الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات ، وأشهد ألاّ إله إلا الله أراد ما العباد فاعلوه ولو عصمهم لما خالفوه ولو شاء أن يُطيعوه جميعا لأطاعوه ، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين أما بعد :
فها نحن نلتقي علميا حول سورة (طه) وكنا قد توقفنا في اللقاء العلمي السابق عند قول الله -جل وعلا- في ذكر ما طلبه موسى -عليه الصلاة والسلام- من ربه بعد أن كلّمه الله -جل وعلا- وأوحى إليه (قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (26) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (27) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي (28) يَفْقَهُوا قَوْلِي (29) وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي (30) هَارُونَ أَخِي (31) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (32) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي) هذه السؤالات التي سألها موسى -عليه الصلاة والسلام- ربه إنما سأله إياها حتى تُعينه على الدعوة إلى الله -جل وعلا- فبدأ بقوله (رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي) لأن الإنسان إذا انشرح صدره للأمر الذي يطلبه كان ذلك أشدّ عونا له في قضاء تلك الحاجة التي يرومها .
( وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي) ذلك أن الأمر في الأصل أنه حَزن ، صعب إلا أن يُيسره الله ولذلك جاء في الحديث (اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلا) .
(وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي (28) يَفْقَهُوا قَوْلِي) وجاء الفعل "يقفهوا" مجزوما بحذف النون لأنه واقع في جواب الطلب -جواب الأمر- فحُذفت نونه لأنه من الأفعال الخمسة ، والناس في قول الله -جل وعلا- (عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي) على قولين :
- قول أخذوا بالأثر الموقوف عن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- في أن سبب تلك العقدة ما كان من اجتراء موسى بين يدي فرعون لما قُدم له جمر وتمر فأخذ التمرة فقالوا إن جبريل جاء ونقل يد موسى من التمر إلى الجمر فحمل موسى الجمرة فأثرت في يده -كما سيأتي- وأثرت في لسانه ونجم عن ذلك حُبسة ، أصبح موسى غيرفصيح في كلامه واهذا قال فرعون -كما مرّ معنا في اللقاء الماضي- قال يسخر من موسى (أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ) وموسى اعترف بهذا بين يدي ربه ، لا بأنه مهين ، لا بل بأنه أقلّ فصاحة من أخيه هارون قال (وَأَخِي هَارُونُ) وذكر ما كان عليه هارون (هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي) في سورة القصص . والمقصود ان الناس اختلفوا . هذا قول .
- القول الآخر : يقولون إن شخصية موسى شخصية انفعالية حادة . وهذا قول أكثر المتأخرين ، شخصية انفعالية حادة ، والشخص إذا انفعل واضحى حادّا تصبح هناك حُبسة ، يكون كلامه سريعا غير واضح ، غير ظاهر يتفق مع شخصيته ، ونقلوا أن الإمام المُفسر محمد بن كعب القرظي كان فيه هذا الشيء.
وهذا ملحوظ أحيانا في البعض من الناس أنه إذا انفعل يُصبح الكلام عنده سريعا متتابعا لا يكاد يُفهم . هذا تخريج بعض المتأخرين للعقدة . وحملها على الأثر الموقوف عن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- وبعض العلماء قال برفعه لكنه بعيد ، ورجح ابن كثير -رحمه الله- وقفه على ابن عباس . والأظهر -والعلم عند الله- أن ابن عباس -رضي الله عنهما- أخذه من مسلمة أهل الكتاب . وعندما نقول من مسلمة أهل الكتاب نقصد : أولئك الذين آمنوا بالله ودخلوا في الدين من أهل الكتاب من العلماء ومن أشهر هؤلاء ، وفي مقدمتهم كعب الأحبار كما مرّ معنا الاستشهاد بأقواله في مواطن عدة . هذا المقصود بـ مسلمة أهل الكتاب . هذا ما قيل في الحُبسة (وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي (28) يَفْقَهُوا قَوْلِي) .
ثم قال -عليه السلام- لربه يناجيه ويرجوه قال (وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي (30) هَارُونَ أَخِي) حدد ، فكلمة (مِّنْ أَهْلِي) عامة ثم خُصص وعُيّن فقال (هَارُونَ أَخِي) ، (وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا) كلمة "وِزر" في اللغة : مادتها الأصلية تعني الثِقل يقول الله -جل وعلا- (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) والمعنى : لا تتحمل نفس ذنب أخرى ولو ثِقلها ، فالذنوب تُسمى وِزر لأنها أعظم ما يُحمل على الظهر ولأنها ثِقل ، ولما كان الوزراء عادة - في القديم لم يكن هناك وزراء بالعدد إنما الوزير واحد - كما كان هامان وزيرا لفرعون فيكون الوزير في النظام السياسي القديم للدول واحد للأمير أو للمك أو للسلطان بحسب مُسماه ، هذا الوزير يحمل ثِقل الأمارة عن الأمير فلذلك يُسمى وزيرا ، فلا تعارض بين الجذر اللغوي لكلمة وزر وما بين قول نبي الله ( وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي (30) هَارُونَ أَخِي (31) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي) يطلب من الله أن يجعل أخاه هذا مما يُشد به الأزر ، وسيأتي التفصيل في هذا في خاتمة الدعاء .
(ٍاشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (32) وَأَشْرِكْهُ) والـ"هاء" في (أَشْرِكْهُ) عائدة على هارون ، (وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي) أي أمر؟ النبوة والرسالة ، فقال العليّ الكبير لعبده موسى (قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى) فأضحى هارون -عليه السلام- نبيا رسولا بشفاعة أخيه موسى ولهذا قالوا : إنه لا يُعلم أن أخا أمنّ على أخيه من مِنّة موسى على هارون ولهذا قال الله في نعت كليمه موسى (وكان عند الله وجيها) له قُربة وزُلفة وجاه عند الله ، وبهذه الوجاهة التي عند الله أضحى هارون نبيا ورسولا ، وقد مرت عائشة -رضي الله عنها وأرضاها- على رجلين في الحجّ يسأل أحدهما الآخر قال : هل تعلم أي أخ أعظم مِنّة على أخيه؟ فقال الآخر : لا أدري ، فقال الذي سأل : أنا أعلم ، إنه موسى بمنته على هارون فبفضل دعاء موسى أضحى هارون نبيا رسولا ، فقالت عائشة -رضي الله عنها- مُعلّقة : "صدق والله" أي صدق فيما قال له . والأخوة منها : أخوة الإيمان ، ومنها أخوة النسب ، ومنها أخوة الصداقة والاتفاق في العيش أو في الفكرة ، وأعظمها إذا اجتمعت أخوة إيمان ، وأخوة نسب وأخوة علاقة أو صداقة أو رِفقة أو جيرة أو ما شابه ذلك أو زمالة ، والعرب تقول :
"إن أخاك الحقَّ من كان معك، ومن إذا ريب الزمان صدعك ، شتت فيك شمله ليجمعك" والإنسان يحتاج إلى من يكون معه في السراء والضراء ، ولا يدخر الإنسان للسراء والضراء أعظم من إخوانه لكن العرب تقول إن ذلك الأخ ويُعبرون عنه بـ"الخِل الوفي" هو ثالث المستحيلات ، والمستحيلات عند العرب ثلاثة : اثنان منها يتعلق بالدواب فيقولون الغول يُخوفون به ولا حقيقة له . والعنقاء طائر يُخوفون به ويتحدثون عن شيء كثير من أساطيره ولا حقيقة له ولكنهم يجمعون لذلك الخِل الوفي . فيقولون إن الغول والعنقاء ، ثالث المستحيلات الخِلّ الوفي . قد يكونوا أصابوا في الأولى لكنهم أخطؤا في الثانية فكم من خِلٍ موجود وهذا لا يحتاج إلى شواهد وأعظمها أخوة الصديق لنبينا -صلوات الله وسلامه عليه- والمقصود : منة موسى على أخيه هارون -عليهما الصلاة والسلام- .
(وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي (30) هَارُونَ أَخِي (31) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (32) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي) ثم ذكر موسى -عليه السلام- القضية الأساسية من هذا كله قال (كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا*وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا) فذكر الله من أعظم الطاعات وأجلّ العبادات قال -صلى الله عليه وسلم- (سبق المفردون،قالوا : يارسول الله ومن المُفردون؟ قال : الذاكرين الله كثيرا والذاكرات) .
(وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا*إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيرًا) فقال -جلّ شأنه- (قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى) وقول ربنا -جلّ شأنه (قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى) هذه منّة من الله على موسى لكنها ليست بأول مِنّة ثم عدد الله -جل وعلا- أفضاله ومِننه وعطاياه على هذا النبي الكليم فقال (وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ) أي بإجابتنا لدعائك (مَرَّةً أُخْرَى) وقوله -جل وعلا- (مَرَّةً أُخْرَى) يدل على أمرين:
يدل أولا على أن هناك أمور سابقة ويدل على أن هناك أمور لاحقة لأنها لو كانت خاتمة المطاف لجاء التعبير القرآني : ولقد مننا عليك مرة أخيرة ، فالأخير يعني الخاتم لكن الآخر قد يكون بعده غيره وإنما خلاف الأول ، الآخر خلاف الأول أما الأخير خاتمة لما سبق ، فقول ربنا -جلّ وعلا- (وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ) والمخاطب موسى (مَرَّةً أُخْرَى) أي سبقت منتنا عليك وستأتي مِنن أخرى عليك أيها الكليم ، ثم عدد الله ما سبق وأشار إلى ما سيأتي فقال -جلّ ذكره- (وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى* إِذْ) هذا ظرف لما مضى من الزمان كما أن "إذا" لما يُستقبل من الزمان ، "إذ" ظرف يحوي الأحداث التي مضت ، أما "إذا" يُعبر عنها لما يُستقبل من الزمان ، فقال الله -جلّ وعلا- (إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى) ولم يذكر الله -جلّ وعلا- في الآية ما الذي أوحاه الله إلى أم موسى فأبهمه حتى يُفصّله بعد قليل وتُصبح الأنفس مشتاقة لسماعه ومن أسلوب القرآن التفصيل بعد الإجمال .
/ قال الله -جلّ وعلا- (إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى * أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ) لكن ينبغي أن تعلم أن وحي الله لأم موسى إنما هو إلهام وليس الوحي المعروف الذي هو من خصائص الأنبياء لأن النبوة لا تكون في النساء ، "وما كانت نبيا قط أنثى" .
/ (إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى) ألهمها الله (أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ) تقذف موسى (فِي التَّابُوتِ) في الصندوق ، ثم ماذا تفعلين به ، لم يقل الله لها اخفيه ها هنا أو هناك عن أعين حرس فرعون وجُنده وإنما قال الله لها (إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى * أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ) ومعلوم أن إلقاء طفل رضيع في اليمّ لم تجرِ عليه إلا أياما معدودات مظنة هلاك لكنه يُصبح عين النجاة إذا كان بأمر الله ، الأصل أنه مظنة هلاك لكنه يُصبح عين النجاة إذا كان بأمر الله :
وإذا العناية أحاطتك نم ** فالمخاوف كلهن أمان
الإنسان يُصبح في قمة الأمان إذا كان مُحاطا برعاية الله ، والصحابة -رضي الله عنهم- يوم بدر جعل الله النُّعاس وهو النُّعاس مظنة نصر لهم -رضي الله عنهم وأرضاهم- مع نبيهم -صلى الله عليه وسلم- والمقصود : كل من خاف من أحد فرّ منه إلا من خاف من الله لجأ إليه فلا منجا ولا ملجأ من الله إلا إليه ، وقذف الله في قلب أم موسى أن تفعل هذا الصنيع وإلا بالعقل لا تقوى امرأة على صنيعه لأنه مهما كان أن يبقى موسى بين يديها في بيتها تحت عينيها خير له من أن تُلقيه في البحر ، قذفته في البحر من أمر من الله ، قال الله للبحر -كما يدل عليه ظاهر القرآن- (فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ) أي البحر وهو النيل بالاتفاق (فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ) جواب للأمر ، فجرى ذلك التابوت بقدر الله حتى أضحى قريبا من بيت فرعون أو من قصره حتى آل به الأمر إلى أن تفتحه زوجة فرعون قال الله (يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ) ، (وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي) حتى يحيا موسى أجرى الله السبب ، والسبب أن الله قذف في قلب من يراه المحبة إلا بعض شواذ خلقه ، وأول من ألقى في قلبه محبة موسى أسيا بنت مُزاحم -امرأة فرعون- وهذه المرأة من أربع نساء أثنى عليهن -صلى الله عليه وسلم- وهن : خديجة ومريم وفاطمة وآسيا ثم قال -صلى الله عليه وسلم- (وفضل عائشة على سائر النساء كفضل الثريد على سائر الطعام) ومن أخطائنا في التعبير اليوم أننا نُطلق كلمة "سائر" بمعنى "كُل" وإنما بمعنى "بقية" فأنت تقول : نجح فلان وفلان وأخفق سائر الطلاب ، أي باقي الطلاب وليست بمعنى "كُل" ، فالنبي -صلى الله عليه وسلم- عدد أولا أربعا ثم قال (فضل عائشة على سائر النساء) أي البقية من غير الأربعة (كفضل الثريد على سائر الطعام) فالثريد غير داخل في داخل الطعام . المقصود : أن هذه المرأة قذف الله في قلبها محبة موسى فهرولت إلى فرعون تقول له "قرة عين لي ولك" قيل -والعلم عند الله- : إن فرعون قال : أما لك فنعم وأما أنا فليس لي به حاجة ، واللاء موكل بالمنطق فوقع الذي أراده فرعون ، وهذا بيّناه في مواطن كثيرة . لكن نقف على آيات السورة :
/ قال الله -جلّ وعلا- (وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي) أي تنشأ وتُهيأ على رعاية من الله وحفظ وكلأ من رب العزّة والجلال لأن الله ادخرك لأمر عظيم .
(وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي) ثم كرر -جلّ وعلا- ظرفا آخر هو "إذْ" أعاده (إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَن يَكْفُلُهُ) وهذا وقع بعد تحريم المنع وقلنا إن امتناع موسى من قبول ثدي النساء إنما هو امتناع منع أو تحريم منع وليس تحريم شرع قال الله (وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ) استنبط العلماء -رحمهم الله- من هذه القضية : أن الإنسان ينبغي عليه أن يأخذ بالأسباب ، ووجه هذا الاستنباط : أن الله -جل وعلا- وعد أم موسى أنه سيردُ موسى إليها قال الله (إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) ومع هذا الوعد الإلهي ، الرباني إلا أن أمّ موسى قالت لأخته (قُصِّيهِ) أي تحسسي خبره فأخذت بالسبب فتحسست الخبر قال الله -جلّ وعلا- (إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ) تُخاطب آل فرعون (عَلَى مَن يَكْفُلُهُ) وكانوا قد بلغ بهم المشقة من الذي يكفله وقد امتنع عن النساء (هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَن يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ) وأي حُزن سيأتيها وقد أضحى وليدها الذي رمته في اليمّ بين يديها تُرضعه وتأخذ على رضاعته أجرا لأن القضية قضية عناية إلهية لهذا العبد الذي أراد الله أن يكون بعد ذلك كليما مصطفىً ، ونبيا رسولا ، قال الله -جلّ وعلا- يذكر مننه على هذا الكليم الصالح (فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ) الوعد الذي قاله الله في سورة القصص (إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) . ثم قال (وَقَتَلْتَ نَفْسًا) وهي قصة قتل موسى للرجل القبطي من أهل مصر (وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ) أي غمّ ؟ الغمّ الذي أصابك عندما قتلت تلك النفس وله صورتان :
- غمّ عند شعورك بالذنب (قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي)
- وغمّ عندما أُخبرت أن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك
فأخرجك الله ممن كان يريد قتلك إلى أرض مدين ولهذا قال الله -جلّ وعلا- (وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا) والأظهر عندي في قول الله (وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا) جمع لما سبق أي : ابتليناك ابتلاء بعد ابتلاء .
(فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى)
(فَلَبِثْتَ سِنِينَ) هذه قف عندها من عدة أوجه علمية : هذا إبهام فلم يحدد الله عدد السنين ،لكن عدد السنين لا يمكن أن يخرج عن ثمانٍ أو عشر ، وعرفنا أنه لا يخرج عن ثمان أو عشر من قول العبد الصالح كما حكى الله في سورة القصص (قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِندِكَ) الآن فسرنا القرآن بالقرآن ، فتفسير القرآن بالقرآن أجلى لنا الصورة بنسبة ثمانون في المئة وهي أن السنين أصبحت محصورة في الثمان والعشر ، ثم في الحديث الصحيح رواه أبو يعلى في مسنده , والحاكم في مستدركه (أن النبي -صلى الله عليه وسلم- سأل جبريل ما الأجل الذي قضاه موسى ؟ فقال : أتمّ أوفى الأجلين) فعلمنا هنا أن السنين التي أبهمها الله في سورة طه هن عشر سنين ، عندما اتخذما طريقا علميا بحثا متدرجا كما هو ظاهر .
(فَلَبِثْتَ سِنِينَ) وكلمة "سنين" تسمّى عند النحويين من الملحقات بجمع المذكر السالم تُرفع بالواو وتُنصب وتُجر بالياء ، وقد يأتيك سؤال : لماذا لا يُقال لها مباشرة جمع مُذكر سالم مع أنها تُرفع بالواو وتُنصب وتُجر بالياء ؟ والجواب : أن جمع المذكر السالم لا تتغير صورة مفرده إذا جُمع ، تقول : مدرس ، مدرسون - مهندس ،مهندسون ، إنما يُزاد واو ونون في حالة الرفع ، أو يُزاد ياء ونونا في حالة النصب ، لكن كلمة "سنة" إذا جُمعت على "سنين" لم يسلم مفردها -تغير- ولهذا قال النحويون تُسمّى هذه الكلمة ومثيلاتها مُلحقات بجمع المذكر السالم ، ومِما ورد في القرآن من ملحقات جمع المذكر السالم:
- كلمة "بنون" قال الله -جل وعلا- (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)
- وكلمة "أهلون" قال الله -جلّ وعلا- (شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا) فاعل مرفوع لأنه معطوف على فاعل آخر علامة رفعه الواو لأنه مُلحق بجمع المذكر السالم .
أما في السنة فوردت كلمة "أرضين" (طُوّق من سبع أرضين) فـ "أرضون" و "أرضين" ملحقات بجمع المذكر السالم إلا أنها لم ترد في القرآن وردت في السنة .
قال الله (فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ) هذه السنين كنت فيها مُعززا ، مُكرما ، محفوظا ، آمنا من بطش فرعون ، ثم قال الله له (ثُمَّ جِئْتَ) إلى أي مكان ؟ إلى هذا المكان الذي أنت فيه ، الذي الآن تُخاطب فيه ربك ، ثم جئت من أرض مدين إلى جبل الطور -إلى الوادي المقدس- (عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى) وأنت تعلم أن كل شيء خلقه الله بقدر ، لكن القدر المقصود هنا قدر خاص والمقصود به العناية العظيمة بكليمه موسى أي جئت لشيء أعددناه لن تتأخر عنه ولن تتقدم ولحكمة أرادها الله جئت في هذا الوقت بالذات لأنبئك وأرسلك وأجعلك كليما ، مصطفى على أهل زمانك (قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي) هذا معنى (ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى) وهذا المعنى فهمه جرير : "كما أتى موسى ربه على قدر" يقول في مدح أحد الأمراء . فهذا المعنى قلنا فقهه جرير أن هناك معنى خاص ، ليس القدر العام وإن كان هذا يقينا يندرج في القدر العام بلا مِراء وجرير - وهذا من باب الاستطراد النافع- أحد الشعراء الأمويين الذين يُستشهد بشعرهم ، فكون طالب العِلم أو طالبة علم يلجأ إلى شعر جرير فيقرأه ويبحث عن معانيه ويغوص في أعماقه مما يُعين على فهم كلام الله ، وجرير أُعطي قدرة على السِحر بالمبنى لا السحر بالمعنى فليس في شعره كبير معانٍ لكنه لديه قدرة في السبك ما بين الأبيات ، والسبك بين الأبيات أو بتعبير أصح السبك بين الألفاظ هذه روح الشعر وحقيقته ولا تأتي إلا من الدُربة ولهذا يقلّ هذا الاتقان في شعر العلماء لأن الاتقان والدُربو عندهم قليلة ، فلو أتيت لرجل حافظا للقرآن ، مُتقنا للخطابة فيعني ذلك لِزاما أنه مشغول أكثر وقته بقراءة القرآن والنظر في كتب العلم وهذا بالضرورة عدم قراءته للشعر كثيرا فلا يكون هناك سبك جيد ، قد يكون أقرب إلى النظم لكن إذا كان الإنسان أكثر قراءته في الشعر سيكون لديه المعرفة بروح الشِّعر ولذلك كل من اشتهر بالشِّعر وأصبح إماما فيه لا يكون إماما في شيء آخر ، من أصبح إماما في الشعر مُحال أن يكون إماما في غيره لأن هذه منزلة يُطلب منها التجرد عما غيره بخلاف غيره ، لكن الإنسان كالكسائي مثلا كان إماما في اللغة ، إماما في القراءات ، إماما في النحو ، فجمع فنونا هو فيهن رئيس ، سيد ، لكنه لا يكون إماما في الشّعر كجرير والمتنبي ، أبو تمام ، الفحول هؤلاء ، البارودي ، شوقي وغيرهم إلا لأنهم قلما يجيدون شيئا آخر من الناحية الفكرية ، ونعود فنقول إن الرجل سحر الناس بمبانيه لم يسحرهم بمعانيه :
وتذكر إذ تودعنا سُليمى ** بعود بشامة سُقي البشامُ
فما وجد كوجدك يوم قلنا ** على ربع بناظرة السلام
تمرون الديار ولم تعوجوا ** كلامكموا إذا عليّ حرام
هذه من حيث المعنى ليس فيها كثير معنى ، يتكلم عن معشوقة وهو خارج من الديار أعطته عود بشام ثم خرج ، يمر على ديار اسمها ناظرة أي مكان اسمه ناظرة لذلك لم يُجر بالكسرة في الأبيات ، فيُسلّم على أهله ويمُّر ويُعاتب قوما لم يمروا عليه ويزورهم ، وهذا إلى اليوم يجري بين الناس لكن الله أعطاه سبكا لفظيا جعل لشعره سيرورة بين الناس
بان الخليط ولو طُوعت ما بانا = يقطع من حبال الوصل ألوانا
حيّ المنازل إذ لا نبتغي بدلا = بالدار دار ولا الجيران جيرانا
يا أمّ عمرو جزاكِ الله مكرمة = ردي عليّ فؤادي كالذي كانا
لو تعلمين الذي نلقى أويتي لنا = أو تسمعين إلى ذي العرش شكوانا
إن العيون التي في طرفها حور = قتلننا ثم لم يحيين قتلانا
يصرعن ذا اللب حتى لا حراك به = وهن أضعف خلق الله أركانا
يا حبذا جبلُ الرَّيان من جبل = وحبذا ساكن الرَّيان من كانا
وحبذا نفحات من يمانية = تأتيك من قِبل الريان أحيانا
لو تعلمين الذي نلقى أويتي لنا = أو تسمعين إلى ذي العرش شكوانا
فليس في الأبيات كلها كبير معنى لكنها تجري على اللسان إذا بدات تعجز أن تقف لهذا كان شعره يسير بين الناس في البوادي والقُرى والمُدن كسريان النار في الهشيم لأن القضية قضية سبك لفظي في المقام الأول وهذا مهم جدا في فهم لغة القرآن لأن أكثر من يُخطئ في القرآن من أسباب الخطأ عدم فهم القرآن وأن المقصود من بعضها المعنى العام وليست الحرفية التي تُنظر في قواميس اللغة . هذا استطراد في قول الله تعالى (ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى) .
ثم أتمّ الله عليه النعمة فقال عن هذا الكليم (وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي) ولاحظ : في الأول قال (وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي) لكن لا يُعلم لأي شيء ثم قال (وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي) وهذا من أعظم الثناء في القرآن ، ومن أعظم الثناء ما مرّ معنا من قول الله لنبيه -صلى الله عليه وسلم- (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ) وقوله -جلّ وعلا- على لسان خليله إبراهيم (سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا) فهذه مواطن ثلاثة ظاهر فيها الثناء على هؤلاء الأنبياء الكرام وأعظمها قول الله -جلّ وعلا- (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ) وهذا عظيم جدا .
(وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي) انتقل الأمر من تهيئة موسى إلى بعثه فقال له (اذْهَبْ أَنتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلا تَنِيَا فِي ذِكْرِي) وقرنهما في الأمر الأول (لا تنيا) أي : لا تضعفا من الفعل "ونى" بمعنى ضعُف وعجُز وهذا من أعظم ما يُعينك على تحقيق المطلوب هو الإكثار من ذكر علاّم الغيوب ، اللهج بذكر الله يُعين على تحقيق كل مرغوب ويُدفع به كل أمر مرهوب ولهذا قال الله قبل أن يبعثهما ، قبل أن يُسمّي لهما إلى من تذهبان قال -جلّ وعلا- (اذْهَبْ أَنتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلا تَنِيَا فِي ذِكْرِي*اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى) ولا ريب أن فرعون طغى وأي طغيان : قال أنا ربكم الأعلى ، ما علمت لكم من إله غيري ، وكل ذنب بعد ذلك يندرج في هذا الأمر ، هذا إجمال من الله ( إِنَّهُ طَغَى) .
قال الله (فَقُولا لَهُ قَوْلا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى) اللين يكون في الأسلوب لا في المضمون فإياك أن تفهم أن اللين يكون في مضمون الكلام إنما اللين يكون في الأسلوب لذي تعرِض به خطابك وهذا يجب أن يُدقق فيه الإنسان وهو يقرأ القرآن مثلا : تطبيقه على خبر موسى: الله أمر موسى وهارون أن يدعوا فرعون إلى التوحيد وإلى عبادة الله فلا يُعقل أن موسى وهارون فهما من اللين أن يُغيرا الدعوة ، أن يُشرك مع الله واحد أو اثنين ، أو أنه لا يدعي أنه إله لكن لا بأس ألاّ يعبد الله لكن اللين في قضية كيف تطرح التوحيد ، كيف تقول لفرعون آمن بالله ، هذا اللين في الأسلوب ، كيف تٌخاطبه أما المضمون يبقى هو المضمون . ترى رجلا لا يُصلي فأنت تذهب إليه تُنكر عليه إنكارا عظيما كونه لا يُصلي ، كيف تُنكر ؟ هذا اللين الذي أمر الله به أما المضمون يبقى كما هو مبجلا عظيما نحافظ عليه كما أن الأسلوب واللين إذا بقي العاصي على ما هو عليه يتغير الأسلوب والدليل : أن موسى وهارون قطعا عبدان طائعان لله ، والله قال لهما (فَقُولا لَهُ قَوْلا لَّيِّنًا) ومع ذلك قال الله -جلّ وعلا- عن موسى أنه قال لفرعون (قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاء إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا) وكلمة (يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا) ليس في هذا الأسلوب لين لكن موسى لجأ إليه بعد أن استنفد مسألة اللين وثبت فرعون على كفره وإلحاحه وعناده غيّر موسى أسلوبه -عليه الصلاة والسلام- .(فَقُولا لَهُ قَوْلا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى) وقد سبق في علم الله أن فرعون لن يتذكر ولن يخشى لكن الله أراد أن يُعلّم من يدعو إليه كيف يدعو إليه ويتدرج في خطابه .
قال الله -جلّ وعلا- في الخبر نفسه (لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى*قَالا) أي موسى وهارون ، والآن هذا الأمر بعد التكليف (قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَن يَطْغَى) والمقصود من الأمرين أن لا يقبل منا حقا ولا باطلا ، قال الله -جلّ وعلا- لهما (قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَن يَطْغَى*قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى) والله مع كل أحد يسمع ويرى لكن هذه معية خاصة لكليم الله وأخيه وهذا أعظم ما وقرّ به الاطمئنان في قلب رسول الرحمن موسى -عليه الصلاة والسلام- (لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى) ولو اخترت لك من ألفاظ اللغة ما اخترت لا يمكن أن يؤدي اللفظ الذي جاء به القرآن فيما يستقر كل من يقرأ القرآن ويفهم لغة العرب ووضوح الألفاظ أي اطئنان وصل إلى قلب موسى وربه يقول له (إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى) وقال ابن كثير -رحمه الله- في تفسير هذه الآية : "فإن فرعون لن يبطش ولن ينطق ولن يتقدم ولن يتاخر إلا بإذني -بإذنه القدري جلّ وعلا- وأنا معكما بنصري وتأييدي أسمع وأرى" .
(لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى*فَأْتِيَاهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكَ وَالسَّلامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى) (بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكَ) أي جنس الآيات وإلا الآيات تسع كما سيأتي تفصيلها (قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكَ وَالسَّلامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى) هذا نوع اطمئنان وأسلوب في الكلام لكن هل هو تحية ؟
قال به بعض العلماء استنادا على ما ورد في بعض الأحاديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما بعث خطابه لهرقل وغيره كتب "من محمد بن عبد الله إلى هرقل عظيم الروم أما بعد: سلام على من اتبع الهدى" ، وقال آخرون : إنه ليس تحية بدليل أنه لم يأتِ في أول الكلام ، ولكلٍ وجه ، قد يكون ختم به موسى أمره وأخذه -صلى الله عليه وسلم- ليكون تحية لغيره . (وَالسَّلامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى*إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَن كَذَّبَ وَتَوَلَّى) وهذه مرت معنا من قبل وقلنا إن الله حصر الخلود في النار على من اتصف بصفتين التكذيب والإعراض فكل كافر تجتمع فيه هاتان الخصلتان .
(إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَن كَذَّبَ وَتَوَلَّى) جاء ما يُسمى هنا عند البلاغيين إيجاز حذف والمعنى أن موسى وهارون قبلا الدعوة وتوجها إلى فرعون ، وسواء طالت مدة وقوفهما بالباب أو لم تطل ، كم مكثا يستلطفان فرعون في الدخول عليه ، هذا علمه عند الله حتى قال بعض الناس أنهما مكثا أربعين عاما ، هذا بعيد ، وقال بعض الناس أربعون يوما ، وهذا لا يبعُد والمعنى أنهما دخلا عليه ، فلما دخلا عليه وعرضا عليه الرسالة قال فرعون (فَمَن رَّبُّكُمَا يَا مُوسَى) فأجاب الكليم (قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى) كان فرعون يعلم أن رب موسى هو الله لكن من باب الاستكبار وإظهار أن الله لا يستحق العبادة خوفا من انفراط قومه عنه فأجابه الكليم إجابا مختصرا (قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى) الخلق مقدم على الهداية والنعمة نعمتان :
- نعمة خلق وإيجاد
- نعمة هداية وإرشاد
فمن حيث الترتيب الزمني فإن نعمة الخلق والإيجاد قبل نعمة الهداية والإرشاد ، ومن حيث كونها نعمة وفضل ومِنّة فإن نعمة الهداية والإرشاد أعظم من نعمة الخلق والإيجاد ، والله -جلّ وعلا- هنا لما كان يتكلم موسى -عليه السلام- ويُبيّن فضل الله كان يتكلم عن القضية من باب ترتيبها الزمني ، ولما تكلم -جلّ وعلا- عن ترتيبها في الفضل قال (الرَّحْمَنُ*عَلَّمَ الْقُرْآنَ*خَلَقَ الإِنسَانَ) فقدم نعمة الهداية والإرشاد على نعمة الخلق والإيجاد في سورة الرحمن أما هنا قدم الخلق لأنه يتكلم مع كافر ويريد أن يُبيّن له الأمر .
(قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى) خلق الحيوان وهداه إلى ما ينفعه ، وخلق الجماد والنبات وأضحى كل شيء يتصرف بالقدر الذي هداه الله -جلّ وعلا- إليه ، وهذا أمر محسوس الكلام فيه نوع من الترف الذي يكفي عنه إيجاز القرآن .
هذا كله في الكلام عن ماذا ؟ في الرسالة ، فرعون كان ذكيا فأراد أن يُخرج موسى من جو الرسالة ، يُخرجه من عالم الرسالات إلى عالم الحكايات فخرج قال (فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى) والقرون الأولى لا تُعد ، كُثُر ، ولو أخذ موسى يُعدد من هم قوم نوح ، ومن هم قوم هود ، ومن هم قوم عاد لأضحى حتى الغلط يأتي على لسانه لأن هؤلاء لا يُحصون والكلام فيهم لا يُقدم ولا يُؤخر ، وهذا الذي أراده فرعون أن يخرج بالخطاب عن مقصده من عالم الرسالات إلى عالم الحكايات (قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى) فتنبه الكليم لمقصد فرعون فأجمل في الخطاب (قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي) أي أنا رسول وهذا غيب ولا اطلاع للرسول على الغيب إلا بمقدار ما علّمه الله . (قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لّا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى) وهذه مرت معنا أننا نقول إن الله بكل شيء عليم وأن علمه -جلّ وعلا- يُوصف بأنه لم يسبقه جهل ولا يلحقه نسيان ودليله هذه الآية على قول الكليم (قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لّا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى) لا يضل : يعني لا يجهل ، ولا ينسى : النسيان معروف ، وأي أحد يأتيه النقص في علمه من عدة أوجه :
- يأتيه في أنه يعلم ثم ينسى .
- ويأتيه النقص في أنه يجهل ثم يتعلم .
- ويأتيه النقص في أنه يتعلم ثم لا يُحيط علما بما علِم فتفوته أشياء.
وهذه الثلاث كلها منتفية في حق الرب -تبارك وتعالى- .
ثم أخذ يُعدد العلم بربه ، قيل إن هذا من كلام موسى وقيل إن هذا من كلام الله ، والعلم عند الله ،(قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لّا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى) ثم ذكر الخلق (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلا وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّن نَّبَاتٍ شَتَّى*كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّأُولِي النُّهَى) هنا أراد موسى عليه السلام - إذا قلنا إن الكلام لموسى في نفس السياق الخطابي إلى فرعون أن يُعرف بربه ، وعندما تضرب أمثالا أو تُعرّف بأحد أُذكر أقرب ما يكون إليه ، وألصق ما يكون بحياته لأن هذه لا سبيل إلى إنكارها ، ولهذا قال الله لمشركي العرب (أَفَلا يَنظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ) لأنهم يغدون ويروحون معها فقالها قبل السماء وقبل الأرض رغم أن السماء والأرض آيات عظيمة ، باهرة ، وهذا لا يُعارِض لكن قدم ما هو ألصق حتى يكون أقرب إليهم فالمقصود من المثل تقريب الأمر ليس إبعاده ، فإذا كان المثل إذا ضُرب يجعل القضية عائمة غير واضحة فإن المثل غير موفق ولهذا لما أراد موسى أن يُعرّف بربه قال(الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلا وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء) وهو الغيث والمطر (فَأَخْرَجْنَا بِهِ) أي بهذا المطر (أَزْوَاجًا مِّن نَّبَاتٍ شَتَّى) وقول الله -جلّ وعلا- (أَزْوَاجًا مِّن نَّبَاتٍ شَتَّى) "شتى" في كل شيء منه ما تأكله الدواب ، منه ما يأكله بنو آدم ، منه ما لا يأكله لا الدواب ولا بنو آدم إنما زينة للأرض ، منه الحامض ، منه الحلو ، منه المُرّ ، منه غير ذلك ، أنواع شتى خلقها الله -جلّ وعلا- ، ثم قال -جلّ وعلا- (كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ) أي شيء لكم وشيء لأنعامكم (إِنَّ فِي ذَلِكَ) أي في هذه الأمور كلها الدالة على عظيم خلقه (لَآيَاتٍ لِّأُولِي النُّهَى) وكلمة "النهى" أي : ذوي العقول ، ولم ترِد في القرآن العظيم إلا في موضعين كلهن في سورة طه قال الله -جلّ وعلا- (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّأُولِي النُّهَى) وقال -جلّ وعلا- في خاتمة السورة ، ذكر أخبار الأمم السابقة والكتاب والِّلزام والأجل المُسمّى ثم قال (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّأُولِي النُّهَى) والمقصود : أن أهل العقول هم أقدر الناس على ، وأولى الناس وأشدّ الناس تهيئة لأنهم يعتبروا بما يرونه أمامهم .
ثم ختم الله -جلّ وعلا- هذا المقطع بقوله (مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى) والكلام كله عن الأرض وقد مرّ معنا أن خلق أبينا آدم مرّ بمراحل أولهن المرحلة الترابية من قبضة قُبضت من الأرض ، هذا معنى (مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ) باعتبار خلق أبيكم وإلا الناس خُلقوا من نطفة ، (وَفِيهَا) أي في الأرض(نُعِيدُكُمْ) والمقصود أن الإنسان مرده إلى القبر ، وحتى لو قلنا إن إنسانا التقمه الحوت أو افترسه سبع فإن الحوت والسبع مآله إلى أن يموت ثم مآله إلى أن يتحلل في الأرض ، فسواء دُفن الشخص بطريق مباشر أو لم يُدفن بطريق مباشر فإن مصيره إلى أن يكون ترابا ، يقول أبو العلاء المعري :
خفف الوطء ما أظن أديم = الأرض إلا من هذه الأجساد
في أبياته الفلسفية الشهيرة :
غير مُجدٍ في ملتي واعتقادي = نوح باكي ولا ترنم شادي
رب قبر صار قبرا مرارا = ضاحك من تزاحم الأضداد
سر إن استطعت في الهواء رويدا = لا اختيالا على رفات العباد
الخ ما قال في داليته المعروفة المقصود منها أن الأرض أكثرها أصلا موتى قُبروا فيها والله يقول (وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ) ثم قال (وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى) وهذا الإخراج يكون يوم البعث والنشور ويكون نبينا -صلى الله عليه وسلم- أول من ينشق عنه القبر فيجد أخاه موسى الذي نتحدث عنه الآن آخذا بقوائم العرش قال -صلى الله عليه وسلم- (فلا أدري أفاق قبلي -أي موسى- أم جُوزي بصعقة الطور) وقوله (أم جُوزي بصعقة الطور) أي أن نفخة الفزع أو الصعق لم يدخل فيها موسى -عليه الصلاة والسلام- ، وقول النبي -صلى الله عليه وسلم- (لا أدري) يقفل الباب في البحث في المسألة لأن ما جهله النبي -صلى الله عليه وسلم- لا يمكن أن يعلمه أحد غيره اللهم إلا أن يكون بحثا غير مجزوم فيه ، من باب الترف العلمي والسبق في مضمار أقدام العلماء .
إلى هنا نقف في هذا اللقاء المبارك وسنأتي -إن شاء الله- في اللقاء القادم عن قول الله -جلّ وعلا- (وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى) إلى قول الله -جلّ وعلا- (فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى) .
نخلُص من هذا كله : أن الله -جلّ وعلا- اصطفى هذا الكليم وقرّبه وأدناه وكان في أول أمره همه جذوة من النار فعاد وهو كليم الواحد القهّار ، ثم لما منّ الله عليه بالرسالة أحبّ أن يُشرك الله -جلّ وعلا- أخاه فيها فقبِل الله -جلّ وعلا- له السؤل وذكّره بالمنن الماضية كيف نشأ محفوظا برعاية الله -جلّ وعلا- حتى جاء على قدر بين يدي الله يُكلمه ربه ويُعطيه مقام التكليم ، ثم بعثه الله -جلّ وعلا- إلى فرعون وليس موسى أول الرسل إلى أرض مصر بل دلّ القرآن على أن هناك رسلا قبله ومنهم يوسف عليه السلام قال الله -جلّ وعلا- على لسان مؤمن آل فرعون (وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ) أي من قبل موسى (فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَاءَكُم بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ اللَّهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولاً) وهذا ظاهره -والعلم عند الله- أن الله لم يبعث رسولا من بعد يوسف إلى أهل مصر.
المقصود : بعثه الله -جلّ وعلا- وقف موسى بين يدي فرعون ، خاطبه فرعون بقوله (فَمَن رَّبُّكُمَا يَا مُوسَى) عرّفه موسى -عليه الصلاة والسلام- بربه فلما احتار فرعون في الجواب أراد أن يخرج عن ماهية الخطاب ويُشغل موسى بقضايا الحكايات فرده موسى إلى أمور الرسالات (قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لّا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى) وهذه تُعلم المرء كيف يُجادل الآخرين وأن من يُجادلك يحاول أحيانا أن يُخرجك من الشيء الذي تُجيده إلى الشيء الذي لست متمكنا فيه فلا تُمكنه من مُراده وإنما عُد به إلى الجادة التي تُحسنها لأن الإنسان إذا تكلم بالشيء الذي لا يعرفه إنما تنكشف سوءته وتظهر عورته وخير له ألاّ يقتحم لُججا لم يؤصل عليها ولم يعرفها ولا يستسلم لخطاب الغير في قضية مجاراته في طرائق عدة (قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لّا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى) ثم توالت آيات تُبيّن ما منّ الله -جلّ وعلا- به على الخلق ، تُظهر ربوبيته وهذه الأمور لا يستطيع فرعون ولا غيره أن يُنكرها أن الله خلق الأرض وجعلها سُبلا ، وأنزل من السماء ماء وأنبت الأرض ويسر للأنعام وبني الإنسان في المقام الأول أن يأكلوا منها . هذا كله إخبار من الله -جلّ وعلا- لا يستطيع أحد أن يرده لا فرعون ولا غيره ، حُجج باهرة ، وآيات ظاهرة وقدرة تُعجز من يراها :
تأمل في نبات الأرض وانظر= إلى آثار ما صنع المليك
عيون من لُجين شاخصات على = ورق هو الذهب السبيك
على كُثب الزبرجد شاهدات = بأن الله ليس له شريك
هذا ما تيسر ونُكمل -إن شاء الله- في اللقاء القادم خبر إجمال هذه الآيات ثم الصراع ما بين السحرة من قوم فرعون مع موسى وما انتهى إليه ذلك الصراع الذي ختمه الله -جلّ وعلا- بقوله (فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى) . ونحن من غير ما صراع نقول آمنّا برب هارون وموسى وبرب محمد -صلى الله عليه وسلم- وبرب الأنبياء كلهم لا رب غيره ولا إله سواه . سبحان ربك رب العزة عمّا يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين .
------------------------------------
النص من مكتبة الشاملة (بتصرف يسير)
- القول الآخر : يقولون إن شخصية موسى شخصية انفعالية حادة . وهذا قول أكثر المتأخرين ، شخصية انفعالية حادة ، والشخص إذا انفعل واضحى حادّا تصبح هناك حُبسة ، يكون كلامه سريعا غير واضح ، غير ظاهر يتفق مع شخصيته ، ونقلوا أن الإمام المُفسر محمد بن كعب القرظي كان فيه هذا الشيء.
وهذا ملحوظ أحيانا في البعض من الناس أنه إذا انفعل يُصبح الكلام عنده سريعا متتابعا لا يكاد يُفهم . هذا تخريج بعض المتأخرين للعقدة . وحملها على الأثر الموقوف عن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- وبعض العلماء قال برفعه لكنه بعيد ، ورجح ابن كثير -رحمه الله- وقفه على ابن عباس . والأظهر -والعلم عند الله- أن ابن عباس -رضي الله عنهما- أخذه من مسلمة أهل الكتاب . وعندما نقول من مسلمة أهل الكتاب نقصد : أولئك الذين آمنوا بالله ودخلوا في الدين من أهل الكتاب من العلماء ومن أشهر هؤلاء ، وفي مقدمتهم كعب الأحبار كما مرّ معنا الاستشهاد بأقواله في مواطن عدة . هذا المقصود بـ مسلمة أهل الكتاب . هذا ما قيل في الحُبسة (وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي (28) يَفْقَهُوا قَوْلِي) .
ثم قال -عليه السلام- لربه يناجيه ويرجوه قال (وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي (30) هَارُونَ أَخِي) حدد ، فكلمة (مِّنْ أَهْلِي) عامة ثم خُصص وعُيّن فقال (هَارُونَ أَخِي) ، (وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا) كلمة "وِزر" في اللغة : مادتها الأصلية تعني الثِقل يقول الله -جل وعلا- (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) والمعنى : لا تتحمل نفس ذنب أخرى ولو ثِقلها ، فالذنوب تُسمى وِزر لأنها أعظم ما يُحمل على الظهر ولأنها ثِقل ، ولما كان الوزراء عادة - في القديم لم يكن هناك وزراء بالعدد إنما الوزير واحد - كما كان هامان وزيرا لفرعون فيكون الوزير في النظام السياسي القديم للدول واحد للأمير أو للمك أو للسلطان بحسب مُسماه ، هذا الوزير يحمل ثِقل الأمارة عن الأمير فلذلك يُسمى وزيرا ، فلا تعارض بين الجذر اللغوي لكلمة وزر وما بين قول نبي الله ( وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي (30) هَارُونَ أَخِي (31) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي) يطلب من الله أن يجعل أخاه هذا مما يُشد به الأزر ، وسيأتي التفصيل في هذا في خاتمة الدعاء .
(ٍاشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (32) وَأَشْرِكْهُ) والـ"هاء" في (أَشْرِكْهُ) عائدة على هارون ، (وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي) أي أمر؟ النبوة والرسالة ، فقال العليّ الكبير لعبده موسى (قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى) فأضحى هارون -عليه السلام- نبيا رسولا بشفاعة أخيه موسى ولهذا قالوا : إنه لا يُعلم أن أخا أمنّ على أخيه من مِنّة موسى على هارون ولهذا قال الله في نعت كليمه موسى (وكان عند الله وجيها) له قُربة وزُلفة وجاه عند الله ، وبهذه الوجاهة التي عند الله أضحى هارون نبيا ورسولا ، وقد مرت عائشة -رضي الله عنها وأرضاها- على رجلين في الحجّ يسأل أحدهما الآخر قال : هل تعلم أي أخ أعظم مِنّة على أخيه؟ فقال الآخر : لا أدري ، فقال الذي سأل : أنا أعلم ، إنه موسى بمنته على هارون فبفضل دعاء موسى أضحى هارون نبيا رسولا ، فقالت عائشة -رضي الله عنها- مُعلّقة : "صدق والله" أي صدق فيما قال له . والأخوة منها : أخوة الإيمان ، ومنها أخوة النسب ، ومنها أخوة الصداقة والاتفاق في العيش أو في الفكرة ، وأعظمها إذا اجتمعت أخوة إيمان ، وأخوة نسب وأخوة علاقة أو صداقة أو رِفقة أو جيرة أو ما شابه ذلك أو زمالة ، والعرب تقول :
"إن أخاك الحقَّ من كان معك، ومن إذا ريب الزمان صدعك ، شتت فيك شمله ليجمعك" والإنسان يحتاج إلى من يكون معه في السراء والضراء ، ولا يدخر الإنسان للسراء والضراء أعظم من إخوانه لكن العرب تقول إن ذلك الأخ ويُعبرون عنه بـ"الخِل الوفي" هو ثالث المستحيلات ، والمستحيلات عند العرب ثلاثة : اثنان منها يتعلق بالدواب فيقولون الغول يُخوفون به ولا حقيقة له . والعنقاء طائر يُخوفون به ويتحدثون عن شيء كثير من أساطيره ولا حقيقة له ولكنهم يجمعون لذلك الخِل الوفي . فيقولون إن الغول والعنقاء ، ثالث المستحيلات الخِلّ الوفي . قد يكونوا أصابوا في الأولى لكنهم أخطؤا في الثانية فكم من خِلٍ موجود وهذا لا يحتاج إلى شواهد وأعظمها أخوة الصديق لنبينا -صلوات الله وسلامه عليه- والمقصود : منة موسى على أخيه هارون -عليهما الصلاة والسلام- .
(وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي (30) هَارُونَ أَخِي (31) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (32) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي) ثم ذكر موسى -عليه السلام- القضية الأساسية من هذا كله قال (كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا*وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا) فذكر الله من أعظم الطاعات وأجلّ العبادات قال -صلى الله عليه وسلم- (سبق المفردون،قالوا : يارسول الله ومن المُفردون؟ قال : الذاكرين الله كثيرا والذاكرات) .
(وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا*إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيرًا) فقال -جلّ شأنه- (قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى) وقول ربنا -جلّ شأنه (قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى) هذه منّة من الله على موسى لكنها ليست بأول مِنّة ثم عدد الله -جل وعلا- أفضاله ومِننه وعطاياه على هذا النبي الكليم فقال (وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ) أي بإجابتنا لدعائك (مَرَّةً أُخْرَى) وقوله -جل وعلا- (مَرَّةً أُخْرَى) يدل على أمرين:
يدل أولا على أن هناك أمور سابقة ويدل على أن هناك أمور لاحقة لأنها لو كانت خاتمة المطاف لجاء التعبير القرآني : ولقد مننا عليك مرة أخيرة ، فالأخير يعني الخاتم لكن الآخر قد يكون بعده غيره وإنما خلاف الأول ، الآخر خلاف الأول أما الأخير خاتمة لما سبق ، فقول ربنا -جلّ وعلا- (وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ) والمخاطب موسى (مَرَّةً أُخْرَى) أي سبقت منتنا عليك وستأتي مِنن أخرى عليك أيها الكليم ، ثم عدد الله ما سبق وأشار إلى ما سيأتي فقال -جلّ ذكره- (وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى* إِذْ) هذا ظرف لما مضى من الزمان كما أن "إذا" لما يُستقبل من الزمان ، "إذ" ظرف يحوي الأحداث التي مضت ، أما "إذا" يُعبر عنها لما يُستقبل من الزمان ، فقال الله -جلّ وعلا- (إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى) ولم يذكر الله -جلّ وعلا- في الآية ما الذي أوحاه الله إلى أم موسى فأبهمه حتى يُفصّله بعد قليل وتُصبح الأنفس مشتاقة لسماعه ومن أسلوب القرآن التفصيل بعد الإجمال .
/ قال الله -جلّ وعلا- (إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى * أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ) لكن ينبغي أن تعلم أن وحي الله لأم موسى إنما هو إلهام وليس الوحي المعروف الذي هو من خصائص الأنبياء لأن النبوة لا تكون في النساء ، "وما كانت نبيا قط أنثى" .
/ (إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى) ألهمها الله (أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ) تقذف موسى (فِي التَّابُوتِ) في الصندوق ، ثم ماذا تفعلين به ، لم يقل الله لها اخفيه ها هنا أو هناك عن أعين حرس فرعون وجُنده وإنما قال الله لها (إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى * أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ) ومعلوم أن إلقاء طفل رضيع في اليمّ لم تجرِ عليه إلا أياما معدودات مظنة هلاك لكنه يُصبح عين النجاة إذا كان بأمر الله ، الأصل أنه مظنة هلاك لكنه يُصبح عين النجاة إذا كان بأمر الله :
وإذا العناية أحاطتك نم ** فالمخاوف كلهن أمان
الإنسان يُصبح في قمة الأمان إذا كان مُحاطا برعاية الله ، والصحابة -رضي الله عنهم- يوم بدر جعل الله النُّعاس وهو النُّعاس مظنة نصر لهم -رضي الله عنهم وأرضاهم- مع نبيهم -صلى الله عليه وسلم- والمقصود : كل من خاف من أحد فرّ منه إلا من خاف من الله لجأ إليه فلا منجا ولا ملجأ من الله إلا إليه ، وقذف الله في قلب أم موسى أن تفعل هذا الصنيع وإلا بالعقل لا تقوى امرأة على صنيعه لأنه مهما كان أن يبقى موسى بين يديها في بيتها تحت عينيها خير له من أن تُلقيه في البحر ، قذفته في البحر من أمر من الله ، قال الله للبحر -كما يدل عليه ظاهر القرآن- (فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ) أي البحر وهو النيل بالاتفاق (فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ) جواب للأمر ، فجرى ذلك التابوت بقدر الله حتى أضحى قريبا من بيت فرعون أو من قصره حتى آل به الأمر إلى أن تفتحه زوجة فرعون قال الله (يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ) ، (وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي) حتى يحيا موسى أجرى الله السبب ، والسبب أن الله قذف في قلب من يراه المحبة إلا بعض شواذ خلقه ، وأول من ألقى في قلبه محبة موسى أسيا بنت مُزاحم -امرأة فرعون- وهذه المرأة من أربع نساء أثنى عليهن -صلى الله عليه وسلم- وهن : خديجة ومريم وفاطمة وآسيا ثم قال -صلى الله عليه وسلم- (وفضل عائشة على سائر النساء كفضل الثريد على سائر الطعام) ومن أخطائنا في التعبير اليوم أننا نُطلق كلمة "سائر" بمعنى "كُل" وإنما بمعنى "بقية" فأنت تقول : نجح فلان وفلان وأخفق سائر الطلاب ، أي باقي الطلاب وليست بمعنى "كُل" ، فالنبي -صلى الله عليه وسلم- عدد أولا أربعا ثم قال (فضل عائشة على سائر النساء) أي البقية من غير الأربعة (كفضل الثريد على سائر الطعام) فالثريد غير داخل في داخل الطعام . المقصود : أن هذه المرأة قذف الله في قلبها محبة موسى فهرولت إلى فرعون تقول له "قرة عين لي ولك" قيل -والعلم عند الله- : إن فرعون قال : أما لك فنعم وأما أنا فليس لي به حاجة ، واللاء موكل بالمنطق فوقع الذي أراده فرعون ، وهذا بيّناه في مواطن كثيرة . لكن نقف على آيات السورة :
/ قال الله -جلّ وعلا- (وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي) أي تنشأ وتُهيأ على رعاية من الله وحفظ وكلأ من رب العزّة والجلال لأن الله ادخرك لأمر عظيم .
(وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي) ثم كرر -جلّ وعلا- ظرفا آخر هو "إذْ" أعاده (إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَن يَكْفُلُهُ) وهذا وقع بعد تحريم المنع وقلنا إن امتناع موسى من قبول ثدي النساء إنما هو امتناع منع أو تحريم منع وليس تحريم شرع قال الله (وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ) استنبط العلماء -رحمهم الله- من هذه القضية : أن الإنسان ينبغي عليه أن يأخذ بالأسباب ، ووجه هذا الاستنباط : أن الله -جل وعلا- وعد أم موسى أنه سيردُ موسى إليها قال الله (إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) ومع هذا الوعد الإلهي ، الرباني إلا أن أمّ موسى قالت لأخته (قُصِّيهِ) أي تحسسي خبره فأخذت بالسبب فتحسست الخبر قال الله -جلّ وعلا- (إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ) تُخاطب آل فرعون (عَلَى مَن يَكْفُلُهُ) وكانوا قد بلغ بهم المشقة من الذي يكفله وقد امتنع عن النساء (هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَن يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ) وأي حُزن سيأتيها وقد أضحى وليدها الذي رمته في اليمّ بين يديها تُرضعه وتأخذ على رضاعته أجرا لأن القضية قضية عناية إلهية لهذا العبد الذي أراد الله أن يكون بعد ذلك كليما مصطفىً ، ونبيا رسولا ، قال الله -جلّ وعلا- يذكر مننه على هذا الكليم الصالح (فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ) الوعد الذي قاله الله في سورة القصص (إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) . ثم قال (وَقَتَلْتَ نَفْسًا) وهي قصة قتل موسى للرجل القبطي من أهل مصر (وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ) أي غمّ ؟ الغمّ الذي أصابك عندما قتلت تلك النفس وله صورتان :
- غمّ عند شعورك بالذنب (قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي)
- وغمّ عندما أُخبرت أن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك
فأخرجك الله ممن كان يريد قتلك إلى أرض مدين ولهذا قال الله -جلّ وعلا- (وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا) والأظهر عندي في قول الله (وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا) جمع لما سبق أي : ابتليناك ابتلاء بعد ابتلاء .
(فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى)
(فَلَبِثْتَ سِنِينَ) هذه قف عندها من عدة أوجه علمية : هذا إبهام فلم يحدد الله عدد السنين ،لكن عدد السنين لا يمكن أن يخرج عن ثمانٍ أو عشر ، وعرفنا أنه لا يخرج عن ثمان أو عشر من قول العبد الصالح كما حكى الله في سورة القصص (قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِندِكَ) الآن فسرنا القرآن بالقرآن ، فتفسير القرآن بالقرآن أجلى لنا الصورة بنسبة ثمانون في المئة وهي أن السنين أصبحت محصورة في الثمان والعشر ، ثم في الحديث الصحيح رواه أبو يعلى في مسنده , والحاكم في مستدركه (أن النبي -صلى الله عليه وسلم- سأل جبريل ما الأجل الذي قضاه موسى ؟ فقال : أتمّ أوفى الأجلين) فعلمنا هنا أن السنين التي أبهمها الله في سورة طه هن عشر سنين ، عندما اتخذما طريقا علميا بحثا متدرجا كما هو ظاهر .
(فَلَبِثْتَ سِنِينَ) وكلمة "سنين" تسمّى عند النحويين من الملحقات بجمع المذكر السالم تُرفع بالواو وتُنصب وتُجر بالياء ، وقد يأتيك سؤال : لماذا لا يُقال لها مباشرة جمع مُذكر سالم مع أنها تُرفع بالواو وتُنصب وتُجر بالياء ؟ والجواب : أن جمع المذكر السالم لا تتغير صورة مفرده إذا جُمع ، تقول : مدرس ، مدرسون - مهندس ،مهندسون ، إنما يُزاد واو ونون في حالة الرفع ، أو يُزاد ياء ونونا في حالة النصب ، لكن كلمة "سنة" إذا جُمعت على "سنين" لم يسلم مفردها -تغير- ولهذا قال النحويون تُسمّى هذه الكلمة ومثيلاتها مُلحقات بجمع المذكر السالم ، ومِما ورد في القرآن من ملحقات جمع المذكر السالم:
- كلمة "بنون" قال الله -جل وعلا- (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)
- وكلمة "أهلون" قال الله -جلّ وعلا- (شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا) فاعل مرفوع لأنه معطوف على فاعل آخر علامة رفعه الواو لأنه مُلحق بجمع المذكر السالم .
أما في السنة فوردت كلمة "أرضين" (طُوّق من سبع أرضين) فـ "أرضون" و "أرضين" ملحقات بجمع المذكر السالم إلا أنها لم ترد في القرآن وردت في السنة .
قال الله (فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ) هذه السنين كنت فيها مُعززا ، مُكرما ، محفوظا ، آمنا من بطش فرعون ، ثم قال الله له (ثُمَّ جِئْتَ) إلى أي مكان ؟ إلى هذا المكان الذي أنت فيه ، الذي الآن تُخاطب فيه ربك ، ثم جئت من أرض مدين إلى جبل الطور -إلى الوادي المقدس- (عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى) وأنت تعلم أن كل شيء خلقه الله بقدر ، لكن القدر المقصود هنا قدر خاص والمقصود به العناية العظيمة بكليمه موسى أي جئت لشيء أعددناه لن تتأخر عنه ولن تتقدم ولحكمة أرادها الله جئت في هذا الوقت بالذات لأنبئك وأرسلك وأجعلك كليما ، مصطفى على أهل زمانك (قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي) هذا معنى (ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى) وهذا المعنى فهمه جرير : "كما أتى موسى ربه على قدر" يقول في مدح أحد الأمراء . فهذا المعنى قلنا فقهه جرير أن هناك معنى خاص ، ليس القدر العام وإن كان هذا يقينا يندرج في القدر العام بلا مِراء وجرير - وهذا من باب الاستطراد النافع- أحد الشعراء الأمويين الذين يُستشهد بشعرهم ، فكون طالب العِلم أو طالبة علم يلجأ إلى شعر جرير فيقرأه ويبحث عن معانيه ويغوص في أعماقه مما يُعين على فهم كلام الله ، وجرير أُعطي قدرة على السِحر بالمبنى لا السحر بالمعنى فليس في شعره كبير معانٍ لكنه لديه قدرة في السبك ما بين الأبيات ، والسبك بين الأبيات أو بتعبير أصح السبك بين الألفاظ هذه روح الشعر وحقيقته ولا تأتي إلا من الدُربة ولهذا يقلّ هذا الاتقان في شعر العلماء لأن الاتقان والدُربو عندهم قليلة ، فلو أتيت لرجل حافظا للقرآن ، مُتقنا للخطابة فيعني ذلك لِزاما أنه مشغول أكثر وقته بقراءة القرآن والنظر في كتب العلم وهذا بالضرورة عدم قراءته للشعر كثيرا فلا يكون هناك سبك جيد ، قد يكون أقرب إلى النظم لكن إذا كان الإنسان أكثر قراءته في الشعر سيكون لديه المعرفة بروح الشِّعر ولذلك كل من اشتهر بالشِّعر وأصبح إماما فيه لا يكون إماما في شيء آخر ، من أصبح إماما في الشعر مُحال أن يكون إماما في غيره لأن هذه منزلة يُطلب منها التجرد عما غيره بخلاف غيره ، لكن الإنسان كالكسائي مثلا كان إماما في اللغة ، إماما في القراءات ، إماما في النحو ، فجمع فنونا هو فيهن رئيس ، سيد ، لكنه لا يكون إماما في الشّعر كجرير والمتنبي ، أبو تمام ، الفحول هؤلاء ، البارودي ، شوقي وغيرهم إلا لأنهم قلما يجيدون شيئا آخر من الناحية الفكرية ، ونعود فنقول إن الرجل سحر الناس بمبانيه لم يسحرهم بمعانيه :
وتذكر إذ تودعنا سُليمى ** بعود بشامة سُقي البشامُ
فما وجد كوجدك يوم قلنا ** على ربع بناظرة السلام
تمرون الديار ولم تعوجوا ** كلامكموا إذا عليّ حرام
هذه من حيث المعنى ليس فيها كثير معنى ، يتكلم عن معشوقة وهو خارج من الديار أعطته عود بشام ثم خرج ، يمر على ديار اسمها ناظرة أي مكان اسمه ناظرة لذلك لم يُجر بالكسرة في الأبيات ، فيُسلّم على أهله ويمُّر ويُعاتب قوما لم يمروا عليه ويزورهم ، وهذا إلى اليوم يجري بين الناس لكن الله أعطاه سبكا لفظيا جعل لشعره سيرورة بين الناس
بان الخليط ولو طُوعت ما بانا = يقطع من حبال الوصل ألوانا
حيّ المنازل إذ لا نبتغي بدلا = بالدار دار ولا الجيران جيرانا
يا أمّ عمرو جزاكِ الله مكرمة = ردي عليّ فؤادي كالذي كانا
لو تعلمين الذي نلقى أويتي لنا = أو تسمعين إلى ذي العرش شكوانا
إن العيون التي في طرفها حور = قتلننا ثم لم يحيين قتلانا
يصرعن ذا اللب حتى لا حراك به = وهن أضعف خلق الله أركانا
يا حبذا جبلُ الرَّيان من جبل = وحبذا ساكن الرَّيان من كانا
وحبذا نفحات من يمانية = تأتيك من قِبل الريان أحيانا
لو تعلمين الذي نلقى أويتي لنا = أو تسمعين إلى ذي العرش شكوانا
فليس في الأبيات كلها كبير معنى لكنها تجري على اللسان إذا بدات تعجز أن تقف لهذا كان شعره يسير بين الناس في البوادي والقُرى والمُدن كسريان النار في الهشيم لأن القضية قضية سبك لفظي في المقام الأول وهذا مهم جدا في فهم لغة القرآن لأن أكثر من يُخطئ في القرآن من أسباب الخطأ عدم فهم القرآن وأن المقصود من بعضها المعنى العام وليست الحرفية التي تُنظر في قواميس اللغة . هذا استطراد في قول الله تعالى (ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى) .
ثم أتمّ الله عليه النعمة فقال عن هذا الكليم (وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي) ولاحظ : في الأول قال (وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي) لكن لا يُعلم لأي شيء ثم قال (وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي) وهذا من أعظم الثناء في القرآن ، ومن أعظم الثناء ما مرّ معنا من قول الله لنبيه -صلى الله عليه وسلم- (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ) وقوله -جلّ وعلا- على لسان خليله إبراهيم (سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا) فهذه مواطن ثلاثة ظاهر فيها الثناء على هؤلاء الأنبياء الكرام وأعظمها قول الله -جلّ وعلا- (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ) وهذا عظيم جدا .
(وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي) انتقل الأمر من تهيئة موسى إلى بعثه فقال له (اذْهَبْ أَنتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلا تَنِيَا فِي ذِكْرِي) وقرنهما في الأمر الأول (لا تنيا) أي : لا تضعفا من الفعل "ونى" بمعنى ضعُف وعجُز وهذا من أعظم ما يُعينك على تحقيق المطلوب هو الإكثار من ذكر علاّم الغيوب ، اللهج بذكر الله يُعين على تحقيق كل مرغوب ويُدفع به كل أمر مرهوب ولهذا قال الله قبل أن يبعثهما ، قبل أن يُسمّي لهما إلى من تذهبان قال -جلّ وعلا- (اذْهَبْ أَنتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلا تَنِيَا فِي ذِكْرِي*اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى) ولا ريب أن فرعون طغى وأي طغيان : قال أنا ربكم الأعلى ، ما علمت لكم من إله غيري ، وكل ذنب بعد ذلك يندرج في هذا الأمر ، هذا إجمال من الله ( إِنَّهُ طَغَى) .
قال الله (فَقُولا لَهُ قَوْلا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى) اللين يكون في الأسلوب لا في المضمون فإياك أن تفهم أن اللين يكون في مضمون الكلام إنما اللين يكون في الأسلوب لذي تعرِض به خطابك وهذا يجب أن يُدقق فيه الإنسان وهو يقرأ القرآن مثلا : تطبيقه على خبر موسى: الله أمر موسى وهارون أن يدعوا فرعون إلى التوحيد وإلى عبادة الله فلا يُعقل أن موسى وهارون فهما من اللين أن يُغيرا الدعوة ، أن يُشرك مع الله واحد أو اثنين ، أو أنه لا يدعي أنه إله لكن لا بأس ألاّ يعبد الله لكن اللين في قضية كيف تطرح التوحيد ، كيف تقول لفرعون آمن بالله ، هذا اللين في الأسلوب ، كيف تٌخاطبه أما المضمون يبقى هو المضمون . ترى رجلا لا يُصلي فأنت تذهب إليه تُنكر عليه إنكارا عظيما كونه لا يُصلي ، كيف تُنكر ؟ هذا اللين الذي أمر الله به أما المضمون يبقى كما هو مبجلا عظيما نحافظ عليه كما أن الأسلوب واللين إذا بقي العاصي على ما هو عليه يتغير الأسلوب والدليل : أن موسى وهارون قطعا عبدان طائعان لله ، والله قال لهما (فَقُولا لَهُ قَوْلا لَّيِّنًا) ومع ذلك قال الله -جلّ وعلا- عن موسى أنه قال لفرعون (قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاء إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا) وكلمة (يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا) ليس في هذا الأسلوب لين لكن موسى لجأ إليه بعد أن استنفد مسألة اللين وثبت فرعون على كفره وإلحاحه وعناده غيّر موسى أسلوبه -عليه الصلاة والسلام- .(فَقُولا لَهُ قَوْلا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى) وقد سبق في علم الله أن فرعون لن يتذكر ولن يخشى لكن الله أراد أن يُعلّم من يدعو إليه كيف يدعو إليه ويتدرج في خطابه .
قال الله -جلّ وعلا- في الخبر نفسه (لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى*قَالا) أي موسى وهارون ، والآن هذا الأمر بعد التكليف (قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَن يَطْغَى) والمقصود من الأمرين أن لا يقبل منا حقا ولا باطلا ، قال الله -جلّ وعلا- لهما (قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَن يَطْغَى*قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى) والله مع كل أحد يسمع ويرى لكن هذه معية خاصة لكليم الله وأخيه وهذا أعظم ما وقرّ به الاطمئنان في قلب رسول الرحمن موسى -عليه الصلاة والسلام- (لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى) ولو اخترت لك من ألفاظ اللغة ما اخترت لا يمكن أن يؤدي اللفظ الذي جاء به القرآن فيما يستقر كل من يقرأ القرآن ويفهم لغة العرب ووضوح الألفاظ أي اطئنان وصل إلى قلب موسى وربه يقول له (إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى) وقال ابن كثير -رحمه الله- في تفسير هذه الآية : "فإن فرعون لن يبطش ولن ينطق ولن يتقدم ولن يتاخر إلا بإذني -بإذنه القدري جلّ وعلا- وأنا معكما بنصري وتأييدي أسمع وأرى" .
(لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى*فَأْتِيَاهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكَ وَالسَّلامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى) (بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكَ) أي جنس الآيات وإلا الآيات تسع كما سيأتي تفصيلها (قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكَ وَالسَّلامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى) هذا نوع اطمئنان وأسلوب في الكلام لكن هل هو تحية ؟
قال به بعض العلماء استنادا على ما ورد في بعض الأحاديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما بعث خطابه لهرقل وغيره كتب "من محمد بن عبد الله إلى هرقل عظيم الروم أما بعد: سلام على من اتبع الهدى" ، وقال آخرون : إنه ليس تحية بدليل أنه لم يأتِ في أول الكلام ، ولكلٍ وجه ، قد يكون ختم به موسى أمره وأخذه -صلى الله عليه وسلم- ليكون تحية لغيره . (وَالسَّلامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى*إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَن كَذَّبَ وَتَوَلَّى) وهذه مرت معنا من قبل وقلنا إن الله حصر الخلود في النار على من اتصف بصفتين التكذيب والإعراض فكل كافر تجتمع فيه هاتان الخصلتان .
(إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَن كَذَّبَ وَتَوَلَّى) جاء ما يُسمى هنا عند البلاغيين إيجاز حذف والمعنى أن موسى وهارون قبلا الدعوة وتوجها إلى فرعون ، وسواء طالت مدة وقوفهما بالباب أو لم تطل ، كم مكثا يستلطفان فرعون في الدخول عليه ، هذا علمه عند الله حتى قال بعض الناس أنهما مكثا أربعين عاما ، هذا بعيد ، وقال بعض الناس أربعون يوما ، وهذا لا يبعُد والمعنى أنهما دخلا عليه ، فلما دخلا عليه وعرضا عليه الرسالة قال فرعون (فَمَن رَّبُّكُمَا يَا مُوسَى) فأجاب الكليم (قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى) كان فرعون يعلم أن رب موسى هو الله لكن من باب الاستكبار وإظهار أن الله لا يستحق العبادة خوفا من انفراط قومه عنه فأجابه الكليم إجابا مختصرا (قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى) الخلق مقدم على الهداية والنعمة نعمتان :
- نعمة خلق وإيجاد
- نعمة هداية وإرشاد
فمن حيث الترتيب الزمني فإن نعمة الخلق والإيجاد قبل نعمة الهداية والإرشاد ، ومن حيث كونها نعمة وفضل ومِنّة فإن نعمة الهداية والإرشاد أعظم من نعمة الخلق والإيجاد ، والله -جلّ وعلا- هنا لما كان يتكلم موسى -عليه السلام- ويُبيّن فضل الله كان يتكلم عن القضية من باب ترتيبها الزمني ، ولما تكلم -جلّ وعلا- عن ترتيبها في الفضل قال (الرَّحْمَنُ*عَلَّمَ الْقُرْآنَ*خَلَقَ الإِنسَانَ) فقدم نعمة الهداية والإرشاد على نعمة الخلق والإيجاد في سورة الرحمن أما هنا قدم الخلق لأنه يتكلم مع كافر ويريد أن يُبيّن له الأمر .
(قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى) خلق الحيوان وهداه إلى ما ينفعه ، وخلق الجماد والنبات وأضحى كل شيء يتصرف بالقدر الذي هداه الله -جلّ وعلا- إليه ، وهذا أمر محسوس الكلام فيه نوع من الترف الذي يكفي عنه إيجاز القرآن .
هذا كله في الكلام عن ماذا ؟ في الرسالة ، فرعون كان ذكيا فأراد أن يُخرج موسى من جو الرسالة ، يُخرجه من عالم الرسالات إلى عالم الحكايات فخرج قال (فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى) والقرون الأولى لا تُعد ، كُثُر ، ولو أخذ موسى يُعدد من هم قوم نوح ، ومن هم قوم هود ، ومن هم قوم عاد لأضحى حتى الغلط يأتي على لسانه لأن هؤلاء لا يُحصون والكلام فيهم لا يُقدم ولا يُؤخر ، وهذا الذي أراده فرعون أن يخرج بالخطاب عن مقصده من عالم الرسالات إلى عالم الحكايات (قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى) فتنبه الكليم لمقصد فرعون فأجمل في الخطاب (قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي) أي أنا رسول وهذا غيب ولا اطلاع للرسول على الغيب إلا بمقدار ما علّمه الله . (قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لّا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى) وهذه مرت معنا أننا نقول إن الله بكل شيء عليم وأن علمه -جلّ وعلا- يُوصف بأنه لم يسبقه جهل ولا يلحقه نسيان ودليله هذه الآية على قول الكليم (قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لّا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى) لا يضل : يعني لا يجهل ، ولا ينسى : النسيان معروف ، وأي أحد يأتيه النقص في علمه من عدة أوجه :
- يأتيه في أنه يعلم ثم ينسى .
- ويأتيه النقص في أنه يجهل ثم يتعلم .
- ويأتيه النقص في أنه يتعلم ثم لا يُحيط علما بما علِم فتفوته أشياء.
وهذه الثلاث كلها منتفية في حق الرب -تبارك وتعالى- .
ثم أخذ يُعدد العلم بربه ، قيل إن هذا من كلام موسى وقيل إن هذا من كلام الله ، والعلم عند الله ،(قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لّا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى) ثم ذكر الخلق (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلا وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّن نَّبَاتٍ شَتَّى*كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّأُولِي النُّهَى) هنا أراد موسى عليه السلام - إذا قلنا إن الكلام لموسى في نفس السياق الخطابي إلى فرعون أن يُعرف بربه ، وعندما تضرب أمثالا أو تُعرّف بأحد أُذكر أقرب ما يكون إليه ، وألصق ما يكون بحياته لأن هذه لا سبيل إلى إنكارها ، ولهذا قال الله لمشركي العرب (أَفَلا يَنظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ) لأنهم يغدون ويروحون معها فقالها قبل السماء وقبل الأرض رغم أن السماء والأرض آيات عظيمة ، باهرة ، وهذا لا يُعارِض لكن قدم ما هو ألصق حتى يكون أقرب إليهم فالمقصود من المثل تقريب الأمر ليس إبعاده ، فإذا كان المثل إذا ضُرب يجعل القضية عائمة غير واضحة فإن المثل غير موفق ولهذا لما أراد موسى أن يُعرّف بربه قال(الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلا وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء) وهو الغيث والمطر (فَأَخْرَجْنَا بِهِ) أي بهذا المطر (أَزْوَاجًا مِّن نَّبَاتٍ شَتَّى) وقول الله -جلّ وعلا- (أَزْوَاجًا مِّن نَّبَاتٍ شَتَّى) "شتى" في كل شيء منه ما تأكله الدواب ، منه ما يأكله بنو آدم ، منه ما لا يأكله لا الدواب ولا بنو آدم إنما زينة للأرض ، منه الحامض ، منه الحلو ، منه المُرّ ، منه غير ذلك ، أنواع شتى خلقها الله -جلّ وعلا- ، ثم قال -جلّ وعلا- (كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ) أي شيء لكم وشيء لأنعامكم (إِنَّ فِي ذَلِكَ) أي في هذه الأمور كلها الدالة على عظيم خلقه (لَآيَاتٍ لِّأُولِي النُّهَى) وكلمة "النهى" أي : ذوي العقول ، ولم ترِد في القرآن العظيم إلا في موضعين كلهن في سورة طه قال الله -جلّ وعلا- (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّأُولِي النُّهَى) وقال -جلّ وعلا- في خاتمة السورة ، ذكر أخبار الأمم السابقة والكتاب والِّلزام والأجل المُسمّى ثم قال (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّأُولِي النُّهَى) والمقصود : أن أهل العقول هم أقدر الناس على ، وأولى الناس وأشدّ الناس تهيئة لأنهم يعتبروا بما يرونه أمامهم .
ثم ختم الله -جلّ وعلا- هذا المقطع بقوله (مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى) والكلام كله عن الأرض وقد مرّ معنا أن خلق أبينا آدم مرّ بمراحل أولهن المرحلة الترابية من قبضة قُبضت من الأرض ، هذا معنى (مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ) باعتبار خلق أبيكم وإلا الناس خُلقوا من نطفة ، (وَفِيهَا) أي في الأرض(نُعِيدُكُمْ) والمقصود أن الإنسان مرده إلى القبر ، وحتى لو قلنا إن إنسانا التقمه الحوت أو افترسه سبع فإن الحوت والسبع مآله إلى أن يموت ثم مآله إلى أن يتحلل في الأرض ، فسواء دُفن الشخص بطريق مباشر أو لم يُدفن بطريق مباشر فإن مصيره إلى أن يكون ترابا ، يقول أبو العلاء المعري :
خفف الوطء ما أظن أديم = الأرض إلا من هذه الأجساد
في أبياته الفلسفية الشهيرة :
غير مُجدٍ في ملتي واعتقادي = نوح باكي ولا ترنم شادي
رب قبر صار قبرا مرارا = ضاحك من تزاحم الأضداد
سر إن استطعت في الهواء رويدا = لا اختيالا على رفات العباد
الخ ما قال في داليته المعروفة المقصود منها أن الأرض أكثرها أصلا موتى قُبروا فيها والله يقول (وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ) ثم قال (وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى) وهذا الإخراج يكون يوم البعث والنشور ويكون نبينا -صلى الله عليه وسلم- أول من ينشق عنه القبر فيجد أخاه موسى الذي نتحدث عنه الآن آخذا بقوائم العرش قال -صلى الله عليه وسلم- (فلا أدري أفاق قبلي -أي موسى- أم جُوزي بصعقة الطور) وقوله (أم جُوزي بصعقة الطور) أي أن نفخة الفزع أو الصعق لم يدخل فيها موسى -عليه الصلاة والسلام- ، وقول النبي -صلى الله عليه وسلم- (لا أدري) يقفل الباب في البحث في المسألة لأن ما جهله النبي -صلى الله عليه وسلم- لا يمكن أن يعلمه أحد غيره اللهم إلا أن يكون بحثا غير مجزوم فيه ، من باب الترف العلمي والسبق في مضمار أقدام العلماء .
إلى هنا نقف في هذا اللقاء المبارك وسنأتي -إن شاء الله- في اللقاء القادم عن قول الله -جلّ وعلا- (وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى) إلى قول الله -جلّ وعلا- (فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى) .
نخلُص من هذا كله : أن الله -جلّ وعلا- اصطفى هذا الكليم وقرّبه وأدناه وكان في أول أمره همه جذوة من النار فعاد وهو كليم الواحد القهّار ، ثم لما منّ الله عليه بالرسالة أحبّ أن يُشرك الله -جلّ وعلا- أخاه فيها فقبِل الله -جلّ وعلا- له السؤل وذكّره بالمنن الماضية كيف نشأ محفوظا برعاية الله -جلّ وعلا- حتى جاء على قدر بين يدي الله يُكلمه ربه ويُعطيه مقام التكليم ، ثم بعثه الله -جلّ وعلا- إلى فرعون وليس موسى أول الرسل إلى أرض مصر بل دلّ القرآن على أن هناك رسلا قبله ومنهم يوسف عليه السلام قال الله -جلّ وعلا- على لسان مؤمن آل فرعون (وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ) أي من قبل موسى (فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَاءَكُم بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ اللَّهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولاً) وهذا ظاهره -والعلم عند الله- أن الله لم يبعث رسولا من بعد يوسف إلى أهل مصر.
المقصود : بعثه الله -جلّ وعلا- وقف موسى بين يدي فرعون ، خاطبه فرعون بقوله (فَمَن رَّبُّكُمَا يَا مُوسَى) عرّفه موسى -عليه الصلاة والسلام- بربه فلما احتار فرعون في الجواب أراد أن يخرج عن ماهية الخطاب ويُشغل موسى بقضايا الحكايات فرده موسى إلى أمور الرسالات (قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لّا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى) وهذه تُعلم المرء كيف يُجادل الآخرين وأن من يُجادلك يحاول أحيانا أن يُخرجك من الشيء الذي تُجيده إلى الشيء الذي لست متمكنا فيه فلا تُمكنه من مُراده وإنما عُد به إلى الجادة التي تُحسنها لأن الإنسان إذا تكلم بالشيء الذي لا يعرفه إنما تنكشف سوءته وتظهر عورته وخير له ألاّ يقتحم لُججا لم يؤصل عليها ولم يعرفها ولا يستسلم لخطاب الغير في قضية مجاراته في طرائق عدة (قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لّا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى) ثم توالت آيات تُبيّن ما منّ الله -جلّ وعلا- به على الخلق ، تُظهر ربوبيته وهذه الأمور لا يستطيع فرعون ولا غيره أن يُنكرها أن الله خلق الأرض وجعلها سُبلا ، وأنزل من السماء ماء وأنبت الأرض ويسر للأنعام وبني الإنسان في المقام الأول أن يأكلوا منها . هذا كله إخبار من الله -جلّ وعلا- لا يستطيع أحد أن يرده لا فرعون ولا غيره ، حُجج باهرة ، وآيات ظاهرة وقدرة تُعجز من يراها :
تأمل في نبات الأرض وانظر= إلى آثار ما صنع المليك
عيون من لُجين شاخصات على = ورق هو الذهب السبيك
على كُثب الزبرجد شاهدات = بأن الله ليس له شريك
هذا ما تيسر ونُكمل -إن شاء الله- في اللقاء القادم خبر إجمال هذه الآيات ثم الصراع ما بين السحرة من قوم فرعون مع موسى وما انتهى إليه ذلك الصراع الذي ختمه الله -جلّ وعلا- بقوله (فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى) . ونحن من غير ما صراع نقول آمنّا برب هارون وموسى وبرب محمد -صلى الله عليه وسلم- وبرب الأنبياء كلهم لا رب غيره ولا إله سواه . سبحان ربك رب العزة عمّا يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين .
------------------------------------
النص من مكتبة الشاملة (بتصرف يسير)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق