الجمعة، 4 مارس 2011

الدرة القرآنية السادسة / قوله تعالى( كَلاَّ إِنَّهَا لَظَى *نَزَّاعَةً لِّلشَّوَى )



الدرة القرآنية حول قوله تعالى في سورة المعارج ( كَلاَّ إِنَّهَا لَظَى*نَزَّاعَةً لِّلشَّوَى*تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى*وَجَمَعَ فَأَوْعَى*إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا*إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا*وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا)
ذكر الله - جل وعلا - في صدر هذه الآيات رده على من ظن غير ذلك من كفار قريش ، ثم تحدث - جل وعلا - في هذه الآيات الكريمات عن " لظى " التي هي النار ولا تخلو كلمة " لظى " هنا عن أحد أمرين :
إما أن تكون وصفا لجهنم ، وإما أن تكون علما عليها .
فإن قلنا إنها علم على جهنم أضحت بذلك ما بعدها يكون حالا
وإن قلنا إنها وصف لجهنم أبقيناها على أنها نكرة فيكون ما بعدها صفة .
الكلمة التي جاءت بعدها كلمة " نزاعة " وقُرأت بالوجهين : بالنصب والضم ، إلا أن بعض علماء العربية خالف في قراءتها بالنصب ، والحجة عنده أنه إن قرأناها بالنصب وهو المقرؤ به الآن ( كَلاَّ إِنَّهَا لَظَى*نَزَّاعَةً لِّلشَّوَى ) فإن ذلك لا يمكن أن يقع لأن اللظى عنده - وهو المُبرد - يقول إن لظى لا تكون إلا نزاعة ، وهذا يُخالف تعريفنا للحال ، لأنه يرى أن الحال لا تكون إلا في الشيء المُخير ، تكون في الشيء الذي يُمكن أن يقع ، و يُمكن أن لا يقع ، أما " لظى " فإنها قطعا لا تقع إلا نزاعة . لهذا منع المُبرِد وهو أحد أساطين العربية أن تكون نزاعة تٌقرأ بالنصب .
لكن قوله هذا يُمكن أن يُجاب عنه بما في القرآن ، فإن الله - جل وعلا - قال في سورة البقرة ( وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا ) فجاء بـ " مُصدقا " منصوبة فهي حال مع أن الحق هنا معرفة قطعا ، مُعرفة بالألف واللام وجاء مرفوعا فهي قطعا ليست صفة لأنها نكرة ، مع أنه - وهذا كُنه الرد عليه وتحقيق المناط في الرد عليه - أن الحق لا يكون إلا مُصدقا .
كذلك استُدل في الرد عليه بقول الله - جل وعلا - ( وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا ) فصراط الله لا يكون إلا مستقيما .
إذا الخياران اللذان طرحهما المُبرد منتفيان هنا ، مع الاتفاق على أن " مستقيما " و " مصدقا " كلاهما يُنصب حالا . لكن نتريث في الرد على رجل في قامة المُبرد ونقول : لعله قصد بعض أنواع الحال ، لأن الحال تقع مُبينة ، تقع مُؤسسة ، تقع مؤكِدة .
بعد هذه السياحة النحْوية التي لابد منها نعود لقول الله - جل وعلا - ( كَلاَّ إِنَّهَا لَظَى*نَزَّاعَةً لِّلشَّوَى) 
اختلفوا في ما المراد بالشوى ، فنُقل عن الحسن البصري - رحمه الله - أنه كان يقول " مكارم الوجه " وهذا أبلغ في الأثر ، أبلغ في العِظة ، وقيل : هو اللحم الذي دون العظم ، والعلم عند الله .
( تدعو ) التي تدعو هي النار - قطعا - لكن هل هذا الدعاء باللسان ؟ هذا ظاهر القرآن ، يكون لها لسان فصيح تُنادي الكفرة ( تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى ) ويؤيد هذا بعض الأحاديث ، ويؤيده قول الله - جل وعلا - ( إِذَا رَأَتْهُم مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا ) والقاعدة إمرار القرآن على ظاهره.

بعض أهل العلم يقول : إن الذي يُنادي هم الخزنة وليست النار ، لكن الدعوة هنا ، النداء أُضيف إلى الخزنة من باب التوسع في اللغة ، فاللغة تقبل هذا ، لكن كما قلنا نبدأ أولا بصرف القرآن إلى ظاهره حتى يمنعنا مانع أن نصرفه إلى ظاهره فنفيء إلى مثل هذا ولا حاجة إلى هذا .
وبعض العلماء قال : إنما هي تدعو بلسان الحال لا بلسان المقال ، وأغرب الخليل بن أحمد - على علو مكانته - فقال إن تدعو هنا ليست بمعنى تُنادي وإنما المراد تهْلِك ، وقال إن للعرب في هذا وجه. والخليل حُجة في هذا أنه يكون قد نقل وجها لكلام العرب في هذا ، لكن هذا الوجه قد يكون ضعيفا ، فكونه قد قاله العرب في لفظ أو لفظين ، أو بيت أو بيتين ، لا يُمكن أن يُحمل عليه ظاهر القرآن والله يقول ( قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ ) .
( تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى ) وهذه صفة لأهل الكفر .

/ ثم قال - جل وعلا - ( وَجَمَعَ فَأَوْعَى ) : هناك وصفان : جمع ، فأوعى ، قالوا إن " جمع " هنا كناية عن الحِرص ، و" أوعى " كناية وإشارة عن طول الأمل . وهذا من أعظم آفات الدين أن يجتمع في الإنسان حِرص وطول أمل .

جاء القرآن مُعبرا عنه بلفظين متتابعين مما يدلك على بلاغة القرآن ، وهذا لا يحتاج إلى دليل قال ( تدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى*وَجَمَعَ فَأَوْعَى ) .
ثم قال - جل وعلا - ( إِنَّ الإِنسَانَ ) هل المراد به جنس الإنسان ؟
قال به بعض العلماء ، وآخرون قالوا إن المراد به الكافر ، لكن الأول أولى .
( إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا ) جاء رجل اسمه عبد الله بن طاهر إلى ثعلب - الإمام اللغوي المعروف وثعلب لقب له - قال له : يا ثعلب ما الهلوع ؟
فوُفق ثعلب عندما أجاب ، قال " لا أبين من كلام الله " لا أحد يُفسرها أعظم من تفسير الله ، الله قال ( إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا*إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا*وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا ) فجعل ما بعدها تفسيرا لها ، وهذا من تفسير القرآن بالقرآن . ونظيره : الله يقول ( وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ ) الجواب ( نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ )
ما الهلوع ؟
( إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا*إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا*وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا ) ما أن تنزل به المصيبة ، الكارثة ، الأمر المُدلهِم إلا وتراه جزِع بلسانه وبدنه وحاله ، يتضجر . وما أن يُصيبه خير إلا وتراه يمنع حق الله وما كتبه الله من حق للعباد فلا هو بالذي يُزكي ويتصدق ، ولا هو بالذي يُعطي أقاربه ، ولا هو بالذي يفيء على من يعولهم ويقوتهم ، فيمنع غيره حال الرخاء ، ويجزع حال الضراء . هذا من ذمّه الله - جل وعلا - في كتابه .
( إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا*إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا*وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا ) وكأن هذا أصل في بني آدم ، قد قال بعض العلماء في اللطائف هنا قولا مرضيا ، قال :
" إن الله - جل وعلا - فطر بني آدم على أشياء يُحبونها ويرضونها ، وفطرهم على أشياء يكرهونها ثم تعبدهم - جل وعلا - بأن يصبروا على ما يكرهون ، وينفقوا مما يُحبون " وهذا ابتلاء عظيم للعبد ولهذا قال الله كما في آية سورة آل عمران ( لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ ) فما أن يبدأ الإنسان ينفق مما يُحب تبدأ نفسه تلومه ثم يبدأ أبناؤه ثم ربما والداه ثم ربما زوجته ثم ربما أقرانه ، لكن من أراد الله لم يلتفت إلى هؤلاء .
لكن مع ذلك ، بما قاله الله في كتابه ( وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا ) لكن المهم ، المبتغى أن يُراد بالإنفاق وجه الله - تبارك وتعالى - ولا يتكلم عن جزئية واحدة لأن القرآن هنا تكلم عن أمرين وهي قضية الصبر على ما يكره لا بد من صبر الإنسان على ما يكره ، وإنفاقه مما يُحب .

ذكر ربنا بعد ذلك صفات ، المقام ليس مقام استطراد ( إِلاَّ الْمُصَلِّينَ ) فذكر المحافظة على الصلاة بشيئين : أداؤها في الوقت ، والخشوع والخضوع والقنوت فيها لرب العالمين .
ذكر الفروج فأمر بحفظها ، وذكر العهود فأمر بحفظها ، وذكر الأمانات فأمر بتأديتها ، وذكر الشهادات فأمر بالقيام بها .
كل ذلك يُبين لك الصفة المُثلى لعباد الله الصالحين ، إن تلبسوا بها ، ما مضى من ذم خلق بني آدم له ينتفي وهو الهلع الذي بيّنه الله بقوله ( إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا*وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا ) .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق