ذكر الله - جل وعلا - في صدر هذه الآيات رده على من ظن غير ذلك من كفار قريش ، ثم تحدث - جل وعلا - في هذه الآيات الكريمات عن " لظى " التي هي النار ولا تخلو كلمة " لظى " هنا عن أحد أمرين :
إما أن تكون وصفا لجهنم ، وإما أن تكون علما عليها .
فإن قلنا إنها علم على جهنم أضحت بذلك ما بعدها يكون حالا
فإن قلنا إنها علم على جهنم أضحت بذلك ما بعدها يكون حالا
وإن قلنا إنها وصف لجهنم أبقيناها على أنها نكرة فيكون ما بعدها صفة .
الكلمة التي جاءت بعدها كلمة " نزاعة " وقُرأت بالوجهين : بالنصب والضم ، إلا أن بعض علماء العربية خالف في قراءتها بالنصب ، والحجة عنده أنه إن قرأناها بالنصب وهو المقرؤ به الآن ( كَلاَّ إِنَّهَا لَظَى*نَزَّاعَةً لِّلشَّوَى ) فإن ذلك لا يمكن أن يقع لأن اللظى عنده - وهو المُبرد - يقول إن لظى لا تكون إلا نزاعة ، وهذا يُخالف تعريفنا للحال ، لأنه يرى أن الحال لا تكون إلا في الشيء المُخير ، تكون في الشيء الذي يُمكن أن يقع ، و يُمكن أن لا يقع ، أما " لظى " فإنها قطعا لا تقع إلا نزاعة . لهذا منع المُبرِد وهو أحد أساطين العربية أن تكون نزاعة تٌقرأ بالنصب .
لكن قوله هذا يُمكن أن يُجاب عنه بما في القرآن ، فإن الله - جل وعلا - قال في سورة البقرة ( وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا ) فجاء بـ " مُصدقا " منصوبة فهي حال مع أن الحق هنا معرفة قطعا ، مُعرفة بالألف واللام وجاء مرفوعا فهي قطعا ليست صفة لأنها نكرة ، مع أنه - وهذا كُنه الرد عليه وتحقيق المناط في الرد عليه - أن الحق لا يكون إلا مُصدقا .
كذلك استُدل في الرد عليه بقول الله - جل وعلا - ( وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا ) فصراط الله لا يكون إلا مستقيما .
إذا الخياران اللذان طرحهما المُبرد منتفيان هنا ، مع الاتفاق على أن " مستقيما " و " مصدقا " كلاهما يُنصب حالا . لكن نتريث في الرد على رجل في قامة المُبرد ونقول : لعله قصد بعض أنواع الحال ، لأن الحال تقع مُبينة ، تقع مُؤسسة ، تقع مؤكِدة .
بعد هذه السياحة النحْوية التي لابد منها نعود لقول الله - جل وعلا - ( كَلاَّ إِنَّهَا لَظَى*نَزَّاعَةً لِّلشَّوَى)
اختلفوا في ما المراد بالشوى ، فنُقل عن الحسن البصري - رحمه الله - أنه كان يقول " مكارم الوجه " وهذا أبلغ في الأثر ، أبلغ في العِظة ، وقيل : هو اللحم الذي دون العظم ، والعلم عند الله .
( تدعو ) التي تدعو هي النار - قطعا - لكن هل هذا الدعاء باللسان ؟ هذا ظاهر القرآن ، يكون لها لسان فصيح تُنادي الكفرة ( تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى ) ويؤيد هذا بعض الأحاديث ، ويؤيده قول الله - جل وعلا - ( إِذَا رَأَتْهُم مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا ) والقاعدة إمرار القرآن على ظاهره.
بعض أهل العلم يقول : إن الذي يُنادي هم الخزنة وليست النار ، لكن الدعوة هنا ، النداء أُضيف إلى الخزنة من باب التوسع في اللغة ، فاللغة تقبل هذا ، لكن كما قلنا نبدأ أولا بصرف القرآن إلى ظاهره حتى يمنعنا مانع أن نصرفه إلى ظاهره فنفيء إلى مثل هذا ولا حاجة إلى هذا .
وبعض العلماء قال : إنما هي تدعو بلسان الحال لا بلسان المقال ، وأغرب الخليل بن أحمد - على علو مكانته - فقال إن تدعو هنا ليست بمعنى تُنادي وإنما المراد تهْلِك ، وقال إن للعرب في هذا وجه. والخليل حُجة في هذا أنه يكون قد نقل وجها لكلام العرب في هذا ، لكن هذا الوجه قد يكون ضعيفا ، فكونه قد قاله العرب في لفظ أو لفظين ، أو بيت أو بيتين ، لا يُمكن أن يُحمل عليه ظاهر القرآن والله يقول ( قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ ) .
( تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى ) وهذه صفة لأهل الكفر .
/ ثم قال - جل وعلا - ( وَجَمَعَ فَأَوْعَى ) : هناك وصفان : جمع ، فأوعى ، قالوا إن " جمع " هنا كناية عن الحِرص ، و" أوعى " كناية وإشارة عن طول الأمل . وهذا من أعظم آفات الدين أن يجتمع في الإنسان حِرص وطول أمل .
جاء القرآن مُعبرا عنه بلفظين متتابعين مما يدلك على بلاغة القرآن ، وهذا لا يحتاج إلى دليل قال ( تدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى*وَجَمَعَ فَأَوْعَى ) .
ثم قال - جل وعلا - ( إِنَّ الإِنسَانَ ) هل المراد به جنس الإنسان ؟
قال به بعض العلماء ، وآخرون قالوا إن المراد به الكافر ، لكن الأول أولى .
( إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا ) جاء رجل اسمه عبد الله بن طاهر إلى ثعلب - الإمام اللغوي المعروف وثعلب لقب له - قال له : يا ثعلب ما الهلوع ؟
فوُفق ثعلب عندما أجاب ، قال " لا أبين من كلام الله " لا أحد يُفسرها أعظم من تفسير الله ، الله قال ( إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا*إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا*وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا ) فجعل ما بعدها تفسيرا لها ، وهذا من تفسير القرآن بالقرآن . ونظيره : الله يقول ( وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ ) الجواب ( نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ )
ما الهلوع ؟
( إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا*إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا*وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا ) ما أن تنزل به المصيبة ، الكارثة ، الأمر المُدلهِم إلا وتراه جزِع بلسانه وبدنه وحاله ، يتضجر . وما أن يُصيبه خير إلا وتراه يمنع حق الله وما كتبه الله من حق للعباد فلا هو بالذي يُزكي ويتصدق ، ولا هو بالذي يُعطي أقاربه ، ولا هو بالذي يفيء على من يعولهم ويقوتهم ، فيمنع غيره حال الرخاء ، ويجزع حال الضراء . هذا من ذمّه الله - جل وعلا - في كتابه .
( إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا*إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا*وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا ) وكأن هذا أصل في بني آدم ، قد قال بعض العلماء في اللطائف هنا قولا مرضيا ، قال :
" إن الله - جل وعلا - فطر بني آدم على أشياء يُحبونها ويرضونها ، وفطرهم على أشياء يكرهونها ثم تعبدهم - جل وعلا - بأن يصبروا على ما يكرهون ، وينفقوا مما يُحبون " وهذا ابتلاء عظيم للعبد ولهذا قال الله كما في آية سورة آل عمران ( لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ ) فما أن يبدأ الإنسان ينفق مما يُحب تبدأ نفسه تلومه ثم يبدأ أبناؤه ثم ربما والداه ثم ربما زوجته ثم ربما أقرانه ، لكن من أراد الله لم يلتفت إلى هؤلاء .
لكن مع ذلك ، بما قاله الله في كتابه ( وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا ) لكن المهم ، المبتغى أن يُراد بالإنفاق وجه الله - تبارك وتعالى - ولا يتكلم عن جزئية واحدة لأن القرآن هنا تكلم عن أمرين وهي قضية الصبر على ما يكره لا بد من صبر الإنسان على ما يكره ، وإنفاقه مما يُحب .
ذكر ربنا بعد ذلك صفات ، المقام ليس مقام استطراد ( إِلاَّ الْمُصَلِّينَ ) فذكر المحافظة على الصلاة بشيئين : أداؤها في الوقت ، والخشوع والخضوع والقنوت فيها لرب العالمين .
ذكر الفروج فأمر بحفظها ، وذكر العهود فأمر بحفظها ، وذكر الأمانات فأمر بتأديتها ، وذكر الشهادات فأمر بالقيام بها .
كل ذلك يُبين لك الصفة المُثلى لعباد الله الصالحين ، إن تلبسوا بها ، ما مضى من ذم خلق بني آدم له ينتفي وهو الهلع الذي بيّنه الله بقوله ( إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا*وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا ) .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق