيده أي شيء يصل إلى وجهه .
لكن ربنا - جل وعلا- هنا يقول ( أَفَمَن يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ ) هذا الكافر - عياذا بالله - يُلقى في النار وقد غُلت يده إلى عنقه ، فلا يد يحفظ بها ، لم يبقَ إلا وجهه .
قال العلماء : إن الآية في معناها البلاغي البياني الذي بُني عليه كلام العرب أنه لا قُدرة له البتة إذ أنه في الدنيا بأعضائه يقي وجهه ، فإذا كان بوجهه نفسه يقي العذاب ، يقي ماذا ؟ لا يوجد شيء يُحافظ عليه ، لأن الوجه نفسه أصبح الآن آلة .
والمعنى الخفي المراد : أن المرء في هذه الحال في منتهى العجز ولا قدرة له البتة .
من أسباب عدم القدرة البتة أن يده تكون مغلولة إلى عُنقه ، يُلقى في النار منكوسا ، كما قال عطاء رحمه الله . هذا معنى ( أَفَمَن يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) و سوء العذاب أشده .
( وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ) القائل هم خزنة جهنم . ( ذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ ) الله لا يظلم أحدا . فهؤلاء الكفار يُجمع عليهم أذى الفعل وعذاب التحرق ، وأذى القول وهذا بتوبيخ الملائكة لهم .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق