الخميس، 24 أكتوبر 2024

تدبر سورة الواقعة / د.محمود شمس / م.3

 🎧 لسماع المحاضرة

 من قوله تعالى : 
( وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا* فَكَانَتْ هَبَاءً مُّنْبَثًا * وَكُنتُمْ أَزْوجًا ثَلُثَةً * فَأَصْحَبُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَبُ الْمَيْمَنَةِ * وَأَصْحَبُ الْمَشْمَةِ مَا أَصْحُبُ الْمَشْمَةِ) 
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده رسوله - صلى الله عليه وسلم - وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم أجمعين، سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا يارب العالمين. وبعد: فإني أحيكم بتحية الإسلام، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، وإني لأسأل الله تبارك وتعالى أن يشرح صدورنا وأن يجعلني وإياكم من أهل القرآن الكريم الذين هم أهل الله وخاصته. وها نحن نلتقي في لقائنا هذا ودروس تدبرية من سورة الواقعة.
 تكلمت في اللقاء السابق عن قول الله تبارك وتعالى: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴿ إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًا (٤) ) ومعنى رج الأرض أي اضطرابها والزلزلة التي ذكرها الله جلا وعلا في كتابه الكريم في قوله ( إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا ).
يبدأ الله تبارك وتعالى هذه البداية ببيان ما يقع من أمور يوم القيامة عندما  (إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ* لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ * خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ)
لماذا يبدأ الله هذه السورة بهذه الأحداث الهائلة ؟
 الله تبارك وتعالى خلق العباد ليعبدوه ويوحوده ويؤمنوا به ولا يشركوا به شيئاً ، لكن العباد منهم من آمن ومنهم من كفر ، فالله تبارك وتعالى ذكر هذه الأهوال يريد أن يجعل العباد يقتربون من ربهم ولا يشركوا به شيئاً ولذلك يذكر أصحاب الميمنة رقم واحد في ذكر أصناف الناس ، أي ذكر الله أنَّ الأصناف والأنواع يومئذ ستكون ثلاثة ، الناس على ثلاث أقسام ، ذكر القسم الأول وهم أصحاب اليمين ؛ لأن الناس كما نعلم إما محسن وإما مسيء هذا حال الناس ، والمحسن إما أن يكون محسن سابق بالخيرات ، وإما أن يكون محسن مقتصد أي المُحسن من العباد قسمهم الله عند الجزاء في الآخرة إلى نوعين :  
- إلى أصحاب اليمين 
- وإلى السابقين السابقين  
ثم بين أن المسيء هم أصحاب المشأمة ، أصحاب المشأمة (المشأمة) مأخوذة من الشؤم ، والشؤم والمشأمة دائماً لا تستعمل إلا في الشر، ولذلك انتبهوا لا يذكر الله في القرآن الكريم أبداً في مقابلة اليمين لم يذكر اليسار - اليمين يقابلها اليسار - حتى سيذكر بعد ذلك (وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ ، بعدها سيقول ( وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ ) لماذا لم يذكر الله اليسار؟ لأن كلمة يسار مأخوذة من اليُسر ، واليُسر يدل على الخير ، والمراد من كلمة الشمال والشؤم ما يدل على الشر لأصحاب الشمال ، فلا يتناسب اليُسر مع أهل الشر ولذلك لم يستعمل الله اليسار أبداً في القرآن الكريم .
هنا بعد أن تكلم الله عن رج الأرض رجاً ، اضطراب الأرض وجعلُ الأرض تميد بكم، والله تبارك وتعالى عندما يأتي بالزلزال التي رأيناها وأدركناها فإنما يدل على صدق وعده في أنه سيرج الأرض يوماً رجاً، وسيزلزل الأرض زلزالها كما أخبر الله تبارك وتعالى، فهنا عندما قال ( إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجا) الناس يعلمون جيداً أن الجبال هي أوتاد الأرض كما قال الله (وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا ) (وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم) أي كراهة أن تميد بكم أي أن تضطرب بكم، الجبال هذه مثبتات للأرض، ولما كانت مثبتات للأرض وكان المشركون آنذاك يعتقدون في الجبال اعتقاداً راسخاً ويقولون إذا حدث ما حدث من أهوال يوم القيامة أين ستكون هذه الجبال؟ ومن الذي سيجعل هذه الجبال تتحول من جبال راسخات إلى أشياء لا قيمة لها ؟ ولذلك الله تبارك وتعالى بيّن أن الجبال الرواسخ هذه ستُزال بقدرة الله تبارك وتعالى وستُنسف في لحظة بقدرة الله تبارك وتعالى ، ولذلك هنا عندما قال ( إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجَّا) فربما يسأل سائل إذا رجت الأرض ماذا سيفعل في الجبال وكيف ستكون الجبال؟ فقال الله جل وعلا ( وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا) إذا الجبال ستُبس بسا.
ما معنى البس؟ البس التفتيت الدقيق، البس هو التفتيت لدرجة أن الجبال ستتحول إلى شيء ناعم كالدقيق، والبس في مفهوم العرب هو الطحين الذي يخلط بالماء ولا يدخل النار، هناك طحين الناس يصنعونه ويأكلونه - البسيسة - ولا بخار ولا نار ولا شي هو دقيق إما أن يخلط بسمن وإما أن يخلط بماء ويؤكل، أظن كانت تسمى المصرودة أو السويق ، فالله يشببها بشيء يعرفه الإنسان، إذا البس دقيق أو طحين اختلط بالماء، وطالما دقيق وطحين اختلط بالماء أي أن الجبال ستُفتت لدرجة أنها تصبح كالبسيس ، وهذا يتناسب مع قول الله تعالى : ( يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَّهِيلًا) فمعنى البس أي التفتيت ويصبح كالبسيس يتناسب مع (وكانت الجبال كثيباً مهيلا) أي الرمل الكثيف الناعم الذي يُحضره بعض الناس ويضعه أمام بيته تمهيدا للبناء به ، الجبال ستصبح كهذا الرمل الناعم ثم تتحول إلى بسيس. هذا معنى من معاني البسيس.
البسّ يستعمل في معنى سوق المواشي، سوقها أي يقولون بس الغنم أي ساقها، أخذها وذهب بها، ففيها معنى السير والإذهاب ، ومعنى السير والإذهاب يتناسب مع ﴿ وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ ) ، وتتاسب مع ( وَسُيِّرَتِ الْجِبَالِ) إذا البس له معنيان :
● أي بس تفتيت كالبسيس الطحين الناعم كالذي يخلط بالماء ولا يدخل النار ، وهذا يتناسب مع نسف الجبال ( وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا (١٠٥) فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا (١٠٦) لَّا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا ) (عوجاً) هي الإعوجاج ، والأمت: هي النتوءات الصغيرة، لأن الجبال عندما يزيلها الإنسان بالآلات يبقى مكان الجبال نتوءات في الأرض، قطع صغيرة حتى الإنسان لا يستطيع أن يمشي عليها ، الله يقول لا، الجبال عندما تُنسف لن يبقى مكانها لا عوج ولا أمت ولا نتوءات موجودة أي ترى الأرض بارزة كأنها لا يوجد عليها جبال قبل ذلك، هذه ﴿ وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا ) إذا بس الجبال يتناسب مع معنى نسفها ومع معنى سيرها ، إذاً تُنسف وتُسير ، هذه (وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا )، و(بساً) جاءت توكيدا للفعل بسا ليشير الله أنها ستصبح بسيساً فعلا ، أي لن تصبح كالبسيس ، لا، ستصبح بسيس فعلاً ، هذا معنى ( وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا ).
بعد ذلك ( فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًا ) الهباء: ما نراه عند دخول الشمس من الشباك من غبار أو شعاع، ترون الشمس في وقت الإشراق الصباح فيها شعاع ، حتى لو أردت أن تمسكه لا تجد شيئاً، فهكذا سيتحول وتتحول الجبال إلى الهباء المنبث ، ﴿ فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًا ) هذا تشبيه بليغ  لأن أصل الجملة فكانت كالهباء المنبث، أي فصارت كالهباء المنبث، إذاً هنا تشبية بليغ حذفت منه أداة التشبيه. نحن عندنا الهباء المنبث، الهباء لابد أن يكون منبثاً، أي الشعاع الذي نراه وقت دخول الشمس هو شعاع منبث ، فالهباء لا يكون هباءاً إلا منبثاً، فلماذا جاءت منبثا؟ منبث اسم مفعول وفيها معنى المطاوعة وهذا يسمى وصف كاشف ، وصف كاشف للشيء، بمعنى ماذا ؟ الوصف يبين الموصوف، فإذا كان الموصوف معروفاً بهذا الوصف أصلاً  فإذا وصفته بصفة معروفة فيه قبل أن أصفه تكون الصفة هذه كاشفة لهذا الموصوف وقت وصف الله له.
أنا تكلمت فيها سابقاً عند قول الله تعالى ( أَوِ الطَّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ) الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء وصف كاشف، الطفل معروف أنه لا يظهر على عورات النساء ، لكن الطفولة متى تنتهي في العرف وفي الشرع ؟ الطفولة تمتد إلى البلوغ ، المقصود من الطفولة هنا (أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء) ليست الطفولة الممتدة إلى البلوغ إنما الطفولة الممتدة إلى الإدراك، فأصبح الذين لم يظهروا على عورات النساء صفة نكشف بها عن مدى إدراك الطفل الغير البالغ في العُرف العام غير مُدرك لكن الأطفال يختلفون في الإدراك وفي إدراك عورات النساء بالذات، فيه طفل ممكن يبدأ يميز ويدرك من أول الخمس سنوات ، وهناك طفل من أربع سنوات، وطفل يمكن يجلس إلى التاسعة لا يعرف شيء، ولكن من أول التاسعة والعاشرة لا، دخل في حيز الإدراك ، أي هناك سنتان قبل البلوغ عند الطفل احذورا من الطفل في هذا الوقت، سنتان على الأقل، سنتان على الأقل الطفل ليس لا يدرك فقط في السنتين، لا، لأنه يبدأ يشعر بتغيرات فسيولوجية في جسمه لا يدري ما هي، هذه أصبحت تحركه، هو لا يدري لكن أصبح يتحرك فربما إذا رأى أو إذا أدرك شيئاً ما يؤثر فيه أكثر ، إنما الإدراك قد يكون من سن الثالثة، وقد يكون من سن الرابعة، وقد يكون من سن الخامسة، من التي تستطيع أن تعرف أن هذا الطفل أصبح مدركاً أم لا؟ الأم. الأم ولا يوجد غيرها، وقد يدرك الأب، ولا يوجد غيرهما ، من نظرات الطفل، من أسئلته ، من وضع يده ، من حركات معينة الأم تفهم من خلالها. إذا ما معنى الوصف الكاشف؟ الوصف الكاشف أن يكون الموصوف متصفاً بهذا الوصف أصلاً  فإذا وصفته به فإن الوصف هنا يكون مجرد وصفاً كاشفاً ، مثلاً : أقول الذي يحفظ القرآن يقرأه من حفظه ولا يخطئ إلا قليلا ، إذاً الأصل في حافظ القرآن أن يقرأ من حفظه ولا يخطئ إلا قليلاً، إذا لماذا تأتي له بوصف طالما معروف أن حافظ القرآن لا يخطئ إلا قليلاً ؟ أنا آتي بوصف كاشف له ، يعني أنا أكشفه إن كان يحفظ فعلاً أم لا ، إذا الوصف الكاشف يبين حقيقة الموصوف واتصافه بهذا الوصف .
الهباء ذكر الله الهباء في سورة أخرى في سورة الفرقان في قوله تعالى : (وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا ﴾ قَدِمنا إلى ما عملوا من عمل القدوم لا يكون إلا لغاية وحكمة وهدف ، فالله يقول (قدمنا) بمعنى أن هذا العمل سيجعله الله هباءاً منثوراً لا محالة لأنه قَدِمَ إليه ، هذا معنى (قدمنا إلى ما عملوا)، (من عمل) (من) هنا بيانية، بيانية أي إلى ما عملوا أي عمل ، وبالمفهوم المقصود عمل الخير لأن عمل الشر لا يجعله الله هباءاً منثوراً ؛ لأنه لو جعله هباءاً منثوراً هذا يكون إكرام ، فهنا قال الله جعلناه كالهباء المنثور في الجو ، الهباء الذي انتثر في الجو وأصبح غير موجود  كأنه لم يكن. هذه ( فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًا )، الجبال تنسف وتصبح هباءًا وتُسير وعندما تسير الجبال - بدليل هذه الآية - لا تُسير تسييراً عادياً ، يعني ليس أن الجبل سيتحرك ، لا ، الجبل يتفتت ويرتعد ويتضطرب ويتقطع ثم ينثر في الجو، يعني تسيير الجبال ليس تسييرا للجبل كما هو ، لا ، الجبل سيفتت ، والجبل سيسير تسيير إرتعادٍ واضطراب لأن هناك أهوالاً وأحوالاً وانقلاباً في الكون ، والله عندما أرانا هذه الزلازل ، الله تبارك وتعالى أرانا هذا واقع أمام أعيننا ، نعم ، هذه من الأهوال التي تكون مقدمة ، ضابط الأهوال المقدمة والأهوال التي بعد البعث في سورة التكوير (إِذَا الشَّمْسُ كُوّرَتْ) هذا قبل البعث والنشور ، ( وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (۲) وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ (۳) وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِلَتْ (٤) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ(٥) وَإِذَا الْبِحَارُ سُجَرَتْ) إلى هنا ما قبل بعث الناس ونشورهم من قبورهم ، من أول ( وَإِذَا النُّفُوسُ زُوَجَتْ) هذا بعد البعث وبعد الحساب والجزاء ، وقيل أن النفوس تزوج قبل ، هذه مختلف فيها ومن أول ( وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (۸) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ ) هذا بعد البعث والحساب ؛ لأن السؤال لا يكون إلا بعد البعث وبعد يوم الحساب أمام الله تبارك وتعالى .
إذا الله يقول الناس جميعاً بعد بس الجبال بسا يكونون أزواجاً ثلاثة ، الأزواج هنا بمعنى أصناف أو بمعنى أنواع ، إما أصناف أو أنواع ، يجعل الله الناس أصنافاً ثلاثة ، وأزواجاً ثلاثة، عبّر بالأزواج لأن الزوج له مماثل من نفس جنسه منسجم معه تماماً، مثلاً : أصحاب اليمين سيكونون صنفاً فكل أصحاب يمين مع أصحاب يمين آخر زوج متفق معه منسجم تمام الانسجام ، الأصناف الثلاثة ذكرها الله بعد ذلك: أول صنف: ( فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ هذا أول صنف من الأصناف الثلاث
● (وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ) المشأمة من الشؤم والتي تجلب كل شر
●( وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ ) هم أصحاب الصنف الثالث
 انتبهوا ذكر الله أصحاب اليمين أولاً ، لماذا؟ ليقول لهم حتى لو كنتم في نجاة فلابد أن تجتهدوا حتى تصلوا إلى السابقين السابقين، أي أصحاب اليمين أقل درجة من السابقين السابقين ، فالله يريد أن يُرغب أصحاب اليمين في ألا يتكلوا على ذلك وإنما يجتهدوا ليصلوا إلى السابقين السابقين. ثم ذكر أصحاب المشأمة ليفكر أصحاب المشأمة فيتخلصون مما هم فيه فيؤمنون بالله ويوحدونه ويصلون إلى السابقين السابقين، يعني ذكر الله السابقين السابقين في النهاية حتى يجتهد الكل ليصل إليها ، أعلى صنف في النعيم هم السابقون. وسنفصل الآن في هذه الأصناف الثلاثة.
 الخطاب في قوله (وَكُنتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً ) لمن؟ لكل الناس لأن الله ذكر أصناف الناس جميعاً يومئذ، هل جميع أصناف الثلاثة تتعارض مع قول الله (فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ )؟ لا ، الأصناف هم ثلاثة لكن من حيث الفِرق أصحاب اليمين والسابقون السابقون في الجنة لكن السابقون السابقون في مرتبة أعلى، وأصحاب اليمين في مرتبة أدنى لكنهم في الجنة، والصنف الثالث هم أصحاب المشأمة وهم الفريق الذين هم في السعير.
أصحاب الميمنة : الميمنة مأخوذة من جهة اليمين ، أي أصحاب اليمين ، والله ذكرهم بعد ذلك بقوله ( وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ) فسّر بعد ذلك ولكن الميمنة تظهر مكانتهم وتظهر أنهم أصحاب ميمنة في كل شيء - ولذلك الله تبارك وتعالى ذكرهم في سورة البلد ( ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (۱۷) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ) أصْحاب الميمنة هم الذين اقتحموا العقبة ، الله يصور جهادك لنفسك في الدنيا ، ومحاولة السباق إلى الآخرة بأن هناك عقبة كبيرة أمامك تحتاج أن تقتحمها ، الاقتحام يستعمل في الأمور العسكرية بمعنى ماذا؟ بمعنى أن الاقتحام هذا يحتاج إلى ترتيب وإلى تنظيم وإلى تدريب ، تدرب نفسك وأنك أنت ترتب وقتك وترتب جهدك وتوزع جهدك ، وتبحث عن نيل الخير من أي مكان فتحصل عليه، وأنا قلت قبل ذلك أن المؤمن يقع في صراع، صراع بين الوازع الإيماني وبين الوازع النفس البشرية ، أي أنت عندك الآن حرب في داخلك أمامك طريق تحصل منه على مليون دولار من حرام، الوازع النفسي البشري يقول لك المليون دولار يجعلك تعيش في هناء وفي سعادة وتنفق منه على الفقراء والمساكين فتأخذ أجراً ويزين لك، هذا الوازع النفسي البشري، الوازع الإيماني يقول لك لا ، ابتعد هذا شرّ ، هذا الصراع الذي في داخل الإنسان ، فإذا اجتهد وانتصر الوازع الإيماني فأنت صاحب نفس مطمئنة، وإذا انتصر الوازع النفسي البشري فنفسك أمارة بالسوء في هذا الموقف، لكن هذا الموقف ليس نهاية المطاف، إذا حدث لك وزلت القدم فارجع إلى ربك فورا بالخطوات التي ذكرتها سابقاً وهو: 
١- ألا تتلذذ بالمعصية
٢- تتندم حتى يتقطع قلبك
٣- تعزم على ألا تعود أبداً إلى هذه المعصية
٤- أن تتوب إلى الله وتستغفره وتذكره ذكراً كثيراً وترجع إلى ربك وإلى طاعتك.
 أنتَ في هذه الحالة مستقيم، وأنتَ ينطبق عليك قول الله ( فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا) الله قال (فاستقم كما أمرت) ولم يقل فاستقم كما تهوى، هل الاستقامة تتفق مع هوى النفس؟ بالطبع لا ، إذا كيف تزل القدم وتتوب إلى الله وأنا أقول لك أنت خاضع الآن لقول الله ( فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ ) لأن من الذين أمرك بالتوبة؟ الله تبارك وتعالى ، وأنت تغلبت النسبة البشرية فيك لكنك رجعت إلى الله بسرعة إذاً أنت نفذت أمر الله، فأنت إذا تُبت فوراً، فور وقوعك في المعصية ولم تصر على ما تفعل، إنما أنت لو تكاسلت إذا أنت مُصر ، هل تعلم أنك لو تبت بالخطوات التي ذكرتها سابقا ، وتبت إلى الله ووقعت في نفس الذنب بعدها بأسبوع تُب أيضاً بنفس الخطوات وأنت مستقيم ، هل بهذا أنا أكون مُصر؟ لا، لا تكن مصرا لأنك أنت تبت إلى الله وعزمت على أن لا تعود لكن نفسك عادت لتكون أمارة بالسوء في موقف ما، إذا اقتحام العقبة نجده مركز في عدة أمور :
أولاً : مركز في أمور مادية - المال - المال الذي بين يديك (فَكُ رَقَبَةٍ ) أو ( أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ ) إطعام في يوم ذي مسغبة، مسغبة : أي شديد الجوع ، أي الناس في حالة جوع وأنت في حالة جوع وفي حالة شديدة للطعام ، وليس إطعام المحتاج بالطعام الذي بقي منك وبدلاً من أن ترميه في صناديق النفايات أنت ترسله للفقراء، لا ، إنما أنت تكون في أمس الحاجة للطعام ومع ذلك تقتسمه ولذلك في هذه الحالة التكافل الاجتماعي الذي وضعه الله تبارك وتعالى (إطعام في يوم ذي مسغبة) من؟ ( يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ ) في هذا اليوم ابحث عن اليتيم القريب ، وبالطبع لو أن كل واحد بحث عن اليتيم القريب ، هل سيكون هناك يتيم محتاج ؟ والقريب ليس بالضرورة قرابة نسبية ممكن تكون قرابة مكانية، ممكن جارك في الشارع ، أو جارك في البيت ، أو بينك وبينه صلة، طبعا القرابة النسبية رقم واحد ، والقرابة المكانية أيضاً معها ، أنت تبحث عن أي يتيم تربطك به علاقة، (أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ) ذا متربة أي صاحب تراب ، أي بيته لا يوجد فيه شيء ، ينام على التراب ، يضع يده فلا يجد إلا تراب ، هذه ذا متربة أي معناها أنه يتيم أو مسكين في حاجة شديدة، (ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ) تكون من المؤمنين الذي يعملون الصالحات ، ثم بعد ذلك (وتواصوا بالصبر) توصي غيرك بالصبر ، (وتواصوا بالمرحمة) ما المقصود بالمرحمة؟ المرحمة هنا يراد بها أمرين : 
● تواصوا بالأرحام أي بصلة الرحم ، ليس أنت فقط الذي تؤديها ، لا ، أنت تؤديها وتوصي غيرك بتأديتها وتدل أيضاً على التواصي برحمة الضعفاء، هناك ضعفاء في المجتمع ، هذا الضعيف إذا عمل عندك فينبغي أن تعطيه حقه طالما أدى لك عملك ، وإياك أن تكتفي بما تنفق عليه أو بما تعطيه من صدقات إذا جعلته يعمل في خدمتك في مقابل صدقتك فأنت آذيته وأبطلت صدقتك لأن الآن ستدخل في المن والأذى ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى) إنما اجعل صدقتك له طريق والعمل الذي تكلفه به طريق وتعطيه أجره الذي يستحقه على هذا العمل. هذه التواصي بالمرحمة: التواصي بالرحمة بالضعفاء ، الرحمة بكبار السن ، الرحمة بآبائنا وبأمهاتنا ، الرحمة بأطفالنا ، الرحمة بكل ضعيف ، أي كل ضعيف أنت تراه ضعيفاً منكسراً اجبر خاطره ، اجبر خاطر الضعفاء حتى لو كان يعيش في أسرة أبوه وأمه لكنك تشعر أنه ضعيف ، طالما تشعر بضعفه كن معه اجبر خاطره ، اجعله يشعر بمكانته، اجعله يشعر بأن له مكانة عظيمة عندك ، هذه مراتب وهناك مراتب أخرى لكني أتكلم عن من وصفهم الله بأنهم أصحاب الميمنة، إذاً: إيمان وعمل صالح ، نفع للفقراء والمساكين ، عطف على الضعفاء ورحمة بالضعفاء ، عطف على أقاربه اليتامى والمساكين فهو بذلك عبد صالح لله وقلبه قلب صالح مُعلق بالله ، فأنت إذاً من أصحاب الميمنة. هذه ( فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ)
( مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ ) الله يكرر بعد هذا الإستفهام ما أصحاب الميمنة، أي ما يدريك ما أصحاب الميمنة دلالة على رفعة شأنهم وعلى مكانتهم، لكن انتبهوا الله عندما يكرر الاسم فإنه يكرره للتعظيم وللمكانة وليبين لك أن هؤلاء أصحاب مكانة خاصة عند الله ؛ لأنه أحياناً رب العزة نجده يأتي بشيء ويستفهم عنه ويعيد حرف الاستفهام ثم يعيد الضمير اي اقرأوا قول الله تعالى : ( وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (۸) فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (۹) وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَه ) قال (ما هية) هل قال وما أدراك ما النار؟ هي النار ستذكر تعظيماً وافتخاراً بها؟ طبعا لا، إنما هنا يريد الله رفعة شأن هؤلاء.
عندما ذكر أصحاب المشأمة أيضا كررها قال : (وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ) كررها تهكماً وتبكيتاً وتوبيخاً وتقريعاً لهم، لأنه لا يتكلم عن النار، إنما يتكلم عن أصحاب النار ، وتكرار كلمة أصحاب المشأمة تهكماً بهم ، تبكيتاً ، توبيخاً لهم، تقريعاً، الله كما قلت يذكر هذه الأشياء ليلفت نظر أصحاب الميمنة أن يجتهدوا حتى يصلوا إلى درجة السابقين السابقين؛ لأن الله تبارك وتعالى يريد من عباده رفع الهمة دائماً.
ونتوقف هاهنا اليوم عند ( وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ) ونتكلم عنهم بالتفصيل إن شاء الله. أسأل الله تبارك وتعالى أن يرزقني وإياكم الإخلاص في القول والفعل والعمل، وأن يبارك الله لي ولكم في وقتنا ووقتكم وأن يجعلني وإياكم من عباد الله المخلصين المخلصين، وأن يغفر الله لوالدنيا وأن يرحمهم بواسع رحمته وأن يجعلنا أثراً صالحاً لهم يارب العالمين

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق