الوقفة الثانية من هذا الجزء المبارك الجزء الرابع عشر مع قول الله -تبارك وتعالى- (وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ)
سورة النحل سورة مكية أكثر آياتها تضمنت آيات فيها الامتنان من الله -تبارك وتعالى- على عباده ومن جُملة ذلك هذه الآيات التي بين أيدينا ، قبلها قال الله -جل وعلا- (وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ) من حيث الصناعة اللُغوية قول الله -جل وعلا- (وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ) أصله تأكلون منها فتقديم الظرف -تقديم الجار والمجرور- في أصله يُفيد الإختصاص بل ويُفيد أحياناً الحصر لكن بالعقل والنقل الله -جل وعلا- كما أباح لنا الأكل من الأنعام أباح لنا الأكل من حيوانات أُخرى من صيد البر ومن صيد الطير ومع ذلك هنا قال (وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ) قَدَّم الجار والمجرور، فهم منها العُلماء أن الله وإن أباح أكل غير بهيمة الأنعام -الإبل والبقر والغنم- إلا أن الأصل أن الذي يؤكل هو الإبل والبقر والغنم وغيرها مما أباحه الله يأتي تبعا لا يأتي أصلاً لأن هذا ما أفاده تقديم الجار والمجرور. ثم بعد ذلك بآيات قال أصدق القائلين (وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ)
والمعنى : خلق الخيل والبغال والحمير، الخيل: الحيوان المعروف لا مُفرد له من لفظه يعني اسم جمعٍ لا مُفرد له من لفظه ، والبغل: يَتَوَلد من أن الخيل إذا نزى على الأتان يكون البغل وَيُطلق على الذكر والأنثى ، وأُنثى البغل دائماً عقيم لا تلد فإذا نزى الحمار على الفرس العكس فإذا نزى الحمار على الفرس لا يُسمى بغل يسمى بِرذَون، والبرذون لم يكون موجوداً في جزيرة العرب اللهم إلا في شمالها جهة الشام ولذلك قُدِم لعمر لما ذهب إلى الشام برذوناً ليركبه وهو لم يعهده ثم أباه ورجع إلى حِماره . هذا معنى الخيل وهذا معنى البغال، والحمير معروفة.
الله -جل وعلا- هنا قال (وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا) ولم يذْكُر الأكل ، وقال و"اللام" لام التعليل (لِتَرْكَبُوهَا) أي خلقناها لكم لتركبوها ، من هذا المسلك قال أبو حنيفة -رحمة الله تعالى عليه- ومن وافقه: إنه لا يجوز أكل شيء منها الثلاثة البتة لا الخيل ولا البغال ولا الحمير ، قال هذه كُلها لا تجوز، لم لا تجوز؟ أخذها من حيث الرأي من حيث النظرة في القرآن قال إننا مُتفقون على أن هذه الآيات آيات امتنان يَمُنّ الله بها على عباده ، والحكيم لا يَمُنّ بأدنى النعمتين أي إن كان الخيل جآئزٌ أن تؤكل فإن المِنّة على الخلق بأكلها أعظم من المِنّة على الخلق بركوبها فلمَّا لم يذكر الله أكلها ولم يَمُنّ على عباده بأكلها دل ذلك على أنها لا تؤكل هذا ما قاله أبو حنيفة رحمه الله.
ذهب جمهور العلماء من السلف والخلف وهو مذهب مالك وأحمد وأكثر العلماء : على جواز أكل الخيل واتفقوا مع أبي حنيفة على تحريم ما تبقى واحتجوا بما جاء في صحيح مسلمٍ -رحمه الله- من حديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله تعالى عنها أنها قالت (ذَبحنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فرساً فأكلناه) فبهذا أخذ جمهور العُلماء.
وقد بيَّنا مراراً أنه لا اجتهاد مع وجود النص ، لكن يُعتذر لأبي حنيفة -رحمه الله- في أن الحديث هو يراه بأنه ضعيف السند ، وإلا ينبغي أن يسلم صدر المؤمن من القدح في إخوانه عموماً فضلاً عن العُلماء ، أبو حنيفة -رحمة الله تعالى عليه- أتقى لله من أن يعلم أن هذا الحديث قاله النبي -صلى الله عليه وسلم- ثم يرُده ، هذا كفر لا يصنعه مسلم لكن هو غالب ظنه أن الحديث لا يصح رفعُه إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- ، لا يرى سنده صحيحاً ، لا يرى أن هذا النقل صحيحاً وفق طرائقه هو ، ومعلومٌ أن أبا حنيفة كان قبل مسلم وقبل البخاري وقبل هؤلاء فهو أقرب عهداً بجيل الصحابة ممن من جاء بعده لأن مسلم والبخاري وأحمد -رحمة الله على الجميع- والترمذي وأبو داود كُلهم جاؤا بعد أبي حنيفة ، أبو حنيفة يعني حتى قيل أنه رأى بعض الصحابة وإن كان في هذا ضعف ، لكن هو إن لم يكن تابعياً فهو من تابعي التابعين والمقصود إيجاد العذر لهم وطالب العلم -أي أحد- إذا رأى أحداً أخطأ يتزاحم عنده أمران الخطأ الذي قاله زيد وعِرض زيد فالأصل أن عِرض زيدٍ هذا مُحرم مُحرمٌ بالكتاب ومحرم بالسنة (إن دمائكم وأموالكم وأعراضكم حرامٌ عليكم كحُرمة يومكم هذا في بلدكم هذا) وكذلك النُصح للدين أمر واجب وتبيين الصواب للناس ورد قول من ابتدع في الدين هذا أمرٌ يجب أن يقوم به أهل العلم ، لكن يُرد القول ثم يُنظر في القائل فإن غلب على الظن أنه أهلٌ لأن يتكلم أُعْتُذر له ، وإن كان غلب على الظن أنه ليس أهلاً لأن يتكلم في العلم ممكن يُعَزَر بالقول أو يوبخ أو يُنهى أو يُطلب منه أن لا يتحدث في مسائل العلم هذه تعليقاً على قول الله -جل وعلا- (وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ).
قلنا إن الخيل لا مُفرد له من جنسه وقد عَدّه الله -جل وعلا- من زينة الدنيا قال ربُنا (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ) ، والنبي -صلى الله عليه وسلم- في هديه عُموماً ، جرى هدْيُه أنه يُسمي ما يملكه ، فسمَّى أسيافه ، وسمَّى رُمحه ، وَسَمَّى خيله ، وَسَمَّى ناقته ، وَسَمَّى بغلته ، وَسَمَّى قصعته -صلوات الله وسلامه عليه- لكل من ذلك اسم يُعرف به ، فله سيف يُقال له ذو الفقار وله سُيوف أُخر وله -صلى الله عليه- وله خيلٌ يُقال له السكب وخيل يُقال له الرجز وله خُيول غير ذلك ، المقصود أنه -صلى الله عليه وسلم- كانت له خُيول يملكها ولها أسماء ، وسُميت ناقته كما تعلم بالقصواء ، وكان له حِمارٌ اسمه يعفور .
الذي يدفع قول أبي حنيفة كذلك أن الناس يُخاطبون بما جرت عادتهم فيه فلمَّا كانت العرب وإن كانت الخيل حِلا عندها إلا أنه لم تجري عادتهم في أن يأكلوا منها ويطعَموها ، فلمَّا كانت الأنعام هي أكلهم الإبل والبقر والغنم منَّ الله عليهم بها وذكَّرهم بها ، ولمَّا لم تكن لهم عادة أن يأكلوا الخيل لم يذكرها الله ، كما أنه يُمكن لأي أحد أن يحمل شيئاً على خيله لكن العرب لم تكن تجعل الخيل إلا للصيد والغزو ، وتجعل البِغال للمشي -يعني داخل البلد- وتجعل الحمير بين القُرى ، وقلنا تجْعل الخيل للصيد والغزو، مع ذلك قال الله في الأنعام والمُراد الإبل لأن الأنعام إذا أُطلقت يُراد بها الإبل قال (وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ) ولم يَقُلهْ في الخيل لأن العرب جرت العادة أنهم يحملون أثقالهم ورواحلهم ومتاعهم على الإبل مع أن الله قال (وَالأَنْعَامِ) وهو مُنصرف إلى الإبل والبقر والغنم. هذا حول قول الله -جل وعلا- (وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ). في الوقفة الثالثة -إن شاء الله- نقف عند قول الله تعالى (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهِ) .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق