الأحد، 4 مايو 2025

فوائد منتقاة من سورة يونس \ الآيات (٩٩- ١٠٩)

 - ( فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ امَنَتْ فَنَفَعَهَا إيمَتُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّآ ءامَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزِى فِى الْحَيَوْةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعَنَهُمْ إِلَى حِينٍ)
[ يونس: ]
* القرية في القرآن تطلق ويُراد بها المدينة كما تُطلق المدينة في القرآن ويُراد بها المدينة، فالقرية والمدينة في القرآن بمعنى واحد، ويونس -عليه السلام- هو يونس بن متى، ذُكر في القرآن في مواضع عدة، ذُكر باسمه وذُكر بلقبه قال الله- جل وعلا - ( وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ) وقال هنا ( فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ ءَامَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَنُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ }. وذكره في الأنعام في (تلك حجتنا)، وجاء بما اشتُهر به قال جل وعلا- ( وَذَا النُّونِ إِذ ذَهَبَ مُغَاضِبًا }، وقال في القلم (وَلَا تَكُن كَصَاحِبٍ الْحُوتِ ) وكلها تأتي على يونس.

- يونس بُعث في نينوى من أرض الموصل من العراق، دعا قومه وتوعدهم بالعذاب ، كأن العذاب تأخر - على أظهر أقوال العلماء تركهم- لما تركهم ركب سفينة ، ما إن ركبها إلا والسفينة باقية والسفن غيرها تغدو وتروح، فلما كانت السُفن تغدو وتروح فالعلة ليست في الرياح، العلة في السفينة فأخذوا يتساءلون فيما بينهم قال والله هذا لا يكون إلا عبدا أبق من سيده  فاقترعوا، فقبل أن يدخل معهم قال اللّٰه ( فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ ٱلْمُدْحَضِينَ } (فساهم) غير (فأسهم)

"أسهم" بمعنى أعطى وشارك، و"ساهم" أي دخل في القرعة ، فوقعت القرعة عليه فأُلقي في البحر، والبحر والجو كلها ملك الله، فابتلعه حوت، والحوت هذا ذهب إليه بقدر اللّٰه، فلما ابتلعه أوحى اللّٰه إلى الحوت ألا تهشم له عظما ولا تأكل له لحما، فبقي مُستقرا في بطنه، فأخذه الحوت إلى قاع البحر فاجتمع عليه ظُلمة بطن الحوت وظُلمة الليل وظُلمة البحر. يقولون - والمعنى يقبله العقل- حرّك جوارحه فوجدها تتحرك فنادى - والله أثبت النداء - قال ربنا: ( وَذَا النُّونِ إِذ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَن نَقْدِرَ عَلَيْهِ ) معنى ( فَظَنَّ أَن لَن نَقْدِرَ عَلَيْهِ ) أي لن تُضيق عليه ، من التضيق وليس من القُدرة ، أي غلب على ظنه أنني رسول ونبي وهم الذين أغضبوني ، فلو تركتهم لن يُضيق اللّٰه عليّ، هم الذين لم يستجيبوا لي، وهو كأنه لم يستأذن ربه في الخروج ، (فَظَنَّ أَن لَن نَقْدِرَ عَلَيْهِ } وهذا الذي جعله يعزم على المُضي ، لكنه لما وجد نفسه في بطن الحوت - من رحمة اللّٰه بأي عبد إذا أراد اللّٰه أن يقبله يعلمه كيف يُقبل على اللّٰه يُلقي في قلبه أن يتوب ثم يقبل التوبة، يدله كيف يتوب ثم يقبل منه تلك التوبة ثم يرحمه - فقال ( فَنَادَى فِي الظُّلُمَٰتِ ) وذكر ثلاث جمل :

 الأولى : شهد لله بالوحدانية فقال - كما قال ربنا-: (فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ } وما خلق اللّٰه الخلق إلا من أجل هذه الكلمة، لا تُقام ساحة عرض يوم الحساب ولم يخلق اللّٰه السموات والأرض، ولم يُنصب سوق النار وسوق الجنة، ولم ينزل كتاب ولم تأتِ سنة إلا من أجل أن يُعبد اللّٰه وحده دون سواه ، فقهها يونس قال (لَا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ )، ثم نزّه ربه عما لا يليق فقال ( سُبْحَانَكَ ) ومن أعظم العبادات تنزيه اللّٰه عما لا يليق بجلاله، ثم اعترف بخطيئته لأن في انكساره سببا عظيما لقبول توبته فقال (سُبْحَٰانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظالِمِينَ ) فجمع ما بين ثلاثة أمور : ما بين توحيد اللّٰه وتنزيه اللّٰه عما لا يليق به، وما بين الاعتراف بالذنب والخطيئة  فقال اللّٰه: 

(فَاسْتَجَبْنَا لَهُ) فحقق اللّٰه مراده فأمر اللّٰه الحوت أن يُلقيه خارج البحر، قال الله: ( فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَآءِ وَهُوَ سَقِيمٌ ) لما مكث أياما خرج ضعيفا وكان بالإمكان أن يخرج سويا لكن اللّٰه لا يعجل لعجلة أحد من خلقه، ثم استوى على سوقه أياما حتى رُدت إليه صحته، فذهب إلى قومه وكانوا لما تركهم يونس قد شعروا بقُرب العذاب، أظلهم العذاب فأصبح إيمانهم اضطراري".(١)

والإيمان نوعان : 

/ إيمان اختياري .

/ إيمان اضطراري. وهذا لا يقبله اللّٰه أبدا وله حالتان :

الحالة الأولى : عامة لم تأتِ وهي طلوع الشمس من مغربها والدليل عليه قول اللّٰه تعالى ( يَوْمَ يَأْتِ بَعْضُ ءَايَٰتٍ رَبِّكَ لَا يَنفَعُ نَفْسًا ) مفعول به مقدم ( إيمَانُهَا ) فاعل يعني لا ينفع الإيمان النفس.

الحالة الثانية : إذا حق العذاب ونزل فلا يُقبل كما قال فرعون ( آمَنتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي ءَامَنَتْ بِهِ بَنُواْ إِسْرَائيلَ وَأنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ ) ومع ذلك لم يقبل اللّٰه منه إيمانه.

فلما رأوا العذاب فالأصل أن اللّٰه لا يقبل توبة حينها لهذا قال اللّٰه (إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ) مستشنون من سَنن اللّٰه في خلقه.

هذه السنة الكونية العامة أخرج اللّٰه منها قوم يونس لحكم أخفاها اللّٰه، ولعل سبب هذه الخصوصية التي خُصّ بها قوم يونس أنه سبحانه علم صدقهم في إيمانهم وإخلاصهم في توبتهم والدليل أنهم لما رُفع عنهم العذاب لم يرجعوا إلى ما كانوا عليه من الكفر بل ثبتوا على الإيمان واستقاموا على التوبة حتى انتهت آجالهم .

قال الشيخ بن عثيمين - رحمه اللّه- " الحكمة أن يونس - عليه السلام - خرج من قومه مغاضباً قبل أن يؤذن له وكأنه لم يستكمل الدعوة فلم تقم عليهم الحجة الكاملة فصار لهم في هذا نوع عذر لهم ولهذا نجوا حين آمنوا بعد رؤية العذاب "

- رحمة اللّٰه تُستجدى بالانكسار، ومن طرائق الانكسار أن يُوفق الإنسان للفظ كلمة يقولها تُستدر بها رحمة اللهَ لذلك جبريل أبغض فرعون بغضا شديدا حين قال ( أَنَاْ رَبُّكُمُ الْأَعْلَى } فلما جاء فرعون في البحر جعل جبريل يأخذ الطين ويجعله في فم فرعون خوفا من أن يقول فرعون كلمة يستدر بها رحمة الله.

 

- ( وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُهُمْ جَمِيعًا ) 

"قال ابن عباس : إن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كان يحرص أن يؤمن به جميع الناس ويتابعوه على الهدى فأخبره اللّٰه عز وجل أنه لا يؤمن به إلا من سبقت له من السعادة في الذكر الأول، ولم يضل إلا من سبق له من اللّٰه الشقاء في الذكر الأول، وفي هذا تسلية للنبي- صلى الله عليه وسلم- لأنه كان حريصاً على إيمانهم كلهم فأخبره اللّٰه أنه لا يؤمن به إلا من سبقت له العناية الأزلية فلا تتعب نفسك على إيمانهم وهو قوله سبحانه وتعالى: ( أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ ) ، ( وَمَاكَانَ لِنَفْسِ أَن تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ الَّلهِ وَيَجْعَلُ الرِّجسَ عَلَى ٱلَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ }

"إذنه" هاهنا قضاؤه وقدره لا مجرد أمره وشرعه، كذلك قال السلف في تفسير هذه الآية .

وقال محمد بن جرير : " يقول جل ذكره لنبيه : وما لنفس خلقها من سبيل إلى أن تصدقك إلا أن يأذن لها في ذلك ،فلا تجهدن نفسك في طلب هداها، وبلغّها وعيد اللّٰه ثم خلّها فإن هُداها بيد خالقها، وما قبل الآية وما بعدها لا يدل إلا على ذلك .


- أمر النبي - صلى الله عليه وسلم- أن يُعلن ثباته على الحق واعتزازه به ( قُلْ يَأَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي شَكٍ مِن دِينِى فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَلَٰكِنْ أَعْبُدُ ٱللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ ).

إن كثرت ركام الباطل وانتشاره قد يُضعف من عزيمة بعض الدعاة وينال من حماسهم في حمل الدعوة ،وصمودهم في وجه تيارات الباطل، فتتزعزع ثقتهم ، وتضعف مقاومتهم ،ويجرفهم التيار فيأتي هذا الإعلان قوة معنوية تُمِد الداعية بالثقة والعزيمة فلا يلين ولا يضعف ولا يتوانى ولا يتخاذل.


- السبب الرئيسي لانحراف أكثر الناس عن عبادة اللّٰه وحده هو اعتقادهم أن غير اللّٰه تعالى قد يجلب لهم النفع أو يدفع عنهم الضور ولهذا قال سبحانه : ( وَلَا تَدْعُ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لَا يَنفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ).


- " آية في سورة يونس تجعل المؤمن مطمئنا على رزقه متوكلا على ربه يعلم أن العباد لن يضروه أو ينفعوه إلا بما كتب اللّٰه له أو عليه، تأمل : ( وَإِن يَمْسَسْكَ ٱللَّهُ بِضُرِ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَآدَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ ٱلْغَفُورُ الرَّحِيمُ) ، ففي الشر جاء به مسا ويكشفه، وفى الخير يصيب به العباد ولا يمنعه، وهو الغفور الرحيم لأنه سبحانه لو عامل الناس بما يفعلون لعاقبهم ولكنه سبحانه غفور ورحيم سبقت رحمته غضبه. "(٢)


- هل الضار النافع من أسماء اللّٰه؟(٣)

أولا: لم يثبت بدليل صحيح أن الضار من أسماء اللّٰه تعالى ، وإنما ورد ذلك في الحديث المشهور الذي فيه تعداد الأسماء الحسنى ، وهو حديث ضعيف رواه الترمذي وغيره، والمقرر عند أهل العلم أن أسماء اللّٰه تعالى وصفاته توقيفية ، أي لا يثبت منها شيء إلا بالدليل الصحيح من الكتاب والسنة ، فإذا لم يثبت الاسم وكان معناه صحيحا فإنه يجوز الإخبار به عن اللّٰه تعالى فيقال : اللّٰه هو الضار النافع ، لأن باب الإخبار أوسع من باب الأسماء والصفات ، لكن لا يتعبّد بهذا الاسم، فلا يقال : عبد الضار أو عبد النافع لأنه لم يثبت اسما لله تعالى . وأما ما يوجد في كلام بعض أهل العلم من تسمية اللّٰه تعالى بالضار النافع ، فلعل ذلك منهم اعتمادا على حديث الترمذي وقد سبق أنه حديث ضعيف والمعوّل عليه هو الدليل الصحيح من الكتاب أو السنة .

ثانيا: معنى الضار: الذي يقدّر الضر ويوصله إلى من شاء من خلقه، فالخير والشر من اللّٰه تعالى كما قال سبحانه :

( وَنَبْلُوكُم بِٱلتَّرِ وَالْخَيْرِ فِتنَةٌ وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ) [الأنبياء: ٣٥]، وقال: ( وَإِن يَمْسَسْكَ الَّلهُ بِضُرِ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِن يَمسسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [الأنعام: ١٧] ، وقال : ( وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَنْ خَلَقَ السَّمَٰوَتِ وَٱلْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُ قُلْ أَفَرَءَيْتُم مَا تَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرّ هَلْ هُنَّ كَاشْفَٰتُ ضُرِّه أَوْ أَرَادَنِى بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِىَ ٱللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكَلُونَ) [الزمر: ٣٨] .

وروى الترمذي وأبو داود وابن ماجه عن عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ -- قال : قَالَ رَسُولُ اللّهِ - صلى الله عليه وسلم- : ( مَا مِنْ عَبْدٍ يَقُول فِي صَبَاحٍ كُلِّ يَوْمٍ وَمَسَاءِ كُلِّ لَيْلَةٍ : بِسْمِ اللَّهِ الَّذِي لا يَضُرُّ مَعَ اسْمِهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ثَلاثَ مَرَّاتٍ لَمْ يَضُرَّهُ شَيْءٌ ) وصححه الألباني في صحيح الترمذي. وروى الترمذي عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : كُنْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللّهِ - صلى الله عليه وسلم- يَوْمًا فَقَالَ : ( يَا غُلَامُ إِنِّي أُعَلَّمُكَ كَلِمَاتٍ احْفَظْ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظْ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلْ اللَّهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ، وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتْ الأَقْلامُ وَجَفَّتْ الصُّحُفُ ). وصححه الألباني في صحيح الترمذي. قال ابن تيمية -رحمه اللّٰه-: "فهذا يدل على أنه لا ينفع في الحقيقة إلا اللّٰه ولا يضر غيره" .

ثالثا : لما كان الإخبار عن اللّٰه تعالى بأنه الضار قد يوهم نقصا بيّن أهل العلم أنه لا يذكر إلا مقرونا بالإخبار عنه بأنه النافع سبحانه وتعالى فيقال: الضار النافع كما يقال : القابض الباسط ، العفو المنتقم .

قال ابن القيم رحمه اللّٰه: " إن أسماءه تعالى منها ما يطلق عليه مفردا ومقترنا بغيره ، وهو غالب الأسماء كالقدير والسميع والبصير والعزيز والحكيم ، وهذا يسوغ أن يُدعى به مفردا ومقترنا بغيره ، فتقول : يا عزيز ، يا حليم ، يا غفور ، يا رحيم . وأن يفرد كل اسم ، وكذلك في الثناء عليه والخبر عنه بما يسوغ لك الإفراد والجمع، ومنها ما لا يطلق عليه بمفرده بل مقرونا بمقابله كالمانع، والضار، والمنتقم ، فلا يجوز أن يفرد هذا عن مقابله، فإنه مقرون بالمعطي والنافع والعفو، فهو المعطي المانع، الضار النافع، المنتقم العفو، المعز المذل ، لأن الكمال في اقتران كل اسم من هذه بما يقابله عطاء ومنعا ، ونفعا وضرا، وعفوا وانتقاما لأنه يراد به أنه المنفرد بالربوبية وتدبير الخلق والتصرف فيه ؛ وأما أن يثنى عليه بمجرد المنع والانتقام والإضرار فلا يسوغ، فهذه الأسماء المزدوجة تجري مجرى الاسم الواحد الذي يمتنع فصل بعض حروفه عن بعض ، ولذلك لم تجيء مفردة ولم تطلق عليه إلا مقترنة فاعلمه، فلو قلت : يا مذل ، يا ضار ، يا مانع ، وأخبرت بذلك لم تكن مثنيا عليه ولا حامدا له حتى تذكر مقابلها " انتهى من "بدائع الفوائد" (١٣٢/١) باختصار .

رابعا: يجب أن يُعلم أن المطلوب من العبد في هذا المقام أن يُرى تفرد اللّٰه تعالى بربوبيته لخلقه ، سبحانه له الخلق والأمر فلا منازع له في سلطانه ، ولا راد لأمره ، ولا معقب لحكمه .

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه اللّٰه : " الرب سبحانه هو المالك المدبر ، المعطي المانع ، الضار النافع ، الخافض الرافع، المعز المذل ؛ فمن شهد أن المعطي أو المانع أو الضار أو النافع أو المعز أو المذل غيره فقد أشرك بربوبيته ، لكن إذا أراد التخلص من هذا الشرك فلينظر إلى المعطي الأول مثلا فيشكره على ما أولاه من النعم ، وينظر إلى من أسدى إليه المعروف فيكافؤه عليه ؛ لأن النعم كلها لله تعالى كما قال تعالى: ( وَمَابِكُم مِن نِعْمَةٍ فَمِنَ ٱللَّهِ } وقال تعالى: ( كُلَّا تُمِدُّ هَؤُلَآءٍ وَهَؤُلَآءٍ مِنْ عَطَآءِ رَيِّكَ } فالله سبحانه هو المعطي على الحقيقة ؛ فإنه هو الذي خلق الأرزاق وقدرها وساقها إلى من يشاء من عباده ، فالمعطي هو الذي أعطاه وحرك قلبه لعطاء غيره ؛ فهو الأول والآخر .. ، وكذا جميع ما ذكرنا في مقتضى الربوبية، فمن سلك هذا المسلك العظيم استراح من عبودية الخلق ونظره إليهم، وأراح الناس من لومه وذمه إياهم ، وتجرد التوحيد في قلبه فقوي إيمانه وانشرح صدره وتنور قلبه ؛ ومن توكل على اللّٰه فهو حسبه ". ولهذا قال الفضيل بن عياض - رحمه الله- : من عرف الناس استراح .يريد - والله أعلم - أنهم لا ينفعون ولا يضرون. والله أعلم.


- وجاءت الآية الأخيرة تُلخص كل ما سبق تقريره في السورة : ( قُلْ يَأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَآءَ كُمُ ٱلْحَقُّ مِن رَبِكُمْ } ببعثة الرسل وإنزال الكتب فلا عذر لكم ( فَمَنِ اهْتَدَىٰ ) بالتصديق والقبول والإذعان ( فَإِنَّمَا يَهْتَدِى لِنَفْسِه ) لأن نفعه وثوابه يعود عليها (وَمَن ضَلَّ ) واختار الكفر والفجور ( فَإنَّمَا يَضِلُ عَلَيْهَا ) لأَن وبال ضلاله وكفره على نفسه ، ( وَمَآ أَنَا عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ ) أي ما أنا مسئول عنكم ، إنما أنا بشير ونذير .


- ما على الدعاة إلا الاتباع والامتثال والاستمرار في الدعوة إلى اللّٰه تعالى مهما طال الزمن واشتدت المحن، واضعين نصب أعينهم التوجيه الحكيم من اللّٰه تعالى لنبيه الكريم (وَٱتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَٱصْبِرَ حَنَّى يَحْكُمَ ٱللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ ٱلْحَٰكِمِينَ)

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

١- برنامج مع القرآن (١) / للشيخ صالح المغامسى

٢- د.نوال العيد

٣- موقع الإسلام سؤال وجواب للشيخ / محمد المنجد

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق