الأحد، 17 نوفمبر 2013

تفسير سورة النبأ / الشيخ صالح المغامسي




الحمد لله وإن كان يقِل مع حقه حمد الحامدين وأشهد ألاّ إله إلا الله وحده لا شريك له إله الأولين وإله الآخرين ، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله بلّغ عن الله رسالاته ونصح له في برياته فجزاه الله بأفضل ما جزى به نبيا عن أمته صلى الله وملائكته والصالحون من خلقه عليه كما وحّد الله وعرّف به ودعا إليه اللهم وعلى أصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع هديه بإحسان إلى يوم الدين أما بعد : فهذا هو الدرس الثاني في هذا الجامع المبارك في مسجد المهاجرين في مدينة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ودرس اليوم تفسير لسورة النبأ والدرس علمي في المقام الأول .
وسورة النبأ بالاتفاق سورة مكية ، ومعلوم -قطعا- أن أهل العلم يُقسمون سور القرآن إلى مكيّ ومدنيّ ، والرأي المختار من أقوال أهل العلم في التقسيم أن ما نزل قبل الهجرة يُسمّى مكيا وما نزل بعد الهجرة يُسمّى مدنيا بصرف المكان عن سبب نزوله وإنما العبرة بالتاريخ . وسورة النبأ لها اسم توقيفي وثلاثة أسماء اجتهادية ، ولما نقول لها اسم توقيفي فإن المختار من أقوال أهل العلم الذي عليه جمهورهم أن أسماء سور القرآن أسماء توقيفية بمعنى أن الصحابة بلغونا إياها أخذا عن النبي -صلى الله عليه وسلم- لكن شاع في كتب التفسير وغيرها من الكتب التي تُعنى بالدراسات القرآنية يشيع ويذيع أسماء أُخر غير الاسم التوقيفي .
فسورة النبأ الاسم التوقيفي لها سورة النبأ وهو مأخوذ من قول الله -عز وجل- فيها (عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ*عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ) ولها ثلاثة أسماء اجتهادية أي لا نستطيع أن نقول إن النبي -صلى الله عليه وسلم- نقل للصحابة أن هذا اسمها ، والأسماء الاجتهادية الثلاثة لهذه السورة : تُسمى سورة عمّ يتساءلون وهذا من أشهر أسمائها وهو المشهور اليوم عند عامة المسلمين ، ويقولون عن الجزء الثلاثين جزء عمّ نسبة له لكن الاسم التوقيفي اسم سورة النبأ لكن شاع بين أهل العلم وغيرهم من عامة المسلمين أنها تُسمّى سورة عمّ يتساءلون .
كما تسمى سورة المتسائلون مأخوذة من قول الله -جل وعلا- فيها (عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ) ، وتُسمّى اسما اجتهاديا ثالثا وهي سورة المعصرات لأن الله -عز وجل- قال فيها (وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاء ثَجَّاجًا) و(الْمُعْصِرَاتِ) لفظ لم يرد في القرآن إلا في سورة النبأ . 
واما التفسير : فربنا -جل وعلا- يقول (عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ*عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ) ومعنى عمّ : عن ماذا ، عن أي شيء يتساءلون ، والمخاطب -المُتحدَث عنهم- كفار قريش ، لأن القرآن أول ما أُنزل أُنزل عليهم ، والنبي -عليه الصلاة والسلام- بين أظهرهم فلما جاءهم -صلى الله عليه وسلم- بالوحي من ربه اختلفوا فيه فقال الله -عز وجل- (عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ*عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ) ، والنبأ يوافق كلمة خبر إلا إن الخبر إذا كان ذو فائدة عظيمة ويُورث عِلما أو غلبة ظن يُسمّى نبأ قال الراغب الأصفهاني -رحمه الله- "ولا يُسمّى نبأ إلا إذا اجتمعت فيه هذه الثلاثة" وهذه الثلاثة هي : أن يكون ذا فائدة عظيمة ، وأن يُفيد العِلم ، أو غلبة الظن ، فإن أدرك ذلك سُمّي نبأ .
واختلف العلماء على المراد بقول الله (عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ) فالمشهور ، المنقول عن الحبر بن عباس -رضي الله عنه وعن أبيه أن المراد بالنبأ : القرآن واحتجوا بقول الله -عز وجل- في كتابه العظيم (قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ*أَنتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ) ، والذي يظهر أن المراد بالنبأ العظيم : جُملة ما جاء به النبي -صلى الله عليه وسلم- من ربه من القرآن والبعث والنشور لأن كفار قريش كانوا أكثر خلق الله تكذيبا بالبعث والنشور ، فاليهود والنصارى تؤمن بالبعث والنشور لكنها لا تؤمن بنبوة محمد الله يقول عنهم (وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى) فهم يؤمنون بالجنة وبالبعث وبالنشور لكنهم ل يؤمنون بنبوة نبينا -صلى الله عليه وسلم- فهم بذلك كفار ، لكن كفار قريش لا يؤمنون أصلا بأن العظام بعد أن تبلى تُبعث وتحيا قال الله -عز وجل- عنهم (زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَّن يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ) فقال ربنا هنا (عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ*عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ*الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ) والاختلاف لا يضر ، أحيانا يكون محمودا وأحيانا يكون أمرا مشينا لكن الإنسان ينظر فيمن اختلف معه فإن كانت الغاية واحدة فلا ينبغي أن يُورث ذلك ضغينة في القلب ولا حقدا على البعض لكن إذا كان الاختلاف اختلافا كاختلاف المؤمنين والكفار فهذا الذي يُورث البغض ولا حرج فيه فمثلا : نحن معشر المسلمين -ولله الحمد- نؤمن بالأنبياء جميعا وبالبعث والنشور والجنة والنار ، وتوجد أُمم ومِلل كاليهود والنصارى وغيرهم لا يؤمنون بنبوة نبينا -صلى الله عليه وسلم- ولا بالأنبياء جميعا فالاختلاف معهم إذا أورث في قلوبنا بُغضا لهم فهذا حق لكن أن تختلف أنت وأهل بيتك على أمر كلٌ منكم يرجو الخير للبيت -للدار- فهذا شيء بدهي لأن العقول تختلف ، واختلاف العلماء من المتبعين للحق كل ذلك مُندرج في الباب نفسه ولا يضر ، وقد وقع هذا الاختلاف حتى بين الأكابر من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولا ينبغي أن يُورث ذلك حقدا ولا ضغينة ولا أمرا يتنازع الناس فيه فيصبح عليه ولاء وبراء فكل ذلك -عياذا بالله- من نزغات الشيطان .
/ قال ربنا (عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ*عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ*الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ*كَلاَّوهذه كلمة ردع وزجر (سَيَعْلَمُونَ*ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ) ولم يذكر الله -جل وعلا- متعلق العِلم أي يعلمون ماذا لكن الله أخفاه لظهوره أي : سيعلمون عاقبة ذلكم التكذيب وإنكارهم للبعث والنشور سيعلمون عاقبته يوم القيامة ، يوم يُحشر العباد ويقوم الأشهاد بين يدي ربهم -جلّ ذكره وتبارك اسمه- قال ربنا (كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ*ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ) فلما بيّن -جل وعلا- حالهم ذكر الأدلة على وحدانيته وربوبيته -تبارك اسمه وجلّ ثناؤه- فساق بعضا من مخلوقاته ذُكرت تِباعا في السورة الكريمة حتى تقوم الحجة على أهل الإشراك الذين يؤمنون بأن الله -عز وجل- خلق ذلك كله ومع ذلك لم يقع منهم إيمان بالله -تبارك اسمه وجل ثناؤه- وهذا يدلّ على أن أمرا ما في القلوب لأنه من أقرّ بأنه لا أحد يخلق إلا الله وجب عليه لِزاما أن يُقرّ أنه لا أحد يُعبد إلا الله فمن كان يخلق هو الذي يستحق العبادة ولا أحد يخلق إلا الله ، فذكر الله -عز وجل- بعضا من مخلوقاته ، من آياته الدالة عليه فقال -جلّ ذكره- (أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ مِهَادًا) والهمزة في قوله (أَلَمْ نَجْعَلِ) همزة استفهام و "لم" قطعا هي أداة نفي وهذا يُسمى أسلوب استفهام تقريري -وهو مرّ معنا كثيرا في الدروس- من أعظم طرائق التقرير في لغة العرب . 
قال ربنا (أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ مِهَادًا) فبدأ بذكر الأرض لأسباب :
أولها : أن الأرض خلقها مُقدم على خلق السموات .
الثاني : أن الأرض أول ما يُباشرهم ، أول ما تتعلق به حياتهم الأرض لأنهم يعيشون عليها فأقام الحُجّة وأرشدهم إلى الشيء الذي يعيشون عليه.
 (أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ مِهَادًا) أي جعلها الله -جل وعلا- مهدا ميسرة لأن يطؤها ويسكنوا عليها ويبتغوا من خلالها الرزق قال ربنا -جل وعلا- (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ)(أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ مِهَادًا) وكونها ممهّدة -كما هو ظاهر عيانا- لا ينفي لا كرويتها ولا ينفي دورانها فهذا شيء وهذا شيء وقد دلّ الواقع المشهود الذي لا يمكن أن يُنكر أن الأرض تدور وأن الأرض كروية ، هذا أمر لم يعد يُقبل أن يُنكره أحد لأن ما يُملا في الكون اليوم من طرائق  معروفة تقنية مبنية على هذا الأمر فلو كان هذا باطلا لكان ما يراه الإنسان اليوم محسوسا باطلا وهذا غير مُقنع أن يقول الإنسان أبدا إنه باطل ، والمقصود : أن الله خاطب أولئك الكفار بمقتضى عقولهم ولم يتطرق القرآن إلى أشياء لا تبلغها عقولهم لأن المراد إقامة الحجة عليهم ، والحجة لا تقوم على أحد إذا خُوطب بشيء لا يبلغه عقله .

/ قال الله -عز وجل- (أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ مِهَادًا* وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا) أوتادا للأرض ، والوتد معروف يُضرب في الأرض حتى تثبُت أعمُد الخيام قال الأفوه الأودي :
والبيوت لا تنبني إلا على عُمد ** ولا عماد إذا لم تُرعى أوتاد 
والأفوه الأودي رجل من بني أود من شعراء العرب في الجاهلية كان من أشهر العرب في الحكمة والرأي وكانت العرب تصدر كثيرا عن رأيه وحكمته ، والذي يعنينا الحديث عن الوتد فجعل الله -وهو قادر على ألاّ يكون ذلك- لكن حتى يُعلم عباده حُسن الصنعة جعل الجبال أوتادا والله -تبارك وتعالى- جاء في الأثر "لما خلق الأرض جعلت تميد ثم خلق عليها الجبال فرست فتعجبت الملائكة مما رأت" . والله -جل ذكره- ذكر الجبال في القرآن في مواطن كثيرة كما ذكر الأرض وسيأتي -إن شاء الله- في دروس متلاحقة -بإذن الله- . 

/ فقال ربنا -جل وعلا- هنا (أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ مِهَادًا* وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا* وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا) ومعنى (وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا) على الصحيح : خلقنا كل خلق ذكر وأنثى ، هذا المعنى الأول وقال ربنا -جل وعلا- (وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى) هذا المقصود الأول لكن يمكن أن يُلتمس -يُفهم- من هذا الخطاب القرآني أنه ما من شيء إلا ويُقابله آخر ، وتقريب المعنى لك ما من أحد في الخير إلا ويُقابله أحد في الشر ، وكلما مرت الدهور والعصور والأزمن وظهر أحد بارع في أمر يظهر أحد نظير له في أمر آخر ضد ذلك الأمر وهذه من سُنن الله -جل وعلا- التي لا تتبدل ولا تتغير ، ولو تأمل الإنسان فإن إبليس هو القائد للشياطين فكلهم تبع له في الشر ، كما أن جبريل -عليه السلام- يُقابل إبليس يسوق الملائكة في الخير فيُصبح النِد لإبليس -يقاربه،يُماثله- في الدرجة لا في الصنعة خلق الله -جل وعلا- إبليس وخلق ندا له جبريل ، وما من أحد يُخلق إلا ويُخلق نِد له ولهذا تفقه كيف أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال (اللهم أعزّ الإسلام بأحد العُمرين) وإن كان الحديث قد لا يرقى إلى صحة السند لكنه شاع ذكره في كُتب السير والمراد أن الخطاب -رضي الله عنه وأرضاه- في أهل الإسلام أيام كان المسلمون في مكة يُقابله عمرو بن هشام -أبو جهل- في أهل الإشراك ، فكل أحد له نِد حتى لو قرأت كتب التاريخ في الزعامة السياسية أو الأدبية أو غيرها ما يظهر أحد يبرع في أمر إلا ويظهر آخر يُقارعه في ضد هذا الأمر ، ظهر أبو نواس -شاعر عباسي ماجن- في نفس الزمن الذي ظهر فيه أبو نواس ظهر أبو العتاهية ، فأبو العتاهية بالغ كثيرا في الزهد حتى أصبح يقول أمرا غير معقول ، وأبو نواس بالغ كثيرا في الفجور حتى أصبح يقول قولا تمُجّه الآذان حتى لو كانت على فِسق ، فيظهر هذا يُقابله هذا وهذه سنة الله -عز وجل- في خلقه لأنه -بالعقل- لو أن أحدا ما أمة أو فردا أو غيرهما طغى حتى لم نجد أحدا يُقابله لأكل الناس والله -جل وعلا- جكم وقضى أن الكون يمضي فلا يمكن أن تظهر قوة لا تُنازعها قوة وهذا من معاني قول الله -عز وجل- (وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ) وحتى في الثقلين الجن والإنس لم يجعل الله -جل وعلا- للجن سلطانا عظيما على الإنس وإلا لأكلت الجن الإنس وانتهى الناس ، ولم يجعل الله للإنس -رغم أن الصالحين أكثر فيهم- سلطانا عظيما على الجنّ لأنه لو كان كذلك لأفنى الإنس الجنّ وهذا ليس مُرادا من خلق الله ، أراد الله ان يبقى الثقلان فحتى يبقى الثقلان لابد أن تبقى قوتهما متكافأة ، متقاربة لا يقدر أحدهما على أن يفني الآخر ، هذا من معاني قول الله -عز وجل- (وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا) وهذا كله يسير على جميع المخلوقات بلا استثناء وهنا يفقه المؤمن عظمة الله ، الواحد الذي لا نِد له هو الله ، فكل أحد له ما يُقابله لكن الذي لا نِد له ولا نظير ولا أحد يُقابله البتة لا من قريب ولا من بعيد هو ربنا -تبارك اسمه وجلّ ثناؤه- من هنا تفقه معنى قول الله (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ*اللَّهُ الصَّمَدُ*لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ*وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ) وإنما يتعلق قلب المؤمن بالله إذا علِم هذا حقا وأن الله -عز وجل- حقا -حق يقين- ليس له كفؤ كما قال عن ذاته العلية ولا أحد أعلم بالله من الله (وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ) ولهذا الإنسان إذا خاف أو رغِب بمجرد أن يتذكر عظمة الله لا يمكن أن يخاف مِمن أرهبه ولا يمكن أن يطمع فيمن رغّبه لأنه يعلم أن هذا أو ذاك له ما يُنازعه ، له ما يُقابله لكن الذي لا أحد يُقابله ولا أحد يُكافؤه هو ربنا -جل وعلا- قال الله عن ذاته العلية (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ).

/ قال ربنا (وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا*وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا) قول الله -جل وعلا- (وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا) العامة يقولون : غط فلان في سُبات عميق ، ويقصدون بالسُبات النوم ، وهذا لا يُعقل ، لماذا؟ لأنه لو كانت كلمة "سُبات" معناها نوم فماذا يُصبح معنى الآية؟ كيف تُقرأ في المعنى في غير القرآن؟ تصبح وجعلنا نومكم نوما ولا يمكن أن يأتي القرآن بهذا ، "جعل" هنا بمعنى "صيّر" فلو كان السُبات بمعنى النوم يصبح معنى الآية : وصيّرنا نومكم نوما ، ولا يمكن أن ينسب أحد هذا إلى الله لكن كلمة "سبت" في اللغة : بمعنى القطع فيُصبح النوم جعله الله -جل وعلا- قطعا لأشغال العباد ، قال عنترة :
بطل كأن ثيابه في سرحة ** يُحذى نِعال السبت ليس بتوأم
يتكلم عن خصمه وأن خصمه شديد القوى كبير الجسم فيقول : "بطل كأن ثيابه في سرحة" أي من عظمة بدنه هذه الثياب تُلقى على شجرة عظيمة فتغطيها واتساع الثياب يدل على اتساع الجسد الذي كان يلبسها ، "يحذى نعال السبت" السبت هنا : الجلد المدبوغ -المقطوع- وهناك نعل معروفة تُسمى النِعال السبتية والمراد أن كلمة سبت معناها : القطع ، ومنه اليوم المعروف من أيام الأسبوع يوم السبت بمعنى يوم القطع ولهذا السبب اتخذته اليهود عيدا ، والمراد : أن معنى قول الله -عز وجل- (وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا) معناها وصيرنا النوم قطعا لأشغالكم .

/ثم قال ربنا (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا) لباسا هنا بمعنى : سِتر ، لكن هذا الليل بظلامه ، بستره يُغطي البَر والفاجر ثم يُصبحون -البر والفاجر- فيصبح ما بينهما كالبعد بين المشرقين فشتان ما بين من يستره ظلام الليل وهو على معصية وبين من جعل من سِتر الليل بُعدا عن الرياء فقام بين يدي ربه يفرح إذا أظلم الليل لأنه يجد في نفسه خلوة مع كتاب ربه العظيم في الليل فيتلوه ويقرؤه وليس كل أحد هذا ، وليس كل أحد يفقهه يُوفق إليه لكن الموفق من وفقه الله.

/ قال ربنا (وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا) وكما أخبر أن الليل والنوم يقطعان الأشغال بيّن أن النهار جعله الله -جل وعلا- معاشا بمعنى أن العباد يغدون فيه ويروحون يطلبون فيه الرزق.
 / (وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا*وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا) هي السموات السبع بالاتفاق ، وقول الله -عز وجل- (وَبَنَيْنَا) يدلّ وضوحا بيّنا على أن المراد أن خلق السموات ليس بالأمر الهين وأنها شديدة متماسكة قال ربنا في سورة الأنبياء (وَجَعَلْنَا السَّمَاء سَقْفًا مَّحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ) قال ربنا هنا (وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا*وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا) هي الشمس ثم قال (وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاء ثَجَّاجًا) المعصرات : أُختلف عند أهل العلم مالمراد بها : قال قوم : هي الريح ، وقال قوم : هي السُحب ، فعلى القول بأنها الرياح يصبح معنى قول الله -عز وجل- (وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاء ثَجَّاجًا) تصبح "من" هنا بمعنى الباء فيُصبح المعنى وأنزلنا بالمعصرات ماء ثجاجا أي بواسطة الرياح أنزلنا الماء الثجاج ، وإن قلنا إن المعصرات هي السحاب -وهذا الأشهر والأظهر- فيصبح "من" على بابها وتكون ابتدائية يعني يبتدئ نزول الغيث من السحاب ، والمُعصر في اللغة :هي المرأة الجارية -الفتاة- التي كادت أن تحيض ولم تحض بعد كما يُقال في الغلام إذا أقبل على البلوغ يُقال له راهق فيُقال في حق الفتاة أعصرت قال أبو النجم وهو أحد رُجاز العرب قال قد اعصرت أو قد دنا إعصارها :
تمشي الهوينا مائلا خمارها ** قد أعصرت أو قد دنا إعصارها 
فموضع الشاهد من قوله : قد أعصرت أو قد دنا إعصارها ، هذا في الرجز وأبو النجم أحد رُجاز العرب المشهورين وكان يُقال عن رؤبة بن الحجاج ، ورؤبة من مشاهيرهم ويقولون إن رؤبة خرج على ناقة كوماء -أي عظيمة- وخرج أبو النجم على جمل له عليه قطِران ويتنافسون فيما بينهم والناس ينظرون وكلاهما عُرف بقدرته على هذا الفن من الشِعر فبدأ أولا رؤبة برائية له فلما فرغ رد عليه أبو النجم موضوع الشاهد منه أنه هو صاحب البيت المشهور :
إني وكل شاعر من البشر ** شيطانه أنثى وشيطاني ذكر
هذا قاله أبو النجم وهؤلاء الذين كانوا أُعطوا حظا من الرجز تركوا ثروة لغوية عظيمة جدا فلا يُعقل أن أحدا يتجرأ على تفسير كلام الله ولم يطّلع على ما قاله هؤلاء لأن كثيرا من غريب اللغة تضمّنه شعرهم وما قالوه من أبيات فلما يأتي العرب يُفسرون القرآن ويأتون للفظ أول ما يبحثون عمن كان من الشعراء في زمن الاستشهاد مِمن قبل النبوة كأصحاب المعلقات أو هؤلاء الأكابر مِمن عُرفوا بالقدرة على الشِعر ومنهم هؤلاء رؤبة ومنهم كما قلنا أبو النجم ، وهذه التلميحات لابد منها في الدرس لأن الدرس درس علمي فقال ربنا -جل وعلا- هنا (وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاء ثَجَّاجًا) وفي الحديث (أفضل الحجّ العجّ والثجّ) العجّ: رفع الصوت بالتلبية ، والثجّ : إراقة الدماء يوم النحر ، أين العلاقة بين الحديث والآية؟ كلكم يعرف -هذه لا تحتاج إلى عِلم- أن الهديَ -الأضاحي- إذا نُحرت ينصب الدم ويخرج بقوة فالله -جل وعلا- يقول (وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاء ثَجَّاجًا) أصلا لو كان ينزل بالهوينا ما وصل لمنه ينزل بقوة ، فهذا المعنى مُشترك ما بين قول النبي -عليه الصلاة والسلام-  (أفضل الحجّ العجّ والثجّ) وبين قول الله -جل وعلا- (وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاء ثَجَّاجًا)
  ثم قال ربنا (لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا*وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا) "اللام" هذه (لِنُخْرِجَ بِهِ) لأي شيء؟ بالماء (وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاء ثَجَّاجًا*لِنُخْرِجَ بِهِ) أي بسببه -بسبب الماء- (حَبًّا وَنَبَاتًا*وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا) اللام في قوله -جل ذكره (لِنُخْرِجَ بِهِ) لام التعليل ، أنت الآن قد يكون أحد في مكالمة معك أغلظ عليك ثم بعد ساعتين أو ثلاث رأيته يطرق الباب فسألته أنت ما الذي أقدمك؟ قال : جئت إليك لأعتذر ، -عقلا - ما العلة لحضوره؟ الاعتذار ، فاللام هنا تُسمى لام التعليل ، كثيرة في القرآن لابد أن تعرفها ، هذه ظاهرة وقد جاءت في القرآن كثيرا (ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ) لام التعليل والفعل بعدها يُنصب بأن مُضمرة وجوبا كما يقول النحاة ، لكن جاء في القرآن قول الله -عز وجل- (وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) عمن يتحدث في الآية؟ عن موسى ، ثم قال الله (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ) فالآية تحدثت في الأول -الآية الأولى- أن الله أمر أم موسى أن تُرضعه ثم إذا خافت عليه تُلقيه في اليم وقد فعلت جعلته في تابوت ، ثم قال -رب العزة- انتبه هنا ، قال (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ) يعني وجدوه في الصندوق فالتقطوه (لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا هذه اللام لام ماذا؟
 البصريون يقولون : اللام لام التعليل وإنما ذُكر مجازا . عقلا -مع إجلالنا للمدرسة البصرية في النحو- لا يستقيم كلامهم ، لماذا؟ لأنه لا أحد يقول إن فرعون وآله التقطوا موسى من أجل أن يُصبح لهم عدوا ويُهلك مُلكهم مُحال ، مُحال جدا أن يكون فرعون أراد هذا. واضح . فاللام هنا عند الكوفيين ، فالآن مدرسة الكوفية ومدرسة البصرية وكلاهما في فن النحو. نحاة البصرة يقولون اللام لام التعليل ولا يوجد شيء اسمه لام العاقبة ، لام الصيرورة ، لام المآل . الكوفيون يقولون اللام هنا (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا) يقولون هذه اللام لام الصيرورة ، لام العاقبة ، لام المآل ، وليست لام التعليل لأن قوم فرعون لم يلتقطوا موسى حتى يُدخلو الغمّ والهمّ على أنفسهم ، وقلنا إن جمهور علماء البصرة من النحاة لا يقبلون هذا ، ثم جاء الزمخشري -عالم معروف مُعتزلي- ونصر قول البصريين بأن اللام لام التعليل وأنه لا وجود للام العاقبة لكننا نقول : إن قول الكوفيين هنا أقوى ، وإن كنت أنا في التفسير غالبا أُرجح قول البصريين إلا في هذا الموضع قول الكوفيين أصح ، وكل من المدرسة البصرية والمدرسة الكوفية لها رجال ، لها أئمة وهذا في زمن بني أمية وأول زمن العباسيين كانت البصرة والكوفة من حاضرات الإسلام العِظام ، كانت فيها حلقات عِلم ، والمارد قول الله -عز وجل- (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا).
 تفريعا على هذه الآية : المال المعصوم الذي عُرضة للهلاك ولا يُعرف له مالك يُسمّى لُقطة ، وفي حديث زيد بن خالد في البخاري وغيره : (أن رجلا سأل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن اللُقطة فقال -عليه الصلاة والسلام- اعرف عِفاصها ووكاءها ثم عرِّفها سنة فإن جاء صاحبها وإلا شأنك بها ، فسأله عن ضالة الغنم قال: هي لك أو لأخيك او للذئب ، فسأله عن ضالة الإبل قال : مالك ومالها معها سقاؤها وحذاؤها ترد الماء والشجر حتى يلقاها ربُها) هذا الصحابي ... سأل النبي -عليه الصلاة والسلام- عن اللقطة ، المراد باللقطة : مال معصوم تتعلق به النفس يوجد مُلقى على الأرض ، فهذا الصحابي يسأل ماذا أفعل؟ فالنبي -عليه الصلاة والسلام- قال له : (اعرف عفاصها ووكاءها) بمعنى ميّزها عن مالك حتى لا تختلط ثم عرِّفها سنة في مجامع الناس ، فيما يغلب على الظن أن صاحبها ينشدها فيه فإن وُجد صاحبها رُدها إليه وإن مضى عام ولم تجد صاحبها فشأنك بها لكن لو قُدر أن صاحبها جاء بعد عام يضمن أو لا يضمن؟ يضمن هذه الحالة الأولى . الحالة الثانية : توجد لُقطة يُسرع إليها الفساد مثل الطعام ، رجل وجد طعاما يُحسن أكله اشتراه رجل بمبلغ من المال ثم نسيه ومضى فجاء رجل ووجده فهذا المال من التقطه أحد رجلين مُخير بين أمرين :
- إما أن يأخذه ويطعمه على شريطة أنه لو عاد إليه صاحبه يضمنه .
- وإما أن يتصدق به بنية صاحبه. فإن تصدق به بنية صاحبه وعاد صاحبه فليس مُكلفا بالضمان .
الصحابي قال : ضالة الغنم ، المال يُسمى لُقطة والمُلتقط من الإبل والغنم لا يُسمى لُقطة في الغالب يُسمى ضالة ، ومن بني آدم يُسمى لقيط يمكن هذا له أحكام أخرى.
فقال -عليه الصلاة والسلام- له (هي لك أو لأخيك أو للذئب) وهذا إذن بأن يأخذها ، كلمة (لأخيك) كم معنى تحتمل؟ النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول للرجل عن ضالة الغنم (هي لك أو لأخيك أو للذئب) أخيك كم معنى تحتمل؟ معنيين : صاحبها -هذا واحد- أو شخص آخر -إن تركتها وجدها شخص آخر- ، هنا له أن يملكها وإذا جاء صاحبها ضمنها لكن لو فرضنا أنه امتلكها ثم نحرها ثم أكل منها فلما أكل منها فنيت ثم جاء صاحبها يضمن أو لا يضمن؟ الجمهور على أنه يضمن ، وقال بعض المالكية إنه لا يضمن .
أين حُجة من قال إنه لا يضمن؟ أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال في آخر الحديث (أو للذئب) ومعلوم -قطعا- أن الذئب لا ضمان عليه -لا يمكن أن تأخذ ضمان عليه- فلما جعل قول النبي -صلى الله عليه وسلم- (هي لك أو لأخيك أو للذئب) قرنهم بالذئب دل على أن الضمان غير وارد. ثم سأله عن ضالة الإبل فقال -صلى الله عليه وسلم-  (مالك ومالها) لأنها مستغية بنفسها لا يُخشى عليها الهلاك ، وقد قلنا في تعريف اللقطة : مال معصوم لا يُعرف مالكه يُخشى عليه الضياع  والهلاك. لكن الإبل لا يُخشى عليها الهلاك قال -عليه الصلاة والسلام- (معها سقاؤها وحذاؤها ترد الماء والشجر حتى يلقاها ربُها).
نعود للآية : قال ربنا (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ) خرجنا عن سورة النبأ لكن لا ضير ، ربنا يقول (لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا كيف كان لهم عدوا؟ وكيف كان لهم حزنا؟ عدوا مدة حياته بين أظهرهم ، كان نزاعا بين فرعون وبين موسى . وحزنا بعد ذهاب ملكهم على يد نبي الله موسى -عليه السلام-. 
/ نعود لسورة النبأ : قال ربنا (لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا*وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا) ثم قال الله :
 (إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا*يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا*وَفُتِحَتِ السَّمَاء فَكَانَتْ أَبْوَابًا*وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا) 
(إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ) هذا أحد أسماء يوم القيامة ، ميقات : الميقات ينقسم إلى قسمين : ميقات زماني وميقات مكاني لكن لما قال الله (إِنَّ يَوْمَ) فهمنا أن المراد هنا الميقات الزماني لكن من لوازمه لأن الزمان لا يأتي مجرد لابد له من مكان فقال -جل وعلا- (إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا) له ميقات زماني وميقات مكاني. ثم بيّن -حل وعلا- قال (يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ) والذي ينفخ في الصور إسرافيل -عليه السلام- وهو أحد الملائكة الكِرام العِظام -عليهم السلام- جميعا ، (يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا) وهذا يدل على أن الناس عند خروجهم من القبور لا يخرجون في لحظة واحدة وإنما يتتابعون لأن الله قال (فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا) ويدل عليه قول النبي -صلى الله عليه وسلم- (أنا أول من ينشق عنه القبر) -صلوات الله وسلامه عليه- . (فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا*وَفُتِحَتِ السَّمَاء) وقبل ذلك قال (وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا) لكن هذا الذي بُني وهو سبع شِداد قال الله -جل وعلا- عنه هنا (وَفُتِحَتِ السَّمَاء فَكَانَتْ أَبْوَابًا*وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا) أي : أُزيلت عن مواقعها فأصبح الموقع يدل عليها وهي غير كائنة عليه ، (وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا) وهذا كله من أهوال يوم القيامة قد يتقدم ، قد يتأخر ومتى تكون الساعة هذا علمه عند الله لكن المرء مُكلف أن يشغل نفسه بالطاعة حتى يلقى الله وهو راضٍ عنه.

/ قال ربنا بعد ذلك : (إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا*لِلطَّاغِينَ مَآبًا*لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا*لّا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلا شَرَابًا*إِلاَّ حَمِيمًا وَغَسَّاقًا) هذه نتجاوز تفسيرها أولا لبيانها ثم إن لنا فيها رأيا لا يحسُن نشره في هذا الوقت ، يعني يؤجل إظهاره للناس لكن نأخذ ما بعدها.

/ قال الله -عز وجل- (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا*حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا*وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا*وَكَأْسًا دِهَاقًا) مفازا : أي فوزا ، وهذا يُسمى مصدر ميمي ، والفوز هو أن يُزحزح العبد عن النار ويدخل الجنة ، (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا) والتقوى عُرفت بتعريفات كثيرة لكنها أعظم الوصايا وأجلّ العطايا ولا يستكبر عنها أحد لأن الله قال لخير خلقه وصفوت رسله (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ) فإذا قال الله لخير خلقه (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ) فلا ينبغي ولا يُعقل أن أحدا يفقه من دين الله مثقال ذرة ثم يستكبر إذا قيل له اتق الله .
قال ربنا : (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا*حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا) وهذه ظاهرة .
(وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا) كواعب : جمع كاعب وهي المرأة في سن معين ، و(أَتْرَابًا) أي متساويات ، وقد بيّنا في دروس سلفت أنهن متساويات حتى في الجمال ، وقلنا إن الحكمة من ذلك : لو كن الحور العين ومن معهن من نساء المؤمنين ، لو كان هناك تفاوت في الحُسن لكان الرجل من أهل الإيمان المُنعّم في الآخرة إذا رأى إحداهن ثم ذهب إلى غيرها ممن قلّ حُسنها سيقل السرور الذي في قلبه لِزاما وهذا أمر منتفي في الجنة لأن النقص غير وارد في الجنة البتة فهن كواعب أتراب متساويات في الحُسن ، متساويات في العُمر ، متساويات في كل أمر ومع ذلك يجد الإنسان ما يجد وهذا من وعد الله -جل وعلا- لعباده .
قال ربنا : (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا*حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا*وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا*وَكَأْسًا دِهَاقًاوالمراد به : كأس الخمر لكن خمر الآخرة غير خمر الدنيا ، ما الذي تُحدثه خمر الدنيا في مجالس أهلها؟ تُذهب العقل ، فإذا ذهب العقل أصبح الرجل يهذي بما لا يدري فيقع السِباب والشتائم وغير ذلك من الأغاليط والأكاذيب -كحد أدنى- ، لما قال الله -جل وعلا- عن أهل الجنة أنهم لهم الكأس الدِهاق قال (وَكَأْسًا دِهَاقًا) أتبع ذلك بقوله (لّا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا كِذَّابًا) فما تُحدثه خمر الدنيا في أهلها فتجعل مجالسهم مجالس لغو وفجور لا يقع من خمر الآخرة إذا شربها المؤمن ما يقع لأهل المعاصي في الدنيا عند شُرب الخمر .
فقال ربنا : (لّا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا كِذَّابًا) ومعنى كذابا : أن مجالس الدنيا لا تخلو من أن يكذب رجل أو يُكذّب صادق . إما أن يكون في المجلس من يقول كذبا ، وإما أن تقول أنت حق وصدق فيأتي من يُكذبك ، ومجالس الآخرة -أسكننا الله وإياكم إياها- ليس فيها من هذين شيء قال الله (لّا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا كِذَّابًا) فلا أحد يُلقي عليهم الأكاذيب ، ولا أحد يُكذبهم فيما يقولون لأنهم لا يقولون إلا صدقا .
قال ربنا : (لّا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا كِذَّابًا*جَزَاء مِّن رَّبِّكَ عَطَاء حِسَابًا) فذكر الله -عز وجل- أمرين : الجزاء هذا مُقابل العمل ، والعطاء فضل منه ورحمة ولا يقدر على هذا إلا الله (جَزَاء مِّن رَّبِّكَ عَطَاء حِسَابًا) فتصبح القلوب بعد ذلك لما ذُكرت هذه النِعم في شوق لأن تعرف المُنعم فجاء التعريف بالمُنعم بعد ذكر النِعم قال الله -عز وجل- (جَزَاء مِّن رَّبِّكَ عَطَاء حِسَابًا*رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا) مَن؟ (الرَّحْمَنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا) و (رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا) دليل على أن كل ما في الكون الله -عز وجل- ربه فلا ينبغي لأحد أن يفزع إلى أحد غير الله.
الرحمن : اسم من أسماء الله وهو من أعظم وأجلّ أسمائه -تبارك اسمه وجلّ ذكره- وقد جاء ذكره في مواطن عظيمة كثيرة في القرآن خاصة في المواطن التي يُخشى فيها من العقاب ويؤمل العبد فيها بالرحمة قال الله -عز وجل- عن خليله إبراهيم (يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا*يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَن فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا) وقال -جل وعلا- (قُلِ ادْعُواْ اللَّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً*وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَم يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُن لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ الذُّلَّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا) وهذه خاتمة الإسراء هي أول آية في التوراة .
قال ربنا : (رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا**يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ) والمعنى : متى لا يملكون منه خطابا؟ (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ) واختلف العلماء -بيّنا هذا مرارا- في المراد بالروح ، والأغلب والجمهور وظاهر القرآن -والعلم عند الله- على أن المراد به : جبريل -عليه السلام- ، وجبريل -فيما يظهر- أرفع ملائكة الله قدرا وهذه عطايا يعطيها الله -عز وجل- من يشاء فالملائكة فطرهم ربهم ألاّ يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ، والقرآن والسنة يدلان على أن هذا المَلَك ملَك مُقرب جدا بقرائن كثيرة منها :
- أنه أول من يسمع كلام الله .
- ومنها : أن الله إذا أحب عبدا نادى جبريل إني أحب فلانا فأحبه .
- ومنها : أن الله -عز وجل- يبعثه بالوحي من السماء إلى الرسل في الأرض (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ*عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ) .
فهذه بعض القرائن التي تدل على رفيع مقام هذا الملك ولذلك أُفرد بالذكر.
(يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا) هنا إخبار بالحال لكنه -جل وعلا- قال في سورة الفجر (وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا) فالمراد بقول الله -عز وجل- هنا (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا) إخبار بأنهم مُنتظمون وقوله -جل وعلا- (وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا) إخبار بهيئة ذلك الحال على أي حال يكون.
قال ربنا (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا  لّا يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ) هذا استثناء (مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا) بعض أهل العلم يقول : معنى قول الله -عز وجل- (وَقَالَ صَوَابًا) أي قال لا إله إلا الله ، وهذا من حيث العاطفة يُقبل ولا ريب أن أعظم كلمة كلمة لا إله إلا الله لكن هنا لا يظهر لنا أن هي المراد بالآية وإنما أن الله -تبارك وتعالى- لا يأذن لأحد أن يشفع إلا وقد علِم الله أزلا أن من يُشفع فيه أهل لأن يُشفع فيه ، أي رضي الله -تعالى- عن المشفوع كما أذن للشافع ، ومن أذن الله له أن يشفع قد علِم هو أصلا ماذا يقول بين يدي ربه وإلا لما وصل إلى مرحلة من يشفع ، والذين يشفعون تختلف أحوالهم : فأحيانا يشفع الرجل باعتبار نهايته ، وأحيانا يشفع الرجلأو المرأة أو الذكر أو الأنثى لشيء لسبب لا يملكه ، وأحيانا يشفع الرجل بسبب عمل قام به لا علاقة له بنهايته.
نُفصّل :
- أما قولنا يشفع بحسب نهايته فهذا الشهداء فإن الرجل قد لا يكون له عمل صالح كثيرا لكن يختم الله له بالشهادة ، فإذا ختم الله له بالشهادة في ميدان المعركة أصبح يشفع -بنص الحديث النبوي- في سبعين من أهل بيته.
- وقد يشفع الرجل ، وهذا لا يُقال الرجل ، يُقال الذكر أو الأنثى -الصغير- يشفع ولا اختيار له فإن من مات صغيرا قبل البلوغ يكون شفيعا لوالديه ولهذ يُقال في الدعاء "واجعله فرطا لوالديه" أي سابقا لهما ، وفي الحديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لقي رجلا ومع الرجل ابن له ويظهر أن النبي -عليه الصلاة والسلام- تبيّن له أن هذا الرجل يحب ابنه ، طبعا كل الآباء يحبون أبناءهم لكن النبي -عليه الصلاة والسلام- ربما رأى شيئا في الرجل غير مألوف (فسأله : أتحبه؟ فالرجل أراد أن يحكي خطابا يبين فيه عظيم محبته لابنه فقال : يا رسول الله أحبك الله كما أحبه) وهو لا يدعو للنبي -صلى الله عليه وسلم- إلا بالخير لكنه أراد أن يُبين عظيم محبته لابنه (أحبك الله كما أحبه) ثم إن النبي -عليه الصلاة والسلام- فقد الرجل -غاب عن بصره،لم يره- فسأل عنه فقالوا : يا رسول الله توفي ابنه ، فقال -عليه الصلاة والسلام- لما لقيه (أما ترضى يوم القيامة ألاّ تاتي بابا من أبواب الجنة إلا وجدته أمامك يأخذ بيدك بثوبك، فقالوا : يارسول الله أله خاصة أم لنا كلنا؟ قال : بل لكم كلكم ) فمن يموت قبل البلوغ وهو يموت بغير اختياره يصبح شفيعا لوالديه .
- ثم يشفع من كتب الله لهم الثبات على الإيمان وأكثروا من العمل الصالح مثل : العلماء والصديقون وأهل الصلاح عموما .
كل هؤلاء يكونون شفعاء يوم القيامة وإنما يُباعد بين الإنسان وبين أن يكون شفيعا يوم القيامة -عياذا بالله- كثرة جريان اللعن على لسانه فإن كثرت جريان اللعن تجعل المرء يُوصف بأنه لعّان والنبي -عليه الصلاة والسلام- أخبر أن من يُكثر اللعن لا يكون شفيعا يوم القيامة ولا شهيدا . والملائكة كذلك تشفع كما في حديث أبي سعيد الخدري في الصحيحين وغيرهما .
قال ربنا (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا  لّا يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا*ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ) هذه "ذلك" اللام فيها للبُعد لكنه ليس بُعدا حسيا وإنما بُعدا معنويا دلالة الرفعة والعُلو (ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ) المعنى ذلك اليوم الحق وقوعه الذي لابد أن يقع ، لابد أن يكون . (ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا) وهذه ظاهرة أنها دعوة للناس أن يُكثروا من العمل الصالح. وقد قلنا مرارا في دروسنا هنا  وفي غيره : أن الإنسان إذا رأى من نفسه أن الله وفقه لكثرت العمل الصالح يعظُم في قلبه أن يلقى الله ، وكلما كان الإنسان قد علِم من نفسه إسرافه في الذنوب وتجروءه على الله وبعده عن إجابة النداء محال أن يقع في قلبه شوق إلى لقاء الله لأن ذنبه يُثبطه يُحجم به إلا الأرض. قال الله هنا (فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا) 
ثم قال (إِنَّا أَنذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا) وهذا سمّاه الله قريبا لوقوعه وإن كان بعض أهل الكفر يراه بعيدا قال الله -عز وجل- في سورة المعارج (إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا*وَنَرَاهُ قَرِيبًا) وقال هنا (إِنَّا أَنذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا) ذهب بعض أهل العلم إلى أن المراد بكلمة : المرء هنا : المؤمن ، والذي جعلهم يقولون إن المراد بكلمة المرء هنا المؤمن أنها تُقابل كلمة الكافر ، والصحيح -إن شاء الله- أن المراد بالمرء هنا : البر والفاجر، المؤمن والكافر ، فكل أحد كائنا من كان لابد أن يرى عمله يقول الله (يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ) صغيرا أو كبيرا ، رجلا أو امرأة ، ذكرا أو أنثى لابد أن يرى عمله .
(يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا)هذه (وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا) اُختلف أولا في تعيين الكافر ، واختُلف في السبب ، فالجمهور -وهذا هو الصحيح إن شاء الله- : أن الكافر اسم جنس فيُصبح المعنى كل أحد كفر بالله يقول يوم القيامة يا ليتني كنت ترابا . التفسير الثاني : أن الكافر المراد به هنا ، من يُجيب؟ حاول أن تربطها بـ (يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا) ، لما خلق الله آدم خلقه من تراب ثم مُزج هذا التراب بالماء فأصبح طينا ثم هذا الطين تُرك فأصبح فخارا فخلق الله آدم وأمر الملائكة أن تسجد له من الذي امتنع عن السجود ؟ حُجة إبليس في الامتناع كانت أن الله خلقه من تراب قال: أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين . فبعض أهل العلم يقول : الكافر هنا إبليس ، ويصبح معنى قوله (يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا) أي لو كنت مثل آدم خُلقت من تراب ونجوت خير من أن أكون من نار ولا أنجو ويُصبح ندم على ما وقع منه.
هذا في تحديد كلمة الكافر ، بقينا في تحديد معنى (يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا) :
المعنى الأول : وهو المتبادر للأذهان ، والذي يُحمل عليه كلام الله ، والذي عليه جمهور العلماء -لكنني أنا أسوق أكثر من قول حتى تزداد علما- وهو : أن الله -عز وجل- بعد أن يفرغ -جل ذكره- من الحُكم بين العباد والخلائق أجمعين يقول ربنا للدواب ، للطير ، للوحوش كوني ترابا فتكون ترابا فيتمنى الكافر أن يكون تُرابا ولا يُعذب . وقلنا هذا هو المعنى الراجح والأظهر . هذا معنى .
المعنى الآخر : يأتي أحد يتوعد أحدا أمام الملأ فيقول : سأمرغ وجهك في التراب ، ما الذي أراده القائل أن يُعزّ الرجل أم يُذله؟ أن يُذله -بالاتفاق- لأن التراب ذليل ، من أين جاءته الذلة؟ من أنه يُوطأ عليه فقالوا معنى (يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا) المعنى : يا ليتني كنت ذليلا غير متكبر ولا متجبر على أمر الله . يُصبح معنى (يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا) الكافر الذي كان يُعرض ويتكبر يقول(يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا) يا ليتني كنت ذليلا متصاغرا مستسلما غير متكبر ولا متجبر على كلام الله .
هذا الرأي جميل في ظاهره مقبول له حظ من النظر لكن حتى تفهم القرآن لابد في فهم القرآن أن يُجرى القرآن على المتبادر للذهن من كلام العرب إلا أن يوجد قرينة تُخرج الكلام عن ظاهره والله -جل وعلا- يقول (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) الخطاب لنوح ، ما التنور؟ الموقد الذي يُخبز فيه ، تكلّف بعض العلماء في معنى التنور لأنه يريد أن يعرف ما العلاقة بين فار التنور واحمل فيها من كل زوجين اثنين لكن لا يجوز أن يُصرف كلام الله عن ظاهره ، التنور في لغة العرب التنور المعروف ولا حاجة للتكلف ، لكن معنى الآية -والعلم عند الله- : التنور فيه نار وعندما يصل الماء إلى أن يخرج من مكان نار فقد بلغ الذروة في الخروج بمعنى لم يبقَ مكان آمن أشد من هذا لأن الماء والنار متباعدان لا يجتمعان في مكان واحد ، إذا وُجد ماء لا يوجد نار ، وإذا وُجدت نار لا يوجد ماء لأن الماء يُطفئ النار والمعنى أن التنور لا يُتصور منه -عقلا- خروج ماء ولا نبعه ، فالله يقول لنبيه إذا بلغ الأمر أن التنور الذي يوقدون فيه مضنة التدفأة ، مضنة النار خرج منه الماء فلم يبقَ على وجه الأرض مكان يؤمن فيه خروج الماء (احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) واضح الآن .
سقنا هذه القاعدة لنقول أن الأصل أن كلام الله يُحمل على ظاهره وعلى المتبادر في كلام العرب إلا أن توجد قرينة ظاهرة تصرف ذلكم اللفظ عن ظاهره.
 قال ربنا (يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا) هذه ياليت : الياء حرف نداء ، ليت : حرف تمني لكن التمني هو طلب شيء لا يقع ، والترجي طلب شيء يُحتمل الوقوع ، الشاعر العربي يقول :
ليت وهل ينفع شيئا ليت ** ليت شبابا بوع فاشتريته
والآخر يقول :
ألا ليت الشباب يعود يوما ** لأخبره بما فعل المشيب 
فكل ليت في لغة العرب على الشيء الذي لا يكون .
الآن وقد فرغنا من التفسير ماذا بقي؟ بقي أن تستعيذ بالله أن تقوم يوم القيامة وترى الجنة ويدخلها أهلها ونكون نحن ممن يتمنى وقتها أن يكون ترابا ، هذا الشيء الذي يُفر منه ، وهذا لا يكون إلا باليقين برحمة أرحم الراحمين -جل جلاله- ، وإن المحافظة على ثلاث ركعات كأدنى الكمال في الليل مما يقي الله به عبده في النهار فيوفقه به للعمل الصالح ، أحسنوا الظن بربكم ، عظموه ، أجلّوه ، أكثروا من ذكره ، وارقبوا الله في مواطن يحبها أن تكونوا فيها ، وارقبوا الله ألاّ تكونوا في مواطن لا يحبها ، وأنأ بنفسك عن أعراض المؤمنين أن تصل إليها . هذا كله أيها المبارك يُعينك على أن تكون قريبا من رحمة الله ، ويُنجيك الله ممن حكم عليهم بالشقاوة ويقولون يوم القيامة كما أخبر عنهم (يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا).
هذا ما تيسر إيراده وتهيأ إعداده وأعان الله على قوله في هذا الجامع المبارك -جامع المهاجرين- في هذه الليلة السادسة والعشرين من شهر ذي الحجة لعامنا هذا أربعة وثلاثين وأربعمائة وألف لهجرة نبينا -صلى الله عليه وسلم- والعلم عند الله وصلى الله على محمد وآله والحمد لله رب العالمين .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق