الخميس، 26 يونيو 2014

الحلقــ العشرون ـــة/ متاع الحياة الدنيا -٢-



الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يُحب ربُنا ويرضى وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك لهُ وأشهد أنَّ نبيَّنا محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وعلى سائر من اقتفى أثره واتَّبع هديه بإحسانٍ إلى يوم الدين أمَّا بعد:
 نستأنِف ما كُنَّا قد بدأناه في الدرس السابِق من حديثِنا عن متاع الحياة الدُنيا وكُنَّا قد تكلمنا عن لفظ كلمة متاع بأحواله كُلِّها سواءً كان مصدراً أو فِعلاً مُتصرفا ماضياً أو مُضارِعاً أو أمراً. وعرَّجنا عن الحديث على قول الله جلَّ وعلا ﴿وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِين﴾ وقول ربِّنا تبارك اسمه ﴿فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ﴾ وقول ربِّنا تبارك اسمه 
﴿وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ﴾. ونستأنِف بعض الآيات التي فيها ذِكرُ لفظ المتاع.
 إذا جاء لفظ المتاع على صيغة فعل أمر فغالِب أحواله أنَّهُ يُراد به التهديد يُراد به التهديد قال ربُّنا جلَّ وعلا في سورة هود ﴿فَعَقَرُوها فَقالَ تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ﴾ قال ( تَمَتَّعُوا) هذا تهديد.
 وفي المُرسلات (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ*كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ) وكذلك في الزُمر كما سيأتي نبدأ الآن بالتفصيل.
 قال ربُّ العِزَّة ﴿فَعَقَرُوها ولا حاجة للتفصيل هُنا لأنَّ القِصَّة معروفة.
 ﴿فَعَقَرُوها أي الناقة فلمَّا عقروا الناقة استحقوا العذاب أو أن يحين العذاب بهم قال ربُّ العِزة ﴿فَعَقَرُوها فَقالَ من القائل؟ نبيُّهم صالح ﴿فَقالَ تَمَتَّعُوا﴾ هنا جاء على هيئة فعل أمر قلنا يُراد به التهديد ﴿فَقالَ تَمَتَّعُوا  انتفِعوا انتِفاعاً مؤقتاً لكِن هذا الانتِفاع المؤقت الذي ذكره نبي الله صالح لقومِه هو عيَّنهُ حدّده بوحي الله له ﴿فَقالَ تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ  الدار هُنا بمعنى البلدة قال ﴿تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ القُرآن العظيم لمَّا يتكلم عن وعد الله سواءً المُباشر أو على ألسنة الرُسل يصِفه بأنَّه حق، يصِفه بأنَّه صِدق، يصِفه بأنَّه غيرُ مكذوب، الكذِب هو الإختِلاق الذي يأتي به المرء من عندِه وليس لهُ حقيقة فنبيُّهم يقول لهم ﴿ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ﴾ أي أنَّ هذا الوعد إلهيٌّ ربَّانيٌ ليس شيئاً أنا اختلقتُه من عندي ولهذا قال في الأول  ﴿تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ﴾ الوعد الغير مكذوب أنَّه ليس لكم أن تتمتعوا في الدار زيادةً على ثلاثة أيام ثم أهلكهُم الله عز وجل كما هو معروف ﴿فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا﴾ والمُراد لفظ كلمة تمتعوا هُنا جاءت على مجرى التهديد والوعيد على لسان نبي الله صالح عليه السلام كذلك وردت لفظ التمتع في قول الله عز وجل في سورة القصص ﴿فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ﴾ هُنا ليست قضيَّة تهديد ووعيد إنما قضية أنَّ الإنسان يُقارن ما بين متاع الدُنيا ومتاع الآخرة وقد جاء في القُرآن كثيراً أنَّ متاع الدُنيا ليس بشيءٍ أمام متاع الآخرة ﴿فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ﴾ بل إنَّ الدُنيا كُلها بالنسبة إلى الآخرة متاع زائل لكِنَّ الإنسان من حقه وهو يعيش في الدُنيا يبعُد عن معصية الله ويتمتع بها المتاع الذي شرعه الله ولذلك من دُعاء الصالحين بعضُهم لبعض يقول أحدُهم للآخر متَّعك الله متاع الصالحين لأن قُلنا إنَّ المتاع حاصِلٌ لامحالة ﴿وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِين﴾ لكِنَّ الله إذا أراد بعبدٍ خيراً متَّعه متاع الصالحين حتى يكون هُناك متاع الصالحين لابُد من الاستِعانة بالله ولن تجد أحداً يستطيع أن يوصيك كيف تستعينُ بالله أفضل ولا أعظم من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال -عليه الصلاة والسلام- في الصحيحين قال (تعوَّذوا بالله من أربع تعوذوا بالله من جهد البلاء ودَرْكِ الشقاء وسوء القضاء وشماتت الأعداء) سنُعرِّج إجمالاً عليها:
جهد البلاء هو -عياذاْ بالله- مالا يُطيقه الإنسان حتى أن يصل به الحال إلى أن يتمنى الموت معه هذا أعظم جهد البلاء. قيل لأعرابيٍّ ما أشدُ من الموت ؟ قال الحالةُ التي يُتمنى بها الموت.
وقال بعضُ العلماء في تعريف جهدِ البلاء وهو تعريف حقيقي لكنه دون العموم المطلوب قال قِلَّةُ المال وكثرةُ العيال جهدُ البلاء قِلَّةُ المال وكثرةُ العيال. إذاً أنت بفطرتك لمَّا تسمع هذا تُعين من كان قليل المال كثير العيال تكسبُ فيه أجراً فالنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول (تعوذوا بالله من جهدِ البلاء ودرك الشقاء) الشقاء ضد السعادة ولا يكون إدراك الشقاء -والعياذ بالله- إلا بالعمل السيء والمعنى: أنَّ الإنسان يستعيذُ بالله من أن يُهدى، يُساق إلى عملٍ سيء، سوء القضاء هُنا بالمقضي ليس بنسبته إلى الله فالله لا يقضي إلا خيراً وفي الحديث (الخير كله بين يديك والشر ليس إليك) لكِنَّ العُلماء يقولون من معانيه: أنَّ الإنسان -عياذاً بالله- قد يكون قضاؤه، فعله، حُكمه، تصرُّفه إذا كان مسؤولاً تصرُّفاً سيِئاً.
 والأخيرة قال (ومن شماتت الأعداء) يقول العُلماء: هذه التي تنكأ في القلب وتبلُغ في النفس أعظم مبلغ ولهذا قال هارون -عليه السلام- لأخيه موسى (فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ) تجِد نفسك الآن -جِبلَّة- تبحث تقول طيب من هُو العدو ؟! النبي صلى الله عليه وسلم (ولا تُشمِّت بي الأعداء) العدو يقول الفُقهاء من حيث الجُملة من سرَّتهُ إساءتُك ويغْتَمّْ إذا فرِحْت هذا هو العدو أُعيد من سرَّتهُ إساءتُك عندما يلحقك كرب تلحقُك إساءة يلحقُك ضير يُسَرّ وإذا لحِقك فرح ومسرَّه اغتَمَّ لها. هذا المقصود بأن تتعوذ بالله من شماتته وشماتت الأعداء هذا تبعُ لقول الله تعالى ﴿فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ﴾ .
نأتي إلى آية ثانية قال ربُّنا في الزُمر ﴿وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ ۚ  ۖ إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ
 جاءت تمتع هُنا على صيغة الأمر وقُلنا إذا جاء الفعل تمتع على صيغة الأمر للإفراد أو الجمع يُراد به التهديد.
 قال ربُّ العزة ﴿وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ مفعول به مُقدم والفاعل مؤخر لكن قال العُلماء  في كلمة الإنسان هُنا ثلاثة أقوال:
قولٌ بعيدٌ جداً وهو أنَّ المراد بها شخصٌ بعينه قالوا عُتبة بن ربيعة أو أبو جهل لكن هذا بعيد.
وقال آخرون إن الإنسان هُنا جِنس الإنسان وهذا عليه الجمهور وهو الأظهر.
وقال آخرون إنَّ كلمة الإنسان هُنا المُشرك وهذا قويٌ جداً مثل الثاني. واضح ؟!
 وظاهر الآية يؤيد أنه المشرك لكن أقول لا يمنع أن تنطبق على غير المُشرك من العُصاة الموحدين قال ربُّنا ﴿وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ أصابه بلاء ﴿ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ فهو إن كان مُشركاً تخلى عن الأنداد الذين كان يُشركُهم مع الله، وإن كان عاصِياً تخلى عن كُل أحدٍ إلا الله قال ربُّنا ﴿وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ  ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ  نِعْمَةً مِنْهُ أي المعنى أعطاه الله عز وجل نعمةً كشفت بها ضُرَّه والتخويل في اللغة: العطية التي لا يُرجى من ورائها عِوض .
 فإذا كان الضُر في المال يُغنيه
 وإذا كان الضُر في البدن يشفيه
 وإذا كان الضُر في الأسر يُطلِقه
وقِس عليها غيرها واضح ؟!
 ﴿وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ  ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ  نِعْمَةً مِنْهُ جلَّ ذِكره ﴿نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ﴾ 
يقول العُلماء: نسي أحد أُمور ثلاثة: إمَّا نسي الدُعاء الذي كان يدعو به، وإمَّا نسي العلة التي كان يشكو منها، وأعظمُها -عياذاً بالله- أن ينسى الله الذي كان يدعوه وهذه من أعظم درجات الكُفر.
﴿نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ﴾ 
فإن قُلنا إنَّ الحديث عن الإنسان المُشرك فيُصبح معنى ﴿وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا﴾  أي أوثاناً -أصناماً- عاد كما كان.
وإن قُلنا إنَّ هذا مؤمن فالمؤمن لا يعبُد أوثان لا يُسمى مؤمن فالأنداد هُنا من يُبتلى ببلاء ثم يستغيث برب العزَّة وربِّ الأرض والسماء فإذا سخّر الله له ملِكاً أو أميراً أو وجيهاً أو ثريَّاً أو ذا سُلطانٍ أو نفوذٍ فنجَّاه الله من بلاء مشى في الناس يُحدِثهم عن هذا الوجيه الذي نجا بسببه وينسى الله فينسِب ذلك المعروف إلى الخلق وينسى الخالق.
 ﴿ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ ﴿ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ﴾ على الكافر يأتي بكلامه عن الأصنام يدعوهم إلى عِبادتها.
 لكِن كيف يستقِيم ﴿ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ لمن يتكلم عن البشر؟ بكثرة كلامه، بكثرة أقواله، كأنَّه يوحي للناس بأنَّ للخلق تأثيراً على ما يحدُث في الأرض، عندما يُكثر الإنسان من الثناء على أحد فوق ما يستحق كأنَّه يقول للناس إنَّ زيداً أو عمراً هذا لهُ أثرٌ في الأرض. ومعلومٌ أنَّ كُل شيء إنَّما يُدبر في الملكوت الأعلى ﴿ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ .
جئنا للفظة التي نريدها ﴿قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إن كان مُشركاً فهو كفر أكبر وإن كان غير مشركٍ فهو كفر نِعمة ﴿قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا مهما طال أمدُه، مهما طال عُمره، مهما امتدَّت حياتُه يبقى هذا قليل ﴿قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا﴾ ثم قال الله -عياذاً بالله- ﴿إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ فإن كان مات على الشرك فالخلود خلود أبديِّ، وإن كان لم يمُت على الشرك فإنَّه يبقى في النار -إن أدخلهُ الله إياها إن لم يكُن لهُ مُكفرات .... حتى يأذن الله عز وجل بخروجِه منها لأنَّهُ مُحال أن يخلُد أهل التوحيد في النار.
إذاً أعظم ما يتمسك الإنسان به توحيد الله تبارك اسمه وجلَّ ثناؤه وأن يعيش الإنسان على توحيد الله وأن يموت عليه تلك مِنَّةٌ وعطيَّةٌ لا تعدِلها مِنَّةٌ ولا عطيَّه وينبغي أن نقضي أعمارنا في أن نسأل الله عزَّ وجل ذلك من وجه، وأنّْ نعمل لتحقيق هذه الغاية العظيمة أن يموت الإنسان على توحيد الله تبارك اسمهُ وإجلالُه وحتى يتأتى هذا -أيُها المُباركون-: كُلما تأمَّلت الكِتاب العزيز ورأيت فيه مافي القُرآن من ذكر عظمة الله يستقِرّ في قلبك أنَّ الله لا ربَّ غيره ولا إله سواه هذا الأمر مهما كان الإنسان يُكرره، يقوله، يتدارسُه، تبقى الحاجةُ مُلحة له لأنَّه من أعظم الحوائج التي ينبغي أن تستقر في قلوب الناس، والشيطان لا يُريد أن ينزِع من أحدٍ شيئاً أعظم من أن ينزِع منهم توحيدهُم لربِّهم تبارك وتعالى.
 ثمَّة طرائِق -فيما يبدو لنا بالإستِقراء بالمُدارسة تُعين على هذا الشأن- الوصول إليه الحصول عليه من ذلك: أن ترى من يغلب على ظنِّك أنَّه يُعظِّم الله، يُوحده، فتسعى في أن تُعينه على توحيد الله فإنَّ هذا مما -بالإستِقراء- يجعل أثر ذلك على قلبك أنت إن كُنت صادِقاً أنك ما أجللته وما أعطيته ومارفعت قدره وما أكرمته إلا لما تعلم مافي قلبه من توحيد الله عزَّ وجلَّ وإجلاله فإنَّ هذا يُورث في قلبك تعظيماً لربِّك فتُرزق به التوحيد عند الممات. وقد كان أحدُ السلف رحمَه الله مرِض وكان عند رِجليه وهو في مرض موته بعضُ العُلماء المُحدِثين الذين يحفظون الأحاديث بالسَّند والرجُل لهُ مقام في العِلم فأراد محبَّةً لهُ أن يُذكِره الشهادة فاستحيى أن يقول لهُ قُل لا إله إلا الله لمنزِلته في العلم كأنَّهُ لا يعرِفها فاتفقا على أن يُراجِعا الحديث الذي فيه قول النبي صلى الله عليه وسلم من كان آخر كلامه من الدُنيا كذا وكذا فلمَّا بدأ يُراجِعا الحديث هُما البريئان الطيبان اللذان عند قدميه عند فراشه نسيا السند اختلط ارتجَّ عليهِما الإثنان -هذا وهو مريض- قال روى فُلان ساق السند صحيحاً وهو مريض عن فُلان عن فُلان عن فُلان عن أبي هُريرة قال صلى الله عليه وسلم (من كان آخر كلامه من الدُنيا لا إله إلا الله...) ثُم مات ما أكملها قالوا والله مات على الهاء في لفظ الجلالة من كان آخر كلامه من الدُنيا لا إله إلا الله والله إنَّ الإنسان يشتري كُل شيء بماء عينيه ووالله بأُمه وأبيه المُهم أن يموت وآخر عهده من الدُنيا لا إله إلا الله هذا والله أعلم وصلى الله على مُحمد وآله والحمد لله ربِّ العالمين .
اقرأ المزيد...

الأربعاء، 25 يونيو 2014

الحلقـ التاسعة عشرـــة/ متاع الحياة الدنيا -١-



الحمد لله وإن كان يقِل مع حق جلاله حمد الحامدين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين وبعد:
أيها المباركون هذا اللقاء في هذا الدرس المبارك في هذا المسجد المبارك. وعنوان لقاء اليوم (متاع الحياة الدنيا) مضاف ومضاف إليه والدنيا صفة للحياة. والمتاع ورد في القرآن كثيرا مُتصرفا، ذُكر بصيغ اﻷفعال كلها الماضي واﻷمر والمضارع والمصدر أي أن القرآن ثري بلفظ الفعل (متع) وما يتصرف منه.
 وسنُعرِّج -إن شاء الله تعالى- في لقاءين متتابعين تحت هذا العنوان المبارك، ونحاول قدر الإمكان ما استطعنا إلى ذلك سبيلا أن نأخذ وفق ترتيب المصحف. إﻻ أننا نقول في التأصيل العلمي أولا: من حيث الجملة المتاع: اﻻنتفاع المؤقت. وﻻ يُذم المتاع إذا جردناه وﻻ يمدح بدليل أن الله -عز وجل- وصف به أهل الكفر وأهل اﻹيمان فقال -جل وعلا- عن قوم يونس وقد زكاهم ربهم ﴿إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَىٰ حِينٍ﴾ وقال عن أهل الكفر ﴿يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ﴾ فعلى هذا في نفسه، بتجرده ﻻ يتعلق به مدح وﻻ ذم، والنبي -عليه الصلاة والسلام- قال (الدنيا متاع وخير متاعها المرأة الصالحة) والمعنى: أن اﻹنسان عقلا المفترض أﻻّ يجد مكانا يطمئن فيه أفضل له من بيته لكن إذا كان اﻹنسان ﻻ يطمئن في بيته فأين سيطمئن؟! لا يعقل أن الناس يفتحون لك أبوابهم، فاﻹنسان مهما غدا وراح في معاشه حتى في عبادته يتقلب في المساجد ويأتيها فمُنقلبه مادام حيا آخر الليل، آخر النهار إلى بيته فإن كان في البيت امرأة صالحة فإن اﻹنسان كل همّ وغمّ ينتابه خارج البيت إنما يذهب عنه أثره إذا عاد إلى بيته لكن إذا كان -عياذا بالله وعافانا الله وإياكم- بيته بالنسبة له غمّ ما أضحت هذه المرأة متاعا حقا. وهذا يجعل حال اﻷزواج -الزوجات- حالهم وشأنهم واﻷمانة المُلقاة عليهم كبيرة جداً يجب أن يفقهوها.
 نعود فنقول المتاع هو اﻻنتفاع المؤقت. والعرب تُسمي ماﻻ يعبأ به وﻻ يتنازع الناس من أجله وﻻ يلتفت أحد إليه تسميه سقط المتاع، وسقط المتاع ﻻ يوجد أحد يلتفت إليه وﻻ تجد إثنان يتنازعان حوله. وقد شاع هذا في أشعار وأدبيات الخوارج. والخوارج سبحان من أضل عقولهم وأنطق ألسنتهم، آتاهم الله قلوبا شجاعة وألسنة فصيحة لكن الله بقدره أضل عقولهم. فقطري بن الفجاءة هو من ساداتهم في الزمن اﻷول يقول:
 أَقولُ لَها وَقَد طارَت شَعاعاً ** مِنَ الأَبطالِ وَيحَكَ لَن تُراعي
 فَإِنَّكِ لَو سَأَلتِ بَقاءَ يَومٍ ** عَلى الأَجَلِ الَّذي لَكِ لَم تُطاعي
 فَصَبراً في مَجالِ المَوتِ صَبراً ** فَما نَيلُ الخُلودِ بِمُستَطاعِ
 وَمَن لا يُعتَبَط يَسأَم وَيَهرَم ** وَتُسلِمهُ المَنونُ إِلى اِنقِطاعِ
 وَما لِلمَرءِ خَيرٌ في حَياةٍ ** إِذا ما عُدَّ مِن سَقَطِ المَتاعِ
هو اﻵن يريد أن يخاطب نفسه -روحه- حتى تصمُد في أرض القتال يقول: هب أنكِ لم تأتِ المعركة خوفا من الموت فبقيتي."لم يعتبط" العبيط: الدم إذا سال. "ومن لم يعتبط" يعني فرضنا أنه لم يسِل دمك ولم تموتي ماذا سيحصل؟ ستُعمرين، فإذا عُمرتي مات أقرانك بقيتي لوحدك فلا يعرفك أحد ولا يلتفت إليك أحد وﻻ يحضر مجلسك أحد.
 وَمَن لا يُعتَبَط يَسأَم وَيَهرَم ** وَتُسلِمهُ المَنونُ إِلى اِنقِطاعِ
 يعني يبقى وحيدا، مات أقرانه. ثم قال إذا بقيت على هذه الحالة في ركن البيت ﻻ يلتفت إليك أحد أصبحت سقط متاع فأي حياة هذه التي تريدها؟! فاﻷولى -هذه نظرته هو- أن تُبادر للقتال قال:
 وَمَن لا يُعتَبَط يَسأَم وَيَهرَم ** وَتُسلِمهُ المَنونُ إِلى اِنقِطاعِ
 وَما لِلمَرءِ خَيرٌ في حَياةٍ ** إِذا ما عُدَّ مِن سَقَطِ المَتاعِ
 لكن اﻹقدام ﻻبد أن يكون مصحوبا برأي وبصيرة وعقيدة سوية تفقه على أي شيء قادمة وإﻻ أبو جهل وهو حصب جهنم لما ارتقى عبدالله بن مسعود على صدره قال: "لقد ارتقيت مرتقى صعبا يا رويع الغنم" فهذا يدل على جبروته وإقدامه لكن إلى أين -عياذا بالله- يسوق نفسه إلى النار. فالمراد ذكر كلمة المتاع كتأصيل علمي لغوي قبل الشروع في اﻵيات التي ورد فيها لفظ المتاع وقلت سنأتي  على درسين متتابعين -إن شاء الله تعالى- في ذكر المتاع.
ستلحظ أن كلمة المتاع تأتي على أحوال عدة فليست كلها في مسلك أدبي أو إيماني تأتي فقهيا، تأتي أدبيا، تأتي تاريخياً،كما سيأتي. قال رب العزة والجلال -جل شأنه- في ذكر أبينا آدم عليه السلام ونزوله من الجنة وأنه أخرج إلى اﻷرض ﴿ وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِين ﴾ انتفاع مؤقت إلى حين كلمة (إلى حين) هنا المقرونة بكلمة متاع تأتي على ضربين يعني تحتمل معنيين متلازمين، يعني لبس بينهما تضاد:
 المعنى اﻷول: عندما نتكلم عن الناس جميعاً، عن الخلق كلهم فكلمة (إلى حين) ماذا تعني؟ تعني أن الحين هو قيام الساعة.
وإن تكلمنا عن كلمة (إلى حين) عن كل فرد بعينه فكلمة (إلى حين) إلى موته. فقال رب العزة ﴿اهْبِطُواْ﴾ من السماء إلى اﻷرض
﴿بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ﴾ فيه أشياء متفق عليها العداوة مابين بني آدم والشيطان قد يُدرِج بعض العلماء في كلمة (بعض) هنا قد يدرج الحية معهم ويستأنس بالحديث أن النبي -عليه الصلاة والسلام- لما ذكر الحيايا قال (ما سالمنهن منذ أن حاربناهن) وقد كانت العرب في ثقافتها، في أساطيرها تضرب أمثاﻻ كثيرة على الحية ﻷن الحية فيها شيء متأصل من العداوة يقولون في أمثالهم: أظلم من حية. ويضربون لهذا مثلا وإن كان في هذا المثل نصر للحية من وجه آخر لكن ذكره -أظنه- النابغة الذبياني في قصيدة طويلة شهيرة، ﻻ حاجة لكم بالقصيدة لكن أعطيكم الفكرة اﻵن. يقولون: إن العرب تستنطق الحيوانات تأتي بأمثلة عليها حتى تتأدب في حياتها، في طرائقها. يقولون: أن هناك وادٍ تحرسه حية يعني أصبح هذا الوادي كأنه في حمى الحية وهناك أخوان قال أحدهما للآخر -فيما ترويه العرب- نريد أن نرعى، فاتفقا على أن يرعيا فيه فجاءت الحية فنهشت أحدهما فمات، فلما مات أراد اﻵخر أن ينتقم ﻷخيه، فلما أراد أن ينتقم ﻷخيه وأخذ سلاحه ودخل الوادي، وقطعا هو يشعر بالظلم، يشعر بباعث -داع- للانتقام ﻻ يستطيع أن يجبُن، والحية تفقه هذا فأرادت أن تراضيه فقالت له: أعطيك كل يوم دينارا وتتركني، تتنازل عن ثأر أخيك. الرواية -اﻷسطورة- تقول قبِل الرجل، لما قبِل الرجل أصبحت الحية تعطيه كل يوم دينارا وبالنسبة لها كُفّ شره. مضت على هذا أزمنة، الرجل يأخذ كل يوم دينارا أصبح ذا مال، لما أصبح ذا مال قال ما أريده أنا من المال وجدته سأعود إلى قتل الحية فأصبح ظفرت باﻷمرين، ظفرت بالمال وقتلت الحية، انتقمت ﻷخي -أخذت بثأري- فأخذ فأسه وحدّ غُرابها -العرب تسمي رأس الفأس غُراب- فحدّ غُرابه وذهب يبحث عن الحية فلما ضربها ضربها لكنه لم يقتلها، أصابتها على رأسها وقيل على رأس جحرها دون أن تموت.
اﻵن انقلب اﻷمر أصبحت الحية تبحث عن ثأرها فقال لها نعود كما كنا. قال النابغة وهو يسطر هذا، وهذا الفرق مابين النظم ومابين الشعر. اﻵن كلنا مافيه طالب علم ﻻ يحفظ نظما مثلا: ابن مالك يقول:
 والخبر متم الفائدة ** كالله بر واﻷيادي شاهدة
 وبعد لوﻻ واجب حذف الخبر**كما تقول لوﻻ زيد في هجر.
 هذه منظومة لكن ليس فيها روح الشعر إنما هي تأتي للقواعد المتفرقة تجمعها فنحن نحفظها، يحفظها طلبة العلم من باب أنها تحفظ العلم لكن ليس فيها ماء الشعر لكن النابغة يأتي بالمثل يقول:
 فلما وقاها الله ضربة فأسه ** وللبر عين ﻻ تغمض ساهرها.
اﻵن هو ذكر القصة في أحد اﻷبيات يقول:
 فلما وقاها الله ضربة فأسه ** وللبِرِّ عين ﻻ تغمض ساهره
 ﻷن من الذي غدر باﻵخر؟ هو غدر بها وهي كانت بارة به، فهو يريد أن يقول لك إن المكر السيء ﻻ يحيق إلا بأهله وهذا الذي جاء به القرآن، مكر السيء ﴿وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِه﴾  فقال النابغة أبيات طويلة لعلكم تراجعونها في مصادرها لكن قال: "وللبر عين ﻻ تغمض ساهره" آخر المطاف تقول له الحية مُحال أن نتفق لماذا؟ تقول له: أنا أرى أثر الضربة فلا آمنك وأنت ترى قبر أخيك فلا يمكن أن تعطف علي، ما دمت أنت ترى القبر سيُحيي فيك الثأر وأنا مادمت أرى أثر الضربة لن أطمئن إليك فلن نتفق أبدا.واضح؟ ظاهر؟.
 أنا ﻻ أدري لماذا قلت هذا ولكني كنت أتكلم ﴿ وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ﴾ قلنا إنه قيل إن الحية هبطت معهم. الله يقول -إبليس والحية وآدم- ﴿وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِين﴾ انتفاع مؤقت في الدنيا التي سخرها الله -عز وجل- لنا ﴿إِلَى حِين﴾ إلى أن تقوم الساعة كما بينا قبل قليل تأصيلا. فإذا كلمة (متاع) هي الانتفاع المؤقت. هذه آية.
 تلحظ أن اﻵية هنا ﻻ تحمل شيئاً فقهيا. يقول رب العزة في آية أخرى في السورة نفسها -سورة البقرة- يقول ﴿ وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّه..﴾ إلى أن قال ﴿ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ﴾
معنى اﻵية: اﻵن جاء لفظ التمتُع لكنه جاء مصدرا في اﻵية اﻷولى ﴿وَمَتَاعٌ إِلَى حِين﴾ هنا جاء على صيغة فعل ماض ﴿فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ ﴾ التمتع هو أحد أنواع الأنساك الثلاثة في الحج وهي: اﻹفراد والقران والتمتع. فرب العزة يقول هنا ﴿فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ ﴾ يخرج اﻹنسان من دويرة أهله -بيته- مكان سكنِه يخرج بعمرة -يعتمر- وقد بيّت الحجّ في العام نفسه لكن خروجه يكون في أشهر الحجّ -شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة- وقيل ذو الحجة كامل لكن الصواب عشر ذي الحجة. فالتمتع اﻷصل أن يخرج اﻹنسان من دويرة أهله للعمرة في أشهر الحجّ ثم ﻻ يعود إلى دويرة أهله. فمن عاد إلى دويرة أهله فإن عمرته انقطعت وانقطع التمتع لكن ما دام باقيا في مكة لم ينتقل عنها سفرا يقصُر فيه الصلاة -على قول الجمهور- يصبح متمتعا. هذا المتمع ﻷنه شعر باﻻنتفاع أوجب الشارع الحكيم عليه دما يسميه بعض العلماء دم جبران.
قال رب العزة ﴿فَمَنْ﴾ أداة شرط ﴿تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا﴾ الفاء واقعة في جواب الشرط ﴿فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ﴾ والهدي هنا هدي واجب وﻷنه واجب إذا تعثر القيام به ينتقل إلى غيره قال ربنا ﴿فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ﴾ سواء لم يجد ماﻻ يشتري هديا أو ملك مالا ولم يجد هديا -وهذا بعيد لكنه قد يوجد- ﴿ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ﴾ أصبحت كاملة كم؟ عشرة قال ربنا ﴿تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ﴾ لكن الله يأبى إلا أن يُكرِم أهل حرم بيته وهم سُكان مكة فأعفاهم الله من هذا قال رب العزة ﴿ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ ليسوا من سكان المسجد الحرام، ماالمراد بالمسجد الحرام هنا؟ مكة ﴿ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ يعني ليس من سكان مكة -على الصحيح-. هذا نوع من التمتع يتشابه من جزء يسير مع قول الله -عز وجل- من قبل ﴿وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِين﴾. اﻵن انتقلنا من شيء تاريخي إلى شيء فقهي نبقى في الفقهي نفسه في ذكر المتاع في السورة نفسها.
 شرع الله الطلاق وأذن به، والطلاق يقع على أضرُب وليس المقام اﻵن مقام تفصيل الكلام في الطلاق لكن المقام في كلمة متاع قال رب العزة ﴿ وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ﴾ هنا تلحظ أن الشارع -على خلاف بين العلماء- الوجوب وغير الوجوب ولكن فلنقل بالوجوب. أوجب مسألة أن المُطلِق يعطي مُطلقته متاعا. اﻵن -حتى تعلم عظمة الشرع- المرأة عندما تُطَّلق أصيبت من جهتين: الجهة اﻷولى أنها فقدت زوجها، وليس أمرا هينا فتحتاج إلى شيء يجبرها.
  واﻷمر الثاني: هي ﻻ تستطيع أن تكون في ذمة أحد بعد زوجها اﻷول حتى تنقضي العدة، فترة العِدة هذه هي ﻻ تستطيع أن تتزوج إذا ﻻ يوجد زوج يُنفق عليها ‏فلما تُعطى متاع من نفس المُطلِق فهذا المال الذي فرضه الله -عز وجل- لهذه الزوجة يجبر الكسرين، المُطلِق نفسه أعطي مال في الوقت نفسه المال هذا تستعين به على حياتها حتى يكتب الله لها زوجا آخر.
الله يقول ﴿ وَلِلْمُطَلَّقَاتِ هذا في ظاهره عموم ليست هناك مُطلقة مُستثاة لكن قال الشافعي -رحمه الله- في آخر قوليه قال: "إن المُطلقة إذا كانت مُطلقة قبل المسيس -يعني قبل أن يدخل عليها- فإنها ليس لها متاع" قلنا يا أبا عبد الله لماذا ليس لها متاع؟ قال -رحمه الله-: لأن المُطلقة إذا طُلِّقت ولم يكن هناك جريان وطء -يعني لم يدخل عليها زوجها- فطلّقها كم تستحق من المهر؟ النصف. ربنا يقول
 ﴿وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ﴾ فقال: "هذا نصف المهر وهي لم توطأ يكفي لا حاجة للمتاع فلا يُعقل أن نُكلّف الزوج وهو لم يكن جريان وطءٍ لتلك المرأة أن نُطالبه يُعطي نصف المهر ويُعطي متاع" وقول الشافعي -رحمه الله- يستقيم عقلا ونقلا وليس المقام مقام ترجيح هؤلاء أئمة فقهاء والدين واسع ويُسر. متى يُبتلى الإنسان؟ تُبتلى بالذي لا يعرف إلا قول واحد، هذا أعانك الله عليه، أما من يعرِف أن أئمة الإسلام كلٌ عنده دليل وقالوا عدة أقوالا تجده مطمئن النفس لا يُفسِّق أحدا ولا يُبدِّع إلا من يستحق التبديع ولا يُكذِّب أحدا ويعلم أن هذه مسائل ذكرها أئمة أعلام وتكلّم فيها أئمة كِرام وأن المسألة أوسع مما نتصور والدين يُسر بلا شك. والله لم يكتب علينا العنت وربنا يقول ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ وصلى الله على محمد وآله والحمد لله رب العالمين .
اقرأ المزيد...

الوقفــ الثانية ـــة من جـ (٣٠) / في سورة البلد


هذه الوقفة الثانية من الجزء الثلاثين وهي في سورة البلد أو حول سورة البلد
قال ربُنا (لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ)  لفظ الإشارة هُنا يجعل أن تأويل البلد لا يُختلف عليه لأن هذه السورة مكية فلمَّا قال الله جل وعلا لا أقسم بهذا البلد عرفنا أنَّ البلد مكة كما أنَّ قول الله جل وعلا في سورة التين ( وهذا البلد الأمين ) أقسم به بيَّن لنا أنَّ اللام في لا ليست نافيةً للقسم لأنَّ الله أقسم بالبلد الأمين. (لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ) وهو مكة، ومكَّة حرَّمها الله يوم خلقَ السماوات والأرض ولم يُحلَّها إلا لنبيه صلى الله عليه وسلم ساعةً من نهار .
(لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ) مامعنى (حِل)؟ على أقوال:
 قال بعضُ العُلماء المعنى أننا نُقسم بهذا البلد حال كونك ساكِناً فيه فذلك يزيدُه حُرمةً على حُرمة فهو بلدٌ حرام يخطو عليه ويمشي ويسكُن ويحِلُّ فيه نبيٌّ مُكرَّم آخِرُ الأنبِياء صلوات الله وسلامه عليه هذا معنى.
 المعنى الآخر (وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ) أي أنَّ هؤلاء القوم مع أنهُم يسكنون في بلدٍ حرام إلا أنهُم لم يُراعوا حُرمتك فتعرَّضو لك ووصفوك بما وصفوك به لم يُراعوا حُرمتك فجعلوك حلالاً يعني مُستباحاً يقولون في عِرضك ويرُدُّون رسالتك وينتهِرونَ من والاك (وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ).
 ثم جاء قَسَمٌ آخر قال الله (وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ) قال بعضُ العُلماء (والِد) تشمل أيُّ والد، و(ولد) تشملُ أي مولود والذي يترجَّح أننا إذا أخذنا المُناسبات فإِنَّ مكَّة هي أُم القرى فأقسم الله بأُم القُرى فناسبَ أن يكون المُقسم به هاهُنا ووالدٍ وما ولد هُو أبونا آدم فكما أنَّ آدم عليه السلام هُو الأصلُ الذي خرجت منه ذُريته فإنَّ الأرضَ دُحِيت من جهة الكعبة ولذلك قال الله جل وعلا ( لتنذر أم القرى ) فمكَّةُ أُم للقرى وآدمٌ والِدٌ للناس أجمعين فحملُ القسم هُنا على آدم أولى وأحرى (وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ).
 ثم جاء جواب القَسَمْ (لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ) أي في مشقَّة، في عناء، خلقناه في مشقَّة وعناء ليس المقصود في مشقَّة وعناء من قِبل الله، مُحال، الله لا يمسُه نصبٌ ولا لُغوب لكن جعلنا عِيشتَهُ عيشة كبد ومشقَّة لِم ؟! لأنَّ أباهُم آدم أبحنا لهُ الجنَّة (إِنَّ لَكَ أَلا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى*وَأَنّكَ لاَ تَظْمَأُ فِيهَا وَلاَ تَضْحَىَ) مع ذلك خرجَ بعد أن قال الله له (فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى) فتشقى هُنا في (طه) هيَ هاهُنا في البلد (لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ) وأنت ترى أنَّ الإنسان يرى من كَبَدِ الدُنيا ما يرى لأنَّها طُبعت على ذلك
 طُبِعت على كدَرٍ وأنتَ تُريدُها ** صفواً من الأقذاء والأكدار
 ومُكلِّف الأيامِ فوقَ طباعِها ** مُتطلِّبٍ في الماء جذوةَ نارِ
 مُحال أن يكون في الماء جذوة نار مُحال، على هذا حتى تتعزى تعزى برسولك صلى الله عليه وسلم، جعفر ابنُ أبي طالِب ابنُ عمِ رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن أشدِّ خلقِ الله شبهاً به (أشبهتَ خلْقي وخُلقي) هاجر إلى الحبشة قبلَ الهِجرةِ إلى المدينة، في أوَّل الدعوة فلنقُل قبلَ الهجرة بثلاث أو أربع سنين مكثَ في الهجرة حتى العام السابع -عامَ خيبر- أي غابَ عن رسولِ الله وهو ابنُ عمِّه إحدى عشرَ عاماً -على الأقل- فلَقِيهُ النبيُ يوم خيبر فقبَّلَ بينَ عينيه وقال: لا أدري بأيِّهِما أُسَر بقُدوم جعفر أم بفتحِ خيبر، كانَ سِنُّه ٤٢ عاماً -هذا جعفر- فدخلوا المدينة زوجٌ لأسماء بنتُ عُميس ولهُ -أي لِجعفر- منها أبناء بعدها مكثوا في المدينة سنةً واحدة بعثَه النبيُ إلى مُؤته فلم يُمتَّع به صلى الله عليه وسلم إلا عاماً أو أقل فاستُشهد مع زيدٍ وعبد الله ابن رواحة فرقيَ صلى الله عليه وسلم المنبر ونعى للناسِ وأخبرهُم في اليومِ الذي ماتوا فيه وعيناهُ تدمع -صلوات الله وسلامه عليه- قال: (أُصيبَ زيدٌ فأخذ الراية جعفر فأُصيب فأخذ الرايةَ عبدُ الله فأُصيب ثمَّ أخذها خالدٌ من غيرِ إمرة ففتح الله عليه) يقول الراوي وإنَّ عيني رسول الله صلى الله عليه وسلم لتذرِفان. فأمهلَ أهل جعفرٍ ثلاثاً لأنَّهُم لهُم وقت يبكون فيه لو دخلَ رسول الله سكتوا فأمهلهُم ثلاثاً بينَ قوسين بالعامِّية ( يأخذون راحتهُم ) بعدَ ثلاث دخل قالَ أينَ أبناءُ أخي؟! فجيءَ بِهم كإنَّهُم أفرُخ فدُعى بالحلاق فحلق رؤوسهُم من بابِ الفأل لعلَّ الله يُغير حالهم فأخذت أُمهم تقُصّ وتقُصّ لأن هي لِتوِّها قادِمة سنة وأصبحوا يتامى ولهُم أحدى عشر سنةً في الغربة في الحبشة فقال: (ألعيلة -يعني الفقر- تخافين عليهم ؟! والله إنِّي لوليُّهم في الدنيا والآخرة) -صلوات الله وسلامه عليه- موضوع الشاهد: هذا مع جعفر ابن عمه.
 مع بناته -صلى الله عليه وسلم- فَقَدَ زينب ورقية وأم كلثوم هذا بعد البعثة، وَفَقَدَ القاسم وعبد الله قيل قبل البعثة وقيل بعدهُما فأصبح ليس له إلا فاطمة، فتسرَّى مارية فحملت ففرح فلمَّا فرح أنجبت فأتى الصحابة قال (ولد لي الليلة غُلام أسميتُه إبراهيم) وجاء في رواية (أنَّ جبريل حيًّاه قال له السلام عليك يا أبا إبراهيم) ومكث يُرضعُه في عوالي المدينة لماذا أُرضع ؟! من شفقة الأنصار بالنبي قالوا إنَّ النبي -عليه السلام- ما أتى هذه الجارية إلا أنَّه يُحبها فحتى يكون لهُ وقت معها خُذوا الصبي وأرضعوه حتى لا يُشغل الصبيُّ أُمه عن رسول الله فأخذوه فكان يعودُه -صلى الله عليه وسلم- وزوجُها كانَ حداداً ينفُخ الكير فأنس صبي يسبِق النبي صلى الله عليه وسلم فإذا جاء إلى البيت قال أبا سيف أبا سيف هذا زوج الجارية أقصِر أقصِر، يعني توقف جاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فتوقف حتى الدُخان لا يملأ البيت والكير، فيأتي -صلى الله عليه وسلم- فيأخُذ الصبي وهو ابنهُ ويُقبِّله ويفرح ويرُده فجاء يوم وإذا بالصبي يخفِق صدره وروحه تُغرغر، مات في يدِه صلى الله عليه وسلم فدمعت عيناه وقال: (إنَّ القلب ليحزن وإنَّ العين لتدمع وإنَّا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون ولا نقول إلا ما يُرضي ربنا) هذه كُلها تكفيك في تفسير (لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ) حتى تعرف حقيقة الدنيا هذا خيرُ الخلق عاش هذه الحياة فلا يُؤمِل بعد ذلك أحد أن يجد أو أن يرى أن تكون الدُنيا مطمعاً كبيراً له إن جاءك من فضل الله فللّٰه الحمد والفضل والمِنَّة.
 قال الله في السورة (أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ *وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ) أمَّا قوله جلَّ شأنه (أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ) فظاهِرة المعنى، وقوله جل وعلا (وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ) فظاهرة المعنى، لكِنَّ الإشْكال في قوله (وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ) قال بعض العُلماء: أي الطريقين طريق الخير وطريق الشر واستدَلُّوا بقول الله في فُصلت (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَىٰ عَلَى الْهُدَىٰ) وقولِ الله جلَّ وعلا في سورة الإنسان (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا) وهذا المعنى صحيح لكِن هل تحتمِلُه الآية هذا هو السؤال؟ 
وقال آخرون: إنَّ المقصود بالنجدين هُنا ثديَيّ أُمّه أو ثديَيّ من تُرضعه ولهُم في ذلك حُجج: الحُجَّة الأولى: السِياق فإنَّ الله يذكُر امتِنانهُ على الإنسان ويقول (عَيْنَيْنِ*وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ) ويخرُج الصبيُّ أو الجنينُ من بطنِ أُمه لا يفقه شيئاً لكِنَّ الله يدُله يهديه هداية دلالة إلى أن يعرِف الثديينِ فيطعَمَ منهُما. قالوا ومِن القرآئن أنَّ النجد في اللغةِ: ما ارتفع ويُقال لديارِ بلادِ نجدٍ (نجد) لارتفاعِها، فقالوا لا شك أنَّ الثديينِ مُرتفِعان في الصدرِ بِجلاء لا يرتابُ في هذا أحد وسِياقُ الآيات ليس في سِياقِ الخبر عن الضلالة والهُدى، وعن الإيمانِ والكُفر إنما في سياق المِنَّة  بالجوارح فكأنَّ الله يتكلَّمُ عن مخلوقٍ لتَوُّه وعن مولودٍ لساعتِه وُلِد فلذلك قال الله (أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ *وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ).
 ثُمَّ أخبر جل وعلا أنَّ هُناك عقبةً كؤداً ما بينَ العبد وبينَ وصوله إلى أعظمِ الغايات أعظمُها انتِصارُه على شهواتِ نفسه قال (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ) فبدأ بِفكِ الرِقاب والمُراد بفكِ الرِقاب: عِتقُها. ومِنَ الخطأ الشائع في أهلِ عصرِنا أنَّهُم يرونَ أنَّ من أنقذَ من حُكِم عليه بالقصاص أنَّه أعتَقَ أو فكَّ رقبة وهذا غير صحيح هذا عملُ بِر عملُ خير عملُ معروف لكِنَّه لا يُسمى كما سمَّاه الله في القُرآن (فَكُّ رَقَبَةٍ) لا يُسمى ماذا ؟! فكُ رقبة.  فكُ رقبة في القُرآن يُطلق ويُراد به أن يؤتى لمُسلمٍ أو مُسلمةٍ رقيق مملوك، أو رقيقة مملوكة فيُعتِقها وهو من أعظم مقاصِد الشرع.
 ويقولون إنَّ أحدَ خُلفاء المُسلمين في الأندلُس ظَاهَرَ من زوجتِه أو وطِئها في نهارِ رمضان فسأل العُلماء فلمَّا سأل العُلماء أجابهُ مُقدِّمُهم -يعني من قَدَّمه العُلماء- وأظُنه يحيى بنُ يحيى -وإن كانت الجهالةُ في مِثل هذه الحالة- لا تضُر فقال عليك إطعام ستين مسكيناً ولم يقُل لهُ عِتق رقبة، قال لهُ عليك صيامُ شهرين ولم يقُل لهُ عِتق رقبة فلمَّا خرجوا تبِعهُ الناس -العُلماء- قالوا لِمَ لم تقُل لهُ عِتق رقبة قال هذا ملِك يملِك رِقاب لا حصر لها لو قُلت لهُ عِتق رقبة كُلُ يومٍ يطأ زوجتهُ ويعتق رقبة وأنا أُريدُ أن أُؤأدبه. لكِنَّ العُلماء لم يُوافقوه على قوله هذا لأنَّ هذا رأيٌ في مُصادمة النص ومن حَكَمَ بِهذا جلَّ شأنُه يعلمُ أنَّ هُناك مُلوك وهُناك عامة لكِنَّه نسيَ أن عِتق الرِقاب من أعظم مقاصِد الشرع.
 هذه الوقفة الثانية ونفيءُ إن شاء الله إلى الوقفة الثالثة وبِها نختِم .
اقرأ المزيد...

الاثنين، 23 يونيو 2014

الحلقــ الثامنة عشرــة / شِرعة ومِنهاجا /



الحمد لله الذي أحسن كل شيء خَلَقه وبدأ خلق الإنسان من طين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين. وبعد:
أيها المباركون عنوان درس هذا المساء المبارك ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُم ْشِرْعَةً وَمِنْهَاجًا﴾ فيصبح العنوان المُقتضب: شرعة ومنهاجا.
 وليس هذا من باب المضاف والمضاف إليه لكنه غير بعيد عنه، وقد قلت -والمسلمون على شروطهم- إن غالب الدروس تحمل اسم المضاف والمضاف إليه لكننا أحيانا قد نخرج عن هذا الشرط.
 قال رب العزة ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ﴾  ﴿وَأَنْزَلْنَا﴾ من الذي أنزل؟ الله.
 ﴿إِلَيْكَ﴾ باعتبار نهايته، باعتبار وصول نهايته إلى نبينا ﷺ ونزل هذا الكتاب على نبينا ﷺ بواسطة ملك عظيم هو جبريل، وقد نسب الله في بعض آيه القرآن إلى جبريل قال ربنا ﴿‏‏إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ ﴾ وهذه كلها في وصف جبريل.
 ﴿ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَاب ﴾ فورد لفظ الكتاب مرتين، قول ربنا ﴿ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ الألف واللام للعهد والمراد به القرآن ﴿ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَاب المراد به الجنس والمعنى جميع الكتب التي نزلت قبل القرآن سواء كان التوراة أو الإنجيل أو زبور داود أو صحف إبراهيم أو صحف موسى أو غيرها مما لا نعلم من الكتب التي أنزلت على أنبياء الله. فاﻷلف واللام في (الكتاب) الثاني للجنس واﻷلف واللام في (الكتاب) الأول للعهد، أي عهد؟ عهد ذهني ﻷن العهد عهدان عهدان: عهد لفظي وعهد ذهني.
 ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ﴾ كلمة (مهيمن) اختلف العلماء فيها ﻷنه لا يعلمون فعلا ثلاثيا مجردا -واﻷصل في اللغة السماع- من اسم الفاعل مهيمن ﻷنه لايوجد في اللغة فعل (هَمَنَ) لا يوجد في اللغة شيء اسمه هَمَنَ، لكنهم يقولون إن هيمن لها أوزان مشابهة لها فيقولون (بيقر) في العربية بمعنى خرج من الحجاز إلى الشام، ويقولون (سيطر) بمعنى قهر ، ويقولون (هينم) بمعنى قرأ أو دعا. لكنهم قالوا بهذا اللفظ الذي جاء منه اسم الفاعل أو تقل صفة مشبهة لم يرِد. لكن المعنى العام:
 ﴿مُهَيْمِنًا عَلَيْهِ﴾ قال بعضهم: عالٍ عليه، وبعضهم قال: حفيظ عليه، وبعضهم قال:مؤتمن عليه. وهي معانٍ قال بها سلف الأمة وهي متقاربة جدا. والمقصود: أنه ما من شيء في الكتب السابقة التي أنزلت على الرسل من قبل نبينا ﷺ إلا والقرآن محتو على مثلها أو على ما هو أعظم منها. هذا الذي ينبغي أن يستقر في اﻷذهان في مثل هذه المعاني.
 ﴿وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ ۖ فَاحْكُمْ بَيْنَهُم﴾ اﻷصل بين المؤمنين لكن اليهود حصل عندهم قضية زنا ثم إنهم أخفوا الحُكم الذي في التوراة وهو الرجم خوفا من أن يرجُموا بعض ساداتهم فقدِموا إلى النبي ﷺ يسألونه رجاء أن النبي -عليه السلام- ﻷنه لن يحكم لهم بالقرآن يواطئهم فغلب على ظنهم أن النبي سيرى أن مصلحة اﻹسلام تقتضي موافقتهم وإرضاءهم ولم يدُر في خَلَدِهم أن النبي لن يقبل هذا وسيقول الحكم الشرعي الذي أنزله الله في كتابه -عز وجل- وعلّمه نبيه وهو الرجم. فلما أتوا أمر الله نبيه أن يحكم بما أنزل الله وقال
 ﴿ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقّ ﴾.
نعود اﻵن إلى مسألة كنا قد عرضنا لها في الدرس السابق وهي قضية أن اﻷحكام الشرعية لا يجوز التغيير فيها رجاء أن تقول رجاء أن يدخل الناس في اﻹسلام فاﻹسلام لا يقبل أن يكون ضعيفا لمُريديه. هذا هو اﻹسلام من يقبله فالمِنّة للإسلام عليه ومن لم يقبله فهو الذي خسر نفسه. هذا هو اﻹسلام من قبِلَه فالمنة للإسلام عليه ﴿يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لَّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ ﴾ فالمنّة لله ولرسوله وشرف ﻷي أحد أن يدخل في الدين لكن لا تأتي للدين تزعزع أركانه تقول رجاء أن يدخل الناس فيه. وفَرِّقْ ما بين التعامل واﻷخلاق والتعايش وما بين أحكام اﻹسلام. وقد نبهنا في الدرس الماضي أن التعايش أمر ممكن لكن لا يتعلق بأحكام الشرع أما أحكام الشرع ما أحله الله، ما حرمه الله فلا يمكن أن نتنازل عنها أو نقبل شيئاً من التغيير فيها رجاء أن يدخل الناس في دين الله ﻷنه لو غيّرنا ودخل الناس لا يعتبر أنهم دخلوا في اﻹسلام، دخلوا في الشيء الذي نحن ابتكرناه نحن جعلناه لهم وهذا ليس بدين ولا يمكن ﻷحد كائناً من كان أن يُغير في الدين رجاء أن يدخله الناس لكن عندنا طريق آخر وهو أننا نأتي في اﻷخلاق، في التعامل فنبين الصورة المثلى التي جاء بها اﻹسلام وأعظمها التعايش بين الناس فنقدمها للناس رجاء أن يدخل الناس في دين الله وﻻ نُكلّف أكثر من هذا.ظاهر.
 قال ربنا ﴿ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ ۚ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ﴾ ( شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ) على اختلاف أهل اللغة فيها، في بيان معناها لكن الذي استقر عليه أهل التفسير ( شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ) سنة وسبيلا. وهذا قاله كبار اﻷئمة من الصحابة كأُبيّ بن كعب وابن عباس وغيرهما -رضوان الله تعالى عليهم أجمعين- والمراد: اﻷصل في اللغة كلمة شريعة تطلق على الماء، الماء الجاري يسمى شريعة. وجه الشبه: سميت المِلّة والدين شريعة من باب كما أن الماء يُطهّر اﻷبدان فإن الدين يطهر القلوب.
 ﴿ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ﴾ ( لِكُلٍّ ) هنا تنوين وهذا التنوين تنوين عوض، عوض عن كلمة وأصل الكلام: لكل أمة جعلنا شرعة ومنهاجا. فالشرائع تختلف والدين واحد. فما من أحكام فقهية وشريعة في التوراة غير الذي في اﻹنجيل وعيسى يقول لبني إسرائيل ﴿وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ﴾ والشريعة التي في القرآن ليست كلها موافقة لما في التوراة والإنجيل فثمة أشياء تُوسع فيها وثمة أشاء غُيرت، وثمة أشياء حُرِّمت، وثمة أشياء بقيت. فمثلا: كان يجوز لهم الصلوات في مواطن الصلوات -في البيع- والنبي -عليه الصلاة والسلام- يقول (جُعلت لي اﻷرض مسجدا وطهورا) هذا ليس نسخا لكن توسعا، كان اليهود يصلون جهة الصخرة والنصارى تصلي جهة المشرق والله أمر نبيه أن يصلي جهة الكعبة قال ﴿وَمَا أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ ۚ وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْض﴾ لا اليهود تتبع قبلة النصارى ولا النصارى تتبع قبلة اليهود. والمقصود: هذا تغيير للشرع الذي كانوا عليه، ويوم الجمعة أضلهم الله عنه وهدى هذه اﻷمة إليه. فالشرائع تختلف لكن الدِّين الذي بُعث به اﻷنبياء واحد.
 ﴿ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ﴾ قال أُبَيّ بن كعب -رضي الله عنه وأرضاه- "إنه من كان على السنة والسبيل فاقتصد -يعني في دين الله- ثم ذكر الله ففاضت عيناه فإن الله لا يعذبه أبدا" وهذا رواه ابن مالك في الزهد وقال بعض العلماء:ربما كان لهذا الحديث حكم الرفع. والمراد: أن اﻹنسان يكون على سُنة بيّنة واضحة مُقتصدا في عبادته. ورأى علي -رضي الله عنه وأرضاه- رجلا من من الخوارج يقوم يصلي الليل -على ضلالة فكرهم- فقال -رضي الله عنه وأرضاه- "نوم بيقين خير من عبادة على شك" لكن نُعرِّج قليلا في فهم اﻵية وقد بينا ما المقصود في اﻵية.
 يمكن أن يُستل من فهم اﻵية: أن اﻷشياء تختلف بمعنى حتى أنت في حياتك، في سياستك ﻷمور كثيرة في شأنك كل شيء له طريقة فيصعب على العاقل أن يخلط بين هذا وذاك. نأتي بمثال: يقولون إن كسرى -طبعا ملك- بقدر الله مر على المكان الذي يُطهى فيه الطعام له فرأى من أُوكِل إليه إعداد الطعام يذبح الغنم ويسلخها ويعلقها ويفري أوداجها ويصنع بها ما يصنعه الناس ليُعدوا طعاما فلما رأى هذا الحال عاف الطعام وعاف اللحم فأصبح ﻻ يستطيع أن يأكله ﻷنه رآه وهو يُقطع وهو يُسلخ وهو...الخ أشياء لا تخفى. ثم مكث أياماً ﻻ يأكل اللحم فسأل حكيماً ممن يجاوره وأخبره بالخبر. قال: يا أيها الملك الطعام على المائدة -ثم قال كلمة- لا يليق بمثلي أن يقولها ولا يليق بمثلكم أن تسمعوها ولا تقال في المساجد.تقيسها عليها أنت. قال: الطعام على المائدة وذكر شيئاً آخر. والمقصود من كلام الحكيم هذا أن ثمة أشياء لو رأيتها تفصيلا لعفتها إجماﻻ. وثمة أشياء من اﻷفضل أن تكون غائبة عن عينيك وأكمل اﻷشياء أن تأتيك وهي منتهية ﻷنك إن شغلت نفسك بها -لكن اﻷشياء تختلف-. لكنني قصدت من الحديث أن سياستك ﻷحوالك تختلف من حال إلى حال. يقول أحد من يحسن مرافقة الملوك يريد أن ينصح ملكا قال: الناس ثلاثة: خُلّص أحباب، وعامة، -وحاشاكم وعافاكم الله-سفلة -مجرمين، فساق، بذيئين- وﻻ يمكن أن يخرج الناس عن هذا. قال له: عامل الخلص بالمحبة وإﻻ تخسرهم، وعامل عامة الناس بالترغيب والترهيب ﻷنك إذا أعطيتهم الرغبة الكاملة أكلوك، وإن أعطيتهم الرهبة التامة عافوك. فلا يساس العامة إلا بالترغيب والترهيب ﴿قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا﴾ . بقي السفلة قال: السفلة سوسهم بالسيف، لا ينفع معهم إلا هذا والله يقول ﴿وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ ﴾ ثم قال ﴿ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ﴾ معنى ذلك أن البأس الشديد ينفع، ثمة أقوام لا ينفع معهم إلا السيف، إلا السوط، فالناس ثلاثة لكنك إذا جئت أنت لمن يُعينك والخُلّص الذين حولك في الرأي والسفر والترحال وعاملتهم كما تعامل غيرهم بالترغيب والترهيب لم يبقوا أُمناء على سرك ولا معينين لك على أمرك لكن يعاملون بالمحبة والاحتمال، لكن عامة الناس الذين ﻻ تربطهم بك محبة مثل اﻷولين فيعاملون بالترغيب والترهيب أما من -الله لا يبتلينا ولا يبتليكم- من يبتلى بالسفلة من الناس نقول إذا كان حاكما عليه بالسوط والسيف لكن المشكلة إن لم يكن حاكم لا يملك سوطا وﻻ سيفا ﻻ تنازعهم وتغافل عنهم وﻻ تقبل أن تجعلهم خصوما لك وهذا كله يندرج ﴿ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ﴾ ﻻ تقبل أن يكونوا خصوما لك ﻷن ما تملكه أنت من الحياء والكمال والشرف والسؤدد ﻻ يملكه هو فهو ﻻ يبالي ما تقوله أنت فيه وأنت ترقُب -خوفا- ما يقوله فيك فتجنب أمثال هؤلاء ولو خسرت خير من منازعتهم قال أبو تمام:
 إذا جاريت في خُلقٍ دنيئا ** فأنت ومن تجاريه سواء
رأيت الحرّ يجتنب المخازي** ويحميه عن الغدر الوفاء.
 هذه قضية التعامل مع الناس  ﴿ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ﴾.
 كذلك فيما تنصح به غيرك فلابد أن تكون النصيحة موافقة لحال من تريد أن تنصحه، من تريد أن تبث الخير فيه من قرابتك، من أبنائك، من أهلك، من ولدك، فالناس يتفاوتون وما يؤمِلون فيه وما يطلبون وﻻ يحسن أن يُساس زيد بما يساس به عمرو، حتى في أبنائك، حتى في بناتك فالعاقل يأخذ من قول الله -جل وعلا- ﴿ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ﴾ ما يمكن أن ينتفع به في تعامله وأخذه وعطائه، وغُدُوِّه ورواحه مع الناس. وكثرة التجارب مُعين عظيم للعقل إذا كان العقل مطبوعا على الخير، كثرت التجارب تُعين اﻹنسان متى يتقدم، متى يتأخر، متى يتعامل. على أنه ينبغي للإنسان في جميع أحواله أن يُراعي مشاعر من حوله وهذه تجعل لك وُدَّا في قلوبهم مهما كان حالك. قال (سبقك بها عكاشة) وهي كلمة لطف خير من أن يقول له لست منهم لكن قال (سبقك بها عكاشة) فاﻹنسان يتخير ألفاظا تجيب عنه دون أن تؤذي سامعها والمُوفق من وفقه الله . وصلى الله على محمد وآله والحمد لله رب العالمين.
اقرأ المزيد...

الخميس، 19 يونيو 2014

الحلقــ السابعة عشرــة / ريب المنون





الحمد لله الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق اﻹنسان من طين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين.
 أما بعد أيها المباركون درسنا لهذا المساء المبارك: (ريب المنون).
 وهذا وارد في سورة الطور قال أصدق القائلين: { فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ * أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ * قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ} وحتى -إن شاء الله تعالى- تفقه أيها المؤمن هذه اﻵيات نقول:
 قريش كانوا أهل الحرم دورهم -بيوتهم- حول الكعبة، علّقوا عليها أصنامهم، شرِبوا الخمور ويأكل قويهم ضعيفهم، وتحزبوا وتنافسوا في المجد وكادوا يقتتلون عليه، حادثة الفيل جعلت لهم مقاما ومكانا وحرمة عند الناس فإذا ارتحلوا إلى الشام أو إلى اليمن ﻻ يتعرض لهم أحد ويُقال لهم هؤلاء أهل حرم الله.
هم على هذا الحال وُلد خاتم اﻷنبياء وسيد المرسلين -عليه الصلاة والسلام- فنشأ بين أعينهم يرونه، لم يأتهم من قرية أو بلد بعيد فمنذ أن وُلد وهم يبصرون حاله، الله -عز وجل- يقول {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام: 124]، حفظ الله هذا النبي الخاتم مما كانت عليه قريش فلم يقف يوما على صنم يعبده، ولم يأتِ مجلس خمر يشربه، ولا أندية قمار يلعبها، ما عرف منه الناس إﻻ اﻻستقامة ويومئذ لم يكن هناك رسول ولا نبي وﻻ كتاب وﻻ دين وﻻ مساجد وﻻ بِيَع ولا مواطن صلوات، لم يكن إلا ما ذكرناه في اﻷول فنشأ بين أعينهم.
 لما دنا من اﻷربعين حُبب إليه أن يتحنث الليالي ذوات العدد فكتب الله له أن يتحنث في الغار، ثم بُعِث فنزل إلى قومه يدعوهم إلى الله {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء:214] ويتلو عليهم القرآن الذى أنزله الله عليه. بُهت القوم، لم يجدوا بدا من أن يتهموه ونسوا حقيقة مثل وهج الشمس أنهم يعلمون حاله قبل أن يقول أنه نبي فلا سبيل لهم إلى أن يخالفوا أربعين عاماً وهم يرون حياته بين أعينهم ومع ذلك رموه بأنه كاهن وبأنه مجنون وبأنه شاعر وبأنه ساحر وغير ذلك مما حرره ودوّنه ونقله القرآن.
 يقول رب العزة في هذه اﻵيات (فَذَكِّرْ) واﻷمر في القرآن على ضربين:
-إما يأتي ابتداء وهو اﻷصل. -وإما يأتي استئنافا وهذا منه. والمعنى: لما نزل قول الله -عز وجل- لنبيه (فَذَكِّرْ) هل كان النبي -عليه الصلاة والسلام- حينها يذكر أو لا يذكر؟ كان يذكر من قبل لكن المراد استمر مثل قول الله -عز وجل- (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ) [النساء:136] أي ابقوا على إيمانكم وامضوا عليه ولا ترتدوا. فهذا منه. وإلا فنبينا -عليه الصلاة والسلام- منذ أن قال الله له ( يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنذِرْ) وهو قائم بالنذارة. فقول الله -عز وجل- له هاهنا في الطور (فَذَكِّرْ) أي استمر في التذكير، وهذا تثبيت من الله لنبيه -عليه الصلاة والسلام-.
 (فَذَكِّرْ فَمَا) هذه نافية (فَمَا أَنْتَ) أيها النبي الخاتم والحبيب المُقرب والعبد المُجتبى والرسول المُرتضى (فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ) أي بفضل الله عليك ونعمته عليك وأعظمها النبوة (بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُون) فما أثبته كفار قريش زورا من الذي رده؟ رب العالمين. فأخبر -جل وعلا- أن هذا النبي الخاتم يتقلب في نعم الله وأعظمها النبوة.
 (فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ) عليك، أبعد بعض المفسرين -عفا الله عنا وعنهم- وقالوا: إن الباء باء قسم فالمعنى عندهم: فما أنت ونعمة ربك، كأنه قسم، كأنه حلف. لكن هذا يستقيم في غير هذه اﻵية لكن في هذه اﻵية ﻻ يستقيم أن تكون الباء هنا باء قسم. واضح. وإن قال بها اﻷكابر. لكن جماهير أهل العلم على اﻷول.
 (فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ) ممن يدّعون عِلم الغيب ويأتون به على هيئة أسجاع قصيرة (وَلَا مَجْنُون). لكن تلحظ -هذا ظاهر- أن اﻵية ليس فيها ما يثبت، يعني لا توجد أدلة، لا توجد قرائن. مثلا: أنت اﻵن تريد أن تُدافع عن أحد الناس فتقول هذا ليس كذا وﻻ كذا والدليل....، تأتي بأدلة. هنا الله -جل وعلا- نفى عن نبيه أنه كاهن ونفى عن نبيه أنه مجنون لكنه لم يأتِ بقرائن، لم يأتِ بدليل لماذا؟ ﻷن حاله ﷺ التي يعرفها المشركون عنه كفى بها دليلا على أنه ليس بكاهن ولا مجنون والمعنى: نحن لا ندافع عن شخص غائب عن أعينكم بل أنتم تعرفون مقامه واستقامته وصِدقه وأمانته ونُبله -صلوات الله وسلامه عليه- فلم يكن في اﻵيات شيء مُصاحب في تبرير الدفاع عنه. (فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُون) وقد كان بعضهم قد رماه بالكهنة، وبعضهم رماه بالجنون.
 وقال الله بعد ذلك (أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُون) اﻵن ريب المنون: حوادث الدهر المهلكة. وكلمة "ريب" في القرآن ترددت كثيرا ربنا يقول (ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ) وآيات أُخر. قال ابن عباس -رضي الله تعالى عنه وأرضاه-: " كل كلمة "ريب" في القرآن بمعنى شك إلا في سورة الطور" وإنما ريب المنون حوادث الدهر المهلكة.
 القرآن ينقل لنا ما قالته قريش عن النبي ينقله كما هو فإن كان في الكلام نقص فنسبته إلى قائله اﻷول ﻷن هذا الكلام ﻻ يستقيم، لماذا لا يستقيم؟ هم يقولون كاهن مجنون أو شاعر نتربص به ريب المنون. مفهوم كلامهم أن المنون لا تأتي إلا الشعراء مع أن المنون يأتي الكهنة ويأتي المجانين لكن هم من فرط حقدهم أصبحوا حتى ﻻ يقولون قولا مستقيما فنقل الله ما قالوا كما هو والقائلون (أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُون) ينسب إلى بني عبد الدار وهؤﻻء كانوا شديدي العداء للنبي الله -عليه الصلاة والسلام- وهم الذين هجاهم حسان بقوله: وعبد الدار سادتها اﻹيماء. في همزيته الشهيرة لكن الذي يعنينا هنا (أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُون) نتربص بمعنى: ننتظر حوادث الدهر المُهلكة التي يمكن أن تُصيبه. قال الله لهم تربصوا، انتظروا فإني معكم من المتربصين والمعنى أني على يقين بنصر الله -عز وجل- لي فأنا أنتظر وأنتم تنتظرون ونرى من الذي سينصره إلهُه. أنا سينصرني ربي العلي اﻷعلى الذي لا رب غيره ولا إله سواه، وأنتم الذين تأملون من هذه اﻵلهة التي لا تضر ولا تنفع ولا تسمع أن تنصركم.
 (أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُون*قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَالْمُتَرَبِّصِينَ) يبقى سؤال لغوي: قلنا أن القرآن نزل بلسان عربي مُبين وقد وردت كلمة ريب المنون من قبل نزول القرآن بمعنى حوادث الدهر. جاءت على لسان اﻷعشى -شاعر جاهلي معروف- قال في معلقته:
 أأن رأت رجلا أعشى أضرّ به **ريبُ المنون ودهر مُفنِد خَبِل.
يتكلم عن معشوقته قال: "أأن رأت رجلا" أي زهدها في أن رأت رجلا أعشى أضر به **ريب المنون ودهر مفند خبل. وهذا اﻷعشى يقولون أنه في الجاهلية جاء إلى رجل اسمه ذي فائش الحميري، وهذا كان ملك بمعنى ملك فمدحه اﻷعشى وقال له في بيت شهير: "والشعر حيثما جعل" فقال صدقت وأعطاه مئة ناقة ثم أعطاه كرشا مدبوغة مملؤة عنبرا وقال له "إياك أن تغلب عليها" ما معنى "إياك أن تغلب عليها"؟ يعني لا يأتي أحد يخدعك فيشتريها منك بثمن بخس. فأخذها اﻷعشى ومضى بها إلى السوق فاشتراها منه أحد الناس بثلاثمائة ناقة حمراء. اﻵن أضحى اﻷعشى لا يدري ما يصنع بها فهو يحتاج من يحميها، سينهبها السُّراق -فُجار العرب- فمرّ على رجل يُقال له علقمة العامري -أظنه أسلم بعد ذلك- وكان من أجواد العرب وأقواهم. هذا علقمة له غريم اسمه عامر بن الطفيل الذي قتل بعد ذلك في زمن النبي ﷺ، هذان الرجلان كان بينهما ما يسمى بين العرب نِفار، ما معنى نفار؟ يأتي اثنان فيتنافسان على المجد فالناس يتحاشون أن يقولون هذا أفضل خوفا من كليهما، أصلا لو كان أحدهما ضعيف لم يصبحا فرسي رهان. فجاء إلى علقمة وقال له: أريدك أن تجيرني. اﻵن اﻷعشى يبحث عن إجارة خوفا من ضياع النياق، فقال له: أجيرك من اﻷحمر واﻷسود -يعني من كل أحد- قال اﻷعشى: ومن الموت؟ قال له: أما من الموت فلا. تركه وذهب إلى خصمه عامر بن الطفيل قال: أريدك أن تجيرني، قال: أجيرك من اﻷحمر واﻷسود، قال: ومن الموت؟ قال عامر: ومن الموت. اﻵن اﻷعشى تنبه هو يسأل فلما أُجيب تنبه قال: كيف تجيرني من الموت؟ قال إذا مِتَّ وأنت في جواري وديتُك، أي دفعت ديتك. قَبِلْ. قال علقمة: لو علِمت أنا هذا مقصوده ﻷجرته. إن كانت القضية أني أدفع ديته إذا مات فاﻷمر سهل، لكن فاتت على علقمة وفاتت على اﻷعشى وقبِلها عامر فلما قبِلَها عامر حكى اﻷعشى شعرا -والشعر يسري بين الناس- أن عامرا أفضل من علقمة وقد شاع في الناس جُود علقمة. يعني فيه شيء لا يستطيع أحد أن يرده. يأتي إنسان مثلا ويجثو على ركبتيه ويأتي بميكرفون ويقول كان حاتم الطائي بخيلا. يرجمه الناس، لا أحد يصدق، اﻵن بعد ألف وأربعمائة سنة اﻵن أن حاتم الطائي كان بخيلا. أو يأتي إنسان يقول إن عنترة كان جبانا ﻷن هذا أمر شاع ما عاد يقبل الرد.
 فعلقمة كان شائعا أنه كان جوادا فقال اﻷعشى يهجو علقمة:
تبيتون في المشتى ملأ بطونكم ** وجيرانكم غرثى يبتن خمائصا.
 يعني جوعى. وقد كذب كذبة عظيمة في بيته هذا ﻷن الرجل كان معروف بأنه جواد العرب. فأهدر علقمة دمه. فلما أهدر دمه كل يبحث عن رضى علقمة، أوتي به إلى علقمة فعفى عنه وقال لو صنعت به شيئا لا يغسل شِعرَه إلا شِعرُه، ما قاله في من هجاء لا يغسله إلا أن يقول أبياتا يمدحني. وقد فعل اﻷعشى هذا وأطلقه. موضع الشاهد من هذا كله قضية أن اﻷعشى قال كلمة ريب المنون في معلقته.
 ثم قُدِّر أن عامر بن الطفيل تُصيبه اﻷنفة ويأتي للنبي ﷺ في الخبر المشهور ويقول ﻷملأنها عليك -يعني المدينة- خيلا جُردا وشبابا مُردا، قال ﷺ اللهم اكفني عامرا بما شئت فأصابته غدة في رقبته ومات في بيت امرأة من بني سلول. وهو بعد هذا المجد الذي كان فيه عند العرب وتصيبه غُدة، هذه الغدة كانت تظهر في البعير -أهانه الله- فلما نام عند المرأة أخذ يتجرع على نفسه ندما فيقول: غدة كغدة البعير وموت في بيت سلوليه. يعني اجتمعت عليه مصيبتان فمات. أما علقمة فالمشهور عند أهل السير واﻷخبار -على ما أعلم- أنه أسلم وحسن إسلامه. واﻷعشى كذلك حاول أن يُسلم لكن قريشا ردته ثم مات في الطريق ومات على شركه.
الذي نريد أن نصل إليه قول الله -عز وجل- (أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُون* قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَالْمُتَرَبِّصِينَ) قلنا إن ريب المنون هو حوادث الدهر لكن ليس المقصود من قول الله -عز وجل- على لسان نبيه ( قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَالْمُتَرَبِّصِينَ) أنني لن أموت، محال أن يكون هذا مقصد الرسول ﷺ. النبي -عليه الصلاة والسلام- هو الذي بعث بالشرع وأعلم أنه سيموت لا محالة (إنك ميت وإنهم ميتون) لكن المراد: اﻹخبار أن نصر الله -عز وجل- آتٍ وأن فرج الله -عز وجل- قريب وأن تلكم الآلهة لا تنفع ولا تضر شيئا. إذا قُدِر لنا نتحدث بإيجاز بما أننا تكلمنا عن ريب المنون عن وفاته ﷺ:
 الموت حق وربنا يقول (كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ) واﻷنبياء أعلى الناس مقاما ونبينا ﷺ أعلاهم بلا شك، ولم تُفجع الدنيا بأحد كمثل وفاته ﷺ لكنني أقف أمام -عاجلا- أمام ثلاث مواقف في وفاته لا أريد أن أسردها سردا:
 أولا: كتب الله أن الشيء إذا علا أن يظهر الله ضعفه فالله يقول عن نبيه (فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ) ومع ذلك لما سأله أسامة أن يدعو له عجز أن يرفع صوته بالدعاء وهو أكرم وأشرف الخلق على الله.
 اﻷمر الثاني: في وفاته ﷺ: كان مُحبا لفاطمة حبا عظيما ولا يزال بعضنا -إلى اليوم- لم يعرف قدر فاطمة عند رسول الله ﷺ ولا أشك لحظة ولا مثقال ذرة أن النبي ﷺ يحب أحداً من الخلق أكثر من فاطمة، وقد بشرها ﷺ أنها أول أهله لُحوقا به، وأنها سيدة نساء أهل الجنة، ومنها كان السبطان الحسن والحسين -رضوان الله تعالى عليهما- فلما أخبرها أنه سيموت في مرضه هذا بكت، ولما أخبرها أنها أول أهله لُحوقا به فرحت. مع أن -يا إخوة- كانت في السادسة والعشرين وهو يقول لها أنتِ أول أهلي لحوقا بي. أقل ما تفهم أن موتها قريب. وأنت لو جئت ﻷشد الناس صلابة وأخبرته أن موته قريب يصيبه شيء من الحَزن، وهذه في السادسة والعشرين ويقول لها أنتِ أول أهلي لحوقا بي فسُرّت ﻷنها تعرف أنها ستلحق بأبيها -صلوات الله وسلامه عليه-.
 والموقف الثالث: أنه -عليه الصلاة والسلام- قال وقد خيّرهُ المَلَك ما بين الخُلد في الدنيا ثم الجنة وما بين لقاء الله ثم الجنة قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها سمعته يقول: "مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا". اللهم اجعلنا منهم ومعهم. وصلى الله على محمد وآله والحمد لله رب العالمين.
اقرأ المزيد...

الوقفــ الأولى ـــة من جـ (٣٠) / من سورتي عبس والمطففين



الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله نسأل الله أن يختم لنا ولكم بخير.
هذا هو الجزء الثلاثون وسنقف معه ثلاث وقفات:
 الوقفة الأولى: مع قول الله جل وعلا (عَبَسَ وَتَوَلَّىٰ (١) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَىٰ (٢) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّىٰ) وهي مقتبسةٌ لها علاقةٌ قويةٌ بالسيرة العطرة والأيام النضِرة في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم.
 قال بعضُ أهل اللغة وفرسان البلاغة: إن هذا العتاب الرباني لم يأتِ مباشِراً فلم يقُل الله لنبيه عبست وتوليت وإنما قالها بصيغة الغائب (عَبَسَ وَتَوَلَّىٰ) وهذا فيه نوعٌ من لُطف الله بنبيه صلى الله عليه وسلم مع الإبقاء على تأديبه وإظهار الحق.
 النبي عليه الصلاة والسلام كان حريصاً أعظم الحرص على أن صناديد قُريش يدخُلون في الدين لأن الناس لهُم تَبَع فكان يحرصُ عليهم أكثر مما يحرص على غيرهم فأقبل إليه عبد الله ابن ابي مكتوم رضي الله عنه فكأن النبي أشاح شيئاً يسيراً عنه مُلتفِتاً إلى صناديد قُريش فأنزل الله جل وعلا في شأن هذا المُقبل على الله وهو عبد الله ابن ابي مكتوم قوله (عَبَسَ وَتَوَلَّىٰ) من الذي عبس وتولى؟! نبيُّنا وحبيبُنا وصفوتُنا صلى الله عليه وسلم هذا معنى كلام الله. (أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَىٰ) أي وقت أن جاءهُ الأعمى.
 قال الله (عَبَسَ وَتَوَلَّىٰ (١) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَىٰ (٢) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّىٰ (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَىٰ (٤) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَىٰ) "أما" هذه تفصيلية يعني من صناديد قُريش (فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّىٰ (٦) وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّىٰ (٧) وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَىٰ (٨) وَهُوَ يَخْشَىٰ (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّىٰ) هذا نصّ الخطاب القُرآني تلقى النبي صلى الله عليه وسلم عتاب ربه لهُ فكان يُكرمُ عبد الله ويقول أهلاً بمن عاتبني به ربي.
 أعظم ما تدُل عليه الآية: أنهُ ينبغي للمؤمن أن يكون واضِحاً في تعامُله مع الناس خاصة إذا كان مسؤولاً عنهم فالنقدُ فيما يُسمى بالنقد وما يُسمى في القُرآنِ عِتاباً هذا كُله دلائل على أن الجُرح لا يُرمى على شيءٌ فاسد، الجُرح إذا رُم على فساد يفسُد فالأمُور في وقتها تُعالج حتى لا يبقى جُرحٌ فوق جُرح. لمَّا أعطى النبي صلى الله عليه وسلم من أعطى من المُؤلفةِ قُلوبهم وجدَ الأنصارُ في قُلوبهم شيئاً فجمعهُم صلى الله عليه وسلم وقال لسعد قال ما أنا إلا رجُلٌ من قومي فبيًّن لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أما لو إنكُم لو شئتُم لقُلتُم فلصَدَقتُم ولصُدِّقتُم أتيتنا طريداً فآويناك وفقيراً فآسيناك" ذكَر مناقِبهُم ثمَّ بيَّن لهُم لِمَ أعطى وبيًّن بعد ذلك بقوله يستدِرُ قلوبهُم وهو يعلمُ حُبهم له لكِنهُم كانوا واضحين كانوا بيِّنين وبعثوا سعداً ليأخذ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبرَ ويُجيبهم به فقال صلى الله عليه وسلم "والله لو سلك الناسُ شِعباً لسلكتُ شِعب الأنصار ولو سلك الناسُ وادياً لسلكتُ وادي الأنصار يامعشرَ الأنصار أما ترضون أن يعودَ الناسُ بالشاة والبعير وتعودون برسول الله إلى رِحاله" في عصرِنا هذا في إحدى الدول قبل حوالي ستينَ عاماً أو أكثر بقليل بعثَ أحدُ الناس طالِباً أعمى يتعلم فخرج وتعلم -يعني في الغرب- ثم عاد الذي بعثهُ ذلك الزعيم عاد الطالب فلمَّا عاد كانوا في يومِ جُمعة، فهذا الزعيمُ كان في المسجد وجاء الطالبُ عائداً وهو كفيف أعمى وقد علِم الناس أنه جاء بالشهادة فأقبل إليه هذا الزعيم وقبَّله وعانقه ورحّب به فقالَ الخطيبُ -عياذاً بالله- في جُمعته يُثني على هذا الزعيم قال: جاءه الأعمى فما عبسَ ولا تولى. فلمَّا قالها وصلَّى بالناس قامَ أحدُ العلماء وقال أيُّها الناس أعيدوا صلاتكُم فقد كفرَ بتلك الكلمة وصلى بهم إماماً. ثُم بعد ذلك هذا الخطيب الذي قال هذا القول شاهدهُ الناس بعدَ سنين من ذهابِ ذلكُم الزعيم -تغيرت الأحوال- على أبوابِ المساجِد يحفظُ للناس أحذيَتهُم ويُعطونه ما يسُد به حاجته.
 المقصود ليست الشماتة في أحدٍ بعينه ولا ذِكرُ أسماء الناس لكِن المقصود: لا ينبغي لمؤمن أن يجعل من آيات القرآن طريقاً لأن يمزح بها مع غيره، وأعظمُ من ذلك من يجعلُها في غيرِ موقِعها، القرآن عظيم أُنزل حياةً للقلوب فلا تجعل من آياته طريقاً كيف تتواصل به مع أقرانِك ورُفقائك وأصحابِك وخُلطائك في مجالِسك وغُدوِّك ورواحك الله يقول عن كتابه (بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) وقال (فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ*وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ*إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌفِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ) هذه وقفة.
 في نفس الوقفة الأولى نأخذ في نفس السورة استنبط ابن عباس أن ليلة القدر ليلة سبعٍ وعِشرين من أن الله جل وعلا خلقَ ابن آدم في سبع، وجعل رزقه في سبع، فقال في رزقه إن الله يقول (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَىٰ طَعَامِهِ*أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا*ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا*فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا*وَعِنَبًا وَقَضْبًا*وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا) هذه خمس (وَحَدَائِقَ غُلْبًا) هذه ست لأنَّ غُلباً صفة للحدائق، (وفاكهةً) هذه سبع أما الأبُّ فهو ما تطعَمهُ الدواب. وأما السبع الأُول فهي لبني آدم.
 من آياتِ هذا الجزء المُبارك الجزء الثلاثين وقد وقفنا عند سورةِ عبس قول الله تبارك وتعالى (وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) وهذا في خاتمةِ الإنفطار ولا ريب أنَّ الأمر دائماً وأبداً لله لكِن المُلك في حقيقته قسمان: مُلكٌ حقيقي ومُلكٌ صوريّ. فالمُلك الحقيقي فهو في كُل أحواله لله وأما المُلك الصوريّ فهو ما تراه في الدُنيا كُل أحدٍ ملَّكه الله شيء بحسبِ فيءِ الله جل وعلا عليه فإذا كان يومُ القيامة حُشر الناس (حُفاة عُراةً غُرلاً بُهماً) حُفاة: غير مُنتعلين، عُراه: غيرُ مكتسين، غُرلاً: يعود للذكر منهم ما أُخذ منه وقتَ خِتانه، والأخيرة هي قوله صلى الله عليه وسلم (بُهماً) يعني غيرُ مموَّلين يعني لم يأتوا بشيءٍ من متاعِ الدُنيا معهُم، فكونهم لم يأتوا بشيءٍ من متاعِ الدُنيا معهُم هذا إذهابٌ للمُلك الصُوري الذي كانوا يتملكونه، كانوا يتموَّلونه في الدُنيا فلمَّا ذهبَ ما كان يملِكه الناس من مُلكٍ صورِي لم يبقَ إلا المُلك الحقيقي فقال الله جل وعلا (وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) ومنه كذلك قول الله في الفرقان (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَٰنِ) فهذا بعضُ ما دلَّت عليه سورة الإنفِطار.
  كذلك من سور هذا الجزء المبارك أن الله جل وعلا قال (خِتَامُهُ مِسْكٌ) قالها في سورة المطففين (يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ*خِتَامُهُ مِسْكٌ) تحتمل (خِتَامُهُ مِسْكٌ) معنيان:
- إمَّا أن يكونَ الختمُ ما يُوضع في الأعلى فيُقصد أن هذا الشراب الذي يُشرب والطعام الذي يُطعم لأهل الجنة مختُوم بالمسك قبل أن يفُضُوه -قبل أن يفتحوه- هذا تأويل.
- التأويل الآخر -ولعله هو الأظهر- أنه في حياة الناس اليوم أنَّ آخر الطعام لا يكونُ حسناً فعِندما تأتي للقِدر فتأكُل منهُ فإن آخر القِدر لا يكونُ مُرغَّباً فيه، كما أنك لو سقيتَ أحداً من مشروب فإن بعض الناس يُنزِّه ضيفهُ عن آخر الطعام أو عن آخر الشراب لأنَّ آخره إلا يأتي فيه شيءٌ من الكَدر فالله جلَّ وعلا يقول عن شرابِ أهل الجنة قال (كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ*وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ*كِتَابٌ مَرْقُومٌ*يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ*إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ*عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ * تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ* يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ * خِتَامُهُ مِسْكٌ) هذا الرحيق آخره مسك فكيف بأوله ؟! فنبه بآخره على جلالةِ أوله، نبه بآخره على لذة أوله (خِتَامُهُ مِسْكٌ) ثم قال (وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ*وَمِزَاجُهُ) أي ما يُخلط به (مِنْ تَسْنِيمٍ*عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ) هذا ما ذكره الله جل وعلا في سورة المطففين. قالوا عن صدرها إنه نزل في المدينة إن صحَّ هذا فقد كان أهلها في أول الأمر ممن يُطففون في الكيل والميزان.
 هذه الوقفة الأولى مع آيات الجزء الثلاثين اضطررنا إلى أن نُعرِّج فيها على عدة سور لأن هذا الجزء المُبارك -كما تعلم- عديد السور. في الوقفتين التاليتين إن شاء الله تعالى سنُعرِّج على بعض سور قِصار المُفصل بأكملها حتى يتضِح السبيل لأن قِصار المُفصل لا تحتمِل آياتُها في الغالب أن نُجزِّئها هذا والله تعالى أعلم وإلى الوقفة التي بعدها .
اقرأ المزيد...

الثلاثاء، 17 يونيو 2014

الفوائد التربوية من ذكر النِعم المادية في سورة النحل

* أولاً : نعمة الوجود :
 قال تعالى : (خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ) [النحل/4]
المعنى الإجمالي : ركّزت الآية على مرحلة من مراحل خلق الإنسان، وكل صفات الإنسان تكون في هذه النطفة ثم تكرر تلك الخصائص والصفات في الإنسان عند وجوده(٢٧)
 ومما يلاحظ أن الولد يتولد من اختلاط ماء الرجل مع ماء المرأة مما أطلق عليه القرآن لفظ أمشاج قال تعالى : (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا) [الإنسان/2].
- ومني الرجل لا يتولد منه الولد ما لم يمازجه مادة أخرى من الأنثى (٢٨) والولد يتكون من جزء من الماء، يؤيد ذلك حديث الرسول صلى الله عليه وسلم (ما من كل الماء يتكون الولد، إلا إذا أراد الله خلق شىء لم يمنعه شىء)(٢٩).
  الفوائد التربوية من ذكر نعمة الوجود :
 ١ - هذه نعمة تدعو للتأمل في فطرة الله، قال تعالى : (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ) [الطارق/5 - 7].
ويدرك المسلم وهو يتلو هذه الآية مدى حكمة الله حيث جعل النطفة وسيلة لبقاء النوع الإنسانى عن طريق التزاوج، وهذا فيه كثير من العبر والمواعظ، ولا يمكن أن يكون هذا الخلق العظيم وُجد بدون خالق فتبارك الله الذى خلق من النطفة مخلوقا أودع فيه من أسرارعظمته، وبديع صنعه ما جعلـه إنسانا حيا ناطقا سميعا بصيرا (٣٠)، وهذه لفتة تجعل الإنسان ينظر إلى حقارة الماء الذى خلق منه لكى لا يتكبر, ويكون متواضعا، واقعيا في حياته، وإذا تواضع الإنسان وابتعد عن الكبرياء صح سلوكه واستقام. وإذا أعمل الإنسان بصره وفكره في خلق نفسه استجابة لقولـه تعالى (وَفِي أَنْفُسِكُمْ ۚ أَفَلَا تُبْصِرُونَ) [الذاريات/ 21]
فإنه يؤمن بالله رباً وبكل صفاته الربوبية والألوهية.

 ثانياً : نعمة السمع والبصر :
 أ - قال تعالى : (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ ۙ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [النحل/78].
المعنى الاجمالي : ذكر الله هذه الحواس، وهي من أهم الحواس وفيها دلالة على البقية، فزود الله الإنسان بالسمع ليسمع به الأصوات، والبصر ليدرك به الأشخاص، والفؤاد الذى يعى به الأمور ليشكر نعم الله عليه (٣١). وأفرد الله السمع في هذه الآية.

ب - قال تعالى : (أُولَٰئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ) [النحل/108]
 ج - قال تعالى : (وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) [النحل/65].
 المعنى الاجمالي : أي أن الله خلق السماء فينزل منها الماء فيكون سبباً للحياة بإنبات الزرع والشجر والثمر، بعد أن كانت ميتة (٣٢).

 د - قال تعالى : (وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [النحل / 77].
 المعنى الإجمالي : أي وما شأن الساعة في سرعة المجيء إلا كطرف العين أو رجع البصر، من أعلى الحدقة إلى أسفلها، أو هو أقرب من هذا وأسرع، لأن أمره سريع الحدوث لأنه يقول للشيء كن فيكون (٣٣).
 الفوائد التربوية من ذكر نعمة السمع والبصر :
١ - تشير الآيات السابقة إلى أن الله تعالى أودع في الإنسان هذه الحواس ليتمكن من عبادة ربه سبحانه وتعالى فيستعين بكل جارحة وعضو وقوة على طاعة مولاه جل علاه باستعمال كل عضو فيما خلق من أجلـه وليتمكن من عبادة ربه ويطيعه فيما أمره فلا يسمع ولا يبصر ولا يعتقد إلا حلالا مما أمر الله، وبغض الطرف، ولا يسمع المحرمات، والمعتقدات الباطلة.
 ٢ - ردّت هذه الآية الكريمة على الكافرين الذين أعرضوا عن قبول الحق, وارتدوا على أعقابهم ولم يستعملوا سمعهم وبصرهم وسائر حواسهم في الاستفادة مما حولهم من الكون فحكم عليهم بالخسارة بعد أن طبع الله عليها ذلك أن العقيدة لا يجوز أن تكون موضع مساومة وحساب للربح والخسارة، ومتى آمن القلب بالله فلا يجوز أن يدخل به مؤثر من مؤثرات هذه الأرض فللأرض حساب، وللعقيدة حساب، ولا يتداخلان (٣٤).
٣ - الله سبحانه لا يعجزه شىء، وأمره بقولـه : (كن فيكون) والله قادر على إقامة يوم القيامة في أسرع لحظة، ولما كان أسرع الأحوال والحوادث في عقولنا وأفكارنا هو لمح البصر ذكره تقريبا للأذهان (٣٥)، وهذا يدفع المسلم للاستعداد الدائم للقاء ربه فالله قادر أن يهلكه وقادر أن ينصره بأسرع مما يتصور بل أسرع من ارتداد بصره إليه.
٤ - زوّد الله الإنسان بأدوات تحصيل المعارف والعلوم ومنها السمع والبصر والفؤاد وهي من أهم أدوات التحصيل العلمي، وقد قدّم الله السمع على البصر للأسباب الآتية :
 - إن السمع سبب لتحصيل المعارف والعلوم فالإنسان إذا فقد بصره يستطيع تحصيل العلوم بل إن جهابذة العلماء والعباقرة كثير منهم كانوا قد فقدوا أبصارهم فالفهم والنطق يتعلقان بدرجة كبيرة بالسمع لا بالبصر.
 - السمع يشمل كل الجهات في حين البصر لا يبصر إلا أمامه.
 - تقديم السمع على البصر دليل على الأفضلية حيث إن السمع خلق قبل البصر, فالمولود يسمع قبل أن يبصر, لذا من السُّنة الأذان في أذن المولود اليمنى، وإقامة الصلاة في أذنه اليسرى، ليكون أول ما يسمع التوحيد.
- آلة السمع تعمل في النور والظلام فيما البصر لا يبصر إلا في النور. 
- السمع متعلق بالنطق فإذا فقد السمع فقد النطق، بخلاف البصر.
 وإذا تتبعنا السمع فإنه لا يأتى في القرآن إلا مفردا، بخلاف البصر فإنه يأتى بصيغة الجمع وذلك للإشارة إلى أن مدركات السمع نوع واحد, بينما البصر تتعدد مداركه فبالبصر يدرك الإنسان الضوء واللون والشكل، وقال الشوكاني : " ووحد السمع لأنه مصدر يدل على الجمع، بخلاف البصر، ولهذا جمعه "(٣٦). ونعتوا بمصدر كثيراً فالتزموا الإفراد والتذكير. وهذه قاعدة نحوية - المصدر إذا جعل اسما ذكر وأفرد (٣٧).
 وعبر القرآن بالفؤاد وبالعقل وكلاهما يشمل قوى الإلهام الكامنة المجهولة الكُنه والعمل (٣٨). والحديث أشار إلى أهمية القلب (ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كلـه، وإذا فسدت فسد الجسد كلـه، ألا وهي القلب) (٣٩) وفي هذا دلالة على وجوب موافقة القول للعمل فالعبرة لما في القلب - واسناد الاطمئنان للقلب يدل على أن محل الإيمان هو القلب (٤٠) لذا يجب على المسلم أن يكون نظيفا قلبا وقالبا.
 وزود الله الإنسان بهذه الأدوات والآليات التي تمكّنه من تحصيل المعرفة وفي هذا تربية عملية للإنسان على التأمل والتفكير والملاحظة والاستنباط والمناقشة ليحصل على أكبر قدر من المعرفة والمخترعات، مما يحقق لنا التقدم العلمي والحضاري على الأمم والشعوب والإنسانية جميعا، وهذا ما فعلـه أسلافنا من قبل إلا أننا أضعناه لأننا لم نستفد من سمعنا وأبصارنا وأفئدتنا كما يريد الله تعالى.

  ثالثاً - نعمة الزواج :
 قال تعالى : (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ۚ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ) [النحل/72]
 المعنى الاجمالي : من رحمة الله أن جعل لنا من أنفسنا أزواجا، لتكوين الحياة الأسرية، ومن الأسرة يتكون البنين والحفدة، ورزقنا من المطاعم والمشارب. (٤١).
 الفائدة التربوية من ذكر نعمة الزواج :
١ - جعل الله الحياة الزوجية فيها مودة ورحمة من ذكر وأنثى ولو كان غير ذلك لأدى إلى النفور وعدم الاستقرار، قال تعالى : (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) [سورة الروم/21]. لذا حث الإسلام على الزواج ونهى عن التبتل. رُوى عن ابن عباس رضى الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :  (لم يُرَ للمتحابين مثل الزواج) (٤٢). علما أن السكون والطمأنينة الناجمة عن الحياة الزوجية، تسكن القلب عن الحرام، وتحمى الإنسان من الوقوع في الرذائل؛ فالزوجة توفر لـه الملاذ الآمن فيجد منها أٌََذنا صاغية، وقلبا حانيا، وحديثاً رقيقاً حلواً يخفف عنه، ويذهب ما به من هم وغم.
٢ - الأمة المسلمة أمة جهاد ولابد من توالد النسل وذلك من أجل الدفاع عن الاسلام، قال صلى الله عليه وسلم (تزوجوا الولود الودود، فإني مباهٍ بكم الأمم يوم القيامة) (٤٣) ولولا وجود النسل لأدى إلى فناء النوع الإنسانى، ثم إن التناسل سبب في عمارة الكون. فمن تمام السعادة الزوجية والاستقرار الأسري أن يتم الإنجاب بين الزوجين ووجود الأولاد يساعد على الترابط في الحياة الأسرية وصلاحها وتكامل البناء العائلي الذي يكون نواة المجتمع بأسره فإن صلحت الأسرة وسعدت صلح المجتمع وسعدت الإنسانية (٤٤).
٣ - ولن تتم نعمة النسل من البنين والحفدة إلا إذا كانوا صالحين (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا) [الفرقان/74]، والمقصود أنهم من يعملون بطاعة الله فتقر به أعينهم في الدنيا والآخرة. (٤٥) ويحرص الإنسان على إنجاب الولد ليكون امتدادا لـه إلى يوم القيامة حيث أن المسلم يحرص على الحياة الآخرة ويقدمها على الدنيا، فالولد إذا تربى تربية صالحة يكون خيرا لوالديه كما أشار الرسول صلى الله عليه وسلم : (إذا مات ابن آدم انقطع عنه عملـه إلا من ثلاثة صدقة جارية، أوعلم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو لـه) (٤٦). ويترتب عليه البحث عن الزوجة الصالحة وقبول تزويج صاحب الدين حتى لاتكون فتنة في الأرض (إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير) (٤٧).
٤ - قرر الإسلام أن للوالدين أثراً كبيراً في سلوك أبنائهم، قال صلى الله عليه وسلم : (كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه) وفي لفظ "يشركانه " (٤٨) وهذا يُلقي بالمسؤلية على الآباء ليقوموا بدورهم المطلوب تجاه أبنائهم وتربيتهم تربية صالحة.
٥ - ومن الفوائد التربوية احترام المرأة وتقديرها فينبغى أن تأخذ كامل حقوقها في أمور أموالها وإرثها وزواجها وطلاقها ... الخ، وشنّع الإسلام على الجاهلية قديما وحديثا التي سلبت المرأة حقوقها السياسية والاجتماعية والاقتصادية والعلمية فحرمان المرأة من حقوقها يؤدي إلى خلل في بناء الأسر وينعكس سلباً على النسل.

 رابعاً - نعمة الليل والنهار :
 أ - قال تعالى : (وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ۖ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ ۗ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) [النحل/12].
 ب - قال تعالى : (وَعَلَامَاتٍ ۚ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ) [النحل/16].
 المعنى الاجمالي : سخر الله للإنسان نِعما يحتاج إليها من سكون الليل، وضوء النهار، والأفلاك السماوية، وفيها الدلالات الواضحة لأهل العقول.(٤٩). فالليل والنهار يتعاقبان، والشمس والقمر يدوران، لينتفع الناس والحيوان والنبات بالحرارة والضوء ومعرفة عدد السنين والشهور، ومعرفة أوقات العبادات ومعرفة أوقات نضج الثمار والزرع، وتزيين السماء بالنجوم والثوابت والسيارات، نورا وضياء ليهتدى بها في ظلمات البر والبحر (٥٠) وكل منا يسير في ملكه بنظام دقيق، وكل خاضع لقهره وسلطانه وتسخيره وتقديره. (٥١)
الفوائد التربوية من ذكر نعمة الليل والنهار :
١- الوقت ثمين في حياة المسلم ويسأل عنه يوم القيامة، لذا قال صلى الله عليه وسلم : (اغتنم خمسا قبل خمس، شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك) (٥٢). قال الحسن البصرى " يا ابن آدم إنما أنت أيام فإذا ذهب يومك ذهب بعضك ".
 وتتفاوت الأوقات في بركتها، فساعة أعظم بركة من ساعة، ويوم عند الله أفضل من يوم، وشهر أكرم من شهر (٥٣) - والليل والنهار يبليان كل جديد، ويقربان كل بعيد، ويطويان الأعمار، ويشيبان الصغار، ويفنيان الكبار (٥٤)
٢ - ومما أثبته العلم أن الشمس مصدر كل حياة، ورغم أن درجة حرارتها مرتفعة إلا أن الله جعل الأرض تبعد بدرجة كافية تصلح للحياة (٥٥). فلو نقصت نسبة بُعد الأرض عن الشمس لأدى إلى تجمد كل ما على الأرض، ولزدادت البرودة، وجمدت البحار والمحيطات وانتهت كل مظاهر الحياة، ولو زادت قليلا لاحترقت الأرض وما عليها ولما وجدت الفصول الأربعة من صيف وخريف وشتاء وربيع. (٥٦) فسبحان من خلق وقدر، واستحق العبادة.
٣ - من مظاهر الانتفاع بما سخر الله ما يحدثه القمر بضوءه المنعكس عن الشمس من هدوء وراحة وسكون في ظلمة الليل والإهتداء بالقمر والنجوم نعمة عظيمة على الإنسان تمكنه من أداء معاملاته، وعباداته؛ فمن الملاحظ أن العرب قد استعانوا بالنجوم في الإهتداء إلى معرفة القبلة ومعرفة وقت الفجر بالذات سواء النجم القطبى أوالثريا أونجم الشعرى بالذات في أسفارهم إلى الشام وحتى لا يزيغ الإنسان ويضل فيعبد النجوم والكواكب كما عبد المجوس أكد الله أنه هو رب النجوم فقال تعالى : (وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَىٰ) [النجم/49]، فالعبادة تكون للخالق لا للمخلوق.

 خامساً : نعمة البحار والأنهار في سورة النحل :
 أ - قال تعالى : (وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ*وَأَلْقَىٰ فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) [النحل/14 - 15]
  ب - قال تعالى : (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ۖ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ ۚ كَذَٰلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ) [النحل/31].
  المعنى الإجمالي : سخر الله للإنسان البحر لينتفع بما فيه من خيرات كاللحم الطري واللؤلؤ والمرجان، والفلك المواخر للابتغاء من فضل الله ورزقه، ووصف الأكل بالطراوة لأنه سهل الأكل، ولأنه لو ترك فترة بعد استخراجه فإنه قابل للتغيير، فيسرع إليه الفساد والاستحالة (٥٧) ومما سخره الله للإنسان من البحر ماؤه الطهور المستفاد منه فهو الطهور ماؤه، وميتته الحلال، والحلي المستخرجة منه، وقال مجاهد: إن المراد بابتغاء فضل الله هو تجارة البر والبحر (٥٨).
 الفوائد التربوية من ذكر نعمة البحار والأنهار :
١ - الإنسان تطمئن نفسه إلى وجود الأنهار وذكرها في القرآن مع وجودها في الدنيا، فوجودها في الدنيا يقرب صورة الأنهار في الآخرة للذهن؛ لأن العين تراها، وتحسها النفس. (٥٩)
٢ - حل السمك وجوازه بدون ذكاة لأنه سريع فقدان الحياة ويموت بمجرد خروجه من الماء وفي طلب تذكيته مشقة، فتدبر رحمة الله بعباده. فهو الشرع الذي ليس فيه عنت ولا مشقة.
٣ - في البحر من ما خلق الله تعالى من عجائب أخرى من الحيوان والجواهر والطيبات أضعاف ما هو مشاهد على وجه الأرض وكل منها دبره البارى سبحانه وخلق منها ما يصلحه.
٤ - وجريان الفلك نعمة عظيمة، تتم بإرادة الله، الذى جعل الماء ثلاثة أرباع الكرة الأرضية، لتصل السفن لكل أنحاء العالم فلو جعل الماء في ناحية واحدة، غير مفرق بين القارات، لما كان لـه نفس الأثر في حمل السفن وحمل الناس (٦١).
٥ - عقبت الآيات بقولـه تعالى : (لعلكم تشكرون)؛ للفت الانتباه لأهمية الشكر على ما أنعم به وما سخّره من هذه النعم التي عدّها في هذه الآيات (٦٢).

 سادساً : نعمة الجبال والسُبل في سورة النحل :
 لفظ الجبال ورد في الآيات الآتية :
 أ - قال تعالى : (وَأَلْقَىٰ فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) [النحل/15].
 المعنى الاجمالي : ومن نعمة الله عليكم أيها الناس أن ألقى في الأرض رواسى، وهي الثوابت من الجبال، كى لا تميد بكم وتضطرب. وجعل لكم أنهارا وطرقا تهتدون بها (٦٣).

ب - قال تعالى : (وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ) [النحل/68].
 المعنى الإجمالي : سبق تفسيرها في الفصل الأول عند شرح نعمة الوحي.

 ج - قال تعالى : (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا) [النحل/81]. المعنى الإجمالي : جعل الله الجبال يستظل بها، ويتخذ منها حصونا، يتحصن بها الناس ضد أعدائهم، وهي مساكن يسكن الناس فيها (٦٥).
 وأما لفظ السبيل فورد في الآيات الآتية :
 أ - قال تعالى : (وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ ۚ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ) [النحل/9]. المعنى الاجمالي : السبيل القاصد : هو الطريق المستقيم، الذي لا يلتوي، والسبيل الجائر : هو السبيل المنحرف، وشاء الله أن يخلق الإنسان مستعداً لفعل الهدى والضلال، وأودع فيه القدرة على الاختيار فمنهم من يسلك السبيل القاصد، ومنهم من يسلك السبيل الجائر، وكلاهما لا يخرج عن مشيئة الله تعالى. (٦٦).

 ب - قال تعالى (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ) [النحل / 88].
 المعنى الاجمالي : أي : الذين كفروا، وأشركوا بالله، وصدوا عن الإيمان بالله ورسولـه، يضاعف الله عذابهم، فاستحقوا عذابين، عذاب الكفر وعذاب الإضلال، فهم ينهون الناس عن اتباع الحق، ويبتعدون هم عنه. (٦٧).

 ج‌- قال تعالى : (وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ۖ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) [النحل / 94].
 المعنى الإجمالي : الآية تنهى عن نقض العهود والمواثيق باتخاذ الأيمان مكرا وخديعة من أجل الحصول على بعض منافع الدنيا، فتبتعدوا عن الطريق المستقيم (٦٨).
 الفوائد التربوية المذكورة في نعمة الجبال والسبل :
١ - جعل الله الجبال في الأرض لتثبتها وتحفظ توازنها، ولولا ذلك لما أمكن العيش ولا العبادة، ويتخذ المسلم من هذا التثبيت والتوازن درسا في المحافظة على ثبات سلوكه وتصرفاته، ولا يحفظ هذا الثبات إلا الإسلام، وبدونه يكون الاضطراب كما تضرب الأرض بدون الجبال.
٢ - والجبال يستظل بها ويتخذ منها حصونا، ولطالما يستعملها الناس حصونا يتحصنون بها من أعدائهم، فهى مساكن يسكن فيها الناس، قال تعالى : (وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ) [الشعراء/149] ويسكن فيها النحل، وهي أماكن للعبادة؛ فقصة تعبده صلى الله عليه وسلم في غار حراء مشهورة.
٣ - تُعد الجبال خزانات للماء والمنابع الأصلية للأنهار، قال تعالى : (وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا) [المرسلات / 29]. وأثبت العلم أن الجبال خزانات مائية عظيمة تتجمع فيها الينابيع، والعيون، وتجرى منها الأنهار التي تصب في المحيطات والبحار(٦٩)
وهذا ما يدفع المسلم إلى مزيد من تعظيم الله، والخشوع لـه.
٤ - وأما السُبل فقد وردت مفردة في الآيات المتقدمة وهذه تدل على الإيمان بالله والإسلام لأنه طريق واحد منفرد لا ثانى لـه بخلاف طرق الضلال فإنها متعددة قال تعالى : (وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) [الأنعام / 153].
وأما لفظ السُبل التي وردت بالجمع مع ذكر الجبال فهي : تعني ما أودعه الله مع الجبال والأنهار من الأودية والطرق والمسالك، وذكر السبل مع الإشارة إلى الإهتداء - يشير إلى شأن آخر في العقيدة، فلعلهم يهتدون إلى سبيل يقودهم إلى الإيمان كما يهتدون في فجاج الجبال (٧٠).
٥ - في رؤية الجبال والأودية تذكير بالعبادة؛ فالمسلم إذا رأى جبلاً كبّر ربه، وإذا هبط وادياً سبح ربه، فالجبال والسبل تذكره بنعمة الله عليه، فهو كثير الغفلة وبحاجة إلى آيات منظورة تترجم الآيات المسطورة في القرآن الكريم.
٦ - هذه الجبال والسبل المتعددة لها خالق واحد، لا تعصيه، وتسبح بحمده أفلا يتعلم المسلم منها درسا في الطاعة لله، خاصة أن الانسان مهما بلغت قوته فلن يخرق الأرض ولن يبلغ الجبال طولا.

 سابعاً : نعمة الحيوانات والطيور في سورة النحل :

 ١- نعمة الأنعام :
 أ - قال تعالى : (وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا ۗ لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ*وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ*وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَىٰ بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ ۚ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ) [النحل / 5 - 7].
 المعنى الإجمالي : إن الله خلق الأنعام لمصالحكم وهي الإبل والبقر والغنم، ولكم فيها ما تستدفئون به من البرد، وتفترشون من الأصواف والأوبار، وجعل لكم فيها منافع عديدة من النسل والدرر وركوب الظهر، ومن لحومها تأكلون، ولكم فيها زينة وجمال حين رجوعها من المرعى، وحين غدوها صباحاً، لترعى وتحمل الأثقال والأمتعة إلى أماكن لا تصلوها إلا بجهد ومشقة، وهذا فضل من الله ورحمة ورأفة بكم.(٧١).

 ب - قال تعالى : (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً ۖ نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ) [النحل / 66].
 المعنى الاجمالي : إن لكم أيها الناس في هذه الأنعام : الإبل والبقر والمعز والضأن لعظة وعبرة يعتبر بها العقلاء إذ نسقيكم من بعض الذي في بطونها من بين الروث والدم، الحليب الخالص، واللبن النافع (٧٢).

ج ــ قال تعالى : (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ ۙ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَىٰ حِينٍ) [النحل/80] .
المعنى الإجمالى : هذه الآيات الكريمة تشير إلى نعمة الله التي سخرها للإنسان من الأنعام، ومن أكل لحمها أو شرب لبنها، أو الاستمتاع بجمالها، والركوب عليها وحمل المتاع والأثقال والانتفاع من جلودها وشعرها ووبرها في صنع البيوت والملابس تتمتعون بها إلى حين الموت، وفي تفسير مجاهد : إلى أن تبلى (٧٣).

 ٢ - نعمة الحيوانات من غير الأنعام :
 قال تعالى : (وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً ۚ وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ) [النحل / 8]. المعنى الإجمالى : وهذا صنف آخر مما خلق الله سبحانه لعباده يمتن به عليهم وهو الخيل والبغال والحمير التي جعلها للركوب والزينة بها، وذلك أكبر المقاصد منها ولما فصلها عن الأنعام أفردها بالذكر (٧٤).

 الفوائد التربوية من ذكر نعمة الأنعام والحيوانات الأخرى والطيور :
١ - الأكل من اللحوم، وهو ضرورة من ضرورات الحياة لذا أفرده الله بالذكر من بين هذه المنافع، وهو ضروري لنمو جسم الإنسان ومده بالطاقة وتجديد الدم ومقاومة الأمراض، فهذا الجسد الذي ينمو من نعمة الله لابد أن يشكر الله والجسم الذي ينمو من السحت فالنار أولى به.
 ٢ - تكوين اللبن معجزة إلهية لها أثرها في النفس - فالطعام يصل إلى الأمعاء فتمتص المعويات ما فيه من غذاء، وتبقى الفضلات (الفرث) في الأمعاء وهذه هي التصفية الأولى، ثم يصل الدم إلى الغدد اللبنية فتفرز الحليب من الدم ليذهب إلى الثدي وهذه هي التصفية الثانية، وبهذا من بين فرث ودم يخرج الحليب (٧٥) وفي هذا نوع من الإعجاز الإلهي الذي يزيد المسلم ثقة بربه وقرآنه. وللّبن ميزة خاصة إذ فيه فوائد طبية ففي الحديث: (فعليكم بألبان البقر فإنها ترم من كل الشجر) (٧٦)، واللبن يحتوي على كل العناصر التي يحتاجها الجسم : من دهن وسكريات وبروتينات وأملاح معدنية وفيتامينات. فسبحان الله الذي جعل الأنعام مستودعا للأغذية.
٣ - ذكر جلود الأنعام وما يتفرع عنها من أصواف الغنم، وأوبار الإبل، وأشعار المعز، فيه دلالة على التمتع والارتياح - فالآية تعرض من نعم الأنعام ما يلبي الضرورات وما يلبي الأشواق (٧٧) ولا شك أن هذا التمتع والارتياح ينعكس على نفسية الإنسان؛ إذ يُقبل على العبادات بارتياح مما يساعده على الخشوع والخضوع لله تعالى فبين الله هذا الارتياح بقوله تعالى (لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ) [النحل / 7]. أي لم تكونوا بالغيه إلا بالمشقة(٧٨).
٤ - ومن دواعي الارتياح والاستمتاع بالأنعام الدعوة إلى رؤيتها حين رواحها من المرعى وحين سراحها للمرعى؛ لأن الناظر لها يرى جمال خلق الله، صنع الله الذي أتقن كل شئ. وخصّ الله هذين الوقتين بالذكر لاهتمام الرعاة بهما حين الذهاب والإياب وفي ذلك مفاخرة بالقطيع يذكر بنعمة الله على الإنسان، وقدّم الرواح على الذهاب لأن الفائدة فيها أتمّ فمجيئها يدل على الشبع وكثرة الحليب مما يملأ النفوس بهجة وسروراً والعين متعة، فهي عنصر للغذاء وأداة انتاج في الاقتصاد (٧٩). فالجمال عنصر أصيل وليس الأمر متوقف على تلبية الضرورات من الطعام والشراب والركوب وسائر وجوه الانتفاع  بل في هذه تلبية حاسة الجمال ووجدان الفرح والشعور الإنساني المرتفع (٨٠).
٥ - الركوب نعمة تستوجب الشكر لأنها توفر للإنسان كثيراً من الجهد والتعب، وإذا نظرنا إلى الخيل نجد أن لها أثراً كبيراً في الجهاد، ونشر دعوة الإسلام، والدفاع عن الأوطان وعن الحرمات والأعراض وكانت من وسائل نصر المسلمين على أعدائهم (٨١).
٦ - الله أباح الزينة في حدود الحلال وهذا يدل على أن المسلم لا يجوز أن يتمتع بالزينة الحرام لأن الله جعل لـه بديلا عنها بالزينة الحلال وتجاوز الحلال يدل على السلوك المنحرف الذي ينبغي أن يتنزه عنه المسلم. فمن مظاهر الانتفاع التزين بهذه الأنعام - فالتزين ضمن الحدود المشروعة أمر مباح (٨٢).
٧ - قولـه تعالى : (وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ) عقًب الله بها على خلق الأنعام ليظل المجال مفتوحا في التصور البشرى، لتقبل أنماط جديدة من أدوات النقل والحمل والركوب والزينة، فلا يغلق تصورهم خارج حدود البيئة، وخارج حدود الزمان الذى يظلهم، فوراء الموجود في كل زمان ومكان صُور أخرى يريد الله للناس أن يتوقعوها فيتسع تصورهم وإدراكهم، ويريد لهم أن يأنسوا بها حين توجد، أو حين تكتشف، فلا يعادوها ولا يجمدوا دون استخدامها، والإنتفاع بها (٨٣).
٨ - إذا كانت الأنعام التي سخرها الله لخدمة الإنسان تطيعه ولا تتمرد عليه فكذا حري بالإنسان أن لا يتمرد على الله ومن أجل هذا جاء التعبير بلفظ العبرة لنتعلم الطاعة لله ولا نعصيه البته.

٣ - نعمة الطيور :
 قال تعالى : (أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ ۗ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) [النحل/79].
 المعنى الإجمالى : تفيد الآية أن الله سخر للإنسان الطير، وفي طيرانها آية ومعجزة دلت على كمال قدرته وحكمته. وجوانب الانتفاع بها كثيرة فمنها : أكل اللحم، والانتفاع بريشها وبيضها، وما تحتويه من قيم غذائية واتخاذها زينة، واستعمالها وسيلة صيد كالصقر ونحوه، وتوظيفها كوسيلة من وسائل البريد كالحمام الزاجل، واستفاد الإنسان من طيران الطيوربأجنحتها في الاهتداء إلى صنع الطيران (٨٤).

 الفوائد التربوية من ذكر نعمة الطيور :
١ - طيران الطيور ليس بمقتضى طبعها وإرادتها بل مسخرات ومذللات بأمر الله تعالى، ولا يعلم منتهى ارتفاعها إلا الله وبقدرته تعالى تطير؛ لأنه هو الذى أعطى الآلات التي بها يتمكن الطير من تلك الأفعال (٨٥).
٢ - وفي الاستفادة من لحم الطير تشويق المسلم للآخرة بقولـه تعالى : (ولحم طير مما يشتهون) [الواقعة/ 21].

 ثامناً : نعمة النباتات الواردة في سورة النحل :
 أ‌- قال تعالى : (يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ ۗ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) [النحل/11].
 المعنى الإجمالى : بعد أن ذكر الله تعالى في الآية السابقة قولـه : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً ۖ لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ) [النحل/10] يمتن الله على عباده بأنه أنزل الماء من السماء فجعلـه عذبا زلالا سائغا للشاربين، ولم يجعلـه ملحا أجاجا، وأخرج به شجرا ترعون فيه أنعامكم، وأنبت به زرعا وزيتونا ونخلا وأعنابا، ومن كل الثمرات على اختلاف ألوانها وطعومها وروائحها وأشكالها, نعمة لكم تستطيعون به تحقيق قوام الحياة. (٨٦).
 ب - قال تعالى : (وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا ۗ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) [النحل /67].
 المعنى الإجمالى : يمتن الله على عباده أن يسقيهم من ثمرات النخيل والأعناب أى من عصيرها ما أحل من ثمراته : كالخل والدبس والزبيب وهو ما وصفه بالرزق الحسن، وما حرم من شرابه كالخمر (٨٧).
 الفوائد التربوية المستنبطة من نعمة النباتات :
١ - دفع النفس الإنسانية لتعظيم الله الذي رزقنا ثمرات كثيرة متنوعة، أنبتها الله على وجه الأرض بمختلف مناخها وترابها. لذا أ شار الله في الآيتين بقولـه : ( إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)، ( لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) وهو كثير في القرآن وذلك لأن هذه النعم آية من آيات الله ودليل على وحدانيته، فيتعظ ويتفكر في تلك الأدلة والحجج ويسلك مسلك الشكر والطاعة.
٢ - ذكر نعمة النخيل لها أثر في سلوك المسلم، فرسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها وأنها مثل المسلم قيل ما هي يا رسول الله قال:النخلة)(٨٦)
قال ابن القيم: "وتشبيه النخلة بالمسلم لكثرة خيرها ودوام ظلها، وطيب ثمرها، ووجوده على الدوام" (٨٨)، وهكذا المسلم ينبغي أن يكون دائم العطاء في الخير لله وفي أهل مجتمعه.
٣ - ذكر هذه الثمار المتعددة وما لها من قيم غذائية، وفوائد صحية (٨٩) تؤدي إلى حفظ نعمة الوجود للإنسان، وتحقق لـه راحة نفسية تمكّنه من عبادة ربه، وتشوقه إلى ما أعده الله لعباده الصالحين في الآخرة.

 تاسعاً : نعمة الأطعمة والأشربة الواردة في سورة النحل :
 أ - الأطعمة والأشربة الحلال : قال تعالى : (فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) [النحل / 114].
 المعنى الإجمالى : كلوا أيها الناس مما رزقكم الله من بهائم الأنعام، التي أحلّها لكم حلالا طيبا، مُذكاة غير محرمة عليكم، واشكروا الله على نِعمه التي أنعم بها عليكم في تحليلـه ما أحل لكم إن كنتم تعبدون الله فتطيعونه فيما يأمركم وينهاكم (٩٠).

  ب - الأطعمة والأشربة المحرمة : قال تعالى (إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ ۖ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [النحل / 115]. المعنى الإجمالى : ذكرت الآية أنواعا من المحرمات وهذه الأنواع أمثلة وليست على سبيل الحصر، وعُدت منها الميتة : وهي كل حيوان مات حتف أنفه أو ذكي ذكاة غير شرعية (٩٢) فالطبع السليم يستقذر منها، بالإضافة إلى ما يسببه أكلها من الأمراض والسموم والميكروبات والتى لا ينفع فيها الطهى، والدم المسفوح : أى السائل باستثناء ما خالط اللحم، والكبد والطحال قال صلى الله عليه وسلم (أحلت لنا ميتتان ودمان، فالميتتان السمك والجراد، وأما الدمان فالكبد والطحال) (٩٣).
 ما أهل لغير الله به : ما ذُبح لغير الله، وذكر غير اسم الله عليه، والإهلال : رفع الصوت. وعلة التحريم هي : علة دينية حتى لا يكون شرك مع الله.
 الفوائد التربوية المستفادة من نعمة الأطعمة والأشربة :
١ - على المسلم أن يحرص أن يكون أكلـه وشربه من الحلال فإنه لا عذر لـه يوم القيامة ولأن كان الحرام باباً واحداً فإن للحلال أبواباً عديدة. لذا يفتخر المسلم بأحكام الإسلام وتشريعاته إذ ما حرم عليهم من شيء إلا ويسر عليهم وعوضهم خيراً منه، فحرم الزنا وأباح الزواج الشرعي، وحرم الربا وأباح التجارة الحلال وهكذا (٩٤).
٢ - على المسلم أن يتقيد بشرع الله في الحلال والحرام ولا يجوز أن يشرع لنفسه قال تعالى : (وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَٰذَا حَلَالٌ وَهَٰذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ) [النحل/116] - فينبغي مخالفة الجاهلية, فالجاهلية وسّعت دائرة الحلال بتحليل ما حرم الله والله وسّع الحلال وضيًق دائرة الحرام، وشتان بينهما. لأن الأصل في الأشياء الإباحة إلا ما قام الدليل على تحريمه.
٣ - تناول الطعام الحرام يؤدي إلى التوحش والخروج عن الطبع السليم. والدم يسبب وجود الميكروبات والأمراض التي تؤثر على المخ (٩٥) ولحم الخنزير حرّمه الله وذكره بعينه " ليدل على تحريم عينه ذُكّي أو لم يذك " (٩٦)  
------------------------------
(٢٧)  ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، ج3 / 3062.
(٢٨)  البار، محمد علي، خلق الإنسان بين الطب والقرآن، ص109.
(٢٩)  مسلم، صحيح مسلم، كتاب النكاح، باب 22، حكم العزل، حديث رقم 133، ج2 / ص861.
(٣٠)  ابن كثير، تفسير القرآن، ج3 / ص3067.
(٣١)  الزحيلي، التفسير المنير، ج4 / ص192 - 193.
(٣٢)  الزحيلي، التفسير المنير، ج14 / ص169
(٣٣)  ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، ج2 / ص674 بتصرف
(٣٤)  قطب، سيد، في ظلال القرآن، ج4 / ص2196.
(٣٥)  ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، ج2 / ص764.
(٣٦) الألوسي، روح المعاني، ج14 / ص299، الشوكاني، فتح القدير، دار الفكر بيروت.
(٣٧)  الشنقيطي، أضواء البيان، ج3 / ص244.
(٣٨)  قطب، سيد، في ظلال القرآن، ج4 / ص2186.
(٣٩)  البخاري، صحيح البخاري، باب 39، حديث رقم 52 / ص34.
(٤٠)  الرازي، مفاتح الغيب، م7 / ص275.
(٤١)  ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، ج2 / ص762 - 763.
(٤٢)  سنن ابن ماجه، ابن ماجه، شرح السندي، كتاب النكاح، حديث رقم (1847) ج2 / ص407.
(٤٣) الألباني، ناصر الدين، صحيح الجامع الصحيح حديث رقم (2927) ج 3 / ص40. (٤٤)  العك، خالد عبد الرحمن، بناء الأسرة المسلمة في ضوء الكتاب والسنة / ص167.  (٤٥)  ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، ج3 / ص440.
(٤٦)  مسلم، صحيح مسلم، كتاب الوصية، باب 3، حديث رقم 1631.
(٤٧)  سنن ابن ماجه، باب 46، حديث رقم(1967)، ورواه الترمذي بلفظ "إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه"، وقال حديث حسن غريب.
(٤٨)  الترمذي، الجامع الصحيح، باب 5، حديث رقم (2143).
(٤٩)  الشنقيطي، أضواء البيان، ج3 / ص171.
(٥٠)  الطبري، جامع البيان، م7 / ص567.
(٥١)  القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، ج10 / ص83.
(٥٢)  البخاري، كتاب الرقاق، باب 1، حديث رقم (6412).
(٥٣)  أبو غدة، قيمة الزمن عند العلماء، ص222.
(٥٤)  القرضاوي يوسف، الوقت في حياة المسلم، ص 18.
(٥٥)  كريس موريس، العلم يدعو إلى الإيمان، ترجمة محمد الفلكي، ص55.
(٥٦)  حوى، سعيد، الله جل جلالـه، ص40.
(٥٧)  الألوسي، روح المعاني، ج14 / ص165.
(٥٨)  الطبري، جامع البيان، م7 / ص570.
(٥٩)  قطب، سيد، مشاهد يوم القيامة في القرآن، ص43.
(٦٠)  نوفل، عبد الرزاق، الله والعلم الحديث، ص106 - 107.
(٦١)  حميد، فوزي محمد، الجغرافية القرآنية، ص256.
(٦٢)  الطبري، جامع البيان، م7 / ص570.
(٦٣)  الطبري، جامع البيان، م7 / ص 570.
(٦٤)  الطبري، جامع البيان، م7 / ص570.
(٦٥)  الرازي، التفسير الكبير، ج 20 / ص 93.
(٦٦)  سيد قطب، في ظلال القرآن، ج4 / 2162، بتصرف.
(٦٧)  ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، ج2 / 768 بتصرف.
(٦٨)  الرازي، مفاتح الغيب، ج20 / ص116. بتصرف
(٦٩)  حميد، فوزي محمد، الجغرافية القرآنية، ص270 - 271.
(٧٠)  سيد قطب، في ظلال القرآن، ج4 / ص2376.
(٧١)  الجوزي، زاد المسير في علم التفسير، ج4 / ص429.
(٧٢)  الزمخشري، الكشاف، ج2 / ص615.
(٧٣)  الرازي، مفاتح الغيب، ج20 / ص93. بتصرف
(٧٤)  ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، ج2 / ص742.
(٧٥)  حوى، سعيد، الأساس في التفسير، ج6 / ص2965.
(٧٦)  الألباني، صحيح الجامع الصغير، حديث رقم (2926)، ج3 / ص37.
(٧٧)  قطب، سيد، في ظلال القرآن، ج4 / ص2187.
(٧٨)  الرازي، التفسير الكبير، م7 / ص176.
(٧٩)  الزحيلي، التفسير المنير، ج14 / ص90.
(٨٠)  قطب، سيد، في ظلال القرآن، ج4 / ص2161.
(٨١)  سلامة، محمد أحمد، الخيل والفروسية، ص98.
(٨٢)  طهماز، التوحيد والشكر في سورة النحل، ص16.
(٨٣)  قطب، سيد، في ظلال القرآن، ج4 / ص2161.
(٨٤)  طنطاوي جوهري، الجواهر في تفسير القرآن الكريم، ج13 / ص183.
(٨٥)  الرازي، التفسير الكبير، م7 / ص252. بتصرف
(٨٦)  ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، ج2 / ص 744.
(٨٧)  الرازي، التفسير الكبير، م7 / ص235. بتصرف
(٨٨)  الألباني، صحيح الجامع الصغير، حديث رقم (3831) ج3 / ص10.
(٨٩)  ابن القيم، الطب النبوي، ج4 / ص326.
(٩٠)  لمزيد من معرفة الفوائد الصحية انظر : عقل منصور، النباتات في القرآن الكريم، ص 23. وعبد العزيز، الأطعمة والأغذية في القرآن، ص17 - 19.
(٩١)  الطبري، جامع البيان عن تأويل القرآن، م7 / ص657.
(٩٢)  القرطبي، الجامع، ج2 / ص217.
(٩٣)  ابن حنبل، أحمد، المسند، حديث رقم (5690) ج2 / ص230.
(٩٤)  عبد العزيز، الأطعمة القرآنية، ص110.
(٩٥)  القرطبي، الجامع، ج2 / ص222.
(٩٦)  القرضاوي، الحلال والحرام في الإسلام، ص61.

* الفوائد التربوية المستنبطة من سورة النحل/ د. محمد عيد الكردي
اقرأ المزيد...