الخميس، 24 أكتوبر 2024

تدبر سورة الواقعة / د.محمود شمس / م.4

 🎧لسماع المحاضرة

الحمد لله رب العالمين. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم أجمعين. سبحانك اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم. اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا يا رب العالمين. وبعد: فإني أحييكم بتحية الإسلام، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وإني لأسأل الله تبارك وتعالى أن يشرح صدورنا، وأن يجعلني وإياكم من أهل القرآن الكريم الذين هم أهل الله وخاصته. وها نحن نلتقي في لقائنا هذا وتدبر سورة الواقعة، توقفنا في اللقاء السابق عند قول الله تبارك وتعالى (والسابقون السابقون* أولئك المقربون* في جنات النعيم).
 الله تبارك وتعالى قد قسم الناس تفصيلا يوم القيامة بعد أن ذكر الله بعض الأهوال التي ستحدث في هذه الدنيا، قسمهم إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: قال فيه (وأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة)
القسم الثاني: (وأصحاب المشأمة ما أصحاب المشأمة) هذا هو الفريق الثاني.
القسم الثالث: (والسابقون السابقون) هذا هو الفريق الثالث. 
ما معنى السابق؟ 
السابقون هم المبادرون والمسرعون الى الخير دائما، يعني هم مبادرون ومسرعون إلى الخير دائما، لكن نلاحظ أن الله ذكر الفريق الثالث بأسلوب مختلف عن الفريقين الأول والثاني، يعني الفريق الأول والثاني ذكرهما بطريقة سؤال عن الوصف الثابت له، يعني أصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة،  يأتي باستفهام ويأتي بالوصف الذي أثبته لهم بداية. (وأصحاب المشأمة ما أصحاب المشأمة)
 لكن جاء عند السابقين ولم يستعمل في الإخبار عنهم هذا الأسلوب، إنما استعمل أسلوبا آخر وهو أسلوب يقول عنه العلماء أنه تعذر التعبير بغير الوصف المثبوت أو الثابت لهم فكأن حالهم بلغ منتهى الفضل والرفعة بحيث إن المتكلم لم يجد خبرا آخر غير تكرار الخبر المفيد الوصف لهم السابق. كيف هذا الكلام؟ مثلا، عندما أريد أن أمدحك فأقول أنت.. أنت، ما معنى أنت.. أنت هذه؟ كأني أقول بأني لم أجد خبرا أُخبر به عنك. مثلا ما استطعت أن أقول أنت صديقي لأنك أكبر من صديقي. وما استطعت أن أقول أنت ابني مثلا لأنك أكبر من ذلك، ولا استطعت أن أقول أنتِ ابنتي لأن مكانتك أكبر من ذلك. فما كان إلا أن أقول أنت .. أنت .. واضح هذا. إذاً تكرار الوصف دون استفهام هذا أدق و أبلغ في بيان مكانتهم وشرفهم عند الله تبارك وتعالى أن المتكلم يعجز عن أن يجد خبرا للمبتدأ، يعني الكلام الطبيعي العادي أني إذا ابتدأت بمبتدأ أخبر عنه إما بخبر أو بأسلوب استفهام كالماضي  السابقون لا يمكن للمتكلم أن يصِف كنههم، ولا أن يعرف ما أعدّه الله لهم من مكانة فجاء الأسلوب بهذا الإيجاز. إذا لماذا غاير الله الأسلوب هنا وهو يتحدث عن السابقين السابقين؟ غيّره ليقل لهم مكانة خاصة عند الله تبارك وتعالى، مكانتهم لا يستطيع المتكلم أن يدركها ولا تستطيع أنت أن تدرك ما كنهها، يعني مهما ذكرت لك من مكانة هؤلاء فلن تستطيع أن تستوعب ذلك. 
(السابقون السابقون) فسّر الله هذا الوصف في مواضع متعددة في القرآن الكريم.
 أولا: جعله الله تبارك وتعالى أثرا لإرث أورثه الله لعباده واصطفاء من الله (ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا) وأنا أريد أن أوضح لكم معنى الإرث ومعنى الاصطفاء لأن مناط الإرث غير مناط الاصطفاء، تمام. يعني المقصودون بالإرث غير المقصودين بالاصطفاء، فالذي لا يحقق الاصطفاء لا يحصل على الإرث حتى لو حفظ القرآن الكريم كاملا بقراءاته كلها. إذا الإرث مرتبط بالاصطفاء، لأن الإرث من الله، الله هو الذي أورث عباده هذا الكتاب، لم يورثه أي إنسان، إنما أورثه من اصطفاه مناط الإرث القرآن الكريم. إذا الإرث مناطه ماذا؟ مناط الإرث هو القرآن (ثم أورثنا الكتاب)، ومناط الاصطفاء هو الإيمان والانقياد لله تبارك وتعالى والخضوع التام لله تبارك وتعالى. إذا الإرث لا يتحقق إلا بتحقق الاصطفاء، ألم تقرأوا قول النبي صلى الله عليه وسلم: أن أول ثلاثة تُسّعر بهم النار واحد قرأ القرآن وحفظ القرآن أليس كذلك، إذا هو حفظ القرآن لكنه لم يحصل على الإرث لأنه لم يحقق الاصطفاء.
 ليس كل حافظ للقرآن حقق الإرث، وإنما الذي يتحقق فيه الإرث هم الذين اصطفاهم الله علامات الاصطفاء الإيمان والانقياد لله، الإيمان والانقياد لله تبارك وتعالى. بالطبع كلامي كله يستثنى منه تغلب الوازع البشري على الوازع الإيماني، لكن المصطفى والذي أورثه الله الكتاب، الذي أورثه الله الكتاب والمصطفى من الله تبارك وتعالى هو الذي إذا زلت القدم يعود فورا لا يُصر على ما يفعل، يعني تِزل قدمه نعم هو بشر والنسبة البشرية فيه متوقعة لكن إذا زلت القدم ينتبه ويعود.
 يبقى من هم الذين أورثهم الله الكتاب؟ 
هم الذين اصطفاهم الله من عباده، اصطفاهم بمعنى أنهم انقادوا لله وخضعوا لله وسلموا كل أمورهم لله. كيف يحصل الإنسان على هذا الانقياد وعلى هذا التسليم لله تبارك وتعالى؟ أن يتبع ويأخذ بأسباب هداية الدلالة، فإذا أخذ بأسباب هداية الدلالة وفقه الله لهداية التوفيق والمعونة.
 إذا (أورثنا) بنون التعظيم لله (أورثناهم) يعني جعلناهم وارثين، من هم يا رب؟ الذين أورثتهم هذا القرآن. هل كل من حفظه فقط؟ قال لا، الذي أورثناه هو الذي اصطفيناه من عبادنا، واصطفيناه من عبادنا اجتبيناه ووفقناه للعمل به.
 هل لا تزِل قدمه؟ لا، تزل القدم وتتغلب النسبة البشرية عليه أحيانا لكن سرعان ما يعود. واضح كلامي. 
(أورثنا) النون الدلة على التعظيم
 (اصطفينا) بنون الدالة على التعظيم، إذا ليس أي عبد من عباد الله أورثه الله الكتاب، أي جعله وارثا للكتاب كمن يرث المال من قريبه المتوفى، واحد له قريب متوفى ورث ماله، إنما هذا الله هو الذي أورثه. والتعبير بالإرث أنك ترِث دون جُهد منك. أنت عندما ترث مثلا عمك المتوفى هل أنت بذلت جهدا حتى تحصل على هذا الإرث؟ إذا الله هو الذي أورثك لكن أنت لا بد أن يكون هناك رابط، الرابط هو أنك تأخذ بأسباب الاصطفاء، ما أسباب الاصطفاء؟ أنك تأخذ بأسباب هداية الدِلالة والإرشاد. القرآن الكريم كتاب هداية دلالة وإرشاد، عندما يُحرم عليك الشرك بالله ويصِفه في أكثر من آية أخذت بذلك فأنت اتبعت هداية الدلالة والإرشاد، عندما يقول لك افعل فتفعل، لا تفعل فلا تفعل، فكل أمر في القرآن وكل نهي في القرآن هو هداية دلالة وإرشاد، أنت نفذت فأنت بذلك أخذت بأسباب هداية الدلال والإرشاد، رسول الله صلى الله عليه وسلم كل سُنة منه قولية أو فعلية أو تقريرية دلالة هداية وإرشاد (قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا) انظر (إليكم جميعا)، (وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا) إذا أنت تأخذ بأسباب هداية الدلالة فيوفقك الله لهداية التوفيق والمعونة، وأنا قلت مرارا أن هذا هو معنى (فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء) الذي أعرض عن هداية الدلالة والإرشاد ضل فأضله الله خلاص. نحن نتكلم فيمن أخذ بأسباب هداية الدلالة والإرشاد. الكتاب أورثه الله الذين اصطفاهم من عباده. وإسناد الإرث الى الله تبارك وتعالى، وإسناد الاصطفاء إلى الله تبارك وتعالى يقول لك هو توفيق من الله مع أخذك بالأسباب، اخذت بأسباب الوصول الى هداية الدلالة والإرشاد هذا. إذا أنا عندي إرث وعندي اصطفاء، مناط الإرث القرآن، مناط الاصطفاء الخضوع والانقياد لله تبارك وتعالى افعل ولا تفعل. 
ثم قسم الله في هذا الأمر باعتبار أن البعض من الناس تتغلب فيه النسبة البشرية دائما أو كثيرا، فهؤلاء سماهم الله (فمنهم ظالم لنفسه) والآخرون مقتصدون متوسطون، ذكر الله المقتصد بين الظالم لنفسه وبين السابق بالخيرات بإذن الله. والقسم الثالث: سابق بالخيرات بإذن الله. 
وأنا أريد أن أوضح لكم شيئا ذكره العلماء والمفسرون، لكن نحن كمتدبرين أريد أن أُجمِل لكم الكلام الذي يوضح هذا التقسيم خلاص.
 نتفق أن الأقسام الثلاثة ملتزمة بأداء الفرائض التزاما تاما. يعني الظالم لنفسه يؤدي الفرائض، والمقتصد كذلك، والسابق بالخيرات. الفرق بين الثلاثة في تأدية الفرائض في حضور القلب وخضوع القلب وانقياده، وعدم خضوع القلب وانقياده. يعني مثلا نحن جميعا صلينا العشاء الليلة هل كلنا على درجة حضور قلب واحدة؟ حتى الذين يصلون في الحرم مثلا، الذين يصلون في الحرم، المكان المقدس، المكان، والإمام والمكان والكعبة أمامهم، يعني الجو الإيماني مهيأ تماما لكن هل كل المصلين في الحرم على درجة حضور قلب واحدة أم متفاوتون؟ فهنا التفاوت في الفرائض. إذا الظالم لنفسه في الفرائض هو لا يقصر فيها، يعني مثلا ما يصلي الظهر ويترك العصر، أو يصلي المغرب ويترك العشاء أو.. أو...الخ لا، هو يصلي. تمام. طيب سواء عبّر العلماء بتعبيرات أخرى – أنا أُجمل لكم التعبيرات يعني تمام.نأتي للنوافل، النوافل من خلال وصف السابقين السابقين أول وصف فيهم قال (أولئك المقربون). 
طبعا المقرب غير القريب: المُقرب أبلغ بكثيرلأن المقرب فيه دلالة الاصطفاء والاجتباء، الله هو الذي قربه اصطفاه جعله مخلصا له، يعني العبد أخلص في طاعته كما قال الله (إنه من عبادنا المخلِصين) المخلِصين الذين أخلصوا، وقراءة المخلَصين بفتح اللام أي الذين أخلصهم الله له، أي اصطفاهم واجتباهم، إذا العبد يخلص لله أولا في طاعته فيُخلِصه الله له، ألم يقل الله في وصف الأنبياء (وقربناه نجيا) قربناه. تمام، إذا (أولئك المقربون) هم الذين قرّبهم الله له وليس أولئك القريبون، القريبون هذا يمكن قرب مكان، قرب زمان، قرب... إنما هنا (أولئك المقربون) أي الذين قرّبهم الله جل وعلا تقريبا معنويا دليلا على مكانتهم عند الله تبارك و تعالى.
إذا (فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات) التفاوت في حضور القلب في الفرائض، والتفاوت في الاهتمام بالنوافل وتأديتها، وحضور القلب فيها، وعدم مخالطتها بالرياء إخلاصا لله. يعني لا تقم في ليلة تصلي ركعتين وتصبح لتفتش عن كل أصدقائك لتخبرهم، أنا أمس استيقظت ليلا قلت يا ولد قم صلي، وصليت ركعتين وفعلت وقلت واستغفرت. أنت ينبغي ألا يخالط عملك رياء، تمام. ولذلك في الحديث القدسي (ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه) إذا حب الله لك يأتي بماذا؟ بتقرّبك إلى الله بالنوافل، تتقرب أنت، ومعنى تتقرب تخلص لله في نوافلك. إذاً أنت تتقرب إلى الله بالنوافل حتى تصِل إلى درجة حب الله، (فإذا احببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه) خلاص أنت مقرب. إذا التقريب بناء على هذا الحديث القدسي سببه الرئيسي ماذا؟ التقريب سببه الرئيس النوافل. وهذا معنى كلامي أن الظالم لنفسه لا يترك فريضة، انتبهوا، الظالم لنفسه لا يترك فريضة، التفاوت بينه وبين المقتصد والسابق بالخيرات في حضور القلب في الفرائض، والفرق بينهم في النوافل.
 تعبير أخر الظالم لنفسه ثابت على ما هو ثابت عليه، يأتيه رمضان، ويمر، ولا يزال يقصر في النوافل، ويأتيه الحج ويمر ولا يزال يقصر في النوافل، ولا يزال يصلي الفريضة وينتهي مثلا، هذا ظالم لنفسه لأنه يُقصر في حق نفسه. 
والله تبارك وتعالى جاء عند السابق بالخيرات بالذات وقال (بإذن الله) لماذا قال عند السابق بالخيرات (بإذن الله)؟ أنت لم تُوفق من نفسك، أنت أخذت بالأسباب فقط، من الممكن أن إنسانا آخر يأخذ بالأسباب مثلا أكثر منك، يعني ممكن واحدة تصلي نوافل أكثر من أخرى لكن الأولى حريصة في أن تكون نوافلها لله، حريصة في أن تقربها النوافل إلى الله ومن الله. وصلت الفكرة. وطبعا الله قال (ذلك هو الفضل الكبير)  الفضل هو: الزيادة في الجنة ، والكبير أي العظيم عِظم معنوي، يعني الفضل الكبير الزيادة المعنوية العظيمة. تمام، وهذا دليل على مكانة الإنسان، وهو بهذه الآية يحقق (والسابقون السابقون) يعني الله أجمل (والسابقون السابقون) لأنه فصلها في آيات أخرى التي أقولها لكم الآن. واضح.
 إذاً كيفية الوصول للسابقين السابقين أنك تحقق الإرث، إرث الله لك للكتاب، لأنك مصطفى من عباده سواء كنت من السابقين بالخيرات فأنت في القمة، سواء كنت مقتصد فأنت نزلت درجة، كنت ظالما لنفسك، في النهاية الكل سيجتمع في جنات عدن يدخلونها.
 الواو التي يقال عنها إنها تكتب بماء العين لأنها شملت الأصناف الثلاثة.  لكن إياك أن تتكئ وتقول دعني أكون في الظالم لنفسه وخلاص لا، المؤمن دائما يرتقي إلى الأعلى، دائمآ اطلب أن تكون من السابقين السابقين.
معنى تكتب بماء العين: يعني لو أن الواحد يصفي ماء عينه فيفقد عينه ويكتب هذه الواو لا مانع أن يفقد بصره لكي يكتبها. فهمنا معنى بماء العين؟ العين فيها ماء، الماء يعينك على الإبصار، أنت تريد أن تكتب هذه الواو لمكانتها فتصفي الماء من عينك وتكتب بها الواو وتستغني عن عينيك. 
هذا الوصول إلى (السابقون السابقون) اقرأوا أيضا في قول الله تعالى: (والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان) (السابقون الأولون) يعني فيه سابقون أولون من المهاجرين والأنصار، وفيه سابقون اتبعوهم بإحسان، لكن جاء عند الذين اتبعوهم وقيدهم بالإحسان، لماذا قيدهم بالإحسان؟ لأن هناك مُتبع ليس بمحسن، ومُتبع ليس بإحسان. وترون الفِرق التي تدعي الاتباع. 
إذا كيف تكون سابقا؟ أن تكون متبعا لسلف الأمة، للصحابة والمهاجرين والأنصار ومن تبعهم بإحسان، كل من تبعهم بإحسان يدخل في هذا التعريف، وأنت الآن إذا اتبعتهم بإحسان، أنت نفسك إذا اتبعتهم بإحسان من يأتي بعدنا في الجيل الذي بعدنا ويقرأ نكون نحن من الذين اتبعهم بإحسان أيضا. يعني سلسلة الاتباع. (رضي الله عنهم ورضوا عنه) إلى آخر الاية.
اقرأوا في صفات المسارعين في الخيرات لتعرفوا كيف تحققون السبق التي في سورة المؤمنون (إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون* والذين هم بآيات ربهم يؤمنون) هم مؤمنون في الأصل لكن يتجدد إيمانهم مع كل آية كونية يرونها، وينتفي شركهم مع كل بدعة تظهر في المجتمع، هذه (والذين هم بربهم لا يشركون) لأن فيه أمور شركية مستحدثة، (والذين يؤتون ما آتوا) انظر العموم (يؤتون ما آتوا) أي عمل يعملونه (وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون* أولئك يسارعون في الخيرات) يسارعون في الخيرات أم إلى الخيرات؟ المسارعة المفروض تكون إلى الخيرات لكن لا، تكون إلى الخيرات لو أنت كنت بعيدا عنها، لو أنت كنت بعيدا عن الخيرات إنما رب العباد يقول لك أنت في طريق الخيرات لكن الله يريدك أن تسارع لترفع درجتك. لأن فيه أناس في طريق الخيرات لكنهم من الظالمين لأنفسهم، وفيه منهم من هو مقتصد في المسارعة في الخيرات، يعني كل يسير في الخيرات وفق جهده وعلاقته بالله ومجاهدته لنفسه، فالله يريدك أن تسارع في الخيرات، ثم إن الله يقول (وهم لها سابقون) سبق لأي شيء؟ سابقون للخيرات، يعني ينافسون أنفسهم وينافسون غيرهم، ويريدون أن يتميزوا فهم لها سابقون. يعني لا تترك نفسك على كسلك، أنت كسول لكنك سيأتيك وقت ستكون فيه في نشاط ماذا تفعل في وقت النشاط؟ اغتنم وقت النشاط، إنما الذي يأتيه وقت نشاط ويظل على كسله في وقت الكسل إذا هذا لم يسارع في الخيرات. أظن أنا أتكلم كلام يفهمه الجميع.
إذا المسارع في الخيرات هو الذي يسير في طريق الخيرات، يعني أنت تصلي الفرائض وقلبك يحضر بس أنت لا تعالج قلبك حتى ترفع نسبة القبول ونسبة الخضوع والانقياد، أنت تركت نفسك هكذا ولم تجاهد نفسك لترفع مستواك في النوافل مثلا، ولم تجاهد نفسك في المحافظة على العبادات إذا أنت لم تسارع في الخيرات، وأنت لست سابقا للخيرات، فأنت لا تستحق أن تكون من السابقين السابقين. 
هل تعلمون أن أصحاب الميمنة هم المحسنون؟ أصحاب الميمنة محسنون لكن أحسنوا بنسبة، إنما السابقون السابقون حرص وانتفاع، عدم نوم، عدم كسل، مجاهدة للقلب أن يكسبوا الخير أينما كان. قولوا في هذه المعاني ما تقولوا. هذا قوله (وهم لها سابقون) 
تعالوا إلى نفي السبق الكلي وأسبابه، ما الذي سيُعيق سبقك؟ اقرأوا قول الله تعالى (وعادا وثمودا وقد تبين لكم من مساكنهم وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل وكانوا مستبصرين) انتبهوا (وكانوا مستبصرين) (مستبصرين) من قوة البصر، يعني كانوا أهل بصيرة وأهل علم، وأهل عقل لكن اتبعوا أهواءهم فصدهم الشيطان عن السبيل. (وكانوا مستبصرين) انتبه لنفسك.. النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو (اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك) كأن ربنا يقول لك قد تكون مستبصرا تعرف الصح من الخطأ، وتعرف كيف تسير في أداء عبادتك فإذا بالشيطان يعترض طريقك ويأخذك إلى طريق آخر فيصدك عن السبيل وأنت لست في غفلة، أنت مستبصر. 
يا جماعة ركزوا معي الله يبارك فيكم. أنت ماذا؟ أنت مستبصر، هذه قضية خطيرة. طيب (وقارون وفرعون وهامان ولقد جاءهم موسى بالبينات فاستكبروا في الأرض وما كانوا سابقين) انظر نفى عنهم السبق (استكبروا في الأرض وما كانوا سابقين) إذا هناك علاقة بين الاستكبار وبين السبق، المستكبر لا يمكن أن يكون من السابقين، تذكروا دائما (فاستكبروا في الأرض وما كانوا سابقين).
(أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا) انتقلنا بعد الكِبر إلى عمل السيئات، ومعنى (يعملون السيئات) حريصون عليها، (أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا ساء ما يحكمون) هل هذا عمل أم حُكم؟ حسبان الذين يعملون السيئات أنهم يسبقون هذا بمفهومهم عمل، الله يقول لك لا، هم طالما ظنوا أنهم يسبقوا أهل الطاعة فكأنهم حكموا حكما فساء ما يحكمونه. 
 تنبيه: رب العباد لم يختم أي آية بقوله (ساء ما يحكمون) إلا تقريبا ثلاث آيات:
١- في سورة النحل (يتوارى من القوم من سوء ما بُشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ساء ما يحكمون) واد البنات كان حكم لأن المجتمع كله متمالئ عليه، يعني يحثه على هذا الفعل.
٢- في الأنعام (ساء ما يحكمون) في آية (وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا) يقسمون براحتهم (هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا) الذي يحكموا بأنه لشركائهم لا يمكن يجعلونه لله فيما بعد، إنما الذي يجعلونه لله ممكن يحولونه إلى شركائهم، فالله يقول (ساء ما يحكمون)
٣- وفي الجاثية (أم حسب الذين اجترحوا السيئات ان نجعلهم كالذين امنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم) وأنا قلت قبل ذلك اجترحوا السيئات يعني تجرؤوا على السيئات، جرأة على فعل السيئات تمام (ساء ما يحكمون)

 إذا كيف نحقق السبق لنصل إلى السابقين السابقين؟
 أول خطوة نحقق الإرث أن نكون من أهل الإرث، ومن أهل الاصطفاء حتى يُورِثنا الله الكتاب، ولن يورث الله الكتاب إلا للذين اصطفاهم. وأنا قلت إن مناط الإرث مختلف عن مناط الاصطفاء، يعني أسبابهم، الإرث للكتاب – للقرآن- الاصطفاء للخضوع والانقياد المترتب على الإيمان افعل ولا تفعل. تمام.  ثم بعد ذلك أن تكون متبعا بإحسان للسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، بعد ذلك احذر المعاصي واحذر الذنوب التي تحول بينك وبين السبق. هناك ذنوب ومعاصي تحول بينك وبين السبق.
 الخلاصة واضحة في هذا الدرس الليلة؟
لماذا رب العباد أخّر ذكر السابقين السابقين؟ ليجعله بجوار وصف السابقين السابقين والنعيم الذي أعده لهم، فإن الله بعد ما ذكر الأصناف الثلاثة أو الأنواع الثلاثة سيُفصّل النعيم والعذاب الذي أعدّه للكل، لكن سيذكره بطريقة اللف والنشر غير المرتب، يعني الذي ذكره رقم ثلاثة سيُفصّله رقم واحد لأنهم أصحاب مكانة. أليس كذلك؟ ثم سيتبعهم بالتفصيل لأصحاب الميمنة المذكورون رقم واحد.
 اللف والنشر سأنهي به الكلام. وإن شاء الله نوضحه مرة أخرى.
 لما يكون معي أكثر من اسم وكل اسم له صفة، يعني واحد اسمه محمد، وواحد اسمه أحمد وواحد اسمه عادل مثلا، أو عبدالرحمن، محمد وأحمد وعبدالرحمن أو محمود. محمد مثلا صادق، أحمد ذكي عبد الرحمن أمين، فبدلا من أن أذكر الاسم وصفة الاسم، يعني بدل ما أقول محمد الذكي، وأحمد الصادق ومحمود الأمين -مثلا- في البلاغة عندنا يقول لي ينبغي أولا أن تجعل الأسماء الثلاثة ملفوفة في لفة واحدة، يعني تقول محمد وأحمد ومحمود، هذا اللف، ثم تنشر الصفات إما مرتبة وإما غير مرتبة، فإذا كانت مرتبة فالصفة رقم واحد خاصة برقم واحد، الصفة رقم اثنان خاصة برقم اثنان، الصفة رقم ثلاثة خاصة برقم ثلاثة. إذا كان اللف والنشر غير مرتب لابد أن تكون هناك قرينة دالة على ذلك، نحن عندنا هنا قرينة ولذلك سيكرر الله (وأصحاب اليمين) وسيكرر (وأصحاب الشمال) وإن شاء الله سنُفصل القول في ذلك. لكن نتوقف ها هنا الليلة، وبهذا نحن توقفنا عند قوله (والسابقون السابقون* أولئك المقربون) وإن شاء الله نكمل في لقائنا القادم. وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى أله وصحبه وسلم أجمعين. والحمد لله رب العالمين. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق