الأحد، 27 يناير 2013

من الدرس الثالث عشر / ثلاث بشارات عظيمة

1- قال تعالى : (فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا) [النساء -175].
ثلاث بشارات عظيمة كل واحدة منها خير من الدنيا وما فيها. وتأمل قول الله تعالى: (فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ) فكأن الرحمة والفضل يحيطان بهم من جميع جوانبهم يتقلبون فيهما كيف يشاؤون.
(وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا) وهذه هداية خاصة تقربهم إلى الله تعالى وتدنيهم منه وتعرّفهم بما يحبه الله ويرضاه وتعرّفهم بما لم يكونوا ليهتدوا إلى معرفته لولا فضل الله  من أسباب رحمته وتوفيقه وفضله العظيم في الدنيا والآخرة.
 والاعتصام بالشيء اتخاذه عاصماً ومانعاً مما يخشى ضرره، وقد أمر الله تعالى بالاعتصام به، وفي ضمن ذلك وَعْدُه لمن اعتصم به أن يعصِمَه مما يخاف ضرره. وقد قال الله تعالى : (فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ) فالاعتصام بالله يكون باتباع هدى الله ، في ما بينه في كتابه الكريم وفي ما بيَّنه الرسول ، لأن الضرر الذي يخشى في الدنيا والآخرة قد بيَّن الله تعالى في كتابه وفي سنة نبيه أسباب العصمة منه؛ فمن فعل ما أُمر به وانتهى عما نُهِيَ عنه فقد أخذ بأسباب العصمة، ومن أعرض عن الكتاب والسنة أو وقع في مخالفة الأمر وارتكاب النهي لم يكن معتصماً. وفي صحيح مسلم وغيره من حديث جابر بن عبد الله أن النبي قال لأصحابه في خطبة الوداع: (وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به كتاب الله وأنتم تسألون عني؛ فما أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت. وقال بإصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس: اللهم اشهد، اللهم اشهد) ثلاث مرات.
وفي مستدرك الحاكم وسنن البيهقي وغيرهما من حديث أبي هريرة عن النبي أنه قال: (إني قد تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما : كتاب الله و سنتي و لن يتفرقا حتى يردا علي الحوض). صححه الألباني.
 والاعتصام بالكتاب والسنة أصل عظيم من أصول أهل السنة والجماعة ، وتنبني عليه مسائل كثيرة من مسائل الاعتقاد، وقد ضلَّت طوائف من أهل البدع بسبب ضعف اعتصامهم بالكتاب والسنة، بل من الطوائف من قدمت عقولها وأراءها على الكتاب والسنة، ومنها من قدمت أهواءها وأقوال معظميها على صريح دلالة الكتاب والسنة، ومنهم من وقع بسبب ذلك في فتنة التأويل المذموم، ومنهم من وقع في فتنة التفويض. ومنهم من وقع في فتن أخرى. ولا عصمة لأحد في اعتقاده إلا بالاعتصام بالكتاب والسنة ؛ فالمعتصم مهتدي، والمفرّط في الاعتصام عرضة للضلالة - والعياذ بالله-.
 وأمر الاعتصام بالكتاب والسنة ميسَّر ليس فيه عنت ولا مشقة، وما جعل الله علينا في الدين من حرج.
 2- قوله تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا) [المائدة:3] ، اليوم المقصود به يوم عرفة من حجة الوداع ، وهو اليوم الذي أنزلت فيه هذه الآية كما في الصحيحين من حديث طارق بن شهاب قال : (جاء رجلٌ من اليهود إلى عمر بن الخطاب فقال: يا أمير المؤمنين آيةٌ في كتابكم تقرءونها لو علينا -معشر اليهود - نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيداً. قال: أي آية؟ قال: اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً فقال عمر: قد عرفنا ذلك اليوم والمكان الذي نزلت فيه على النبي ، وهو قائم بعرفة يوم جمعة). فقد جمع الله لنزول هذه الآية خير الأيام من أيام الأسبوع، وخير الأيام من أيام السنة، وخير الأركان من أركان الحج، وأفضل جمع اجتمع من خير أمة أخرجت للناس، فامتنَّ الله تعالى على المسلمين في ذلك اليوم بإكمال الدين وإتمام النعمة وَرِضَاه لنا بدين الإسلام ديناً، والمقصود بالإسلام هنا الدين الذي أنزله الله على محمد بإجماع العلماء. قال ابن كثير: "وقوله: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِينًا) هذه أكبر نعم الله على هذه الأمة حيث أكمل تعالى لهم دينهم ، فلا يحتاجون إلى دين غيره، ولا إلى نبي غير نبيهم، صلوات الله وسلامه عليه؛ ولهذا جعله الله خاتم الأنبياء، وبعثه إلى الإنس والجن، فلا حلال إلا ما أحلّه، ولا حرام إلا ما حرّمه، ولا دين إلا ما شرعه، وكل شيء أخبر به فهو حق وصدق لا كذب فيه ولا خُلْف، كما قال تعالى: (وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلا) أي: صدقاً في الأخبار، وعدلاً في الأوامر والنواهي. فلما أكمل الدين لهم تمت النعمة عليهم؛ ولهذا قال (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِينًا) أي: فارضوه أنتم لأنفسكم، فإنه الدين الذي رضيه الله وأحبه وبعث به أفضل رسله الكرام، وأنزل به أشرف كتبه".
 قوله : (وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي) النعمة المرادة هنا هي النعمة الخاصة التي اختص الله بها أولياءه وهي نعمة الهداية. فإن إنعام الله تعالى على عباده على نوعين:
 النوع الأول: إنعام عام، وهو إنعام فتنة وابتلاء ، كما قال تعالى: (فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ) الآيتين.
 وقال: (فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) وهذا الإنعام عام للمؤمنين والكافرين كما قال تعالى: (كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا) وهذا الإنعام حجة على العباد ودليل على المنعم ليخلصوا له العبادة ويشكروه على نِعَمِه كما بيَّن الله تعالى ذلك بقوله: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ)، وقال: (وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51) وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (52) وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53) ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54) لِيَكْفُرُوا بِمَا آَتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) .
النوع الثاني: الإنعام الخاص، وهو إنعام منَّة واجتباء ، وهو الإنعام بالهداية إلى ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال، وما يمنُّ به على بعض عباده من أسباب فضله ورحمته وبركاته وهذا الإنعام هو المقصود هنا ، وفي قول الله تعالى في إرشاده لعباده في أم القرآن: (اهدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ*صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ) وهو المقصود في قوله تعالى: (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا * ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا) وقوله: (أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آَدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا) فقوله تعالى: (وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي) أي نعمة بيان الهدى إلى ما يحبه الله ويرضاه ؛ فهي نعمة تامة غير ناقصة ، شاملة جميع ما يحتاجه المسلمون أفراداً وجماعات في أي شأن من شؤونهم، كما قال الله تعالى: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) حذف متعلق أفعل التفضيل لإرادة العموم ؛ أي أقوم في كل شيء يُحتاج إليه من أبواب الدين في العقائد والعبادات والمعاملات والأخلاق والسلوك والدعوة والسياسة وغيرها مما تتعلق به حاجة الفرد أو الأمة إلى الهداية إلى ما ينفع ويقرب إلى الله ، وتتحقق به النجاة والسلامة مما يخشى ضرره كما قال تعالى: (قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) . وقال: (فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ)، وقال: (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى) فدلت الآية على كمال الدين وتمام النعمة الخاصة التي اختص الله بها هذه الأمة، فمَنْ قَبِلَها وشكرها كان موعوداً بالخير والفضل العظيم في الدنيا والآخرة، ومن بدَّلها وكفرها كان متوعداً بالعذاب الشديد ، والخسران المبين، كما قال الله تعالى: (وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ)، وقال: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ (28) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ (29) وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (30) قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ)
 فبيَّن الله تعالى في هذه الآيات غاية الكفر وغاية الشكر
 * فغاية الكفر: هو تبديل النعمة بالكفر والتعرض لسخط الله ومقته بالشرك به .
 وأعظم هذه النعم نعمة الإسلام فمن رفضه فقد بدَّل النعمة أقبح تبديل، وسمِّي ذلك تبديلاً للنعمة لأن من فعل أسباب سلب النعمة وإحلال النقمة محلها مبدِّل للنعمة كما بيَّن الله تعالى ذلك بقوله: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) فمن كان على فطرة الإسلام إذا فعل ما يستحق به سلب هذا النعمة فهو مبدّل لهذه النعمة.
 ومن أتاه البيان إلى ما يحبه الله ويرضاه وما يفوز به العبد في دنياه وأخراه ثم رفضه فهو مبدل للنعمة. فإنه لما جاءته نعمة الهداية والبيان فردها وزاغ قلبه عنها قصداً وعمداً أزاغ الله قلبه جزاء وفاقاً (فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم والله لا يهدي القوم الفاسقين).
 ومن كان على دين الإسلام ثم ارتد عنه فهو مبدّل للنعمة أقبح تبديل.
 فهذا بيان أنواع غاية الكفر، وهو الكفر الذي يخرج به من الملة ويستحق به صاحبه الخلود في النار والعياذ بالله ، وهو الذي وصفه الله بقوله: (وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ...) الآية .
وأما غاية الشكر: فما أرشد الله تعالى إليه من إقامة الصلاة والإنفاق في سبيله سراً وجهراً خوفاً وطمعاً وهذا يستلزم تحقيق الإخلاص، ومن فعله فهو من أهل الإحسان في الإسلام.
 وبين هاتين المرتبتين -غاية الشكر وغاية الكفر - درجات كثيرة ومنازل للناس يتفاوتون فيها كما سبق تقرير نظائره في مسائل كثيرة.
(ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ سميع) لما يقوله المؤمنون من حمده ، ولما يقوله الكافرون من نسبة النعمة إلى غيره ظلماً وعلواً. عليم بما في قلوبهم وما تعمله جوارحهم من الشكر أو الكفر.
 فتبيَّن بهذا التقرير وبما تقدم من الأدلة أن الناس يتفاضلون في نصيبهم من هذه النعمة الخاصة على تفاضلهم في طاعة الله والرسول. وتبيَّن أن طاعة الله تعالى وطاعة رسوله هي الشكر الذي يحبه الله ويرضاه. وتبيَّن أن كمال الدين لا يقتضي كمال جميع المنتسبين إليه، وذلك لتفاوتهم في الطاعة؛ فمن أتم الطاعة فقد استكمل دينه، ومن نقص نقص من دينه بقدره.
 قوله تعالى: (وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا) -يدل بمنطوقه- على أن ما رضيه الله تعالى لنا فهو خير لنا وأصلح وأقوم، لأنه رضا عن علم وحكمة ورحمة؛ فدين الإسلام خير الأديان وأصلحها وأفضلها لنا ، وهو دين قد رضيه الله ، والله تعالى لا يرضى بما فيه شرٌّ ومفسدة وظلم.
 -ويدل بمفهومه- على أن غير دين الإسلام لا يرضاه الله لنا. فكل دين غير دين الإسلام فالله تعالى لا يرضاه، وما لا يرضاه الله فهو غير مقبول ولا نافع لمن اتبعه. وكمال دين الإسلام يستلزم اعتقاد كمال بيان النبي لأمور الدين، وأن بيانه لأمور الدين أتم البيان وأحسنه. وهذا أصل مهم يرد به على أهل البدع والأهواء. قال شيخ الإسلام ابن تيمية : 
"(الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) فلم يترك شيئا من أمور الدين وقواعده وأصوله وشرائعه وفصوله إلا بيَّنه وبلَّغه على كماله وتمامه ولم يؤخر بيانه عن وقت الحاجة إليه، إذ لا خلاف بين فرق الأمة أنَّ تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز بحال".
 وقال أيضاً: "ومما جاء به الرسول: إخباره بأنه تعالى قد أكمل الدين بقوله سبحانه: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِينًا) . ومما جاء به الرسول : أمر الله له بالبلاغ المبين كما قال تعالى : (وما على الرسول إلا البلاغ المبين) وقال تعالى : (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم) وقال تعالى : (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس)  . ومعلومٌ أنه قد بلَّغ الرسالة كما أُمِر، ولم يكتم منها شيئًا ؛ فإنَّ كتمان ما أنزله الله إليه يناقض موجب الرسالة ؛ كما أن الكذب يناقض موجب الرسالة . ومن المعلوم من دين المسلمين أنه معصومٌ من الكتمان لشيء من الرسالة كما أنه معصومٌ من الكذب فيها . والأمة تشهد له بأنه بلَّغ الرسالة كما أمره الله وبين ما أنزل إليه من ربه، وقد أخبر الله بأنه قد أكمل الدين ؛ وإنما كَمُلَ بما بَلَّغه ؛ إذ الدين لم يعرف إلا بتبليغه؛ فعُلِمَ أنه بلغ جميع الدين الذي شرعه الله لعباده كما قال صلى الله عليه وسلم: ( تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالكٌ ). وقال : ( ما تركت من شيءٍ يقربكم إلى الجنة إلا وقد حدثتكم به، وما تركت من شيءٍ يبعدكم عن النار إلا وقد حدثتكم به).
 وقال أبو ذر : (لقد توفي رسول الله وما طائرٌ يقلب جناحيه في السماء إلا ذكر لنا منه علمًا)". 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق