السبت، 28 يونيو 2025

فوائد الآيات ( 195- 203) سورة البقرة من دروس التفسير المؤصل

 * بعد ذلك يبتدئ مقطع الحج في قوله تعالى (وأتموا الحج والعمرة لله) ففيه:
 / أن من أسباب قبول الله سبحانه وتعالى للعمل عبودية الإتمام، ليس فقط مجرد أن تعمل بل أن تُتم هذا العمل. وهذا يمكن قد أسلفنا فيه لما تحدثنا عن قصة ابراهيم لما قال (فأتمهن) وقلنا إن الشعيرة التي هي مرتبطة بإبراهيم الذي بنى البيت الحرام، والعبادة التي تقام في البيت الحرام أيضا أتت فيها هذه الكلمة. وهذه كنا أشرنا فيها إلى أن الإتمام يعطيك الشعور النفسي للعامل لهذه بعبادة هل هو مجرد أن يريد فقط أن يخلي تبعته، وإلا بالفعل همة عالية بحيث أنه يريد بالفعل أن يكسب الأجر كاملا ويحرص على مسألة الإتمام.

/ إذا دخلنا في شعيرة الحج فإن من إتمام العبادة أنه لا تجوز الاستنابة في شيء من أفعال الحج والعمرة، مثل الطواف والسعي، والوقوف بعرفة، والمبيت بمنى ومزدلفة، ويدخل في ذلك أيضا رمي الجمار الذي يتساهل به كثير من الناس، فالزحام ليس عذر بدليل إذن النبي ﷺ لسودة أن تنفر في منتصف الليل، وعموما فيها تفاصيل أكثر في كتب الفقه.

/ بينت الآية أحكام الإحصار (فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي) والخلاف الفقهي واقع في مسبباته متى يكون هذا الموقف يسمى إحصارا، فالإجماع على حصول الإحصار بالعدو كما حصل يوم الحديبية، أما الأسباب الأخرى غير الحرب وغير العدو فهذه وقع فيها خلاف مثل: هل يعد المرض إحصارا؟ هل يُعد ضياع المال إحصارا؟ هل إذا نزل الحيض على المرأة يُعد إحصارا؟ هذه فيها خلاف فقهي يُرجع لها في كتب الفقه بشكل عام، والذي دعا الفقهاء إلى من يجوز غير العدو - العدو طبعا هذا باعتبار السياق- الذي دعا الفقهاء الذين قالوا بالجواز لهذه الأمور أن كلمة (أحصرتم) أفادت العموم لكل مانع فمقتضي ذلك - طبعا مقتضى الإحصار أن يتحلل في الوقت الذي حصل فيه الإحصار ويفتدي.

/ بينت الآيات في قوله تعالى (فما استيسر من الهدي) أحكام الهدي ومنها ما يتعلق عند عدم تيسُر الهدي فبينت الآية الحكم الوارد فيه. كما بينت الآية أحكام فدية الأذى، (أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك).

/ بينت الآية أيضا أحكام التحلل (ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله) وكل هذه الأمور لها تفاصيل كثيرة فقهية يرجع لها في كتب الفقه.

/ في قوله تعالى (الحج أشهر معلومات) أفادت تعظيم الحج بجعل أشهر له مع أن فعله يكون في ما يتجاوز ستة أيام فإذا حسبت من عرفة إلى نهاية أيام التشريق خمس إلى ستة أيام فقط ومع ذلك جُعل له أشهر وعُظمت هذه الأشهر، أشهر الحج: شوال والقعدة والحج، وهذه إذا تأملت سابق الزمان في عملية صعوبة الانتقال المكاني مع وسائل النقل البدائية سابقا يعني يحتاجون أن يسيروا إلى الحج ليس فقط أيام ولا أسابيع، بل ربما أشهر، فعُظمت هذه الأشهر، لأنهم يشرعون فيها الانتقال إلى الحج، وإذا تأملت في الأشهر الحرم تجدها تشترك مع أشهر الحج، فأشهر الحج [شوال، القعدة، الحجة] الأشهر الحُرم [القعدة، الحجة، محرم ومعها رجب] فتجد أنهم ثلاثة، شهرين مشتركين يسبقها واحد حج ويلحقها واحد حُرم، فيكون حتى في عودتهم إلى بلدانهم هناك فيه حُرمة زمانية بحيث أنهم سابقا كانوا في النقلة المكانية يتعرضون للسُراق وقطاع الطرق، فمن رحمة الله عزوجل بالحجاج أن جعل الأشهر الحرم في هذه الفترة حتى يأمن الحجاج في انتقالهم من بلدانهم إلى مكة وعودتهم أيضا إلى بلدانهم.

/ من تلبّس بالحج فعليه إتمامه (فمن فرض فيهن الحج) معناه إذا نويت وخلاص دخلت في النسك فما بوسعك أن تقول صرفت نظر، لا.. يجب عليك الإتمام.

/ الإحرام بالحج قبل أشهره لا ينعقد لقوله تعالى (فمن فرض فيهن) أي في أشهر الحج بعد أن قال (الحج أشهر معلومات) فلا بد أن ينعقد الحج داخل هذه الأشهر.

/ بينت الآيات أيضا تحريم الجدال في الحج (فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج) وقت أكد هذا الأمر في سورة الحج، إذا تأملت في سورة الحج المقطع الذي سبق آيات الحج تكرر فيه يمكن ثلاث أو أربع مرات ذم الجدل، وإذا تأملت أن الجدل يشوش الفكر ويؤثر على الاستسلام لله وحسن القصد لله، وعبودية الحج من مقاصدها القصد إلى الله سبحانه وتعالى وتسليم القلب كاملا لله عز وجل. ومن تأمل آيات الحج في حديثها عن تعظيم الشعائر، والحديث عن التقوى وتعظيم الحرمات، كلها مشار فيها إلى (**) بل إن أحد الأقوال في مقصد سورة الحج هو قضية قوة الاستسلام لله سبحانه وتعالى. فالجدل معوق لقضية الاستسلام، بالإضافة إلى أنه يشغل الفكر ويشغل اللسان عن الذكر، ويشتغل الإنسان بشيء خلاف المقصد الذي قصد فيه الحج.

/ في قوله تعالى (وما تفعلوا من خير يعلمه الله) الحث على كثرة فعل الخير مهما كان صغيرا، وهذا يمكن حوالي ثالث أو رابع مرة يأتينا في هذه السورة الحديث عن اغتنام العمل الصالح حتى وإن كان قليلا، فـ (خير) نكرة في سياق الشرط فدلت على العموم، ويتمم هذا المعنى تتمة الآية (وتزودوا فإن خير الزاد التقوى) ولاحظ حتى استعمال كلمة (التزود) تتناسب مع حال هذه الفريضة لأن غالب أحوال الحجاج أنهم يأتون مسافرين والمسافر يحتاج إلى التزود فقد ينشغل بالتزود المادي من لباس أو من مال، أو ما إلى ذلك، والأصل أن يكون أكثر ما يشغله هو التزود بالتقوى قبل الدخول في هذه الشعيرة حتى يؤديها بعبودية الإتمام.

/ أفادت الآيات جواز التجارة في الحج لأن الله عز وجل قال (ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم). وقد يقول قائل طيب لماذا تجوز التجارة ونحن نتحدث عن الاستسلام وسلامة المقصد وعدم الانشغال؟ لكن هذا من تيسير الله سبحانه وتعالى، ودائما نحن في الأحكام ما نقيس على وضعنا الحاضر، نقيس على كامل الزمان، فقد كانوا من قبل يقطعون مسافات طويلة وربما ما أخذوه من المال ينفد في الطريق فأبيح لهم التجارة حتى يستطيعوا إكمال هذه الرحلة، لكن هذا طبعا له فوائده وله مقاصده، فمن أتى حاجا مستسلما لله سبحانه وتعالى ثم مارس التجارة فإن من فوائدها أنه يعدل من سلوكه لو كان عنده خطأ في أنه يعبد الله عز وجل حتى في مناشط الحياة الدنيا بتقوى ولجوء إلى الله عز وجل فطبيعي من سيبذل تجارة في الحج، الوضع الطبيعي مع قوة الاستسلام أن لا يغش ولا يخدع الآخرين، فتكون عبوديته حتى وإن كان في أعمال التجارة، فإنها تكون على النهج المستقيم.

/ في قوله تعالى (فإذا أفضتم من عرفات) مشروعية الوقوف بعرفة والوقوف بمزدلفة والذكر فيها.
كما بينت الآيات شكر الله على الهداية (واذكروه كما هداكم) فإن (كما) هنا تفيد التعليل وهذه ربما من الأمور التي قد نغفل عنها كثيرا، فإذا وجدنا أنفسنا في طريق الهداية فكأننا من عند أنفسنا أتينا بهذا الأمر ونغفل عن شكر الله عز وجل أن وفقنا للهداية، فإن هذه الأمور إذا تفكرت أن هناك أناس حُرموا وأنت استطعت أن تفعل ذلك الأمر، فهذه محض منّة من الله سبحانه وتعالى، فهو أمر في حد ذاته يحتاج إلى الشكر، ويحتاج إلى التبرؤ من الحول والقوة إلى الله سبحانه وتعالى. ولذلك أتى في تمام الآية (وإن كنتم من قبله لمن الضالين) فإذا نظرتم إلى الضالين الآخرين فتذكروا أنفسكم قبل هذه الهداية، وينطبق هذا الكلام حتى داخل المؤمنين ما بين المؤمن الطائع والمؤمن العاصي، يعني الذي حُسن عمله بعد ذلك إذا أتى يعظ الآخرين فليتذكر حاله قبل ذلك وبالتالي صيغة الخطاب لا بد ما يكون فيها استعلاء على الآخرين، أو إعجاب بالنفس، أو ما إلى ذلك، بل لا بد أن يروض نفسه على قوة الإذعان لله عز وجل، وقوة الشكر لله عز وجل والتبرؤ من الحول والقوة بشكل عام.

/ لما قال الله عز وجل (واستغفروا الله) بينت مشروعية كثرة الاستغفار بعد الطاعات، لأنه بعد أن ذكر الوقوف بعرفة وهو ركن الحج، والإفاضة من مزدلفة ذكر الاستغفار، فهي من الأمور التي تكون خاصة بالعبادات العظيمة. ومر علينا قبل الدرس الماضي الحديث عن التكبير بعد رمضان، ومر علينا في مواقف سابقة في مواقف بني إسرائيل الذي هو (وادخلوا الباب سجدا) فهذه إحدى الشواهد على أن العبادات العظيمة ينبغي أن يسبق نفسه إلى الاستغفار لا أن تسبقه نفسه إلى الغرور بالعمل والعجب به، فهذه من مظنة القبول.

/ بينت الآية حال الذاكرين (أو أشد ذكرا) والشدة في الذكر تشمل هيئة الذكر، تشمل حضور القلب، تشمل الإخلاص، تشمل العدد، فهذا يدلك على أن حتى الأعمال الصالحة تتفاضل فيما بينها، فهناك ذاكر، وهناك أشد ذكرا، فليكن حالنا مع الأشد وليس مع مجرد الذكر.

🔖 في قوله تعالى (ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار) الإنسان لا يذم إذا طلب حسنة الدنيا لحاجة له فيها ولكن يُذم إذا اقتصر عليها وفي لم يطلب حاجة الآخرة، وهذا أدب من آداب الدعاء، صحيح هنا الانسان يتحرى أوقات الإجابة ليدعو ولا يذم في ذلك لكن ليحذر ألا يكون كامل دعاءه فقط لمكاسبه الدنيوية ويقصّر أو يترك دعاء ما يتعلق باليوم الآخر وما يتعلق بالتوفيق للهداية، أو بالتوفيق للإخلاص، فهذه أمور من شأن المؤمن أن يدعو بالأمرين معا. فتجد أنه ذُم (ربنا آتنا في الدنيا وما له في الآخرة من خلاق) هذه كانت على سبيل الذم، (ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة) وزاد (وقنا عذاب النار) معناه إنه ليس فقط مجرد أنه طلب حسنة الآخرة، بل وأطال فيها بمزيد دعاء. ولا شك أن هذا الدعاء الوارد في هذه الآية أنه من جوامع الدعاء، وهذه من فوائدها بشكل عام سواء في هذا الموطن أو في نظيراتها المتعددة في القرآن أنه إذا أراد الإنسان أن يستجمع الخير في أوقات الفضل في إجابة الدعاء مفتوح لك أن تختار صيغة من نفسك في الدعاء حسب حاجتك، لكن الأفضل أنك تبتدئ أولا بجوامع الدعاء ثم تثني بما تصيغه من عندك من دعاء لأن جوامع الدعاء فيها أمور قد ما يخطر على بالك أنك تدعوها، يعني إذا أردت أن تنشئ دعوة من عندك فقد تقصر كثيرا في أمور فيها مصلحة دعائك، ولون نُبئت بها لحرصت عليها. فالقرآن كفانا هذا الهمّ وأتتنا صيغ متعددة فيها جوامع الدعاء، فالأفضل للعبد أن يُضمن دعاءه جوامع الدعاء ولا بأس أن يأتي بأدعية أخرى. 

/ أفادت الآية أن من مقاصد الحج الذكر حيث تكرر في هذا المقطع حوالي خمس مرات وإذا أضفت لها الاستغفار والدعاء فإنها أكثر. ومن مقاصد الحج في هذه الآيات التي بين أيدينا: التوحيد، الإتمام، الجمع بين عمل الدنيا وعمل الآخرة كما حصل في التجارة، وكما حصل في الدعاء بحسنات الدنيا والآخرة، فهذه من مقاصد الحج، وطبعا مقاصد الحج أطول من ذلك تؤخذ بمجموع الأدلة وليس في موطن واحد.
--------

https://t.me/fwaidalayat

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق