الأحد، 12 مايو 2013

تفسير سورة طه (16-28 ) / محاسن التأويل



الحمد لله وإن كان يقل مع حق جلاله حمد الحامدين ، وأشهد أن لا إله إلا الله إله الأولين وإله الآخرين ، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله الصادق الوعد الأمين صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين أما بعد :
نستأنف في هذا اللقاء المبارك ما كنا قد بدأناه من التأملات في سورة ( طه) ، ولقد مضى القول في فاتحة هذه السورة ، ثم انتقلنا إلى ما قرره الله ـ جل وعلا ـ في أمور العقيدة العظام وإخباره ـ جلّ وعلا ـ عن ذاته العلية بأن له ما في السماوات وما في الأرض وما تحت الثرى ، وأنه ـ جلّ وعلا ـ يعلم الجهر والسر وأخفى ، وأنه ـ سبحانه ـ {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى} ، ثم ذكر الله ـ جلّ وعلا ـ فيها نتفاً من خبر كليمه وصفيه موسى بن عمران ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ صدَّر الله ذلك بقوله {وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى} ، ومضى بنا القول أن الله ـ جلّ وعلا ـ ربى كليمه وصفيه أعظم تربية وطمأنه وآمنه من الخوف ، ثم أعطاه مقام التكليف أي -مقام الرسالة بعد مقام النبوة- ، وانتهى بنا الأمر إلى أن الله ـ جلّ وعلا ـ نهى عبده وصفيه موسى من اتباع من كتب الله عليهم أنهم يصدون عن ذكره ، وأن في اتباعهم سبب الهلاك وأودية الردى ، وانتهينا إلى قوله ـ جلّ وعلا ـ : {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى} وهي الآية الأولى في هذا اللقاء ، ثم نختم بقول الله ـ جلّ وعلا ـ {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي} فنقول والله المستعان وعليه البلاغ :
 مازال الأمر مستأنفاً في مقام التكليم ، والمقام : جبل الطور ، والمُكلِّم : هو  الرب ـ جلّ وعلا ـ ، والمخاطب هو :  موسى ، وقد أنكر بعض الناس هذا وقالوا : إن الله ـ جلّ وعلا ـ لم يكلم موسى تكليما ، وأوَّلوا وحرَّفوا في الآيات الناصة على ذلك .. قال الله ـ جلّ وعلا ـ:{وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} فأجابوا عن هذا أن حقها أن تُقرأ : وكلم اللهَ موسى تكليما ، فجعلوا لفظ الجلالة مفعولاً به مقدم ، و موسى فاعلاً به مؤخراً عن مفعوله ، والرد على هؤلاء أن يُقال : إن هذا وإن يجوز في اللغة أن يقدم المفعول على الفاعل , إلاَّ أن المعنى يذهب تماماً هنا ، لأنه إذا كان القضية قضية أن موسى يناجي ربه فهذا ليس من خصائص موسى وحده , فكل المؤمنين والصالحين يناجون ربهم ويدعونه ويخاطبونه , ويسألونه ويستغفرونه ويدعونه فأي فخر أو فضل لموسى ينص الله عليه حتى يقول الله : {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} , ثم أين هم عن قول الله له : {إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي } إلى غير ذلك من الأدلة ؟!.
نقول : مازلنا في مقام التكليم ، قال الله لهذا الكليم : {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى} وهذه "ما" استفهامية من غير نزاع , إلاَّ أن الاستفهام الأصل فيه أن يعرف المستفهم خبر المستفهم عنه , لكن هذا غير وارد هنا لأن الله ـ جلّ وعلا ـ يعلم ما الذي بيمين موسى , بل يعلم كل شيء ولا يغيب عنه مثقال ذرة ـ جلّ جلاله ـ , ولكن المقصود تربية موسى على طريق الأسئلة , وهنا تعهد رباني وعناية إلهية بعبد تغلب عليه السُمرة , فيه حبسة في لسانه لا يظهر كلامه جيداً - يجد عناء وهو يتكلَّم- في ليلة شاتية , أهله غير بعيد عنه , فهذه الأجواء بالنسبة لشخص موسى , لكن هذه مواطن الضعف كلها ذهبت عندما وجدت عناية ربانية إلهية بهذا العبد , كلها زالت ، كل مواطن الضعف أضحت قوة , لأن المتعهد به والقائم بأمره هو رب العزة ـ جلَّ جلاله ـ ، قال الله له : {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى} فأجاب ـ كما قال الله ـ : {قَالَ هِيَ عَصَايَ} وهذا يكفي في الإجابة , لكنه أراد أن يستمر الخطاب تلذذاً منه بمناجاة الملك الغلاب فقال ـ عليه السلام ـ :{هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَاولم يكن السؤال ماذا تعمل بالعصا ! وإنما السؤال ما الذي في اليمين ؟ وكان يكفي أن يقال {عَصَايَ} , لكنه كما قلنا فرحاً بمناجاة ربه فزاد {أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي} ومعلوم أن موسى لا يضرب الغنم بعصاه , وإنما {أَهُشُّ} بمعنى أهش على الشجر فيتساقط ورقه على الغنم فتأكله . ومازال مردفاً فأحياناً يغلب عليه الأدب فلا يريد أن يستمر , وأحياناً تغلب عليه المناجاة , فاتخذ طريقاً بينهما فقال :{هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي} وكأنه شعر بأنه أطال في اللفظ فقال : {وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ . أراد الله بهذا أن يبيِّن أن هناك آية ستنجم عن هذه العصا , ولم يرد الله أن تكون الآية في شيء غير العصا , لعل موسى يقع في ذهنه أنها شيطان أو ما أشبه ذلك , لكن موسى من أعلم الناس بعصاه فهو يعرفها , وهي ملازمة له سنين عديدة , ويعرف من أين اقتطعها , وهو يتكأ عليها ـ كما يقول ـ ويهش بها على غنمه فلا تكاد تفارقه , ولهذا أراد الله أن تكون الآية في نفس الشيء الذي يعرفه موسى جيداً , فخاطبه رب العزة قال {أَلْقِهَا يَا مُوسَى} "ألقها" فعل أمر جُزم بحذف حرف العلة , لذلك لا يوجد "ياء" , وإنَّما الهاء بعد القاف مباشرة , استجاب الكليم لأمر ربه فألقى العصا قال الله : (فإذا) فُجائية , وسيُبيَّن نحوياً غرابة "إذا" هذه في موطنها بعد أن نترك قصة موسى. {فَإِذَا هِيَ} أي العصا {حَيَّةٌ تَسْعَى} فُجأةً إذا بهذه العصا التي يعرفها جيداً تنقلب إلى حية , وجاء في بعض الآيات (ثعبان) وجاء في بعض الآيات (جآن) , والجمع بينها: أنها حية في ضخامتها , ثعبان في تلونها , جآن في خفتها , فهي تتنقل وتسبح في الأرض -تجول-وبجبلته التي فطره الله عليها كأي بشر ولَّى هاربا ، قال الله ـ جل وعلاـ : {أَلْقِهَا يَا مُوسَى} أي عصاه {فَإِذَا هِيَ} أي العصا {حَيَّةٌ} ليست ثابتة واقفة جامدة ميتة {تَسْعَى} تتحرك , {قَالَ خُذْهَا وَلا تَخَفْ} معنى أنه نجم عنه الخوف وضِّح في سور أُخرى أنه ولَّى هارباً , فطمأنه ربه { أقبل ولاتخف } , ثم أمره ربه أن يأخذها وهي حية لم تعد بعد عصا , فأخذها امتثالاً لأمر الله , وطمأنه الله {سَنُعِيدُهَا} أي الحية {سِيرَتَهَا الأُولَى} أي تعود إلى عصا , وسيكون لهذه العصا شأن عظيم مع نبأ موسى في دعوته مع فرعون ـ كما سيأتي ـ قال الله : {سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الأُولَى} وكلمة "سيرة" تُطلق على حال الإنسان إن كانت حسنة أو قبيحة , يقال فلان سيرته حسنة , ويقال فلان سيرته قبيحة,{سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الأُولَى} فعادت الحية عصاً وهي في يد موسى ـ وسأرجئ الكلام في الفوائد إلى آخر القصة- . فأخذها وأعادها الله , ثم أتاه أمر آخر قال الله له {وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ} "الجناح" الأصل أنه للطائر , واستُعير هنا لبني آدم , وهو ما تحت العضد كما أن جناح الطائر في هذا الموطن , وفي آية أُخرى قال الله: {وأدخل يدك في جيبك} و "الجيب" فتحة الثوب من الصدر , والمعنى أن موسى أدخل يده من فتحة ثوبه حتى دخلت تحت عضده , منها أنه شعر بالاطمئنان ، وهذا إلى الآن الناس تفعله جبِلَّة يضع يده على قلبه إذا خاف , ويقولون في التعبير ( يدي على قلبي ) كناية عن الخوف , { وأدخل يدك في جيبك} مالذي يحدث ؟ {تَخْرُجْ} جاءت مجزومة أي عليها سكون , لأنها واقعة في جواب الأمر الذي هو "أدخل" , فأخرجها يقول الله له {تَخْرُجْ} أي يدك {بَيْضَاء} من غير تنوين لأنها ممنوعة من الصرف , عليها فتحة لأنها حال , أي كيف تخرج ؟ تخرج بيضاء , وموسى كان يميل لونه إلى السمرة جاء في الحديث ( كأنه رجل من أسد شنُؤة ) يميلون إلى السمرة , فأخذت تبرق نوراً , وجاء هنا احتراز عظيم {مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} فليس هذا من مرض أو ما شابهه وإنما من غير سوء ... لماذا يارب؟ قال له :{آيَةً أُخْرَى} ولم يقل أخيرة , {أُخْرَى} أي غير الأولى , فالأولى عصا انقلبت إلى حية , والثانية اليد تدخل فتخرج بيضاء {أُخْرَى} أي فيه شيء قادم , تقول رجل آخر فلا يمنع أن يأتي بعده أحد آخر , لكن أخير أي انتهيت , فأي شيء تريد أن تختمه فصفه بأنه أخير أي لا شيء بعده . نقول : قال الله ـ جلّ وعلا ـ :{آيَةً أُخْرَى} ولم ينهها , لأن ثمة آيات ستأتي لهذا النبي الكليم سيُخاطب بها من بُعث إليه في الأصل وهو فرعون.
قال الله : {لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى} ،{مِنْ آيَاتِنَا} إفهام وإشعار لكليم الله أن آيات أُخر ستأتي كُبرى عظام , وقد أتت وهن في مجملها تسع : العصا واليد ، ثم أتبعها الله ـ جلّ وعلا ـ بقوله : {وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِّن الثَّمَرَاتِ} هذه اثنان مع اثنين أربعة ، وبقيت خمس قال الله : {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُّفَصَّلاتٍ} أي يتبع بعضها بعضاً وليست في آنٍ واحد , والمقصود هذه تسع.
 {لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى} لأي شيء كل هذا الإعداد ؟! {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} {إِنَّهُ طَغَى} جملة في التعريف بحال فرعون , وليس في وصفه لأن قواعد النحو تقول : أن الجمل بعد المعارف ( أحوال ) وبعد النكرات ( صفات ) , وفرعون معرفة فالجملة التي بعده حال تبين وضع فرعون , لكن قول الله ـ جلّ وعلا ـ {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ} هذا تكليف بالرسالة , وليس موسى أول الرسل إلى فرعون , والدليل أن الله قال حكاية عن مؤمن آل فرعون : {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَاءَكُم بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ اللَّهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولاً} فيوسف أُرسل إلى فرعون الذي عاصره , وموسى أُرسل إلى فرعون الذي عاصره وكِلاهما من أنبياء بني إسرائيل , إذ أن موسى من ذرية يعقوب , ويوسف ابن يعقوب وكلهم بنوا إسرائيل وقد دخلوا مصر محدودي العدد , وخرجوا وهم أكثر من ستمائة ألف ـ كما سيأتي في موضعه ـ ، المقصود قال الله تعالى : {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ} قَبل التكليف , وسأل الله الإعانة , وقدَّم أربع رجاءات إلى ربه : {قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي} "ربِ" مكتوبة من غير ياء , وحتى تستريح من عناء أشياء كفاك الله همَّ البحث عنها لا يوجد "رب" في القرآن بصيغة دعاء -مناداة- موصولة بياء , فكلها مكونة من حرفين ( الراء , والباء المشددة ) .
 {قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي} فأول ما سأله الله ـ جل وعلا ـ أن يشرح صدره لهذا التكليف , {قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي*وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي} وأن ييسر له الأمر , ولا ييسر العسير إلاَّ الله , ثمّ قال : {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي*يَفْقَهُوا قَوْلِي} هذه الأخيرة تحتاج إلى بيان , موسى عليه الصلاة والسلام معلوم أنه نشأ في قصر فرعون , فلما نشأ كان فرعون على وجلٍ منه , لأنه قد سبقته رؤيا أن غلاما من بني إسرائيل سيكون على يديه هلاك ملكه فكان يتحرز , فلما نشأ موسى رضيعا نشأ فصيحاً فخاف منه , فأرادت زوجته آسيا أن تمنعه من ذلك , فبعد أخذ وعطاء بينهما اتفقا على أن موسى يُختبر فقُدم له جمر ولؤلؤ , وقيل جمر وتمر , أو تمر في إناء من ياقوت وجمر من نار ليختار بينهما , فذهبت يده إلى التمر أو إلى الياقوت ...المهم أنها بعُدت عن الجمر , قيل أن جبريل جاء ووضع يده على الجمر حتى يكون ذلك سببا في بقاءه ــ والله ـ جلَّ وعلا ـ يجعل للأشياء أسباباً , وإذا أراد الله شيئاً هيأ أسبابه ــ فوضع الجمرة في فيه فلذعته , فلما لذعته أصابته هذه الحبسة التي في لسانه والبطىء في كلامه , وهذه عيِّره بها فرعون قال كما في آية الزخرف : {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ} أي لا يكاد يظهر كلامه ، لا يفصح ، لا يُفقه ماذا يقول , ومع ذلك هنا قال موسى ــ لأن مقام الدعوة يحتاج إلى شيء من البيان مع العلم وأمور كثيرة قال : {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي*يَفْقَهُوا قَوْلِي} هنا نقول إن الله قال (عقدة) على لسان موسى أنه طلب حلّ عقدة واحدة قال العلماء في هذا : إن موسى كان يطلب الأمور على قصده , ولا يريد أن يكون فصيحاً يشار إليه بالبنان , ويذكره بنوا جنسه , وإنما أراد ما يكتفي به أن يبلغ دعوة ربه , وقد فهم منها العلماء أن على الإنسان أن يقتصد في أمور الدنيا إذا كان مصدرا للإمامة في الدين بالقدر الذي يقيم به حاله ولا يتجاوز الحد وأخذوه من هذه الآية , ثمِّ أن الله ـ جلّ وعلا ـ ختم هذه السؤلات بقوله :{قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى} وسيأتي بيانه في موضعه .
 نعود للقضية كلها ونستطرد في الحديث عن هذه الآيات التي سلفت فنقول في أولها :
 إن التربية الإلهية لا يعدلها تربية , والنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : ( أدبني ربي فأحسن تأديبي ) وإذا أراد الله شيئاً هيأ أسبابه , ومن أعظم ما يجعلك أن تقف على الحق وتثبت عليه علمك اليقيني به , لكن ينبغي عليك أن تعلم أنك بشر ضعيف تحتاج إلى ما يقوّيك , والله ـ جلّ وعلا ـ قادر على أن يثبت موسى بين يدي فرعون من غير تجربة , لكن موسى لما وقف ذلك الموقف , وانقلبت العصا حية وهو يرى , واليد أُدخِلت وخرجت  بيضاء وهو يرى انتهى من مقام التجربة فآمن هو بقضيَّته , فلما آمن بقضيته واقتنع بقدرته كان يسيراً عليه أن يقف واثقاً من نفسه متمكِّناً من قوله مظهراً لدليله أمام فرعون , ولهذا قال الله عنه في الشعراء : {قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُّبِينٍ} فذلك الخوف الذي كان موجوداً انتهى {قَالَ فَأْتِ بِهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} قال الله {فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ* وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاء لِلنَّاظِرِينَ} لما ألقى موسى العصى أمام فرعون لم يفرَّ هارباً رغم أنها انقلبت إلى حية مثل الأول , لأنه كان يعلم أنها ستنقلب حية , وفيه لُغز تقوله العامة -وهو مقبول- عند قضية موسى بعد أن انقلبت العصا إلى حية مع السحرة يقولون "خشبة انقلبت لحمة أكلت لحمة عادت خشبة" وهي وإن كانت باللهجة العامية لكنها صحيحة فالخشبة هي عصا موسى ، انقلبت لحمة يعني حية فالحية من لحم ، أكلت خشبة أي أكلت العُصي التي ألقاها السحرة ، عادت خشبة أي عادت عصا كما كانت ، وهذا ربط لألغاز عامة بالقرآن وهو مقبول لأن المقصود ربط الناس بآيات الله البيّنات وما هذه الأمور إلا وسائل ، وأي وسائل لم ينص الشرع على تحريمها وقربت من الله أو دلت على آياته أو عرّفت بالقرآن فهي محمودة ما لم ينصّ الشرع على تحريمها ذاتا .
نعود فنقول : لأجل هذا ربى الله رسله , فالله يقول في حق خليله إبراهيم : {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} فكان إبراهيم عارفاً بملكوت السماوات كما علَّمه الله حتى يثبت أمام الشدائد التي ستأتيه , ونبينا ـ صلى الله عليه وسلم ـ غُسل قلبه , ومُليء إيماناً وحكمة , وتجاوز السبع الطباق وعُرج به ورأى من آيات الله الكُبرى حتى بعد ذلك إذا حدّث عن الجنة والنار يحدِّث عن شيء هو مؤمن به كل الإيمان يعرفه حق المعرفة , فمن دعا إلى الله ولم يتسلَّح بالعلم القلبي والإدراكي لا يكون قادراً على الثبات كغيره ولو سمع شبهة تشكك في الجنة أو في النار , أو تخبر بعدم قيام البعث , أو كلمة يلقيها من يلقيها على عواهنها فتقع منه موقعاً يجعله يحجم عن الدعوة , فحتى الذين منَّ الله عليهم بالهداية من خلال موقف إيماني كالذي يرى مصرعاً لأحد , أو يمر على جنازة , أو يرى قبراً هذا محمود يكون سبباً في الهداية لكنه لا يكفي , لابد أن يُسقى ذلك بعلم بالله ـ جلّ وعلا ـ حتى يكون ثبات على الدين , لأن أثر ذلك الموقف العارض لا يلبث أن ينجلي إن لم يُسقى برحيق العلم والمعرفة والتفكُّر في مخلوقات الله , وإذا أراد الله بعبد خيراً ومُضيّا في الطريق قلَّبه ـ جلّ وعلا ـ في أمور الدنيا والأهوال والنوازل والابتلاءات وغيرها ، يراها حتى يشتد عوده , ويثبت جنانه , ويصبح على بيِّنة من ربه وهو يدعوا إلى الله ـ تبارك وتعالى ـ وهذه العطية هي التي منحها الله ووهبها لأوليائه ورسله وخاصةً منهم أولو العزم , ومنهم كليم الله موسى بن عمران .
/ الأمر الثاني ـ كفوائد ـ : أن الإنسان ضعيف لولا إعانة الله ـ جلّ وعلا ـ له , وقد ورد في الحديث القدسي أن الله ـ جلّ وعلا ـ قال لموسى : ( يا موسى سلني ملح عجينتك , سلني علف دابتك , سلني شسع نعلك ) فالمؤمن وأي أحدٍ فقير إلى الله من كل وجه , والعطايا الإلهية إليك بقدر عظيم إظهار فقرك إلى الله ـ جلّ وعلا ـ , فلا تدخلن مقاما , ولا تجلسن على كرسي , ولا تتصدرن في موضع وأنت تظن أنك وصلت إليه بحولك وقوتك , فإذا كان الكليم يقول : {رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي*وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي} ويسأل الله الإعانة تلو الإعانة , والأمر تلو الأمر , لكن المهم أن لا تسأله غير الله ـ جلّ وعلا ـ , وأن تلجأ إلى الله ـ جلّ وعلا ـ في حاجتك , وقد مرّ معنا في دروس عدة مقولة نُقلت عن العزِّ بن عبد السلام قالها في كتابه : قواعد الأحكام قال : "والله لن يصلوا إلى شيءٍ بغير الله , فكيف يوصل إلى الله بغير الله" وهذا من نفائس الكَلم , ولا يوفق لقوله أي أحد , لكن العز بن عبد السلام كان ـ فيما نحسبه ـ عارفاً بربه ، عالماً بالشرع ، متدبراً بالأمر ، مستعيناً برب العزة والجلال , فوُفق لأن تخرج منه هذه الكلمات , وهذا مادلت عليه جملة سؤالات الأنبياء وخاصة فيما نحن فيه من سؤال كليم الله موسى بن عمران لربه ـ جلّ وعلا ـ.
/ مما دلت عليه الآية : أن الخوف جبلِّي في الإنسان , وأن الإنسان لا يُعيّر بالخوف , وقد قال الله ـ جلّ وعلا ـ عن موسى في آية أُخرى : {إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ} ، {قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ} ,  ومع هذا طمأنه الله . فثمّة أمور جبِّلية تنشأ في بني آدم لا تضر , لكن العبرة بما استقر عليه القلب , والسكينة أمر محمود , والأمنة من الله شيء عظيم وهبة منه , والله له جند ينصر ـ جلّ وعلا ـ حتى بالنعاس ، بالنوم والنعاس نصر المؤمنين في بدر {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ} فالله ـ جل وعلا ـ له جند يعلمهم ولا نعلمهم , لكن المقصود: من أراد الله الاحتفاء به وإكرامه سيسخِّر الله له من الجند ما يعلمه وما لا يعلمه ذلك المؤيد المنصور .
/ دلت الآيات كذلك : على أن أسلوب الأخذ والعطاء في إقناع الغير أمر محمود خاصة في التربية , فمن دونك من الطلاب أو الابناء , ومن تريد إقناعه الوصول إلى الغايات الذي تريد إيصالها إليه عن طريق الحوار والأخذ والعطاء والتساؤلات والبدء من الأشياء المتفق عليها إلى الأشياء المختلف عليها أمر محمود في الطريقة , ثم إن إشعار من أمامك بمحبتك له وإجلالك له , والانطلاق من أشياء تتفقون عليها من أعظم أسباب قبول ذلك الطرف أو الغير أو المحب الذي تريد أن توصله إلى برِّ الأمان , فمن أعظم أسباب الوصول إلى قلبه إتباع مثل هذه الطرائق .
قلنا إننا سنرجيء الحديث عن "إذا" الفُجائية : من المعلوم أن موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ عندما ألقى العصا كان يعلم أنها عصا ولم يَدُر في خلده أنها ستنقلب حية , فيقول النحويون إن هذه "إذا" الفُجائية ومابعدها حقه -عند جماهيرهم- أنه يُرفع ولهذا قال الله : {فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ} خبر {لِلنَّاظِرِينَ} , وقال هنا : {فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ} بالضم {تَسْعَى} فالقرآن يدل على المذهب النحوي القائل : إن الأصل فيما يأتي بعد ( إذا) الفُجائية أن يكون مرفوعاً , وهذه مسألة ـ مرّت ربما معنا ـ تُسمَّى بالمسألة الزنبورية , وذلك أن سيبويه إمام النحاة خرج من البصرة يؤمِّل مجداً في بغداد , فدخل على يحيى بن خالد البرمكي ـ وزير هارون الرشيد ـ , وكانت بغداد آنذاك حاضرة الإسلام , والخلافة فيها موطن الناس , فجاء يؤمِّل فيها مجداً عظيماً وكان إمام البصرة غير منازع , والكسائي إمام أهل الكوفة ، فالتقيا الكسائي وسيبويه في مجلس خالد بن يحيى البرمكي وعنده ابنه جعفر , فقال الكسائي لسيبويه : تسألني أم أسألك ؟ قال : سلني , فذكر الكسائي هذه المسألة ـ ما يقع بعد (إذا) وأنه يجوز فيها الوجهان الرفع والنصب ، فمنع سيبويه أن تكون العرب تقولها بالنصب , وأنه ليس لها إلاّ وجهاً واحداً هو ( الرفع ) -والقرآن يؤيده- , لكن الكسائي أصر , فقال يحيى بن خالد : اختلفتما وأنتما رئيسا بلديكما فمن يحكم بينكما ؟! فقال له الكسائي : هذه وجوه الأعراب في الباب فاسألهم , فقيل أن المسألة كانت سياسية أصلاً قبل أن تكون علمية للتنازع ما بين الكوفة والبصرة والتنازع ما بين الكسائي كشخص مقرب من الوالي وبين سيبويه الذي لم يظهر له بعد قُربة عند السلطان ,فوجوه الأعراب مالت إلى الكسائي عمداً تريد أن تنصره على خصمه سيبويه , فأشاروا بأن الصواب مع الكسائي فبُهت سيبويه , فزاده حنقاً أن الكسائي أخذ يظهر عطفه عليه ويقول ليحيى : إنه جاء يؤمِّل منك عطايا فاجبر كسره وارحمه , فالآن جعله ضعيفاً بعد أن كان يعلم أن سيبويه أعظم منه في النحو , فلما قال له ذلك خرج سيبويه من عنده كسيراً من سوء ما لحق به واستحيا أن يعود إلى البصرة وقد خرج منها إماماً فلحق بفارس , ثم مات مُغتمَّاً في ريعان شبابه ولم يكن قد جاوز الرابعة والثلاثين من عمره , ثم قيّض الله للكسائي تلميذاً من تلاميذ سيبويه يقال له أحمد أبو محمد اليزيدي , هذا اليزيدي دخل مع الكسائي في مناظرة أُخرى , مع أن الأولى قلنا أن الحق مع سيبويه لكن السياسة لعبت دورها وإلا القرآن يشهد أن الحق كله مع سيبويه , وللعلماء في تخريج قول الكسائي خمسة أوجه , وكلها باطله بيّنها أهل النحو ولا حاجة للتفصيل فيها الآن , لكن جاء اليزيدي ببيتين من الشعر قالهما في نفس المجلس وأمام الكسائي وقال : هل تجيز هذا؟ وقبل أن نقول البيتين وحتى تفهمهما لئلا تقع فيما وقع فيه الكسائي . العرب معلوم أنها ترفع اسم "كان" وتنصب خبره وهذا شبه متفق عليه وليس من مسائل العلم الكِبار -يعرفه كل أحد- , فقال اليزيدي للكسائي ماذا تقول في قول العرب :
ما رأينا خرباً ينقرعنه البيضَ صقرُ ** لا يكون العيرُ مهراً لا يكون المُهرُ مُهرُ
نلاحظ أن "يكون" تكررت مرتين وهي التي أرادها يقع فيها الكسائي مزلقاً , فوقع فيها , فلقد فهمها الكسائي بأن اليزيدي يقول : "لا يكون العير مهراً لا يكون المهرُ مهراً" هذا هو أصلها النصب , لكن اليزيدي نطقها بالرفع "لا يكون المهرُ مهرُ" , فاليزيدي قصد:  لا يكون العير -أي الحمار- مهراً وهنا انتهى الكلام , "المهرُ مهرُ" مبتدأ وخبر كِلاهما مرفوع , لكن الكسائي قرأها ( لا يكون العير مهراً لا يكون المهرُ مهراً ) فوجدها منصوبة , فردَّ البيتين وقال خطأ , فلا يقع الرفع وإنما حقها النصب , ولا تجوز إلاّ لضرورة الشعر وعبَّر عنها باصطلاح يسمى ( الاسراف) عند البعض ( والإقواء) عند البعض , ففرح اليزيدي فرحاً أن المزلق وقع فيه الكسائي , فصار يعيده عليه ويقول له انظر والكسائي مُصرٌّ , مع أن البيت واضح لا يغيب عن رجل مثل الكسائي , لكن إذا أراد الله شيئاً يقع , كررها مرتين ، ثلاثاً هنا وقع اليزيدي في الخطأ , فلما أصرَّ الكسائي على رأيه وعلم اليزيدي أنه أوقع الكسائي فيما يريد خلع عمامته أو قلنسوته وضرب بها الأرض فرحا , وضرب بيده على صدره وقال : أنا أبو محمد ــ يعني انتصرت ــ , فقال له يحيى بن خالد: والله لخطأ الكسائي مع حسن أدبه أحب إلينا من صوابك مع سوء أدبك , أتتكنى بحضرة أمير المؤمنين وتنزع قنسوتك من رأسك ! ـ يعني هذا سوء أدب لايُفعل أمام أمير المؤمنين ـ , فانقلب الأمر عليه وإن كان منتصراً في الأصل .هذا مادوَّنه المؤرخون .
 أقول ـ عفا الله عني ـ : نصر الله الكسائي بالقرآن , يظهر لي أن الدور العظيم الذي لعبه الكسائي في حفظ القرآن هو الذي نصره في هذين الموضعين , فنصره الله في الأولى على سيبويه مع أن الحق مع سيبويه من جميع الأوجه , وهذه المرة حتى عندما وقع , وقع اليزيدي في سوء الأدب , وبقي هو على حشمته ووقاره فكانت سببا في نصرته .
الذي أريد أن تفهمه من هذا الاستطراد أمور من أهمها :
 - لا تبدأ أحد بالأسئلة , دع خصمك هو الذي يبدأ , فإذا غُلبت في الرد على خصمك , يقولون حوِّل الجواب إلى سؤال , فينشغل خصمك بالإجابة وتسلم أنت , هذا إذا تريد موارد أهل الدنيا , أما إذا تريد موارد أهل الآخرة فلا تدخلن مجلساً إلاّ وأنت تريد أن تصل فيه إلى الحق , وقد كان الشافعي ـ رحمه الله ـ يقول : "ما جادلت أحداً إلاّ تمنيت أن يخرج الله الحق على لسانه" وحب الشافعي للحق هو الذي أوصله هذه المنزلة العالية من حب المسلمين أو يكاد إجماع المسلمين على حبه . هذا في الأخذ والعطاء , لكن يحصل بين الأنداد -عموماً- التنازع , ولذلك لا يحبذ أن يجتمع أكثر من طالب علم في مجلس صدارة في مكان واحد , حتى لا يقع بينهما التنازع , فمالك ـ رحمه الله ـ على جلالة قدره كان في المدينة مجاوراً لمحمد بن إسحاق صاحب السيرة , وكل منهما جليل القدر في فنه , عظيم الأثر في علم الأمة , وإن كان مالك نحى إلى  الحديث فهو أشرف من هذا الوجه , فيقولون إن مالك كان يقول عن محمد بن إسحاق : أنه دجال من الدجاجلة ـ على الروايات التي يقولها أهل التأريخ ـ , ومحمد بن إسحاق يقول : إتوني بالموطأ فأنا بيطاره ـ يعني طبيبه ـ والمعنى : أُبيّن لكم أخطاء مالك في الموطأ ، وطبعاً لا يُقبل قول كل واحد منهما في الآخر , لكن يوجد من أهل العلم من منَّ الله عليه ببغية الحق أينما كان حتى في تعامله مع أنداده وقرنائه يتقي الله ـ جلّ وعلا ـ فيهم , ولا يمنعنَّه كونهم أنداداً له ومعاصرين أن يترفّع عليهم أو أن يقول فيهم بغير وجه حق , لكن هذه منزلة عالية ليس الكل يؤتاها . هذا استطراد في قول الله ـ جل وعلا ـ : {فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى}.
/ من فوائد هذه القصة كذلك أن الله ـ جلّ وعلا ـ قال لنبيه : {خُذْهَا وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الأُولَى} قول الله ـ جلّ وعلا ـ {وَلا تَخَفْ} هذا نوع من الاطمئنان أعطاه الله ـ جلّ وعلا ـ موسى قبل أن يأخذ العصا , وهذا يأتي في التربية حتى الذين تريد أن تربيهم على الحق لا تقطع أملهم في المكافأت , أو لا تُظهر تخليك عنهم تماماً وتقول : لا أنا أريد أن أربيهم , أنا أريد أن يصل للحق بنفسه ، يحسُن أن يكون هناك ثمة شيء يسير من الإعانة كما أعان الله كليمه موسى بقوله {خُذْهَا وَلا تَخَفْ} , ولو قال له : "خذها" من غير أن يقول له : "ولا تخف" لأخذها موسى , لأن موسى أتقى لله من أن يرد قوله , لكن الله قال له {وَلا تَخَفْ} نوع من الاطمئنان , نوع من الإعانة , نوع من التيسير في التكليف , ولهذا جاء في دعاء الصالحين : { وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ }، {قَالَ خُذْهَا وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الأُولَى}.
 ثم إن موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ كما سيأتي هذا تفصيلاً في أمر آخر ـ طلب أن تكون الوزارة في أخيه هارون , لأن قلنا أن في موسى حُبسه , وهارون كان فصيحاً , فكان الناس في حاجة إلى صرامة موسى وحسن سياسته مع قدرة هارون على التعبير وإيضاح الرأي , وقد ختم الله ـ جلّ وعلا ـ هذا المقطع الذي سنبدأ به لقاءً قادماً ـ إن شاء الله ـ قوله : {قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى} وهذه الكلمة الإلهية لهذا العبد الصالح من أعظم ما يُفرح به ، أن يجيب الله ـ جلّ وعلا ـ دعائك , وإجابة الدعاء من أعظم العطايا , ولهذا قال الله لنبيه مقروناً بحرف التحقيق : {قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى} ثم أخبره أن هذه ليست أول منّة له , المراد من هذا أن يقال : إن الدعاء من أعظم ما ينتصر به الإنسان , لكن من المهم أن يكون هذا الدعاء مقروناً بحسن نية , فوالله لن يوجد أحد لديه حسن نية في بُغية شيء إلاّ وأعطاه الله ـ جلّ وعلا ـ إياه , إذا كان يريد بذلك الشيء الذي يبتغيه النصح لله ورسوله , وليس له فيه أو لغيره حظ ولا نصيب .
كان عندي قبل أخ فرنسي المولد والمنشأ له سبع سنوات عندنا في المدينة -يحضر الدرس- هذا الأخ الكريم يقول : نشأ في بيت أبواه مُلحدان ، حتى النصرانية التي هي ذائعة في فرنسا لا يؤمنان بها ويُبغضان الله ولا يؤمنان أصلا بوجوده ، يقول لما وصلت إلى الثانية عشرة من العمر كنت أسألهما عن الدين فينهراني ، فلما أكثرت عليهما طلبا منه أن يبحث ، يقول : فدخلت كنيسة فأعجبني ما فيها فتنصرت فأصبحت نصرانيا وكنت أُجيد الرياضة فاشتركت في نادٍ رياضي ، اقترنت مشاركتي بهذا النادي مع مسلمين من أصول عربية ، قال : يلعبون الحركات الرياضية على الموسيقى فإذا انتهوا صلوا ، يقول : فكنت أتعجب من صنيعهم وأنا أبحث عن الحق ثم علمت عنهم من الدين فكان سببا في إسلامي .
هذا كله ليس بعجيب ، يتكرر عليكم مئات المرات أين الغرابة هنا؟ الغرابة هنا في أن له جدّة تعمل في التنجيم فأتاها وهو صبي قبل أن يُسلِم -أيام المراهقة- فقالت له -من خلال تنجيمها- أنت ستجد الحق الذي تبحث عنه ، يقول فلما هداني الله للإسلام أتيتها وقلت لها تذكرين يوم كذا وكذا ؟ قالت : نعم ، قال : أبشرك أنا عرفت الحق وأن هناك رب ودين اسمه الإسلام وأخبرها الخبر ، فزاد بُغضها له وأخذت تسبه وتلعنه وتسبُ الدين الذي انتسب إليه -ولن يضر الدين شيء- ثم تركها وجاء يسألني في قضيت كيف يبُرها باعتبارها جدة له إذا وصل إلى بلاده . موضع الشاهد من هذا كله : أن الله يقول: {يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء}, ومن جملة مشيئة الله في الهداية إلى النور ـ سواء النور العام الذي هو الإسلام أو نور الوصول إلى بعض المعارف والحقائق والغايات ـ يكون مرتبطاً بحسن المقصد , ويكون الإنسان همُّه وبغيته أن يصل بهذا الأمر الذي يبتغيه إلى رضوان الله , وقد يُمكَّن من يبتغي بالأمر الذي ينشده غير الله ـ يعني يبتغي بالأمر غير الله ـ قد يُمكّن في أن يصل للذي يريده لكن مثل هذا لا يُعد إماماً في الدين لأن الله ـ جلّ وعلا ـ منع الإمامة في الدين للظالمين , ولا ريب أنه ظالم لنفسه من أراد بالدنيا غير وجه الله , ومن أراد بالعمل الصالح والخيِّر غير وجه الله , والله قال لعبد ـ وأي عبد ـ وهو خليله إبراهيم قال : {قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} فقال متلهفاً من أجل ذريته : { قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي} فحكم الحكم العدل فقال لإبراهيم : {قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} أي هذه العطية والعهد والميثاق التي أعطيتك إياها لا ينالها ولا يصيبها ولا يفرح بها ظالم , فلا يسمى إماماً في الدين من ابتغى بعلم أو بأي أمر آخر أحداً غير الله ولو حظ نفسه , لكن الإمام في الدين الحق من ابتغى بعلمه الله ـ جلّ وعلا ـ وحده , ولم يستشرف ولم يشرئب عنقه لغير عطايا الرب تبارك وتعالى , فما أتاه من الدنيا يتحرز منه , وقد ينقل له رؤى ومنامات تُحكى عنه ويُمدح ويقول الناس فيه ما يقول وأن الله كتب لك القبول وأمثال ذلك , فليأخذها على حذر خوفاً من أن تكون استدراجاً فإن العبد لا يدري بما يُختم له .
 هذا التكليم الذي حدث في سورة (طه) جعل بعض العلماء كتسمية اجتهادية لسورة (طه) يسمونها سورة ( الكليم ) , لكن هذا وقع عند بعض المفسرين , أما الاسم التوقيفي لها فهو اسم سورة ( طه ) .
 هذا مايسر الله ـ جلّ وعلا ـ قوله حول هذا الخبر المبارك عن نبي الله موسى , وجملة نقول : أن موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ أكثر الله من ذكر قصصه في عدة مواطن , والسبب في ذلك أنه عالج أشد بني إسرائيل أعظم المعالجة , وهذه المعالجة انقلبت نُصحاً في حديث الإسراء والمعراج فإنه قال لنبينا ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( إنني قد بلوت الناس قبلك , وإن أمتك لن يطيقوا ذلك ) وهذا النبي الكريم واجه أمرين :
- أمر عتو من أُرسل إليه وهو ( فرعون )
- وأمر في أن من حوله من بني إسرائيل لم يكونوا يعينوه على دعوة ربه , فما أن نجّاه الله من فرعون حتى وجد العناء والعنت من قومه {إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُواْ فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} ومع ذلك صبر على طغيان فرعون , وصبر على عنت قومه وشقائهم وعتوهم معه حتى ختم الله له ـ جلّ وعلا ـ ومات في أرض التيه , وبقي عبداً صلحاً حتى وهو في قبره , يقول ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( مررت ليلة أُعرج بي وإذا بموسى قائماً يصلي في قبره ) وهذه حياة برزخية الله أعلم بها , لكنها تُبيّن لك أي مقام كريم لهذا النبي الكليم ـ صلوات الله عليه وعلى نبينا صلى الله عليه وسلم ـ , نعود فنختم جملة ما يمكن أن يُقال : هذا ما تيسر قوله من سورة ( طه ) بدأنا من قول الله ـ جلّ وعلا ـ : { طه } إلى قوله ـ جلّ وعلا ـ : { وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي } وقلنا: أن في هذه الستة عشر آية تقريباً أو أكثر من المنافع ما بيناه إجمالاً وتفصيلاً , وسنشرع ـ إن شاء الله ـ في اللقاء القادم في الحديث عن الرجاء الأخير لموسى عند ربه وهو أن يجعل له وزيراً من أهله , ثم كيف أن الله ـ جلّ وعلا ـ ذكّره بالمنن السابقة والعطايا التي سبقت مقام التكليم بقوله ـ جلّ وعلا ـ : {وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى * إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى } ثم سيأتي بإذنه ـ جلّ وعلا ـ تفصيلاً خروج موسى وهارون إلى فرعون , والمنازعة التي حصلت بين الرسول ـ عليه السلام ـ وبين فرعون , والقضايا التي أُثيرت , ثم ما حصل بينهما من تواعد في السحر , ثم نُصرة الله لموسى على السحرة , وإيمان السحرة وتوعِّد فرعون لهم , ثم خروج موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ بقومه من أرض مصر إلى الأرض المقدّسة , ثم وفاة موسى في أرض التيه بعد غرق فرعون بسنين عديدة , ثم سيأتي -إن شاء الله تعالى- الكلام عن يوشع بن نون , والحديث عن بني إسرائيل مفصلاً في حينه .
هذا ما تيسر إيراده , وتهيأ قوله , وأعان الله ـ جلّ وعلا ـ على ذكره , والله المستعان وعليه البلاغ , وصلى الله على محمد وعلى آله , والحمد لله رب العالمين .
------------------------------------
النص من مكتبة الشاملة (بتصرف يسير)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق